علوٌّ في الحياة وفي الممات أيمن العتوم
لقد وُهب عمرا طويلا، خالدا بالذكر الحسن، ولئن كان عمره المعدود قصيرا على هذه الفانية، فإنه طويل ممتد في الخالدين، والأعمار ليس ما لم تعده بالسنوات والأيام، ولكن ما تعده بالأفعال، ولو كان بالأيام لكان أطولنا عمرا ذاك الذي يرده الله أسفل سافلين، ولكن “من الأعمار ما ليس يوهب”، ولقد كان عمره من الأعمار التي لا توهب إلا للذين لا يموتون، لأنهم سيبقون في ذاكرة هذا الجيل المثخن بالجراح والبلايا وفي ذاكرة الأجيال القادمة، الأجيال التي سترويه نشيدا عذبا في الفم:
غدا تجيء من الأجيال من حلمتْ
بـأن تــراه وشاقتْــها الـبـطــولات
تــود لــو أنــهــا فـي بنــدقـيـــتــه
مقـابض، أو زناد أو رصـاصـات
مضى طاهر الأثواب، صادق الكلمة، ثابت الرأي، جلْدا، صبورا، لم يقل كلمة أعظم مما قاله في السابع من أكتوبر من العام الفائت، وفي السابع عشر من أكتوبر الحالي، وبين أكتوبرين صنع عبوره الخاص، وقال كلمته الفريدة، الكلمة التي يعجز رؤساء وزعماء طارئون فانون أن يقولوها ولو من وراء ستار الخوف والتبعية والتخاذل.
لم تكن الحكايا التي وردت عن خالد بن الوليد وعن جعفر بن أبي طالب وعن عكرمة بن أبي جهل وعن نهر ممتد من الشهداء أساطير، ولا خرافات، ولكنْ لأنها أعظم من أن يتخيلها العقل البشري ستصبح أساطير، أساطير في البطولة والفداء، وستكون مادة غنية لترويها الأمهات الحالمات لأبنائهن، والآباء الطامحون لأولادهم:
لقد كان فوت الموت سهلا فرده
إليه الحفاظ المر والخلق الوعـر
إنه الخلق الوعر الذي لا يتقنه إلا هذا الصنف من الأبطال النادرين في كل عصر!. يوما ما سنقول إننا عشنا في زمن يحيى مرتين، مرة حين هندس العمليات الاستشهادية ضد العدو الصهيوني على يد العياش، ومرة حين حول مجرى التاريخ، وصنع تاريخا خاصا به على يد السنوار، وبين اليحيين تتماثل أمامنا دماء يحيى النبي الذي سالت دماؤه كما سالت دماء يحيينا من أجل فكرة نقية، من أجل مبدأ صالح، ومن أجل نور سيظل يهدي السارين في الظلمات المدلهمة التي لا يكاد المرء فيها إذا أخرج يده أن يراها.
لقد ولد عاليا في صباه، وعاش عاليا في حياته، وعاش عاليا في مماته، كأنه كان لا يرى للقاع وجودا، ولا للسفح مكانا، يحلّق كالنسر فوق القمم، ويخفق بجناحيه للجموع أن من هنا الطريق، وإن طريقا لا يقود إلى القدس وينتهي عند المسجد الأقصى المبارك طريق غير راشدة:
علـوٌّ في الـحـياة وفي الممات
لعمرك تلك إحدى المعجزات
لقد ولد منذورا للسماء، منذورا لتلك الأرواح التي تحلق تحت ظل العرش، وهي تنعم بالرَّوْح والريحان، وإن قبره لن يكون في الأرض، لأن الذين ولدوا للسماء لن ينتهوا إلا إليها، وإن الذين ثأروا من عدو قاتل سفاك همجي سيكون ثأرهم معه طويلا:
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا
عـن الأكـفـان ثـوب السـافـيــات
أسـأت إلى الـنـوائب فاسـتثـارت
فـأنـت قـتـيـــل ثــأر الـنـائـبــات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق