الاثنين، 14 أكتوبر 2024

كيف لهذا القلب أن يحتمل؟

 

كيف لهذا القلب أن يحتمل؟

  د. أيمن العتوم


حين مات إبراهيم ابن النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو ابن ثمانية عشر شهرا، اعتنقه وبكى. وقد وصف أنس بن مالك (رضي الله عنه) تلك اللحظة، فقال: “دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القين (الحداد)، وكان ظئرا لإبراهيم (أبا له من الرضاعة)، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبّله وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك، وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟! فقال: يا ابن عوف، إنها رحمة.. ثم أتبعها بأخرى، فقال (صلى الله عليه وسلم): إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون” رواه البخاري.

وأنت ترى هذا الطفل من أهل غزة، يجود بأنفاسه بين الحرائق والدخان، وبين الهدم والردم، قد اصطبغ ثوبه بالدم القاني، لم ير من الدنيا إلا أهوالها، ولم يشم من ريحها إلا دخانها، ولم يطعم من طعامها إلا ما كان يابسا، ولم يشرب من مائها إلا ما كان مُرنَّقا، ولم يلبس من ثيابها إلا ما كان باليا، ثم يأتيه الموت وهو على هذه الهيئة.. يحتضن أبوه فلذة كبده، ويعانقه العناق الأخير، ولا يدري ما يفعل، كان بضعة منه فافتلتت، وكان استمراره فانقطع، وكان روحه فخُطفت، فأي قلب يحتمل هذا؟!


كان يرى فيه دربه الذي قصر بالموت، فيأمل أن يعيش ليكمل الحياة بعده، ولكن الموت أنهى تلك الطريق في أول بدئها، وكان يرى فيه مستقبله الذي كان يمكن أن يكون مشرقا فصار في لحظة غادرة ماضيا، وكان يرى فيه بهجته المؤجلة فصار ترحته الباقية، وكان يستشرف فيه الطبيب أو المهندس أو الحقوقي أو المؤمن الداعية، فصار ذلك كله ترابا، وكان يرى فيه نفسه، فغادرت نفسه جسدها المنهك.. فأي قلب يحتمل هذا؟!


إن الموت اليوم يتربص بأطفال غزة، يأخذهم من أحضان أمهاتهم وآبائهم، يسرقهم من طرقات اللهو، ينزعهم من ساحات الأمان فلا أمان. يدرجون كالحمام على شوارع غزة فتنهشهم نسور الفلا، أحداثها والقشاعم، فيتمزقون بين مخالبها مزقا مزقا، وقطعا قطعا، تسيل دماؤهم الذبيحة، وتتدفق أرواحهم الغضة خارج أجسادهم الحالمة، كأنما حرام عليهم ما هو حلال لأطفال العالم! فأي قلب يحتمل هذا؟!


أيها الجبابرة الفجرة، إنهم من لحم ودم، وإن لهم الحق في الحياة فلماذا تسرقونها منهم؟ وإن لهم أحلامهم وأمانيهم، فلماذا تخطفون تلك الأحلام وتذبحون تلكم الأماني؟! 
أيتها الوحوش التي لا تشبع من الدم، لن يذهب دمهم هدرا، سيلاحقكم هذا الدم في منامكم، سيتسلل من نوافذ الغيب إلى أسِرَّتكم، سيعشش في وسائدكم وأرائككم، ولن تنعموا بالحياة، وستكون تلك الدماء البريئة الطاهرة لعنتكم إلى يوم الدين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق