الثلاثاء، 15 أكتوبر 2024

كأنما قضى الله أن نعيش صعاليك على تقاليد الأمم؟

كأنما قضى الله أن نعيش صعاليك على تقاليد الأمم؟


بقلم: محمد نعمان الدين الندوي

التميز والاصطفاء من خصائص الأمة الإسلامية.. فكتابها -القرآن الكريم- أكمل كتاب نزل، ورسولها محمد -عليه الصلاة والسلام- أعظم رسول بعث..، وصحابته -رضوان الله تعالى عليهم أجمعين- أفضل جيل بشري بعد الأنبياء عليهم السلام، فكانوا أبر الناس قلوبًا، وأعمقهم علمًا، وأقلهم تكلفًا..

وهذه الأمة -كذلك- ليست أمة عادية، بل رفع الله قدر ها، وأعلى شأنها وفضلها على سائر الأمم: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}..

فهي أمة شامة بين الأمم.. أمة متميزة بسماتها.. فكأنها واسطة العقد.. أو بيت القصيد.. أو كالتاج على رأس الملك.. والغرة في وجه الفرس..

أمة أغناها الله وأثراها، أغناها بكتاب ربها، وأثراها بسنة نبيها..

و إن في هذين المصدرين الطاهرين الصافيين لغَناءً للأمة كل الغناء عن الالتفات والنظر إلى اليمين واليسار، أو عن الاحتياج إلى التقليد والمحاكاة.. فضلًا عن التسول والاستجداء.. ففيهما كل خير وسعادة.. وحل كل مشكلة.. وإنارة للطريق.. وهداية للحيارى.. وتوجيه للجميع في كل ما يعنيهم من الأمور والقضايا..

ومن هنا.. فإن المنهج الإسلامي أكمل وأتم منهج، يغطي الحياة بجميع نواحيها..

والمسلم لفي غنى عن أي استيراد أو استشراف..

ولا مانع من الاقتباس والإفادة مما لا بأس به من النافع الصالح الرشيد.. فالحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق بها..

 * * *

إن أي فرد من أفراد هذه الأمة لا يحتاج -أو من المفروض أن لا يحتاج- إلى أن يُسأل عن هويته.. أو إبراز بطاقته.. لأن هويته شخصيته.. وهي واضحة المعالم ظاهرة الملامح.. وجنسيته: لا إله إلا الله.. ووطنه: كل أرض تخفق فيها راية القرآن..

إنه يُعرف -في أي مجتمع أو ناد- بخصائصه، التي تميزه وتشخصه، وترفع قدره حتى في نظر الغير..

يُعرف بنور وجهه، وإشراق إيمانه، ودماثة خلقه، وطيب معاملاته، ووقاره وسمته، وحسن أدبه..

* * *

كانت الأمة موفورة الكرامة، شامخة الهامة، مسموعة الكلمة، مرهوبة الجانب، ما دامت معتصمة بعقيدتها، معتزة بهويتها، متمسكة بخصائصها، غيورة على عزها وكرامتها، غير متساهلة ولا متسامحة في أمر دينها.. ولا سامحة – بأي شكل من الأشكال – لتقاليد الآخرين بأن تدب في أبنائها..

والحقيقة أن غيرة الأمة -أي أمة- وحرصها على شخصيتها، حافظُها من الانبهار، ومنقذها من الانهيار، وعاصمها من الذوبان في الغير..

فلما بدأت الأمة تتباعد عن منابعها، وتتنازل عن شخصيتها، وتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.. بدأ انحطاطها وتراجُعُ مكانتِها، ونزولُها -إذا لم نقل: سقوطها- من فوق إلى تحت.. من العزة إلى الذلة..

وكان اليوم الذي بدأت فيه الأمة -عن شعور.. أو من غير شعور- ترغب عن مميزاتها، وتميل إلى التطفل على مأدبة الغير..

كان ذلك اليوم يومًا مشؤومًا في حياتها..

واستمر التنازل عن الخصائص، وتواصل الاستبدال، والبعد عن: «الذاتية»… والانحراف عن الجادة.. حتى وصلت الحال إلى ما هي عليه الآن..

فاسم: [الإسلام] موجود.. أما الروح فغائبة.. أما التطبيق فيكاد ينعدم.. أما: [الطابع] أما: [الأصالة] أما: [الاعتزاز بالإسلام] والحرص على جوهره وتنفيذ تعليماته في الحياة أفرادًا وجماعات.. فيكاد كل ذلك هامشيًا.. أو مما لا يحسب له حساب..

فالواقع المؤسف المزري أن تقاليد: [الغير] قد طغت في مجتمعاتنا وبغت إلى أن تكاد تُغلَبُ تقاليدُنا وخصائصنا بل تمحي وتتلاشى..

الإسلام موجود اسمًا.. ولكنه شِبْه مغيّب معزول مُقصى عن الساحة.. غير مسموح له بممارسة دوره على الوجه المطلوب..

فهو -الإسلام- مبعد عن الحكم والمحكمة وجهات التنفيذ وسلطات القرار في معظم الدول التي تسمى: اسلامية..

وحلت محل نظام الحكم الإسلامي العادل أنظمة مستوردة من صنع البشر، تُحكم بها بلدان المسلمين..

ويتبع ذلك نظامُ القضاء في الجرائم والقضايا الجنائية والمدنية..

فهذا النظام القضائي هو الآخر غير إسلامي، يُعتمد عليه في معظم الأقطار الإسلامية..

هذا يتعلق بناحية القضاء والحكم وإدارة البلاد..

أما فيما يتعلق بالتقاليد والعادات، ومظاهر الفرح والعزاء وغيرها.. فالوضع – أيضا – ليس بأحسن حالًا، ولا أدعى إلى ما يبشر بخير..

فكأن هناك تنافسًا بيننا – نحن أبناء خير أمة – في تبني عادات وتقاليد [الغير] في الملبس والمأكل.. في المآدب والولائم.. في آداب المجالس والاجتماعات.. في جميع أنماط السلوك ومظاهر الحياة..

وصار ذلك -تبني عادات القوم- يعد موضة.. وتحضرًا وتنبلًا.. وعلامة من علامات الرقي، ودليلًا على مسايرة العصر ومواكبته..

حتى أن هناك تقاليد غربية غريبة عجيبة تسربت إلينا، ونحرص على اتباعها رغمًا عنا.. ونعمل بها على مضض.. رغم علمنا بأنها ضد المصلحة والصواب والصحة..

ولكننا مضطرون إلى مراعاتها -طوعًا أو كرهًا- تمشيًا مع متطلبات العصر، وتجنبًا من رمينا بالتزمت أو الرجعية، والتخلف من ركب التقدم..

خذ – مثلًا – طريقة الأكل المفضلة الآن في الولائم.. فالناس يأكلون قيامًا، متجولين في صالة الطعام.. ممسكين بالصحون في أيديهم.. ولا شك أنهم يكونون غير مرتاحين إلى هذه الطريقة المستحدثة العجيبة للأكل.. ولكنهم يتبعونها للتدليل على أنهم متحضرون يسايرون العصر فيما يحدثه من الآداب والأنماط في مختلف أطوار الحياة..

والإنسان لم يتناول الطعام قائمًا قط.. حتى في عصره البدائي.. حينما كان يعيش في الكهوف والغارات.. ويستر عورته بورق الشجر..

الأنعام والدواب.. هي التي تأكل قائمة.. وجالسة أيضًا..

ولكننا حينما رأينا القوم يتناولون الطعام قائمين ومتجولين.. قلدناهم تقليدًا أعمى..

التقليد لا يكون بإغماض العين.. أو بدون إعمال عقل وتفكير.. أي لا يكون خبط عشواء..

والإسلام لا يحظر على الاقتباس والإفادة من الغير..

ولكن له في ذلك ضوابط يلتزم بها، وخطوط حمراء لا يسمح بتجاوزها..

فإذا أردنا أن نستفيد مما عند القوم من الأفكار والتقاليد.. فأول ما يجب أن يكون ذلك في إطار الحدود.. فلا يتصادم مع نظرتنا الإسلامية الصحيحة.. ثم لا يتعارض مع مصالحنا ومنافعنا..

فلا نحرًم طريقة الأكل قيامًا.. ولكن لا نحبذها.. بل نكرهها.. لأنها تخالف سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.. ولا نؤيدها ولا نشجعها. لأنها تنافي الصحة والفطرة والعادة المعهودة العريقة التي درج عليها الإنسان وألفها منذ أن بدأ يعيش على الأرض..

يا أبناء أمتي! لقد جعلنا الله أمة شامة بين الأمم..

أمة متميزة في كل شأن من شؤون الحياة..

فمن هنا.. مُنِعنا من التشبه والمحاكاة.. «من تشبه بقوم فهو منهم» (حديث صحيح).

وحثنا الرسول صلى الله عليه وسلم على مخالفة اليهود والنصارى في الكثير من الأعمال والمظاهر ومرافق الحياة.. وذلك لكي تبقى للامة خصوصيتها وتفردها وتميزها عن سائر الشعوب والأمم..

يا أبناء أمتي! لقد أكرمنا الله تعالى فجعلَنا أصحاب اليد العليا.. ولكن تنازلنا عن هذه المكانة المشرفة.. فصرنا من ذوي اليد السفلى..

أصبحنا مُستَجْدِين متطفلين.. فصارت حالتنا أسوأ من الأيتام على مأدبة اللئام..

وهذا جزاء من كفر وتنكر للنعمة..

والكفران بالنعم والنكران للجميل يؤدي إلى الحرمان والخسران، والذل والهوان {ولئن كفرتم إن عذابي لشديد}.. سنة جارية وقدر مطرد في الجاحدين للفضل، المتنكرين للنعمة..

إننا اليوم مغزوون بالثقافات الأجنبية.. بالموضات والتقليعات.. «ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا»

وهذا النوع من الغزو أخطر وأضر من غزو السلاح.

وهو غزو ناعم لا يشعر بخطورته المغزو..

غزو يجتاح كل مجتمع ومؤسسة، وكل بيت ودار..

غزو يحقق أهداف العدو.. دون أن يكلفه تكليفًا باهظًا..

* * *

يا أبناء أمتي! كان الله سبحانه بوأنا مكانة القيادة والتوجيه والريادة.. ولكننا ظلمنا أنفسنا.. فما قدرنا مكانتنا، وما راعينا حرمتها واستخففنا بعظمتها.. وتنازلنا عنها.. واخترنا التبعية والانجرار خلف الغير، والقناعة بمؤخرة الركب..

يا أبناء أمتي! إن حياة العزة والكرامة لا تبنى بالتقليد والمحاكاة، والتنافس في التبعية الممقوتة للمغضوب عليهم والضالين.. وإيثار حياة البذخ والترف والراحة، على حياة الجد والجلد والمشقة..

إنها لا تبنى إلا بالتمسك بالمبادئ، والاعتماد على الذات، والجد والكفاح والتضحية بالراحة والنفس والنفيس..

إنها لا تبنى بالاعتزاز أو المنافسة أو المفاخرة باستيراد أدوات الزينة والجمال، وآلات الترفيه والتيسير والإراحة من الشرق والغرب..

إنها تبنى بالاكتفاء الذاتي.. بالنتاج الداخلي.. بـ: «الاعتداد بالنفس» أو: «الذاتية»: (خودي) على لسان إقبال.

يا أبناء أمتي! إلى متى نظل عالة على غيرنا.. متطفلين على مأدبة عدونا.. صعاليك على تقاليد الأمم.. خاضعين لمن ضربت عليهم الذلة؟

ونحن أغنى الأمم وأثراها.. وأفضلها وأعلاها..

{وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}.

(ليلة الجمعة: ٧ من ربيع الثاني ١٤٤٦ھ – ١٠ من أكتوبر ٢٠٢٤م).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق