يحيى السنوار: شهادة استثنائية
أدهم أبو سلمية
بعد عام من معركة طوفان الأقصى، ارتقى يحيى السنوار، مهندس العملية الأكبر في تاريخ المقاومة الفلسطينية، شهيدًا في مواجهة مسلحة مع الجيش الإسرائيلي في منطقة تل السلطان برفح.
هذا الرجل الذي قاد المقاومة بثبات وصلابة، رحل بطريقة لم يكن يتخيلها أحد، موتة يتمناها كل الرجال الصادقين، رافعًا راية الحق حتى اللحظة الأخيرة. وعلى عكس كل التوقعات، لم يكن السنوار خارج غزة، ولم يكن محصنًا في نفق تحت البحر، ولم يكن محاطًا بأسرى إسرائيليين لضمان حياته، ولم يكن الوصول إليه نتيجة جهد استخباراتي إسرائيلي، بل كان في مقدمة جبهة القتال في حي السلطان برفح حيث تتوغل قوات الاحتلال، واستشهد مقاتلًا مشتبكًا كما كل المقاتلين، ليشكل باستشهاده فصلاً جديدًا من فصول المقاومة الفلسطينية، إلا أن تأثيره يتعدى كونه خسارة فردية، ليصبح رمزًا للتضحية والثبات على المبادئ، كأول قائد لفصيل فلسطيني يُستشهد في ميدان المواجهة المباشرة مع الاحتلال.
لقد كانت يد السنوار التي تصيغ شروط التفاوض هي ذاتها التي تذيق الجيش الإسرائيلي الويلات على تخوم رفح.. بيده اليمنى كتب شروطه، وأطلق يسراه لتقاتل في حرب استنزاف، أرادها الرجل سعيًا لإخضاع الاحتلال لإرادة الشعب الفلسطيني نحو الحرية والاستقلال.
استشهاد السنوار في الصفوف الأمامية ليس مجرد حادثة؛ بل هو تجسيد لمبدأ الصمود والشجاعة التي مثّلها الرجل طوال حياته قبل الاعتقال وأثناءه وبعده إلى يوم الرحيل. هذه النهاية لم يكن يريدها نتنياهو، المولع بتحقيق الإنجازات الوهمية، والذي يُتقن إخراج الصورة، لكن السنوار في مماته- كما في حياته- كان دائمًا يسجل النقاط في مرمى نتنياهو ويتفوق عليه بخطوة؛ فالرجل استشهد في ميدان المواجهة لا عبر الاغتيال المصحوب عادةً بدعاية إعلامية تقدم نتنياهو على أنه البطل.
لقد هُزم نتنياهو حتى يوم رحيل السنوار، لتبقى الصورة التي خرجت بعد استشهاده مصدر فخر وإلهام للشعب الفلسطيني، ولكل الأحرار في العالم. وستحاسب القيادة الإسرائيلية من سرّبها، لأنها أثبتت أن قادة المقاومة هم أول من يضحون وهم على خطوط المواجهة الأولى، في ضربة مركزة لآلة الدعاية والكذب الإسرائيلية.
السنوار لم يكن قائدًا عاديًا.. عشرون عامًا قضاها في السجون الإسرائيلية، خرج منها أقوى وأكثر تصميمًا على مواجهة الاحتلال!. بفضل رؤيته وقيادته الحكيمة، استطاع أن يقود حركة المقاومة الإسلامية (حماس) نحو معركة استراتيجية (طوفان الأقصى)، تؤسس- كما قال الرجل قبل المعركة ببضعة أشهر- “إما لإخضاع إسرائيل لمنح الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة، أو لتحويلها إلى احتلال معزول على المستوى الدولي وعبء على النظام العالمي”.
هذه المعركة التي كسرت هيبة الجيش الإسرائيلي وفتحت الباب أمام مواجهة متعددة الجبهات، وضعت إسرائيل أمام واقع جديد لم تشهده منذ احتلال فلسطين. لقد أسهم السنوار في إعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة، وأفشل مشاريع التطبيع الشعبي، وأضعف بشكل ملحوظ الدعم الدولي لإسرائيل.. استشهاد السنوار أضاف إلى رصيده رمزًا للقائد الذي يقاتل حتى اللحظة الأخيرة، ليؤكد أن المقاومة ليست شعارًا يُرفع، بل حياة يعيشها القادة قبل الجنود.
في استشهاده، رسم السنوار بدمائه دربًا جديدًا للمقاومة، وهو ربما أصعب تحدٍّ لمن يخلفه.. “أبو إبراهيم أثقل وأتعب كل من سيقود حماس من بعده”، صحيح أن تاريخ المقاومة حافل بقادة كبار تركوا إرثًا لمن بعدهم؛ فبالأمس عز الدين القسام يُقتل بين جنوده في أحراش يعبد، واليوم يحيى السنوار استشهد بين جنوده مقاتلًا ثابتًا في أزقة رفح، إلا أن خسارة رجل بحجم السنوار ستُلقي- بلا شك- بظلالها على الواقع الفلسطيني في ظل استمرار الحرب.
لقد أثبتت حماس، بقيادة السنوار ورفاقه، أنها حركة عصية على الانكسار؛ ففي كل مرة تُفقد فيها قيادات الصف الأول، تخرج الحركة أقوى وأكثر إصرارًا على مواصلة الطريق. إن قدرة قيادة حماس على إدارة الحرب المستمرة، التي تخوضها ضد الكيان الصهيوني المدعوم من الولايات المتحدة وحلفائها، تثبت أن المقاومة ليست معركة عسكرية فحسب، بل معركة إرادة وصمود.
في النهاية، فإن استشهاد يحيى السنوار يُعتبر انتصارًا جديدًا للمقاومة!. الرجل المحرر من عتمة السجن، عاد ليختم حياته في الميدان مقاتلًا حتى النهاية، متسقًا مع إيمانه بأن الشهادة هي النتيجة الأسمى.
فلسطين تودع اليوم قائدًا فذًا، ولكن إرثه سيظل حيًّا، وسيبقى اسمه رمزًا للتحدي والشجاعة في مواجهة المحتل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق