«طوفان الأقصى» أعاد الصراع مع اليهود إلى المربع الأول، حوار مع المفكر الإسلامي د.عبد العزيز مصطفى كامل
حاوره رئيس التحرير
تسعد مجلة تبيان الإلكترونية أن تقدم لروادها هذا الحوار المهم والقيّم مع المفكر الإسلامي الدكتور عبد العزيز مصطفى كامل حول قضية الأمة، قضية فلسطين، في ظل حرب الإبادة الجائرة القائمة التي يشنها العدو الصهيوني على غزة خاصة، وكل فلسطين عامة، ولكون ضيف تبيان من أهم المفكرين الإسلاميين الذين كتبوا عن فلسطين واهتموا بها كثيرا، فسيكون لهذا الحوار تميز خاص، يجمع بين تميز القضية وأهميتها، وتميز الضيف واهتماماته.
ضيف تبيان الدكتور عبد العزيز مصطفى كامل، حاصل على ماجستير في أصول الدين من جامعة الإمام بالسعودية، وعلى الدكتوراه من جامعة الأزهر بالقاهرة، وعمل بالتدريس لسنوات في جامعة الملك سعود بالرياض. تفرغ بعدها للكتابة والتأليف، وكان عضوا بهيئة تحرير مجلة البيان اللندنية، وعضوا في مجلس إدارتها. يشغل اليوم منصب رئيس تحرير (مجلة بينات) التي تصدر عن رابطة علماء المسلمين.
ومن أشهر مؤلفاته:
- قبل أن يهدم الأقصى
- حمى سنة 2000
- نظرات في مسيرة الصراع الديني
- العلمانيون وفلسطين.. وتاريخ من الفشل
- معركة الثوابت بين الإسلام والليبرالية
- الحكم والتحاكم في خطاب الوحي
- الخلاف المذهبي وأثره في التفسير
- شرح الأسباب العشرة الموجبة لمحبة الله
- روح الصيام ومعانيه
- رسالة إلى طلائع الطائفة المنصورة
- أحمد ابن حنبل، إمام في التجديد
إضافة إلى عشرات الدراسات في التقرير الاستراتيجي السنوي الصادر عن المركز العربي للأبحاث بالقاهرة، ومئات المقالات بمجلة البيان وغيرها.
ولأهمية الموضوع والضيف، فقد جاء الحوار مستفيضا ليشمل أربعة محاور رئيسية.. فإلى الحوار!
المحور الأول: محورية الصراع.. بين التغييب والتجزئة
س1 ما هي القواعد التي ينبغي استصحابها عند الحديث عن الصراع في فلسطين؟
لا بد عند الحديث عن تلك القواعد من استصحاب الثوابت الدينية عند المسلمين، والثوابت الدينية عند اليهود، وذلك لسبب بدهي يغيب عن كثير من الناس رغم بدهيته، وهو أن العقائد من أهم العوامل التي تقود الناس للمدافعة والمنازلة، والقضية الفلسطينية كانت ولا تزال وستظل قضية عقيدة تنتهك، لا مجرد أرضك تسلب أو تنهب، وهي «قضيةٌ شرعية» بالمعنى الإسلامي؛ بمعنى أنها نازلة كبرى من عدة نوازل، تحتاج دائما لنظر وعلاج شرعي من قِبَل علماءِ وحكماء وخبراء المسلمين، باعتبار أن العوامل والمسائل التي تحيط بها؛ أكثرها ذات طبيعة دينية، إما من ناحية العرب والمسلمين، أو من ناحية أعدائهم من صهاينة اليهود وغيرهم من المعتدين.
وحقيقة الصراع على أرض فلسطين تحكي قصة المغالبة والنزال بين مقتضيات الحق الإسلامي عقيدة وشريعة، وبين أهداف وغايات أعدائه القائمة على الباطل دينًا ودنيا. ولهذا فلا بد أن يكون البُعد الشرعي حاضرًا ـوبقوة في كل جولات تلك المغالبة، وهذا البعد الشرعي إذا روعي؛ كفيل بأن يحدد كل القواعد وبحسب الأولويات.
قضية فلسطين كانت ولا تزال وستظل قضية عقيدة تنتهك، لا مجرد أرضك تسلب أو تنهب، فهي «قضيةً شرعية» بالمعنى الإسلامي
س2 ما هي المحركات الدينية في هذا الصراع لكل الأطراف (المسلمين واليهود والمسيحيين)؟
هذا سؤال كبير، يحتاج لمؤلف خاص للإجابة عليه، ولكن نقول:
أولا: إن ثوابتنا الإسلامية في هذه القضية يمكن لكل مسلم استشفافها من خلال تدبر سور القرآن المدنية، وبخاصة سور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة، ومن تلك الثوابت أن الإسلام رسالة خاتمة، نسخت كل الشرائع قبلها، وهي رسالة تخص الأمة التي ورثت الاصطفاء الذي نُزع عن أهل الكتابيْن السابقين عنها، ولذلك فإنها حملت أمانةَ حفظِ دين رب العالمين، وما يرتبط به من ميراث النبوات والمقدسات، ومن أهمها المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، وجعله قِبلة الموحدين لآلاف السنين، وقد كانت حادثة الإسراء إيذانا بأن الإسلام هو خطاب الوحي الأخير، فلا قبول لدين أوعبادة تتعارض معه، ولا حق لأمة تدعي حقا لم يأت به.
ثانيا: أما ثوابت أهل الكتاب في هذا الصراع فتُعرف من خلال عقائدَ وشرائعَ دخلها التحريف أو النسخ، لكنها لا تزال تُصنَّع من مجموعها (ثوابت) يهتدي بها الساسة، وتوجه في مساربها مسارات السياسة، ولقد كانت وستظل ظلا يخيم في خلفية الأفكار والخطوات والمخططات التي تنطلق منها مشاريعهم المتعلقة بقضية فلسطين على وجه الخصوص، وكذلك ما يسمى بقضية الشرق الأوسطـالقديم أو الجديد على وجه العموم.
ولعل أحداث العقود الثلاثة الأخيرة تثبت أن تلك «الثوابت» لا تزال تعشش في أدمغة الفريقين من أهل الكتاب، حتى وإن سترتها ظاهريا القبعات أو الخوذات؛ فالاعتقاد بأحقية اليهود والنصارى الدينية في أرض فلسطين، وملكيتهم لما يسـمونه بـ(جـبل الهيكل) المقام عليه المسجد الأقصى، بل ووراثة هؤلاء للأرض الممتدة من النيل إلى الفرات باعتبار ذلك بداية للحرب الكبرى ضد (محور الشر) الذي يمثل المسلمون ضلعا فيه باعتقادهم؛ كلها تمثل ثوابتَ إجماليةً لنظرية عندهم، تتفرع عنها ثوابت تفصيلية عملية، يحرصون على تنفيذها على أرض الواقع.
المشروع الصّهيوني مشْحونٌ بالشعارات والشَّارات والاستراتيجيات القائمة على أسسٍ وأبعاد دينية
ولذلك فإن المشروع الصهيوني مشحون بالشعارات والشارات والاستراتيجيات القائمة على أسس وأبعاد دينية، تهدف في النهاية إلى الوصول إلى «العلو الكبير» لبني إسرائيل في زمنهم الأخير، الذي تحدثت عنه سورة الإسراء.
ثالثا: الصراع بدأ دينيا عقائديا منذ اختيار أهل الكتاب لأرض بيت المقدس على وجه الخصوص لتكون مكانا لتحدي الموحدين، ومنطلقا لاستهداف كرامة المسلمين، والمغضوب عليهم حسموا عقائدية الصراع حين أسموا دولتهم من أول يوم باسم نبي، وهو يعقوب عليه السلام، المسمى أيضا (إسرائيل).. وهم الذي اتخذوا علَما رسميا عليه نجمةٌ منسوبة لنبي، وهو (داود) عليه السلام، لأنه أول من أقام دولة تحكمها التوراة قبل تحريفها، وهذه النجمة ترمز من وجه آخر إلى دولة (ابن داود) الذي يزعمون أنه سيكون ملكا من نسل داود، فيكون آخر أنبيائهم، وهو الذي يدعونه (الماشييح) أو المسيح المنتظر.
وانتظار المسيح هذا اعتقاد مشترك بين اليهود والنصارى، لكن مع اختلاف المسمى، فاليهود ينتظرون مسيحا يهوديا خاصا بهم، بينما ينتظر النصارى عودة المسيح ابن مريم، وكلٌّ من اليهود والنصارى يعتقدون أن عودة المسيح الخاص بكل منهم، لا بد أن تسبقها أمور ثلاثة، أحدها: أن تكون لليهود دولة بعد عودتهم لفلسطين، والثانية: أن تكون القدس عاصمة هذه الدولة، والثالثة: أن يعاد بناء هيكل سليمان الثالث، الذي هدم قبل الإسلام مرتين.
وهم جعلوا بناء هذا الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى؛ أقصى غاياتهم، فهو محور مشروعهم الحالي والمستقبلي، حتى إنَّ أول رئيس وزراء في كيان العدوان (داود بن جوريون) كان يردد هو ومن بعده عبارة شهيرة تقول: «لا قيمة لإسرائيل بدون القدس، ولا قيمة للقدس بدون الهيكل»!
وعلم دولتهم الدينية الذي يرفرف على معظم العواصم العربية العلمانية، يشير خطَّاه الأزرقان إلى أخطر نص في السفر الأول من التوراة التي يدين بها أهل الكتاب معا، وهو: «لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ».
ودولتهم التلمودية تلك؛ هي الدولة الوحيدة في العالم المعاصر التي لا حدود رسمية لها، بل حدودها المفترضة والمرسومة على عملتها المعدنية الرسمية هي الحدود التوراتية لما يسمى بـ(إسرائيل الكبرى) من النيل الى الفرات.
وهذه التوراة ذاتها رغم تحريفها؛ هي الدستور الأعلى لتلك الدولة، فليس عندهم دستور مكتوب، اكتفاءً بعموم التوراة، ولذلك فهذا الكتاب عندهم هو (أبو القوانين) الذي يسقط كل قانون وضعي يخالفه.
و(التلمود) الذي يمثل شروحا للتوراة؛ هو المنهاج الذي يصنع هوية اليهود، ومسار دولتهم، ورجال الدين العلماء هم الذين يتقدمون صفوف جنودهم في حروبهم.
واتخذت هذه الدولة الدينية المعادية شعارا رسميا لها وهو (الشمعدان السباعي) الذي يرمز إلى الألف السابع والأخير في تاريخ البشر على أرض العالم قبل نهاية الزمان، بحسب التقويم الخاص بهم، وهو ما يسمونه (الألف السعيد) لاعتقاد اليهود بأنهم دون غيرهم سيكونون سادة الأرض بعد هلاك ثلثي سكانها، وهذا الشعار يوضع بلا خجل على المنصات الرسمية عند إلقاء أي كلمات رسمية «دبلوماسية»!
اليهود وأنصارهم من النصارى الإنجيليين؛ كانوا ولا يزالون، وسيظلون؛ يحاربوننا حروبا دينية، تستهدف في المقام الأول عقيدتنا قبل أرضنا، وهويتنا قبل ثرواتنا
لكل ذلك فإن هؤلاء التوراتيين التلموديين، وأنصارهم من النصارى الإنجيليين؛ كانوا ولا يزالون، وسيظلون؛ يحاربوننا حروبا دينية، تستهدف في المقام الأول عقيدتنا قبل أرضنا، وهويتنا قبل ثرواتنا.
س3 ما هي مخاطر سلخ ما يجري في فلسطين عن كونه صراعا دينيا؟
مخاطره هي ما نراه وما نعيشه خلال خمسة وسبعين عاما مضت من الفشل العلماني العربي، في جولات الحرب بالميادين، ومسارات السلام على الموائد، حتى وصل الأمر إلى اعتبار اليهود الأعداءِ أصدقاءَ لغالب الأنظمة العربية، حيث عقدت معظم الأنظمة العربية معهم معاهدات سلام، تعترف فيها بحقهم في إقامة دولة لهم على غالب أرض فلسطين، مع تعاون غير محدود معهم اقتصاديا وأمنيا وحتى عسكريا! وذلك ما قد جمدته أحداث طوفان الأقصى، لكن إلى حين كما نعتقد.
س4 هل نجحت محاولات حرف القضية الفلسطينية عن طبيعتها الدينية، بفعل التطبيع السياسي، أو التمييع الفكري والتضليل الإعلامي؟
القضية لم تحرف إلا عند المنحرفين، من أصحاب التوجهات العلمانية التي لا تقيم لثوابت الإسلام وزنا، وهؤلاء ليسوا مقصورين على الساسة، بل هناك شرائح لا يستهان بها من المثقفين والإعلاميين والفنانين، بل ومن المحسوبين على الفكر والدين؛ اغترُّوا وغروا غيرهم بهذا الهراء الذي يدعو إلى مسالمة الأعداء مع أنهم لم يجنحوا لسلم، ولم يوفوا بعهد، ولم يقروا بحق، ولم يردوا مسلوبا أو يتنازلوا عن مغتصب.
المحور الثاني: طوفان الأقصى.. حجم التأثير
س1 كمتابع ومحلل للقضية الفلسطينية لعقود، ما الذي تمثله عملية (طوفان الأقصى) في مسيرة الصراع؟
هي بحق مرحلة مفصلية، فصلت بين زمنين؛ زمن الاستسلام التام تحت لافتة التطبيع، وزمن الرجوع العام لكل ثوابت الإسلام تجاه الصراع، وهذا ما يفسر إعلان حالة الطوارئ العالمية القصوى التي أوقفت أمريكا فيها العالم على رجل واحدة وهو ينظر برعب إلى تدفق المدمرات وحاملات الطائرات والجسور الجوية والبرية والبحرية لإنقاذ دولة اليهود التي أصيبت مقاتلها في بضع ساعات.
شكَّلت عملية طوفان الأقصى مرحلة مفصلية، فصلت بين زمنين؛ زمن الاستسلام التام تحت لافتة التطبيع، وزمن الرجوع العام لكل ثوابت الإسلام تجاه الصراع
س2 هذا التطور في قدرة حركة المقاومة، أزعج أطرافا كثيرة، فكيف ترون تأثيره على مستقبل الصراع؟
بالنسبة إلى تيار الاستسلام تحت مسمى التطبيع؛ فواضح أنه فقد قدرته على الاندفاع في الخداع العلني، وإن كنا موقنين أنه لا يزال مطبعا مطيعا في غير العلن، وأما بخصوص الصفوف الإسلامية، فإنها -وحتى إشعار آخر- استردت حميتها وعادت لها حيويتها في التعامل مع القضايا الكبرى، لكن من الواضح أن حجم الحصار والتهديد منعها من التعبير عن مواقفها إلا في حالة المقاطعة الاقتصادية والاستمرار في القنوت بالصلوات في المساجد، مع المنع الرسمي لذلك أيضا، ولا شك أن الأطراف المتآمرة مع اليهود قد أيقنت بأن هذه الأمة لا تزال حية، وإن كانت مثخنة بالجراح، ولذلك يخشى من إنهاكها بمزيد من الجراح.
س3 ما هي تداعيات عملية طوفان الأقصى على الكيان المحتل حاليا وفي المستقبل، داخليا وخارجيا؟
كنت أقول لمن أحادثهم بعد انطلاق العملية؛ إن اليهود ومن وراءهم من أنصارهم وأوليائهم سيجدونها فرصة لطي ملف حركة حماس إلى غير رجعة، ولن يفوتوا هذه الفرصة لقصقصة أجنحة إيران وحلفائها، بعد أن تخطت إيران الخطوط الحمر التي رُسمت لها، ممن مرروا ثورتها التي لا ثورة تم التغاضي عنها غيرها، ولكن مع استعصاء حماس حتى اليوم على الهزيمة ومغادرة المشهد؛ فإنها أوجدت حالة حماسٍ في الأمة قابلة للاستنساخ، وهذا ما سيظل موضع صداع دائم في الحاضر والمستقبل، فلا شك أن العدو قد ارتبكت خططه التي كانت مبنية على استقرار الوضع الراهن قبل الطوفان داخليا وإقليميا وعالميا.
س4 انكشاف الصورة الهشة للكيان المحتل من الانقسام السياسي، والضعف النفسي الشعبي، هل تقرأها كدلالة على قرب الانهيار والزوال، أم مجرد نتائج عارضة لحدث كبير؟
زوال الاحتلال ليس مجرد أمنية وجدانية، ولكنه حتمية تقضي بها السنن الإلهية، غير أن حصولها مشروط بوقوع استحقاقاتها الشرعية، فالله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم} أي: إن تنصروه شرعا ينصركم قدرا.
زوال الاحتلال ليس مجرد أمنية وجدانية، ولكنه حتمية تقضي بها السنن الإلهية، غير أن حصولها مشروط بوقوع استحقاقاتها الشرعية
س5 ما الرسائل التي يرسلها الكيان المحتل بهذا الكم الهائل من التدمير والقتل؟
هي ذات الرسائل التي سبق أن أرسلها الأمريكان والروس وأحفاد المجوس؛ عندما حولوا حواضر كثيرة للمسلمين إلى ركام فوق أهلها، كما حدث في البوسنة والشيشان وكابول وحلب والموصل والرقة وغيرها. غير أن ذاك الاجتياح الجزئي لم يتحول ولن يتحول إلى استئصال كلي، لأن الله تعالى قال: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} أي سبيلا إلى ما يشتهيه النصارى واليهود، من الإفناء وإنهاء الوجود، ومن ناحية أخرى فإن الجرائم السابقة كان يفرض عليها ما يشبه التعتيم الإعلامي، بخلاف ما يحدث في غزة فإنه يحدث تحت سمع وبصر العالم بأسره وعلى الهواء، وفي هذا ما فيه من تغيرات في مواقف عموم الشعوب من القضية التي كانت منسية.
المحور الثالث: الحبل الممدود والحبل المقطوع
س1 ما هي أبرز مرتكزات العلاقة (الدينية والسياسية) بين الكيان الصهيوني والغرب عامة، والولايات المتحدة خاصة؟
النصارى واليهود يعتقدون بقداسة التوراة، وفي حين لا يعترف اليهود بالإنجيل؛ فإن النصارى البروتستانت على وجه الخصوص يقدمون التوراة على الإنجيل، ولذلك فهم يدينون بكل ما في التوراة من عقائد، وهو ما جعلهم أشبه بيهود متنصرين أو نصارى متهودين، والمعروف أن شعوب أمريكا وإنجلترا وكندا وأستراليا وألمانيا تدين أكثر شعوبها بالمذهب البروتستانتي الذي يقدس كل ما يقدسه اليهود دينيا، ولذلك فهم يتبنَّونه سياسيا، وبخاصة ساسة أمريكا وإنجلترا، الذين مثلتهم حكوماتهم المتتابعة منذ حشر اليهود في فلسطين الحبل الممدود لهم، مصداقا لقول الله تعالى {كتبت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل الناس}.
وباختصار؛ فإن كل ما يتعلق بعودة اليهود إلى فلسطين وإقامة دولة يهودية خالصة فيها واتخاذهم القدس عاصمة موحدة أبدية، واستعادة القِبلة المفقودة (الهيكل الثالث) بعد هدم المسجد الأقصى، وذبح البقرة الحمراء العاشرة على أعتابه، أو في محرابه وقدس أقداسه استعدادا لخروج المسيح المنتظر المخلص من نسل داود، كل هذا من العقائد المشتركة بين البروتستانت واليهود، بخلاف اختلاف واحد، وهو الاعتقاد في تحديد شخص المسيح المنتظر، فبينما يعتقد اليهود بعودة مسيح خاص بهم، يكون آخر رسلهم؛ يعتقد النصارى بعودة المسيح عيسى ابن مريم مرة ثانية، بعد المقدمات الثلاث الآنف ذكرها في عودة اليهود (دولة وعاصمة وقِبلة) حيث يعتقدون أيضا أن اليهود الذين كفروه وعادَوه سيدخلون هذه المرة في دينه ويكونون من أخلص أتباعه.
النصارى البروتستانت يقدمون التوراة على الإنجيل، ولذلك فهم يدينون بكل ما في التوراة من عقائد، وهو ما جعلهم أشبه بيهود متنصرين أو نصارى متهودين
س2 كان من الواضح أن حركة المقاومة الفلسطينية تواجه بجانب الكيان المحتل عدة دول غربية، بدعم سياسي وعسكري تسليحا ومشاركة فعلية في العمليات، ما أسباب هذا التداعي وأهدافه؟
هي ذات أسباب تداعي الأمريكيين الإنجيليين التوراتيين (الأنجلوساكسون السابق ذكرها)، لذلك فالصراع بيننا وبين الغرب هو صراع ديني في الصميم، وهذا ما تجدد فضحه عبر تداعيات طوفان الأقصى.
س3 كيف تفسرون حجم (التعاطف الشعبي) في الغرب مع ما يجري في فلسطين، وعلامَ يدلُّ وكيف يمكن استثماره؟
الإنسان عندما يمنح حرية التعبير -الممنوحة بالفعل للغربيين وحدهم في بلادهم- فإن المشاعر الإنسانية تتغلب على النوازع الاعتقادية والقناعات السياسية، خاصة مع توهين العلمانية للعقائد جملة، فالعاطفة الإنسانية مشترك عام بين بني الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم، ولكن عندما يواجه الإنسان القهر والتهديد وتقييد الحرية، فإنه يؤثر الإبقاء على البقاء، بدافع غريرة حب الحياة، وهذا للأسف حال مئات ملايين المسلمين المستضعفين في بلادهم.
س4 رغم بشاعة العدوان بدرجة غير مسبوقة، كان الخذلان الرسمي العربي والإسلامي بدرجة غير مسبوقة.. ما تفسيركم؟
كان هناك ما يشبه الإجماع على الاندفاع -قبل الطوفان- نحو تعميم استراتيجيات معاهدات (إبراهام) التي توافقت عليها الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، بانتظار انضمام بقية البلدان التي تتردد في إعلان الاستسلام، ومعروف أن تلك الاتفاقات تمثل خدعة جديدة كان قد ابتدعها (ترامب) لتكون أرضية تمثل وصول الإجماع على ضلالة (الإبراهيمية) إلى الحد الذي يرضي اليهود والنصارى في اتباع ملَّتهم، لكن الارتباك الحاصل بسبب الطوفان تمت ترجمته بهذا الخذلان العلني، المدفوع طوعا أو كرها من الأحمق المطاع (بايدن).
الارتباك الحاصل بسبب عملية طوفان الأقصى، وتأخير اتفاقية إبراهام، تمت ترجمته إلى خذلان علني للفلسطينيين
س5 كان لافتا حجم التفاعل وزيادة الوعي وعودة الاهتمام بقضية فلسطين كقضية مركزية، كيف يمكن استثمار هذه الصحوة والبناء عليها؟
يمكن، بل يجب استثمار هذه الصحوة في مجالات عدة:
فثقافيا؛ مطلوب تدعيم حالة الرفض لثقافة التطبيع الدخيلة التي أريد فرضها على شعوب العرب والمسلمين، خاصة وأن قطاعات عريضة عبَّرت عن أصالة وعيها فترجمته إلى حالة «المقاطعة» التي صارت روحا عامة بين مختلف الطبقات الاجتماعية بدرجاتها العمرية، حتى بين الأطفال الذين أصبحوا يتحرون ما يشترون من سلع، ويحترزون من دعم أي اقتصاد مؤيد للمعتدين.
أما سياسيا، فالتعويل الأساسي برأيي على التوجه الإسلامي، لمواصلة الجهود لصنع رأي عام مناهض سياسيا لأكاذيب السلام التي اقتربت قبل الطوفان أن تنسي الناس أن هناك قضية مقدسة كادت تتعرض للنسيان شعبيا، بعد أن تعرضت للتقزيم والتهوين رسميا.
وأما اجتماعيا، فإن الأحداث كشفت عن أن روح المجتمعات لا تزال حية مع قضايا الأمة، وكان للمساجد دور بارز رغم حصار الدعوة، وشهدنا حالة الاستمرار بلا ملل في القنوت والدعاء في الصلوات والخطب، ولولا المواقف المخزية لأكثر الحكومات، لرأينا اندفاعا غير مسبوق لدعم المجاهدين بكل غال وثمين.
وأهم من كل ذلك دينيا؛ فما جرى يثبت عظيم أثر القرآن في تثبيت العداء لـ«أشد الناس عداوة للذين آمنوا» وهو ما يجب توظيفه لتحصين المجتمعات من الدعوات التي تذيب الفوارق العقدية الفاصلة تحت أوهام السلام، ومعظمها من قبل العلمانيين، لتمييع عقيدة الولاء والبراء، التي تمثل أوثق عرى الإيمان.
س6 ما هي رؤيتكم حول التحالف (السياسي) بين حماس والمحور الإيراني، أبعاده ومستقبله؟
لا يخفى أن كثيرين من المراقبين الإسلاميين -وأنا منهم- كانوا يتحفظون بل يحذرون من هذا التحالف الذي تستفيد منه إيران بأضعاف أضعاف ما تستفيده حماس، حيث إنه كان يمنح إيران شرعية من الناحية السياسية في العالم الإسلامي، ما كان لها أن تحلم بها، لولا ادعاؤها -ثم احتكارها- دعوى قيادة ما يسمى (محور المقاومة) إلا أن من بركات طوفان الأقصى أنه عرَّى خداع الرافضة في دعاوى الدفاع عن فلسطين، حيث إن ما يُسمى (فيلق القدس) أصيب كغيره من الفيالق العربية بالصمم والبكم عما يحدث لأهل غزة، ولم تقم (ثورة المستضعفين) الرافضية بالحد الأدنى من نصرة من تاجرت بقضيتهم على مدى أربعين عاما، إلا مِن تحركات محسوبة بدقة بين الحوثيين وحزب الشيعة اللبناني؛ ذرًّا للرماد في العيون المصابة بالرمد السياسي، والتي ستكشف الأحداث أنها كلها كانت تجري وفق أجندة مصالح إيرانية فارسية، لا علاقة لها بنصرة القضية الفلسطينية.
فيلق القدس الإيراني أصيب كغيره من الفيالق العربية بالصمم والبكم عما يحدث لأهل غزة
المحور الرابع: مستقبل قضية فلسطين
س1 كقضية صراع مركزية سيؤثر كل ما يحدث في فلسطين على المنطقة، ما هي أبرز التأثيرات التي يمكن توقعها للمستقبل القريب في المنطقة؟
هناك جانبان متوقعان؛ أحدهما إيجابي، والآخر سلبي، أما الإيجابي فهو التغير الكبير في روح التعامل مع الأحداث والمتغيرات، بعد أن ظهر لعموم الناس أن الأمة بوسعها أن تفعل، وبإمكانها أن تغير إذا فتحت الأبواب المؤصدة، وحماس قطاع من الأمة، وتجربتها بعد تصفيتها من الكدر الإيراني قابلة للتكرار، بل هي واجبة التكرار في كل وطن إسلامي مستباح مسلوب.
وأما الجانب السلبي فهو ما اعتاد عليه عموم الأعداء، من محاولة تحويل النصر إلى هزيمة، أو تجيير النصر إلى غير مستحقيه بركوب موجاته، وهذا ما لن تفوِّت فرصتَه الكياناتُ الشيعية، التي استمرأت التجارة بالقضية، وادعاء الانفراد بمقاومة الاستكبار العالمي، ومن ناحية أخرى فالمتوقَّع انتفاض أصحاب الثورات المضادة لإيجاد أجواء أخرى تنادي بالعودة لجولات جديدة ومبادرات جديدة لما يسمى بالسلام، وأظن أن الرئيس الأمريكي الحالي سيلعب بهذه الورقة انتخابيا، في مبادرة تسجل باسمه في التاريخ المزور، ولكسب المزيد من أصوات اليهود الأمريكيين، كما سبق للعديد من الرؤساء السابقين، وآخرهم ترامب الذي اخترع مبادرة أبراهام، ومن قبلها صفقة القرن.
س2 أصبحت المقاومة الفلسطينية رقما صعبا في الصراع الإقليمي والدولي، كيف ترون مستقبلها والتحديات التي تواجهها، ومدى قدرتها على النجاح؟
بالطبع صارت رقما صعبا، لكن هذا ما سيضاعف التآمر الداخلي والإقليمي والعالمي عليها كما وكيفا، تماما مثلما حدث مع الثورات العربية، لكن نتمنى أن تكون قد استوعبت الدروس التي توجب أخذها من نتائج الثورات.
س2 يكثر الحديث عن المعركة الفاصلة مع اليهود، والخلافة التي ستكون في بيت المقدس، ما الذي ترونه في هذا الشأن من خلال الحالة الراهنة من الصراع؟
هذا لن يكون قبل زوال مرحلة الحكم الجبري، التي مضى عليها نحو مئة عام، منذ إسقاط الخلافة العثمانية، والتي أرى بخصوصها أننا نمر بمرحلة انتقالية بينها وبين المرحلة التي تليها مباشرة، وهي مرحلة الخلافة على منهاج النبوة، كما صحَّت بذلك الأحاديث، ولهذه المرحلة الانتقالية استحقاقات وواجبات شرعية، فهي مرحلة تهيئة وإعداد واستعداد، لأن الخلافة بوصفها الشرعيِّ الكامل لن تهبط من السماء فجأة، بل لها مقدمات وممهدات، وهذا لا يمنع من إمكان إحراز انتصارات كبرى على اليهود وغيرهم من أعداء الملة قبل المعركة الفاصلة الأخيرة، ولعل هذا من الاستحقاقات الواجبة على الأمة في المرحلة الانتقالية الممهدة للخلافة على منهاج النبوة؛ أن يتم تطهير ما يمكن تطهيره من رجز اليهود المسيطر على بلاد العرب والمسلمين سياسيا واقتصاديا وثقافيا وإعلاميا، فعودة الخلافة لا بد أن تكون على طهر.
اقتباس: «من الاستحقاقات الواجبة على الأمة في هذه المرحلة؛ أن يتم تطهير ما يمكن تطهيره من رجز اليهود المسيطر على بلاد العرب والمسلمين سياسيا واقتصاديا وثقافيا وإعلاميا».
س3 ما هي الواجبات التي ينبغي أن يقوم بها كل شخص تجاه نصرة المسلمين في فلسطين، والمسجد الأقصى؟
جماهير غفيرة من الأمة لا تزال تجهل الخطوط العريضة للصراع مع اليهود، بسبب التعمية العلمانية المتعمدة، التي تقصدت تقزيم الصراع، لتفريغه من أبعاده الدينية الاعتقادية التي تدار بها معاركه من جانب واحد هو الجانب الصهيوني.
أما العلمانية العربية فقد حولت الصراع من كونه إسلاميا عاما يخص الأمة كلها، إلى صراع عربي-إسرائيلي، ثم تحول بعد معاهدة كامب ديفيد إلى أزمة صورية بين ما كان يسمى (دول الطوق) وبين الدولة اليهودية، ثم راج في الإعلام مصطلح «النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي»، ثم تم حصره بعد اتفاقية أوسلو في المشكلة الأمنية بين إسرائيل وبين المقاومة الفلسطينية.
لكن معركة طوفان الأقصى نجحت في إعادة الصراع إلى المربع الأول، عندما ظهر للجميع أن اليهود ومن ورائهم أنصارهم من النصارى أرادوها حربا دينية، كما صرح بذلك جوزيف بايدن في اليوم التالي للحرب.
فهذه الحرب الدينية من جانبهم لا بد أن تأخذ أبعادها الاعتقادية عند المسلمين، وعلى مستوى عموم المسلمين، حيث إن تحرير الأقصى واسترداد القدس ليس واجب الفلسطينيين وحدهم، بل هو واجب الأمة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق