الأربعاء، 30 أكتوبر 2024

علماء السلاطين.. بأي فكر يحيا هؤلاء؟

علماء السلاطين.. بأي فكر يحيا هؤلاء؟


د. عبد الله العمادي

كاتب صحفي ومؤلف



اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يُعَز فيه أهل طاعتك، ويُذَل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر..           

بهذه الكلمات أنهى العالم الرباني العـز بن عبد السلام خطبته التي خصصها للاعتراض على تعليمات الملك الصالح إسماعيل يومها، بعد أن دخل في اتفاقيات صلح مع الصليبيين ومنحهم مناطق في دمشق، وسمح لهم بشراء الأسلحة والتزود بالطعام. 

فقام العز بن عبد السلام- وكان يُلقّب بسلطان العلماء- وفي خطبة نارية، فحرّم الصلح مع الإفرنج وبيعهم السلاح، بل لم يرفع يديه للدعاء للملك نهاية خطبته، كما كانت العادة في تلك الأيام، فاعتبره الملك عصياناً يستوجب اعتقاله على الفور، وهذا ما تم فعلاً.


 قد تستغرب من هذه النوعية من العلماء، وربما رأيت بعض الاستزادة عن الشيخ العز بن عبد السلام، الذي اشتهر في التاريخ الإسلامي، واقترن اسمه بمواقفه لا مؤلفاته وتصنيفاته، على رغم جهده وغزارة علمه في جانب التأليف أيضاً، لكن ذلك لم يكن ليشغله عن مقاومة الظلم ومواجهة الحُكام عند الخطأ، والجهاد ضد أعداء الأمة يومها من الصليبيين، ومن بعدهم المغول.


سيرته ومواقفه تصلح اليوم لاستحضارها من عمق التاريخ، وإبرازها للأمة من جديد، بعد أن ظهرت نماذج من علماء هنا وهناك، تعارف الناس على تسميتهم بعلماء السلاطين، الذين اشتغلوا بالدين لدنياهم ودنيا غيرهم {وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}.


العز بن عبد السلام ومواجهة الملك

برز دور الشيخ في أحد أهم وأخطر الأوقات التي مرت على الأمة المسلمة، حين واجهت خطراً وتهديداً وجودياً تمثل في عبثية ووحشية المغول، فكان للشيخ دور هام في تحفيز الشعب- ومن قبله الملك قطز- من أجل التصدي لخطر المغول، الذين اجتاحوا العالم الإسلامي، وأنهوا الخلافة العباسية في بغداد، ووصلوا حتى أبواب القاهرة.


مما يحكى عنه أن قطز، وهو يستعد للمعركة الفاصلة مع المغول، أمر بجمع الأموال من الرعية، ولم يعارضه أحد من العلماء في بلاطه يومها إلا العز بن عبدالسلام، الذي وقف في وجهه، وطالبه ألا يأخذ شيئاً من الناس إلا بعد إفراغ بيت المال، وبعد أن يخرج الأمراء وكبار التجار من أموالهم وذهبهم بالمقادير التي تتناسب مع ثرواتهم، حتى يتساوى الجميع في الإنفاق على تجهيز الجيش، فإذا لم تكف الأموال، يمكن حينها للمك أن يفرض الضرائب على بقية الناس.. فتراجع قطز عن قراره، ونزل على حكم الشيخ!. وهكذا استمر الأمر حتى معركة عين جالوت الفاصلة ودحر المغول للأبد.


علماء السلاطين حواشٍ للحاكمين

اليوم، تمر الأمة بظروف وأحوال لا تختلف كثيراً عن الفترة التي عاش فيها سلطان العلماء، العز بن عبد السلام. الأمة مبعثرة بين الشرق والغرب، ومظاهر التناحر بين الدول الإسلامية واقعة ومشاهدة، وجيوش علماء السلاطين تظهر هنا وهناك مثل فقاعات الصابون؛ تراهم يدورون في أفلاك الزعماء والحكام، يبيعون دينهم بدنياهم ودنيا غيرهم.. قدراتهم في ضبط ورسم الفتاوى المرغوبة من الزعيم عجيبة ودقيقة؛ كل فتوى بثمنها، مالاً كان أم وجاهة، أم منزلة، أم غير ذلك من أثمان.


استغرب الشيخ محمد الغزالي من نوعية علماء السلاطين المشتغلين بالعلم الديني الذين: 

” قاربوا مرحلة الشيخوخة وألفوا كتباً في الفروع، وأثاروا معارك طاحنة في هذه الميادين.. ومع ذلك فإن أحداً منهم لم يخطّ حرفاً ضد الصليبية أو الصهيونية أو الشيوعية.. إن وطأتهم شديدة على          الأخطاء بين أمتهم، وبلادتهم أشد تجاه الأعداء الذين يبغون استباحة بيضتهم.. بأي فكر يحيا أولئك؟”.                                          


ثم يصل إلى النقطة الجوهرية، والعلة التي تعاني منها الأمة اليوم، علة ابتعاد علماء الدين عن قول الحق، ووصولهم إلى ما هو أسوأ من ذلك بكثير، وهو ارتماؤهم في أحضان السياسيين، ملوكاً كانوا أو زعماء.. فيقول الشيخ الغزالي: 

“أوروبا سبقتنا إلى تقليم أظافر حكامها، فقتلت بعضهم في ثورات حانقة ووضعت دساتير دقيقة لضبط مسالك الباقين، حتى صار      الحكم هناك خدمة عامة، يُختار لها الأكفأ ويُراقب من خلال أجهزة يقظة، ويُطرد ولا كرامة، إن بدا منه ما يريب.. أما الشرق الاسلامي فإن الفساد السياسي بقي في أغلب ربوعه، وما يثير الدهشة أكثر وأكثر هو موقف المشتغلين بالعلوم الدينية وفقه الشريعة.. كأن هؤلاء كُوّنوا بطريقة خاصة ليكونوا حواشي للحاكمين! السقوط الخُلقي وخلل التفكير الفقهي عند الجم الغفير من المتكلمين في الفقه آفة بعض رجال الدين”.                                                    


فساد الملوك بفساد العلماء

إن الاستبداد السياسي يتولد من الاستبداد الديني كما يقول الكواكبي، وإنه: “ما من مستبدّ سياسي إلى الآن، إلا ويتخذ له صفة قداسة يشارك بها الله أو تعطيه مقاما ذا علاقة مع الله. ولا أقل من أن يتخذ بطانة من خَدَمة الدين، يعينونه على ظلم الناس باسم الله.. وإنما فسدت الرعية بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء.. فلولا      القضاة السوء والعلماء السوء لقل فساد الملوك خوفا من إنكارهم”.


لقد ساعدت تقنية الاتصالات والمعلومات اليوم على كشف كثير من علماء السلاطين، وساعدت على رصد كل ما كان منهم وما هو كائن الآن، وصار بالإمكان تسجيل وحصر ما كان عليه أحدهم قبل وبعد. أي يوم أن كان عالماً يعمل لدينه ويبتغي رضا خالقه، ويوم أن تحول ليشتغل بدينه لدنياه، ويُرضي مخلوقات الله على اختلاف مآربهم ومشاربهم.


لكن، رغم أن إيجابيات التقنية في كشف أمثال هؤلاء كثيرة، فإن الخشية من التأثيرات السلبية على العامة كبيرة، لأنها دون شك ستكون مصدر يأس وانتكاسة عند الناس، بعد أن كان كثير من أولئك “العلماء” في منزلة عالية راقية، ينظر الناس إليهم بثقة واطمئنان كنماذج يُقتدى بها، فإذا بالواحد منهم- وبقدرة قادر- يتحول إلى وضع قابل للتندر أولاً، ومن ثم يصير- ثانياً- عامل تشكيك عند البعض في الدين نفسه!


لا شك أن كل أحد منا معرّض للفتن، وكل أحد قابل للسقوط أو الصمود، لكن وقوع العلماء وقت الفتن والمحن هو- لا ريب- أشد ضرراً على الأمة.. هذه الأمة التي لم يهدأ لها حال منذ انتهاء عهد الخلافة الراشدة إلى يوم الناس هذا. 

وما كان يجري قديماً على مدار تاريخنا مع العلماء الحقيقيين الصادقين من محن وابتلاءات، نرى مثله- وربما أسوأ- يجري اليوم مع علماء حقيقيين أيضاً، يقبعون وراء الزنازين في بقاع العالم الإسلامي المختلفة.


خلاصة الحديث

مثلما انتشر وظهر علماء السلاطين على مدار تاريخنا، ويستمر انتشارهم إلى اليوم، فإنه لا شيء يمنع كذلك ظهور نماذج من العز بن عبد السلام، والحسن البصري، وابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وآخرين كُثر، يصدعون بالحق ولا يخافون في الله لومة لائم.


ولقد ثبت بالتجربة أن صلاح هذه الأمة ونهضتها مقترنان بصلاح ونهضة علمائها؛ فهم ورثة الأنبياء كما قال عنهم الحبيب محمد (صلى الله عليه وسلم)، وإن سقوط القليل منهم، ودخولهم أجواء السلاطين، لا يعني أنه عدوى تنتقل للغالبية، لأن أمة ظهر فيها العز بن عبد السلام؛ ليكون سبباً في أن تنجو بفضل الله ثم بفضل هذا الشيخ الكبير من خطر الزوال على يد المغول، لا شك أنها أمة قادرة على أن تنجب وتُخرج الآلاف مثله، يعيدون لها مجدها وعزتها.


وإن سوء حال الأمة اليوم لا يمنع كذلك من التفاؤل بغد أفضل وأجمل، فإن الله سبحانه بكل جميل كفيل، وهو دوماً وأبداً حسبنا ونعم الوكيل.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق