الاثنين، 21 أكتوبر 2024

صرخة وعي

صرخة وعي

بقلم: أدهم أبو سلمية


في زمنٍ كاد فيه الضجيج أن يطغى على صوت الحق، باتت الكلمة أمانةً يُثقِل حملها صدور الأوفياء..


يروق للعقول المسترخية خطاب الشعوبية، فتغرق في بحر ما تود أن تسمع، ولكن الحق ليس هيناً، والحق ثقيلٌ على كاهل من اختار أن يكون أميناً على الكلمة، خاصةً في اللحظات التي تَجعل السكوت خيانةً. وبين إغراء الجماهير وثقل المسؤولية، يقف العقل حائراً، لكن الأمانة تستدعي منا كثيراً من الحكمة والجرأة على قول الحقيقة، مهما كان الثمن.


كم هو يسيرٌ أن نكتب ما يعجب الناس، وكم هو صعبٌ أن نكتب ما يُمتحن به ضميرنا أمام الله وأمام التاريخ.. الكلمةُ أمانة، وأمانة الكلمة قد دفعت بكثيرين إلى طرقٍ وعرةٍ لا يسلكها إلا من يؤمن بأن الصدق هو الجسر إلى الخلاص. لقد دفع كثيرون الثمن غالياً، وما زال الطريق مليئاً بالأشواك لمن اختار أن يكون من حَمَلة هذه الرسالة.


أمتنا اليوم تقف على مفترق طرق، حيث تتشابك الخيوط وتتعقد الأمور، وقد مضت عقود من العبث والتخريب في بيئتها الاستراتيجية، فأصبحنا فرقاً متناثرة، نجادل بعضنا على الهوية، نرفع سيف المذهبية والطائفية على رقاب بعضنا. لقد نجح خصومنا- بل وأتقنوا- في زرع بذور الفتنة بيننا، حتى باتت كل جماعة تفرح بما لديها، وكأننا لا ندرك أننا جميعاً على مرمى سلاح عدو واحد.


لقد انهارت مجتمعاتنا بفعل هذا الغزو الثقافي والفكري، غزو لم يكن يهدف إلا إلى تمزيقنا من الداخل. أصبح الظالم معززاً والمظلوم مُداناً، والتطبيع مع العدو تقدمٌ، بينما الدعوة إلى الوحدة وصوت العدل جريمة تُدين صاحبها.


بات التحريض على الفرقة وتوسيع الشقاق هو ما يُمَجَّد، بينما تُهمَّش الدعوات إلى التسامي والتكاتف، والعمل من أجل المصلحة الكبرى للأمة. كم هو مؤلم أن ترى الإنسانية تُجرَّم، والعمل الخيري يُدان، في حين أن حفلات اللهو والإسراف والترف تصبح رمزاً للتقدم والتحضر.


العلماء الذين كان من المفترض أن يقودوا الأمة أصبحوا إما غرباء في المنافي، أو شهداء تحت التراب، أو أسرى في الزنازين. في المقابل، تصدّر المشهدَ من لا يملكون إلا بريق الشاشات وزيف الكلمات، حتى أصبح من يسمون أنفسهم “المؤثرون” قدوةً في الجهل والتفاهة، إلا قليلاً منهم.


أمتنا اليوم كجسد مريض أرهقته العلل، ولا علاج لهذا الألم إلا بالصدق مع النفس.. لقد وصلنا إلى مرحلة نبرر فيها لقاتلنا، بينما نلوم الضحية، ونصمت أمام الظلم، ولا نرى في دعاة الحرية إلا تخلفاً وإرهاباً!. قُلب الواقع رأساً على عقب، وتفطّر القلب ألماً على ما آل إليه حالنا.


في وسط هذا الوجع، نحتاج إلى الوقوف بثبات، إلى أن نكون أوفياء لكلماتنا، صادقين مع أنفسنا ومع الناس. علينا أن ندفع بالأوفياء وأصحاب الرأي الصادق إلى مقدمة الصفوف، فليس كل من علا صوته علَماً، ولا كل من جمع الإعجابات مؤثراً.


إن خلاص أمتنا يبدأ بعودتنا إلى ذواتنا، وتصحيح علاقتنا مع خالقنا.. حين نؤمن بقوتنا الكامنة، ونستعيد ثقتنا بأنفسنا، سنكون قادرين على مواجهة السرطان الذي تسلل إلى جسد هذه الأمة. حين نتحرر من قبضة الاحتلال، سنبني جسور الحضارة من جديد، سنعود أمةً واحدة، تَحكم بالعدل وتفخر بعزة الإسلام.


إنها زفرات من قلبٍ مفجوع بحال الأمة، كلمات تخرج من الروح علّها تصل إلى القلوب الواعية، وتوقظ العقول التي ما زالت تبحث عن النور.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق