علي عزت بيجوفيتش.. الرئيس المسلم
محمد وفيق زين العابدين
وُلد في مدينة (بوساناكروبا) شمال غرب البوسنة في 23 أغسطس عام 1925م لأسرة عريقة بإسلامها، ثم قدم به والداه إلى (سراييفو) وعمره عامان ليكونوا قريبين من أسرة والدته، وكانت أسرته أسرة كبيرة، فله ستة من الإخوة والأخوات هو سابعهم، وكان والده يعمل في التجارة أُصيب فيما بعد بجرح في الحرب العالمية الأولى على الجبهة الإيطالية أورثه شللاً في السنوات العشر الأخيرة من عمره، ولهذا اضُطر الابن الصغير إلى أن يعمل وأن يساعد إخوانه بعد إصابة والدهم، وكانت أمهم ورعة حريصة على الصلاة توقظهم لصلاة الفجر.في العام 1946م قامت الحكومة الشيوعية في البلاد باعتقاله هو وصديقه نجيب شاكر بك بسبب مساعدتهما على إصدار جريدة “المجاهد”، واستطاع خلال فترة حبسه في سجن (فوتشا) أن يُؤلف كتابه “هروبي إلى الحرية”، وبعد خروجه من المعتقل لم يلبث الشيوعيون أن شنوا حملة أخرى على أعضاء “جمعية الشبان المسلمين”، حيث قُدم أربعة منهم في العام 1949م إلى المحاكمة التي قضت في النهاية بإعدامهم، فضلاً عن اعتقال عدد أكبر بسبب نشاطهم الإسلامي المناهض للشيوعية.
ولم ينفك بيجوفيتش مع هذا النضال ضد النازيين ثم الشيوعيين عن استكمال تعليمه، فقد التحق بالتعليم الجامعي في كلية الحقوق، وحصل على الشهادة العليا في القانون في العام 1950م، ثم نال شهادة الدكتوراه في العام 1962م، فشهادة عُليا في الاقتصاد في العام 1964م، وأجاد اللغات الألمانية والفرنسية والإنكليزية إلى جانب لغته القومية (البوسنية)، مع إلمام جيد باللغة العربية.
عمل كمستشار قانوني، ولم ينثن عن مواصلة جهاده الفكري، ففي العام 1983م اعتُقل بيجوفيتش مرة أخرى عندما ألَّف كتابه “البيان الإسلامي” الذي قُدِّم بسببه إلى المحاكمة مع 12 زميلاً له بتهمة السعي لتكوين جمهورية أصولية إسلامية في قلب أوروبا. حوكم بيجوفيتش ورفاقه محاكمة صورية صدر فيها الحكم بسجنه لمدة 14 عاماً، ومن رحم السجن استطاع أن يُؤلف كتابه الشهير وإصداره الأعظم “الإسلام بين الشرق والغرب” كما أخرج السرخسي الفقيه كتابه الكبير “المبسوط” من رحم بئر معطلة سُجن فيها.
بعد تصدّع الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي في العام 1990م، وبعد عشرات السنين من القمع والاستبداد؛ اضطُر “الحزب الشيوعي اليوغسلافي” إلى السماح بإقامة نظام متعدد الأحزاب بعد احتكار للسلطة دام أكثر من 40 عاماً، فاغتنم بيجوفيتش هذه الفرصة وبادر إلى تأسيس “حزب العمل الديمقراطي” الذي أصبح فيما بعد من أكبر الأحزاب اليوغوسلافية، وأصبح رئيساً له في مايو من العام نفسه، وخاض الانتخابات وفاز في أربع جمهوريات يوغوسلافية، وتولى رئاسة (البوسنة) في 19 نوفمبر من ذات العام حتى عام 2000م.
وفي العام 1991م أعلنت (كرواتيا) و(سلوفينيا) استقلالهما من جانب واحد، فسارع الجيش اليوغوسلافي الخاضع لقيادة الصرب بالهجوم على الجمهوريتين، وتدخلت أوروبا لإيقاف نزيف الدم المسيحي، وهددوا (صربيا) بالعقوبات، وأراد بيجوفيتش استغلال الموقف الدولي للحصول على استقلال (البوسنة)، فدعا المسلمين البوسنيين وغيرهم للإدلاء بأصواتهم في الاستفتاء الشعبي لاستقلال (البوسنة والهرسك) عن يوغوسلافيا دون خوف، معلناً للعالم أجمع أنه قد انتهى إلى الأبد ذلك الأوان الذي يتقرر فيه مستقبل (البوسنة) دون إرادة شعبها، وفي العام 1992م وقع ما أراد واختار المسلمون المُضي نحو الحرية والاستقلال بأكثرية 63 ٪، لكن الشيوعيين لم يرضَوا بهذه النتيجة، فشنوا حملة إعلامية ظالمة ضد مسلمي (البوسنة)، وثار (الصرب) الهمج على البوسنة في حرب عرقية دموية، ناصرهم فيها نصارى أوروبا الذين تطوعوا بالآلاف للقتال في صفوف الصرب، ثم ما لبثت أن وقعت الدولة المسلمة الوليدة بين فكي كماشة أعداء الأمس؛ الصرب من جهة والكروات من جهة أخرى، فكادوا يجهزون على شعبها الأعزل الآمن على مرأى ومسمع الأوروبيين والأمريكان الذين ملؤوا الآذان بالأكاذيب حول الديمقراطية والليبرالية، أما الأمم المتحدة التي سبق أن اعترفت بـ (جمهورية البوسنة والهرسك)، فقد تركت الجيش الصربي والكرواتي وعصابات (الشِّتْنك) الصربية الإرهابية ومن انضم إليهم من نصارى أوروبا، يعيثون في (البوسنة والهرسك) الفساد، مرتكبين أبشع المذابح والمجازر الجماعية التي ظلت تُكتشف مقابرها مقبرةً بعد مقبرة لسنوات وسنوات، مخلفةً أكثر من 350 ألف قتيل مسلم، فضلاً عن اغتصاب نحو مائة ألف امرأة مسلمة.
تولى بيجوفيتش رئاسة الجمهورية الإسلامية الوليدة في أصعب الأوقات وأحلكها، ولم يكن رئيساً عادياً كسائر رؤساء الدول الإسلامية، فقد نصر شعبه المسلم وقت أن تكالب عليهم أعداء الأمة من الغرب وخذلهم إخوانهم في الشرق، لم يفر ويهرب من الحصار، بل ظل صامداً مصراً على البقاء مع بني قومه تحت الحصار في (سراييفو)، ولم يزل يبذل مساعي كبيرة لإنقاذهم، حتى اضطر تحت وطأة القتل والاغتصاب والتعذيب إلى قبول اتفاق “دايتون” الظالم الذي وافقت عليه قمة رؤساء الجمهوريات اليوغسلافية في فبراير 1991م لإقامة جمهورية فيدرالية متناسقة، وكان هذا الاقتراح كفيلاً بإنقاذ شعبه من المذابح وتخليص يوغوسلافيا من الحرب الأهلية بين الجمهوريات والأعراق، وقد حظي بدعم الجماعة الأوروبية. عن هذا الصلح يقول الدكتور محمد حامد الأحمري: (كان قوياً مع مرونة، وأوضح ذلك حرصه على العمل والمفاوضات طوال الوقت وحرصه على إنجاز موقف عملي مفيد ولو كان جائراً أو أقل مما يطمح إليه، فقد كان يدرك توجهات العالم الغربي، وكراهته لكيان إسلامي في أوروبا، وحادثة القبول بالصلح أنموذج يستحق التقدير، فالتصلب هنا مهلكة، والصلح غبن، لكنه أخف الضررين، فقبل بما وصفه: «سلام جائر خير من حرب مهلكة»، وقد أوصله الوضع إلى شبه يأس من نصير في عالم القوى الدولية رغم بقايا صراع الغرب آنذاك، وعندما تلوح لحظة أمل، أو انفراج، فإنه لا يضيعها، ولا يمتهن نفسه في البحث عن عون المعرضين عنه).
كان بيجوفيتش سياسياً داهية، ومناضلاً عنيداً، وفيلسوفاً حكيماً ذا نظرة إسلامية عميقة بعيدة المدى جعلته يتجاوز كونه مجرد رئيس مسلم، ليُعد وبحق زعيماً للأوروبيين المسلمين، ليعمل مع جنود الإسلام العاملين على نهوض المسلمين وتخليصهم من التخلف والركود، وهو ما أهَّله للفوز بعديد من الجوائز كجائزة “الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام” في العام 1993م، وجائزة “مُفكر العام” من مؤسسة علي وعثمان حافظ عام 1996م، وجائزة “جلال الدين الرومي الدولية لخدمة الإسلام” في تركيا، وجائزة “الدفاع عن الديمقراطية الدولية” من “المركز الأمريكي للدفاع عن الديمقراطيات والحريات”، وجائزة “دبي الدولية للقرآن الكريم” في رمضان 1422 هـ تقديراً لجهوده في خدمة الإسلام والمسلمين، وجائزة “شخصية العام للعالم الإسلامي” في العام 2001م (1422).
وقد ترك مؤلفات عدة قيّمة ألفها قبل صدورها وذيوعها بأعوام، لكن ظهورها تأخّر جداً لعدة أسباب، أهمها: انتشار الجهل في الجمهوريات اليوغوسلافية، وشدة الظلام الشيوعي المتطاول على بلاده، فضلاً عن أن كتاباته كلها كانت بلغته القومية (البوسنية) المغلقة نسبياً، ولم يكتب بالعربية ولا الإنكليزية، وإنما تُرجمت أولاً إلى الإنكليزية وفي وقت متأخّر إلى العربية ولغات أخرى، ولذلك فقد ظل بيجوفيتش المفكر والفيلسوف مجهولاً زمناً طويلاً حتى أظهرته الأحداث الكبار، وكان قد قارب الستين من عمره، فصارت له الشهرة وكان التقدير.
وأهم مؤلفاته:
1- الإسلام بين الشرق والغرب:
وهو أفضل كتبه وأقيمها، عرض فيه للتفرقة بين الأيديولوجيات
والنظريات الدينية والفلسفية؛ الأيديولوجيات المادية - كنظرية
داروين
وأفكار نيتشة -، والأيديولوجية الروحية المتمثلة في الدين
المسيحي، والنظرية الإسلامية التي تجمع بين الروح والمادة، ثم
يفيض في
شرح فلسفته ليبين خطر الأيديولوجيات المادية والروحية وفسادها
وفشلها في تنظيم شؤون الحياة، وبيّن مدى عمق النظرة الإسلامية
للحياة وشؤونها. وقد بدأ بيجوفيتش بكتابة بعض مسودات الكتاب
قبل أن يُطبع بأكثر من 20 عاماً، وترجمه صديق له مقيم في كندا
إلى
اللغة الإنكليزية، ثم ترجمه الأستاذ الكبير محمد يوسف عدس من
الإنكليزية إلى العربية بدقة وإتقان، وصدر الكتاب بمقدمة قيمة
للدكتور
عبد الوهاب المسيري، قال فيها: (مفكر ورئيس دولة يُحلل
الحضارة الغربية، ويُبين النموذج المعرفي المادي العدمي الكامن
في علومها وفي نموذجها المهيمن، ثم يتصدى لها ويقاوم محاولتها
إبادة شعبه،لكنه في ذات الوقت يستفيد من اجتهادات المفكرين
الغربيين المدافعين عن الإنسان، ولعل إيمانه بالإنسان الذي ينبع
من إيمانه بالله وإدراكه ثنائية الطبيعة البشرية، هو الذي شد من أزره
إلى أن كتب الله له ولشعبه النجاة، وهو الذي مكنه من أن يلعب هذا
الدورالمزدوج؛ دور المجاهد والمجتهد، ودور الفارس والراهب).
2- البيان الإسلامي:
كتبه في العام 1969م، وفكرته تدور حول أن الإسلام هو وحده الذي يستطيع إعادة إحياء القدرات الخلّاقة للشعوب المسلمة، ودعا فيه إلى العودة إلى أصول ومنابع الحضارة الإسلامية، ودعا إلى مزيد من الإنفاق على التعليم، والابتعاد عن العُنف، وضمان حقوق الأقليات، وقد أكد فيه أنه لا توجد حادثة واحدة في التاريخ لم تكن فيها الحركة الإسلامية الأصيلة حركة سياسية في نفس الوقت؛ لأن الإسلام أسلوب حياة متكامل. وقد أثار الكتاب ثائرة الشيوعيين الذين رأوا فيه نوعاً من المناهضة للشيوعية، لا سيما أنه أخذ الشكل العام في عنوانه لعنوان البيان الشيوعي الذي أصدره كارل ماركس وفريدريك أنجلز في العام 1848م، وأصبح دستور الحركة الشيوعية فيما بعد، ما حمل الحكومة على إقامة دعوى ضده بسبب الكتاب انتهت بالحكم عليه بالسجن لمدة 14 عاماً، نفذ منها خمسة فقط ثم أُفرج عنه.3- الهروب إلى الحرية:
وهو عبارة عن تعليقات على بعض نصوص قرأها أو أفكار بدت له وهو سجين، وهو عميق الفلسفة، عميق النقد الفكري والأدبي والقانوني والديني والحضاري، على غير نسق سابق.4- مذكراتي:
وهو عبارة عن سيرة ذاتية، وهي عدة أقسام، منها ما كتبه بنفسه ابتداءً عن حياته الخاصة والعامة، ومنها بعض أحداث متعلقة بالبوسنة، ومقابلات طويلة مهمة تلخّص رؤيته لكثير من الأحداث والأفكار، وملاحق ببعض المحاضرات والمقابلات، وبعض نصوص الاتفاقيات الدولية بشأن البوسنة كان له فيها دور. وأهم ما يميز هذه المذكرات أنه لم ينتصر فيها لنفسه تماماً كغيره من السياسيين والمفكرين الذين كتبوا مذكراتهم، بل اعترف في عدة مواضع بأخطائه التي ارتكبها واعتذر عنها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق