السنوار المشتبك.. مدخل لفهم الظاهرة وعظمتها
بقلم: إبراهيم الدويري
كانت تلك خلاصة بحث طويل أخذ مني شهورا متواصلة من الانهماك، غُصت خلاله في ثنايا مذكرات الأسرى وأدبيات المقاومة وأراشيف الصحف، وتاريخ مجموعات العمل المسلح الأولى , وتاريخ الإخوان المسلمين والكتل الطلابية في فلسطين، وقابلت في سبيله بعض من عرفوا الرجل عن قرب من أجيال عمرية متباعدة وحقب متنائية.
كانت الدلائل المادية عندي تتضافر على ذلك الإجماع بمواقف وحكايات قديمة من ذويه ورفاق دربه الأوائل، وكتابات من تأثروا به على طريق ذات الشوكة، ومن صحبوه أعواما طويلة في الزنازين ومرحلة الاستضعاف، وبعض من عمل معه بعد أن ولاه الله حكم غزة معدن الرجال.
حين كنت أنقل للأصدقاء شذرات من قراءاتي وانطباعاتي عن فرادة السنوار ترمقني عيون الاتهام بالغلو والمبالغة المفرطة، فأخفف رفقا بنفسي والسامعين ووعيهم، وبعد ارتقائه المهيب واشتباكه الملحمي بعد عام كامل من طوفان الأقصى، أَدنتُ نفسي بتهمة التقصير، وأيقنت أن قدرة عقلي على إدراك حقائق عظمة الرجال ما تزال ضئيلة.
كانت ملحمة استشهاد السنوار أعظم من غُلوي، وواقعة الاشتباك أبعد من خيالي الذي تفنن طوال عام الطوفان في رسم مآلات تليق بسيده، فقد تخيلته وهو ابن تسعين عاما يدخل الأقصى محرِّرا مكبِّرا، معه جند القسام وعن يمينه أبو خالد الضيف، وعن يساره الملثم أبو عبيدة حاسرا حييا، وحواجب عيني أبي إبراهيم الكثيفة تكاد تمنعه من رؤية المسجد المبارك الذي يرى العالَم من خلال معراجه.
السنوار ظاهرة قيادية لم نفهمها حق فهمها، فنمطه غريب ومعدنه نادر، وطريقته القيادية غير مألوفة، فقد كان خارجا عن السياق المعهود؛ إذ قد ظهر لعموم الناس عام 2017 بعد سنوات طويلة من استشهاد أسلافه العظماء القادة المؤسسين الشيخ أحمد ياسين والرنتيسي والمقادمة وأضرابهم الذين ارتقوا قبل سيولة وسائل التواصل الاجتماعي، وقبل مضاعفة دول إسلامية كبيرة استثماراتها الإعلامية الضخمة في تزييف وعي الشعوب وضرب ثوابتها الدينية وقيمها الأخلاقية.
فقد كان ظهور يحيى السنوار قائدا لحماس في فترة انهزام نفسي عقب استفحال الثورات المضادة وانتشار اليأس بين الشباب من الحكام وقادة الحركات الإسلامية معا، فكان نمطه غريبا يراه المتابعون أقرب إلى الخيال الجامح أو إلى الجنون بسبب طول أسره وتغييبه في السجون الصهيونية، وصاحبت ذلك الاستغراب حملة إعلامية نالت منه، وكانت عقول بعض أصحابها منمطة تزن الرجال بسطحية المقارنة بين ثنائية السياسي والعسكري.
يبدأ فهم ظاهرة السنوار وتفرده القيادي من استحضار معنى التفضل الإلهي على عباده المؤمنين، فلم تكن مواهب أبي إبراهيم القيادية وعظمته الشخصية وصلابته النفسية وشجاعته الاستثنائية وتجرده المبدئي وذكاؤه الفطري إلا قطرة من بحر الكريم المنان ذي الفضل العظيم، وهو البحر الذي غرف الأنبياء والمرسلون من عطايا اجتبائه ومنن اصطفائه فكانوا أفضل البشر خيارا من خيار.
ومما استوقفني في كتابات السنوار الأولى بداية التسعينات أنه كان يلح على معنى عظيم في اقتدائه بالأنبياء وتمثل طريقهم، فعنده أن معركة شعبه مع اليهود هي امتداد لكل معارك الحق التي سبقتها من لدن آدم مرورا بكل الأنبياء عليهم السلام، ويرى أن “الفرسان المغاوير” الذين فجروا الانتفاضة الأولى وما لحقها، هم شباب “صاغتهم عقيدة الأنبياء التي ارتضى الله عز وجل لخلقه”.
عقيدة الأنبياء عند السنوار تتجه نحو اليقين وصدق التوكل على الله، وهو الذي كان في شبابه كثيرا ما يتلو آيات تحدي الأنبياء لقومهم، ويردد قول الله تعالى {فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ}،، وقوله {وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِۦ يَٰقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوٓاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ ٱقْضُوٓاْ إِلَىَّ وَلَا تُنظِرُونِ}.
فقد “كانت تأسره مواقف الأنبياء وتسكنه وتأخذ لبه، كان يتملاها ويعشقها، ويتمنى أن يكون بذات الموقف بموقف البطولة والتحدي والمواجهة والإباء والشمم”، كما أخبرني أحد زملائه في الجامعة الإسلامية.
فهذا اليقين هو الذي استقر في قلب السنوار مطلع شبابه وحوله تجمعت المزايا الأخرى من حسن الظن بالله والصدق معه سبحانه ومع النفس والناس، والتواضع لإخوانه وخدمتهم، والاستعلاء على أعدائه ومعرفته بهم، والتجرد والفهم والبصيرة وقوة الشكيمة والوعي بما يدور حوله، والقدرة الهائلة على الإقناع والتجنيد للفكرة، والجندية في سبيلها وعلو الهمة الراكضة إلى معالي الأمور.
مثل هذه الصفات والمزايا لم تكن لتخفى على الإمام الشيخ أحمد ياسين وهو يعد شباب فلسطين لخوض معركة وجودية طويلة لتحرير المقدسات، فقد انتدب ياسين تلميذه السنوار وهو شاب “لعظائم الأمور، ومنها جهاز المجد، ومنها البدء بأعمال المقاومة، وفتح له الباب على مصراعيه لينتقي من القطاع الحبيب من يتفرس فيهم الرجولة والقدرة على العمل وكتمان السر”.
إطلاق الشيخ أحمد ياسين يد السنوار -وهو شاب- في شباب غزة ينتقي أفذاذهم وعظماءهم لجهاز مجد الأمني والعسكري يعني أنه أخذ كل الدرجات واستوفى جميع المعايير التي على أساسها يقيم المعلم المربي الملهم ياسين طلابه ورجاله، ولم يخيب السنوار ظن شيخه، فمن جهاز مجد وعلى يد السنوار تخرج قادة القسام الأوائل وأشهرهم الشهيدان ياسر النمروطي القائد العام الأول لكتائب الشهيد عز الدين القسام، وعماد عقل الأسطورة الفلسطينية الخالدة وعشرات من أولي البأس الشديد في سلسلة الإلهام القسامي.
يقين السنوار بالله وتوكله عليه لم يكونا حاجزا له عن الأخذ بالأسباب من إعداد، والإعداد في رؤية أبي إبراهيم الاستراتيجية أمر ينطلق من مبدأ المقاومة الشاملة وفق الاستطاعة واستفراغ الجهد والإعذار إلى الله وحسن الظن به، ولذا كان السنوار فنانا وكاتبا ورساما وخطاطا وبنّاء ومدربا ومتخصصا في الشأن الإسرائيلي وموثقا للسردية الفلسطينية، ومفاوضا بارعا، وسياسا براغماتيا، وزاهدا صوفيا، ومقاتلا مقداما راميا بالحجر والماء الساخن والمسدسات وضاربا بالقنابل والقاذفات والعصيِّ.
ينتظم حياة السنوار الثرية خيط واحد هو الثبات على الهدف والاستقامة على الطريق والأخذ بالأسباب، فمنذ نعومة أظفاره يتدبر سورة الحشر ويصر على تطبيقها في صراعه مع اليهود وإخراجهم من فلسطين وإتيانهم من حيث لم يحتسبوا كما يقول صديق شبابه الدكتور مأمون أبو عامر، وكان ذلك التطبيق يوم السابع من أكتوبر الذي بدأ فيه استنزاف الكيان الصهيوني، وأظهر فيه السنوار ورجال القسام تفوقا أمنيا على العدو.
تفوق السنوار على الصهاينة الذين كان يتقدمهم دائما بخطوة باعترافهم أحد الأسرار العظيمة في تفرد هذا القائد، فالقيادة تحتاج إلى أن تتقدم جندها بمراحل، وهذه المراحل متعددة في حياة السنوار فهو متقدم في الوعي وحصانة الفكر من الاختراقات بكل أنواعها، ومتقدم في البذل والتضحية ومن كلماته الخالدة المعبرة عن محطات حياته ومعالم خاتمته: “إذا لم تخذل القيادة القاعدة فعطاء القاعدة بلا حدود”، كما نقل عنه الشيخ أبو طير في مذكراته.
كان يحيى السنوار الحبيب إلى أشياخه وإخوانه والمؤمنين قذى في عيون الصهاينة والعملاء والمنبطحين والخونة، طلب الشهادة وهو يافع ثم في شبابه وهو في السجون، ثم ألح عليها وهو أسير محرر يراكم قوة المقاومة ويشيُّد أركانها، موقناً بأن الله لم يخرجه من سجون القتلة إلا لأمر عظيم وقد كان؛
فالطوفان بداية تاريخ، وارتقاء السنوار القائد السياسي للحركة الأكثر شورية في العالم، وهو مشتبك مع أعدائه محطة فارقة في فصول ذلك التاريخ، وبهذه الشهادة يكون السنوار جمع كل رمزيات المقاومة الفلسطينية من النضال الطلابي والشبابي والأسر الطويل والقيادة الإجماعية والشهادة المشتبكة.
لقد منَّ الله على السنوار ورأى من آيات ربه في الحفظ والتوفيق ما رأى، فحين كان عمره 27 عاما ولم يتزوج بعدُ، ولم يقض من لبانات الحياة والشباب شيئا ذا بال بمعايير “الغارقين في الأشياء”، حاول قضاة المحكمة العسكرية في السجن الصهيوني تسجيل نصر استرحامي منه يعوضهم ما عجزوا عن تحقيقه بالتعذيب والتنكيل، فقالوا له قبيل النطق بالحكم بحضور والدته الحاجة أم جميل رضا عبدالله السنوار وشقيقه حامد: “هل أنت نادم أو تطلب الرحمة، قال: أطلب أن تحكموا بإعدامي ليكون دمي أول دم يراق وليكون شعلة للمجاهدين”.
كانت أمنية يحيى السنوار قبل ثلاثة عقود ونصف أن تكون دماؤه الزكية شعلة لثلة قليلة من شباب غزة والضفة، وقد كانت شجاعته وتضحيته ملهمتين لكثير من أبطال فلسطين وفرسان الشهادة الأوائل في الانتفاضتين.
وربما لم يدر بخلد السنوار حينها وهو يبدأ رحلته الطويلة مع السجون الإسرائيلية أن أمنيته العظيمة ستتحقق على نحو أعظم وأقوى إلهاما، فدماؤه اليوم شعلة للأمة كلها ولملايين الشباب حول العالم من المسلمين وغيرهم من الأحرار، وترى فيه كل أمة حية ملامح أبطالها الخالدين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق