في لبنان انقلب السحر على الساحر
لم يستطع الإسرائيليون الاحتفال بعيد الغفران هذا العام كما اعتادوا، فهذه المرة تساقطت الصواريخ على حيفا وعكا وضربت تل أبيب حيث تقيم النخبة الإسرائيلية، وأصابت المسيّرات قواعد عسكرية في العمق الإسرائيلي أبرزها قاعدة لواء غولاني التي قُتل وأصيب فيها عشرات من الجنود أثناء تجمعهم في قاعة الطعام، وفشلت منظومات الدفاع الجوي في التصدي وحماية الداخل الإسرائيلي.
ظن نتنياهو وقادة الاحتلال أن النصر الذي فشلوا في تحقيقه في غزة يمكن الحصول عليه بسهولة في لبنان، خاصة بعد عمليات الاغتيال لحسن نصر الله والصف الأول والثاني من حزب الله، لكن يبدو أنهم تسرعوا وخانتهم الحسابات؛ فما حققه جيش الاحتلال في أسبوعين في بداية العدوان تم مسحه بعد ذلك، وأصبح واضحا أن الهزيمة تنتظر الإسرائيليين على أيدي المقاومة اللبنانية.
لقد انقلب السحر على الساحر وتغير اتجاه الحرب، وتأكد أن الصور التلفزيونية للتدمير بالغارات الجوية للقرى والمدن لا تخفي الفشل والعجز عن تحقيق أي إنجاز على الأرض، فقوات الاحتلال تستنزف على الحدود اللبنانية، وفي كل محاولة للاختراق يصطدم الجنود الإسرائيليون بمقاومة عنيفة مسلحة بمضادات الدروع والقذائف والقوة النارية التي أحدثت في المعتدين خسائر كبيرة.
بعد رسائل نتنياهو المتعجرفة عن تغيير الخرائط دارت الدائرة على الإسرائيليين، وبدأنا نشاهد على محطات التلفزة الصواريخ والمسيّرات في سماء فلسطين المحتلة خاصة في المثلث: حيفا وتل أبيب والقدس، حيث يعيش ثلثا الإسرائيليون، وتصور وكالات الأنباء وكاميرات المستوطنين وصول القذائف الطائرة إلى أهدافها على الأرض، وتتناقل وسائل التواصل صور الفزع والرعب الذي يعيشه الإسرائيليون الذين تبدل حالهم إلى الأسوأ، فأصبحوا يعانون العيش في الملاجئ والنزوح مثل الفلسطينيين واللبنانيين.
التفوق الإسرائيلي له حدود
ظن الإسرائيليون ومعهم الأمريكيون أن سلاح الجو المتفوق وأقمار التجسس وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والقوة النارية الأكثر فتكا تحقق لهم النصر الساحق، لكنهم اكتشفوا أن العنصر البشري المسلم أقوى من كل هذه العناصر في الميدان، خاصة إذا كان يستطيع تصنيع أسلحة مؤثرة وفعالة يدافع بها عن أرضه، مع وجود بيئة حاضنة لا تقل بسالة وصمودا تُفشل كل الخطط الساذجة للتبعية للاحتلال بعد الحرب.
الوضع في لبنان يميل الآن لصالح المقاومة، بعد استطاعة حزب الله التعافي بسرعة، واستعادة القيادة والسيطرة، والاعتماد على منظومات اتصال جديدة غير تلك التي تم اختراقها إسرائيليا، واتضحت ملامح التخطيط المحكم في توجيه الضربات إلى العمق الإسرائيلي بحسابات منضبطة، فضرب المستوطنات الشمالية مقابل الاعتداء على الجنوب، وحيفا مقابل الضاحية، وقصف تل أبيب ردا على العدوان على بيروت، وهي ذات المعادلات التي أعلنها الأمين العام لحزب الله قبل اغتياله ويبدو أن القيادات الجديدة ملتزمة بها.
وعد نتنياهو بإعادة المستوطنين الإسرائيليين النازحين من الشمال إلى بيوتهم، وأقدم على حرق مناطق واسعة في لبنان وتكرار الإبادة كما فعل في غزة، لكن تطورات الحرب والهجمات المنظمة بالصواريخ والمسيّرات المتطورة عصفت بالخطط الإسرائيلية، وأصبح الكيان كله تحت النار، وثبت كذب ما أعلن عنه الجيش الإسرائيلي من تدمير معظم الترسانة الصاروخية لحزب الله، بل تاهت القبة الحديدة، ولم تعد صفارات الإنذار تعمل بكفاءة.
النظام الدولي المتخاذل
يستغل نتنياهو فترة الانتخابات الأمريكية في الانطلاق بدون كوابح، فترامب يؤيده في كل جرائمه ويوافق على إبادة الفلسطينيين واللبنانيين ويعد بالمزيد إذا وصل إلى الرئاسة، وبايدن “الصهيوني الفخور” ضعيف جدا ويخشى من جر أمريكا للحرب؛ مما يتسبب في خسارة مرشحة الحزب الديمقراطي كامالا هاريس، علاوة على أن نتنياهو لا يحترم بايدن ويفضل ترامب، ويشجعه أكثر التأييد المطلق في الكونغرس الذي يدافع عن حروب “إسرائيل” ويقدم الدعم اللامحدود للإسرائيليين ويمدهم بالقنابل وكل أسلحة الإبادة.
يركز نتنياهو على الدعم الأمريكي لحمايته ولا يحترم الأوربيين الذين يدعمونه بنسب متفاوتة، ولم يبال بالاتحاد الأوربي، ويتجاهل فرنسا التي تريد أن تؤدّي دورا، فلم يستمع إلى ماكرون الذي شعر بالإهانة بصفته المستعمر القديم للبنان، واضطر الرئيس الفرنسي إلى رد الإهانة بالدعوة إلى وقف إمداد إسرائيل بالقنابل التي تستخدم في الإبادة، فرد عليه نتنياهو بسخرية بأنه سينتصر بماكرون أو بغيره، لكن ماكرون لم يفعل شيئا يستحق الاهتمام.
مثلما هاجم نتنياهو الأمم المتحدة ودورها في غزة خاصة الأونروا؛ استمر في ذات السلوك في لبنان، فقد قصف الجيش الإسرائيلي قوات اليونيفيل التابعة للأمم المتحدة، وبدلا من الاعتذار خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي في كلمة مسجلة هاجم فيها الأمين العام للأمم المتحدة وطالب بسحب القوات التابعة للمنظمة من الحدود، لكن يبدو أن الأمم المتحدة غير قادرة على أي تحرك بسبب الفيتو الأمريكي؛ مما جعل النظام الدولي كله في حالة شلل وعجز عن التعامل مع الإجرام الإسرائيلي!
إبادة جباليا وتقليص مساحة القطاع!
يشعر نتنياهو بأن حربه في لبنان لن تحقق له النصر الذي يريد، فالخسائر متصاعدة ومؤلمة، والجنود لا يستطيعون تحقيق أي إنجاز أمام بسالة المقاومة اللبنانية في القتال، وتبخرت أطماعه في طرد حزب الله إلى ما وراء الليطاني ولم يعد سهلا نزع سلاحه، كما لم يعد ممكنا الحصول على نصر دعائي على الساحة الإيرانية، فالإيرانيون يتوعدون برد مزلزل على أي رد إسرائيلي ولا يقبلون أي تنازل، في الوقت الذي أرسل فيه الأمريكيون عدة رسائل إلى طهران عبر وسطاء يتسوّلون الاتفاق على اختيار أهداف يضربها نتنياهو تجعل طهران تبتلع الضربة!
لقد تغير اتجاه الحرب ضد الإسرائيليين، وأدى تعثر نتنياهو إلى العودة إلى ساحة القتال الرئيسية في غزة، والبحث عن انتصار يرضي الإسرائيليين في حال الاضطرار إلى وقف إطلاق النار الذي قد يفرضه الواقع على الأرض، فقرر تدمير شمال غزة بشكل كامل وإخلاءه من السكان وتقليص القطاع، فاجتاحت القوات الإسرائيلية الشمال، وتواصلت الغارات والقصف الجنوني، ومنع الاحتلال دخول المساعدات لتجويع السكان وإجبارهم على النزوح إلى جنوب القطاع.
هذه المرة يتم هدم البيوت بكل أنواع الأسلحة، وبدؤوا بمخيم جباليا المحاصر من كل الجهات، ويتم تدمير المربعات السكنية وقتل السكان بالجملة، لكن كتائب القسام وفصائل المقاومة تتصدّى لهم بجسارة وتوقع الخسائر بكمائن نوعية جريئة لإفساد الخطة الإسرائيلية، ويتصدى السكان للتهجير ويرفضون الهروب من الموت، ويقفون بصدورهم أمام القنابل والقذائف العمياء متمسكين ببيوتهم وأرضهم.
خطة الجنرالات الشيطانية
يعلن الاحتلال أنه ينفذ ما يسمى “خطة الجنرالات”، وهي خطة إبادة تتعارض مع القوانين الدولية والإنسانية، ومع كل الاتفاقات المتعلقة بفلسطين، وتعصف بمواقف الدول العربية التي تختبئ حول مطلب الاعتراف بالدولة الفلسطينية؛ فهؤلاء الجنرالات قرروا أن السيطرة العسكرية التي يريدها نتنياهو -بعد فشل خطط تشكيل إدارة عميلة- لا يمكن أن تتم إلا على أرض خالية من الفلسطينيين الذين يريدون حشرهم بالقوة النارية في “فقاعات إنسانية” على ساحل البحر في الوسط والجنوب!
قادة الاحتلال يرون أن مجرد دعوة سكان شمال القطاع إلى الإخلاء والمغادرة يعطيهم الحق في الإبادة، ويعلنون أن من يتمسك بالبقاء في بيته فهو ينتمي لحماس ومستباح الدم، ويصاحب تدمير جباليا قصف جنوني لمخيمات النازحين والمستشفيات وقتل النساء والأطفال بلا رحمة في كل القطاع.
لن يستطيع نتنياهو تحمل الخسائر في الشمال وضغوط الجبهة الداخلية فترة طويلة بعد أن كسر الصمود اللبناني الغطرسة الإسرائيلية، وأفسد حالة الغرور التي عاشها نتنياهو ومعاونوه بعض الوقت، ولم يعد أمام الإسرائيليين أي باب لتحقيق الانتصار الذي يعيد لهم الردع، أو يعيد لهم وضعهم السابق قبل طوفان الأقصى.
لم يعد ممكنا للاحتلال الإسرائيلي حسم المعارك والظهور أمام أمريكا وأوروبا بصورة المنتصر الذي يمكن الاعتماد عليه للحفاظ على المصالح الغربية بالمنطقة، فكل يوم تستمر فيه الحرب يزداد الاحتلال تورطا وانكشافا، ويخسر داعموه ما بنوه من مكانة وعلاقات منذ عقود، وسيفقدون مصالحهم في النهاية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق