الثورة الممكنة.. "روشتة الكحة"
جمال الجمل
(1)
قبل أسبوعين من جمعة الغضب نشرت مقالا بعنوان "وبعدين؟" تخيلت فيه شخصاً يصعد جبلاً وعلى ظهره حمولة من مستلزمات الحياة (الزاد والمواد والأحلام)، وفجأة اختل توازن الشخص وتدحرج بقوة نحو السفح؟
في الطريق الشاق كانت هناك أعداد كبيرة مثل صاحبنا، بعضهم مثل اسبارتاكوس قبل الثورة على العبودية، وبعضهم من رعاة الأغنام، وبعضهم من هواة التسلق والتنزه الخلوي، وبعضهم مثل بغال الجبال، وبعضهم مثل المتمرد الأوليمبي سيزيفوس، يختلفون في المظهر والجوهر، ويجمعهم الصعود الشاق والأحمال على الظهر، لذلك لما سقط الرجل تعالت الأصوات، بعضها يسخر وبعضها يشمت، وبعضها يلوم، وبعضها يتعاطف، وبعضها يحذر من مؤامرة إرهابية ضد المسيرة، وبعضها ينصح بتجاوز السقطة:
توقف يا رجل عن السقوط، انهض واقفا على قدميك واجمع ما تبعثر من أشيائك وواصل طريق الصعود.
(2)
هل يمكن لرجل اختل وسقط ويتدحرج بقوة نحو الأسفل، أن يستوعب هذه الأصوات الكثيرة التي تخاطبه، وهل يمكن أن يدرك الطيب منها ويستجيب لنصائح "عدم السقوط"، و"النهوض"، و"الاتزان"، و"نفض الثياب" وجمع الأشياء والأشلاء"، و"مواصلة الطريق"؟
(3)
لا أسأل لكي أحصل على إجابة، أسأل لكي نفكر معاً في المشهد كله (قبله وبعده)، مثلاً: لماذا كان صوت أحمد موسى أعلى وأكثر إثارة للاهتمام والجدال في حادثة الجبل؟
يمكن أن نرد بحكمة على طريقة العجوز فنقول: "لا يستمع الناس للشخص العاقل، ولكن يستمعون (رغبوا أو لم يرغبوا) لمن يتحدث في الميكروفون".
هذه الحكمة العصرية تضعنا أمام حقيقة واقعية عن (هيمنة الأدوات)، بمعنى أن الحديث في الميكروفون مسموع حتى لو كان كاذبا أو تافهاً، بينما "الحديث بدون أداة" محدود الانتشار، ضعيف الجذب، قليل الأثر، حتى لو كان حديثاً نافعاً من حكيم حريص
(4)
هذا الكلام ليس اكتشافاً جديداً، ولم يبدأ في زمننا فقط، فقديماً كان الخليفة يسقط إذا سقط اسمه في خطبة الجمعة، وكانت تبعية المنادي وعدد أفراد الطبلخانة مقياساً لمكانة وقوة الأمراء المتنافسين، فالتاريخ في معظم فتراته كان تحت سيطرة "الصوت العالي"، وليس "الصوت العاقل" أو "الصوت العادل"، فالحكم يكون للسيف وليس للكلمة، لأن "السيف أداة" أما الكلمة فلم تتطور من كونها كلمة بلا سلطة يختار منها الحاكم ما ينفعه، ويرسل به إلى "العيال بتوعنا" من أفراد الطبلخانة ليحشروه في رؤوس العامة عن طريق الأدوات التي يحرص السلطان على تطويرها لتسهيل مهمة حشر الكلام في الرؤس بوتيرة أسرع.
(5)
هذه العملية محل اهتمام لفلاسفة وادباء ومفكرين وعلماء كثيرين: عالم الاتصالات هربرت شيللر فضح آليات هندسة وبرمجة العقول عبر وكالات وأدوات عملاقة تتحكم وتدير العقل العالمي وتفرض اجندتها للقضايا وتحدد ترتيبها وزوايا النظر إليها، والكاتب المسرحي الراحل سعد الله ونوس قال في عنوان داخلي مكثف وساحق "اعطني تاجاً.. اعطك ملكاً"، فلا يهتم الناس عادة بملامح الملك ولا صفاته، لأن تركيزهم ينصب على "التاج" باعتبار "أداة" توفر لمن يحملها (حتى لو كان صعلوكاً فقيراً سكيراً) كل صفات المهابة والطاعة، لذلك يتكامل العنوان الداخلي مع عنوان المسرحية التي يؤكد أن الناس لم يلاحظوا تغير شخصية الملك، فطالما التاج على رأس أي شخص فإن "الملك هو الملك"!
(6)
ما الذي يجعل هذا الكلام الذي تقرأونه الآن مقالاً؟، وما الذي يجعلني كاتباً تستضيفني الصحف والفضائيات لأدلي برأيي في العالم ومساراته؟، وما الذي يجعلك تقتبس عبارات عادية عن الصدق والحب لمجرد أن اسفلها أسماء اينشتاين أو برنارد شو او مصطفى محمود أو سما المصري، مع أنك تكتب نفس المعاني والخبرات والقفشات على حسابك في فيس بوك ولا يقتبس من عباراتك الخاصة أحد؟
(7)
رأيي أن هناك أدوات صنعت الفارق، فشكسبير لم يصبح شكسبيرا لعظمة كلماته وفقط، لكن من خلال فعل ضخم قامت به مؤسسات كثيرة يسميه النقاد الأوربيون "شكبيريان انداستري" أي صناعة شكسبيرية أو تصنيع شكسبير، فهناك مبدعون عظام لا يعرفهم أحد لأنهم كانوا بعيدين عن السلطة وعن ترويج المؤسسات وعن عطف رعاة الفنون وعن الوصول للناس مع الشرح والتبجيل، لذلك يتفق نقاد كثيرون على أن الموهبة وحدها لا تصنع شهرة وعظمة كاتب، فهناك أشياء أهم من الموهبة وقيمة الكاتب وما يكتب، مثل الرواج والجوائز العالمية و"حشر الكلام في الرؤوس"، لذلك صرخ "ماك لوهان" في وجه أرسطو وسينيكا وبقايا الفلاسفة الرواقيين: طظ في فلسفة حضراتكم.. طظ في الرسالة.. المجد للأداة.. المجد للوسيط حتى لو لم تكن هناك رسالة ينقلها.
هناك مبدعون عظام لا يعرفهم أحد لأنهم كانوا بعيدين عن السلطة وعن ترويج المؤسسات
هكذا أغلق "مارشال ماك لوهان" صفحة الرشد والعقل والفكر في التاريخ الإنساني وقال منتصراً لريهام سعيد والسيسي وأحمد موسى ومستنسخاته في كل فرق الطبلخانة:
الوسائل هي الرسائل// أعطني شاشة أعطك نجماً.. أعطني صحيفة أعط كاتباً.. أعطني سيفاً أعطك عبيداً.....
ولا يبقى خارج هذه النتيجة إلا العقلاء المنبوذين في كهوف المعرفة، والمتأملين المنعزلين في ظلال الجبل، او سيزيفوسات كل عصر الحاملين صخرتهم والصاعدين بها نحو قمة جبل مراوغ مامور لا يفهم ولا يرحم
(8)
هذا الحديث عن الأدوات، ليس تحقيراً لها، ولا محاولة لإعادة وضع التاج على رأس الثقافة والعلم والأخلاق والفلسفة بعد خلعه ووضعه على رأس الإعلام الدماجوجي و"مخترعات الكفتة" و"سلوكيات الدناءة والخسة" و"ثرثرات الجهلاء الغوغائيين"، القضية ليست مع وضد، لذلك لا أتورط في الصراعات الحادة بين ثنائيات لا تقبل حوارا ولا جدلاً، أنا مع مصالحة الثنائيات وتزاوجها على سنة العقل والحكمة والنفع العام، أنا مع مصالحة الشكل بالمضمون، أنا مع مصالحة الرسائل بالوسائل، أنا مع ابتكار أدوات متحررة من عبودية السلطان، ومن عبودية الإعلان، ومن عبودية القوى المهيمنة من أصحاب المال والأعمال، ومن عبودية الترافيك والرواج المصنوع بين الزبائن والمستهلكين..
لكن كيف يحدث هذا؟
الإجابة تعيدنا إلى مشهد الافتتاح: يأتي المريض فنفحصه، ثم نقول له: ياااه انت عندك كحة خشنة جدا؟
فيسأل: ما العمل؟
نرد: بلاش تحك، لأن ده خطر على صدرك
(كلاكيت/ المقال وان شوت)
تداخلت في المقال فكرة "الأمر الواقع" مع "نداءات تغييره" مع "دور الأدوات"، وفي هذه الفقرة يجب أن أضع التاج على رأس قضية واحدة ليصبح صوتها مسموعاً أكثر، وقد اخترت التركيز على دور الأدوات، وأهمية الوسائل وربطها بقيمة وعمومية وإنسانية الرسائل، وفي هذا أقول إن الأنظمة لا تتحكم فينا ولا تسيطر علينا لتفوق أفرادها علينا في العلم أو الفهم أو الأخلاق، لكن لأنها تحتكر أدوات اليد العليا والصوت العالي، لذلك لن نتمكن من تغيير هذا الوضع بمجرد معرفة انهم محتكرون وفاسدون وظالمون، ولا بالاكتفاء بفضحهم والحديث عن وقائع ظلمهم، ولا بالتوسل إليهم ولا بتسول الدعم من منافسيهم في الاحتكار والظلم، ولكن بابتكار أدوات جديدة تقرع أدواتهم، أو تصحيح عمل الأدوات التي نمتلكها بالفعل، سواء موروثة مثل الكتابة والتعايش في مجتمعات، أو مستحدثة ومؤثرة في اللحظة الزمنية التي نعيشها مثل ثورة الفضاء والانترنت والتواصل المفتوح.
وأعتقد أن دقة ونوعية اختيارنا للأدوات وإدارتنا الناجحة لها والمضمون الذي تحمله، هي السبيل الآمن لعبور الجبل إلى المجتمع المأمول والدولة المنشودة، فقد أخطات المعارضة البديلة على مدى تاريخنا، لأنها عندما فكرت في الأدوات لم تكن تفكر في حياة الناس، بل كانت تفكر في حدود كونها بديل للسلطة، لذلك فكرت في امتلاك السيف والبندقية، وعندما صار للإعلام تأثيره الكبير، فكرت في "الإعلام البديل" ومعظمه لم يكن غعلام الناس، بل إعلام السلطة معكوساً في مرآة، بمعنى أنه يمارس نفس الخطايا ولكن في اتجاه السلطة القائمة، فمشاريعنا السياسية واحزابنا طرحت نفسها طول الوقت كلاعب بديل للسلطة، إذا تحقق هدفه، سيزل أرض الملعب ليقوم بما كان يقوم به اللاعب الذي تم تغييره، ولكن بأسلوبه الخاص، وهكذا فإن الجماهير لا تزيد عن كونها عامل من عوامل كسب الشعبية والحصول على الشهرة.
الثورة التي نحتاجها، وهي "ثورة ممكنة"، هي ثورة على "مفهوم الثورة"، بمعنى أن الثورة ليست بالضرورة تغيير اسم وجسم الشخص الذي نضع التاج على رأسه، ولكن تغيير العلاقة بيننا وبين الكائن المتشيء الذي يعيش أسفل التاج، وتغيير العلاقة يبدأ من إدراكنا أن الحاكم ليس سيداً يحكما، بل موظفاً يعمل في خدمتنا، ولذلك فإن البداية الصحيحة أن نصير شعباً.. لا كائنات سلطوية، لأن معظم الناس في مجتمعاتنا صارت رعايا لسلطات متبانية ومتدرجة:
في الجمعيات العمومية لأحزاب المعارضة والأندية الاجتماعية والمدارس وشلل الأصدقاء ومشجعي الكرة، معظمنا لا ينظر للحياة وللمواقف كإنسان ومواطن محكوم بقواعد لا باشخاص، بل ينظر من خلال انتمائه لشلته أو ناديه أو حزبه، اليسار مثل اليمين مثل الوسط؟؟ الأغلبية لم تتعلم بعد أن تنظر للحياة بقيم وقواعد تتساوى فيها حقوق من لا تعرفهم مع حقوق الأصحاب والأقارب والزملاء في الجماعة والحزب، ويكفي أن تلاحظوا خريطة التضامت وطبقية الدعم وانحيازات الألتراس السياسي في جاهليتنا المعاصرة.
لا سبيل للنجاة من بطش الحكام إلا بأن نتحول من وقوم ورعايا إلى شعب بالمفهوم السياسي الدستوري المدون في "روشتات" لم تمنع عنا الكحة.
بدون هذه الأرضية الدستورية التي تضع "سلطة المواطنة" فوق كل السلطات، لن نغادر جبل السقوط، ولن نصل إلى شيء، فقط سنظل ندور ونتناطح في عبث فوضوي وننزف عمرنا في "متاهة ملعونة" نحلم فيها بحصد ما لم نزرعه.
(وردة درويشية)
سنصيرُ شعباً
/إن أَردنا/
حين نعلم أَننا لسنا ملائكةً
وأَنَّ الشرَّ ليس من اختصاص الآخرين
tamahi@hotmail.com
فيسأل: ما العمل؟
نرد: بلاش تحك، لأن ده خطر على صدرك
(كلاكيت/ المقال وان شوت)
تداخلت في المقال فكرة "الأمر الواقع" مع "نداءات تغييره" مع "دور الأدوات"، وفي هذه الفقرة يجب أن أضع التاج على رأس قضية واحدة ليصبح صوتها مسموعاً أكثر، وقد اخترت التركيز على دور الأدوات، وأهمية الوسائل وربطها بقيمة وعمومية وإنسانية الرسائل، وفي هذا أقول إن الأنظمة لا تتحكم فينا ولا تسيطر علينا لتفوق أفرادها علينا في العلم أو الفهم أو الأخلاق، لكن لأنها تحتكر أدوات اليد العليا والصوت العالي، لذلك لن نتمكن من تغيير هذا الوضع بمجرد معرفة انهم محتكرون وفاسدون وظالمون، ولا بالاكتفاء بفضحهم والحديث عن وقائع ظلمهم، ولا بالتوسل إليهم ولا بتسول الدعم من منافسيهم في الاحتكار والظلم، ولكن بابتكار أدوات جديدة تقرع أدواتهم، أو تصحيح عمل الأدوات التي نمتلكها بالفعل، سواء موروثة مثل الكتابة والتعايش في مجتمعات، أو مستحدثة ومؤثرة في اللحظة الزمنية التي نعيشها مثل ثورة الفضاء والانترنت والتواصل المفتوح.
وأعتقد أن دقة ونوعية اختيارنا للأدوات وإدارتنا الناجحة لها والمضمون الذي تحمله، هي السبيل الآمن لعبور الجبل إلى المجتمع المأمول والدولة المنشودة، فقد أخطات المعارضة البديلة على مدى تاريخنا، لأنها عندما فكرت في الأدوات لم تكن تفكر في حياة الناس، بل كانت تفكر في حدود كونها بديل للسلطة، لذلك فكرت في امتلاك السيف والبندقية، وعندما صار للإعلام تأثيره الكبير، فكرت في "الإعلام البديل" ومعظمه لم يكن غعلام الناس، بل إعلام السلطة معكوساً في مرآة، بمعنى أنه يمارس نفس الخطايا ولكن في اتجاه السلطة القائمة، فمشاريعنا السياسية واحزابنا طرحت نفسها طول الوقت كلاعب بديل للسلطة، إذا تحقق هدفه، سيزل أرض الملعب ليقوم بما كان يقوم به اللاعب الذي تم تغييره، ولكن بأسلوبه الخاص، وهكذا فإن الجماهير لا تزيد عن كونها عامل من عوامل كسب الشعبية والحصول على الشهرة.
الثورة التي نحتاجها، وهي "ثورة ممكنة"، هي ثورة على "مفهوم الثورة"، بمعنى أن الثورة ليست بالضرورة تغيير اسم وجسم الشخص الذي نضع التاج على رأسه، ولكن تغيير العلاقة بيننا وبين الكائن المتشيء الذي يعيش أسفل التاج، وتغيير العلاقة يبدأ من إدراكنا أن الحاكم ليس سيداً يحكما، بل موظفاً يعمل في خدمتنا، ولذلك فإن البداية الصحيحة أن نصير شعباً.. لا كائنات سلطوية، لأن معظم الناس في مجتمعاتنا صارت رعايا لسلطات متبانية ومتدرجة:
في الجمعيات العمومية لأحزاب المعارضة والأندية الاجتماعية والمدارس وشلل الأصدقاء ومشجعي الكرة، معظمنا لا ينظر للحياة وللمواقف كإنسان ومواطن محكوم بقواعد لا باشخاص، بل ينظر من خلال انتمائه لشلته أو ناديه أو حزبه، اليسار مثل اليمين مثل الوسط؟؟ الأغلبية لم تتعلم بعد أن تنظر للحياة بقيم وقواعد تتساوى فيها حقوق من لا تعرفهم مع حقوق الأصحاب والأقارب والزملاء في الجماعة والحزب، ويكفي أن تلاحظوا خريطة التضامت وطبقية الدعم وانحيازات الألتراس السياسي في جاهليتنا المعاصرة.
لا سبيل للنجاة من بطش الحكام إلا بأن نتحول من وقوم ورعايا إلى شعب بالمفهوم السياسي الدستوري المدون في "روشتات" لم تمنع عنا الكحة.
بدون هذه الأرضية الدستورية التي تضع "سلطة المواطنة" فوق كل السلطات، لن نغادر جبل السقوط، ولن نصل إلى شيء، فقط سنظل ندور ونتناطح في عبث فوضوي وننزف عمرنا في "متاهة ملعونة" نحلم فيها بحصد ما لم نزرعه.
(وردة درويشية)
سنصيرُ شعباً
/إن أَردنا/
حين نعلم أَننا لسنا ملائكةً
وأَنَّ الشرَّ ليس من اختصاص الآخرين
tamahi@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق