عام في القصر: أسرار تنشر لأول مرة عن الرئيس مرسي
[الحلقة التاسعة]
لمْ يكنْ يومَ الأحدِ 12 أغسطس/أب 2012، يوماً عادياً فِي تاريخِ الثورةِ المصريةِ.
تقرير | سليم عزوز
فقدْ كانَ واحداً من الأيامِ المهمةِ، لا يقلُّ في أهميتِهِ عن يومِ الجُمُعةِ 11 فبراير/ شباط 2011، وهو اليومُ الذي أجبرتْ فيه الثورةُ الرئيسَ المخلوع مبارك على التنحِّي!
إنّهُ اليومُ الذي شهدَ "الضربةَ الكبرَى"، بل الزلزالَ، الذي أنهَى ازدواجيةَ السلطةِ، وانتزعَ فيه الرئيسُ المدنيُّ المنتخبُ صلاحياتِهِ كاملةً، وأعادَ الجيشَ إلى وضعِهِ الطبيعيِّ: مؤسسةٍ من مؤسساتِ الدولةِ، بعدَ أنْ حرصَ المجلسُ الأعلَى للقواتِ المسلحةِ برئاسةِ المشيرِ مُحمد حُسين طنطاوي، على أنْ يجعلَهُ مؤسسةً فوقَ الدولةِ ووصيّاً على الحكمِ بـ "وضعِ اليدِ"، وليسَ رغبةً من الشعبِ، بلْ تحدّياً لإرادتِهِ، ولقرارِ الثورةِ، بإسقاطِ حكمِ العسكرِ!.
أجبرتِ الثورةُ المجلسَ العسكريَّ على تحديدِ موعدِ انتخاباتِ الرئاسةِ، فإذا بهِ يخرجُ من البابِ ليقفزَ من النافذةِ بالإعلانِ الدستوريِّ المكمّلِ، وبتشكيلِهِ مجلسَ الأمنِ القوميِّ بأغلبيةٍ عسكريةٍ وبصلاحياتٍ تتجاوزُ حدودَ المهامِّ العسكريةِ، إضافةً إلى تعيينِ المشيرِ قائدَ الحرسِ الجمهوريِّ، ما يمثّلُ سيطرةً منهُ على القصرِ الرئاسيِّ، وإذا كانَ الرئيسُ في ضربتِهِ الأولى، هزَّ الفرعَ بقراراتٍ جسورةٍ، عزلَ بها بعضَ القياداتِ العسكريةِ، ومنها قائدُ الحرسِ، وقائدُ الشرطةِ العسكريةِ، على النحْو الذي بيّنّا في الحلْقةِ الثامنةِ، فإنَّ هذا لم يمسَّ وجودَ المجلسِ العسكريِّ كسلطةِ حكمٍ، وهي السلطةُ التي مكَّنها القضاءُ من الاستمرارِ بعدَ إلغاءِ قرارِ الرئيسِ بعودةِ مجلسِ الشعبِ!
وكانَ هذا اليومُ (12 أغسطس) هُو يومَ الزلزالِ الذي واجهَ فيهِ الرئيسُ الحُكمَ العسكريَّ، فإذا هو كعِهْنٍ منفوشٍ.
كنتُ أدركُ أنّ الرئيسَ سيتخذُ قراراتٍ مهمةً في هذا اليومِ، لقدْ تلقيتُ اتصالاتٍ هاتفيةً من شبابٍ ينتمونَ للإخوانِ، وصلُوا القاهرةَ وقالُوا إنّهم جاؤُوا للاحتشادِ في ميدانِ التحريرِ، وعندَما سألتُ عن سرِّ حضورِهم؟ كانَ الجوابُ: إنّ قيادةَ الجماعةِ استدعتْهم، دونَ إحاطتِهِم علماً بالسببِ، يومئِذٍ كتبتُ في صفحتِي على "الفيس بوك" أنّ الرئيسَ سيتّخذُ قراراتٍ مهمةً اليومَ، وقدْ قُوبِلَ ما كتبتُ بعاصفةٍ من السخريةِ فعلّقَ أحدُهم ساخراً: "يَا مَاجابْ الغُرابْ لأُمّهْ"!
وعلمتُ بعدَ هذا أنّ الرئاسةَ اتصلتْ هاتفياً بكلٍّ من المشيرِ حُسين طنطاوي وزيرِ الدفاعِ، والفريقِ أوّل سامي عنان رئيسِ الأركانِ، لاستدعائِهِما لمقابلةِ الرئيسِ، وربّما أرادَ عنان أنْ يؤكّدَ على أنهُ لا يتحرّكُ من تِلقاءِ نفسِهِ، فقد اتصلَ هاتفياً بالمشيرِ الذي أبلغَهُ أنَّ الرئيسَ اتصلَ بهِ أيضاً، عندئِذٍ اقترحَ الفريقُ أنْ يذهبَ المشيرُ نيابةً عنْهما إلى هناك ليعرفَ ماذا يريدُ الرئيسُ، لكنّ المشيرَ رأى أنْ يذهبَا معاً، وكانَ الغريبُ أنَّ الحرسَ الجمهوريَّ عندَما طلبَ منْهما تسليمَ هواتفِهما النقالةِ، فعَلَا هذا بدونِ اعتراضٍ أو تملْملٍ، صحيحٌ أنّ هذا هو الإجراءُ المتبعُ في عهدِ مبارك، وعليهِ كانَ يتركانِ وسائلَ الاتصالِ في سيارتَيهِما، وبالتالي لمْ يكنْ يُطلبُ منْهما تسليمُها، لكنّ هذه هي المرةُ الأولى التي يُطلبُ منْهما هذا الطلبُ عندَ دخولِهما على الرئيسِ محمّد مرسي، ثمّ إنّ الوضعَ الآنَ مختلفٌ عن عهدِ مبارك، إنَّهما شركاءُ في الحكمِ، ولم يكونَا كذلك في زمنِ مبارك.
لم يدُمْ لقاؤُهما طويلاً، فقد أخبرَهما الرئيسُ أنهُ قامَ بعزلِهما، وإذْ صمتَ الفريقُ سامي عنان ولم يعقِّبْ، فإنّ المشيرَ طنطاوي لم يردّ سوى بقولِهِ إنّ هذا يتعارضُ مع الإعلانِ الدستوريِّ.
يقصدُ الإعلانَ الدستوريَّ المكمّلَ، الذي يحصّنُ موقعَ أعضاءِ المجلسِ العسكريِّ من العزلِ، وكذلكَ موقعَ وزيرِ الدفاعِ ورئيسِ الأركانِ.
وقالَ الرئيسُ إنّه ألغَى الإعلانَ الدستوريَّ بإعلانٍ دستوريٍّ جديدٍ نُشِرَ في الجريدةِ الرسميةِ.
النشرُ في الجريدةِ الرسميةِ:
لقدْ نُشِرَ الإعلانُ الدستوريُّ في نفسِ اليومِ 12 أغسطس/أب 2012، المُوافقِ 24 رمضانَ سنةَ 1433 هـ، على أنْ يُعْمَلَ بهِ اعتباراً من تاريخِ صدورِهِ، وليسَ معلوماً، إنْ كانَ قد أُرسلَ للمطابعِ الأميريةِ للنشرِ في اليومِ السابقِ، ليُنشرَ في هذا اليومِ، أمْ أنّه نُشِرَ في نفسِ يومِ صدورِهِ لاسيَّما أنّه نُشِرَ في العددِ 32 (مكرر) من يومِ 12 أغسطس!
جاءَ في المادةِ الأولى منهُ: "يُلغَى الإعلانُ الدستوريُّ الصادرُ في 17 يونيو/حزيران سنةَ 2012.
وفي المادةِ الثانيةِ جاءَ النصُّ: "ويُستبدَلُ نصُّ المادةِ (25) فِقرة (2) من الإعلانِ الدستوريِّ الصادرِ في 30 مارس/أذار 2011، بالنصِّ الآتي": "ويباشرُ فورَ تولّيهِ مهامَّ منصبِه كاملَ الاختصاصاتِ المنصوصِ عليها بالمادةِ (56) من هذا الإعلانِ". وهو نصٌّ عائدٌ على رئيسِ الجمهوريةِ.
أمّا المادةُ الثالثةُ فنصّتْ على: "إذا قامَ مانعٌ يحولُ دونَ استكمالِ الجمعيةِ التأسيسيةِ لعملِها شكّلَ رئيسُ الجمهوريةِ خلالَ خمسةَ عشرَ يوماً جمعيةً تأسيسيةً جديدةً تمثّلُ المجتمعَ بعدَ التشاورِ مع القوى الوطنيةِ لإعدادِ مشروعِ الدستورِ الجديدِ خلالَ ثلاثةِ أشهرٍ من تاريخِ تشكيلِها، ويُعرضُ مشروعُ الدستورِ على الشعبِ لاستفتائِهِ في شأنِهِ خلالَ ثلاثينَ يوماً من تاريخِ الانتهاءِ من إعدادِه". "وتبدأُ إجراءاتُ الانتخاباتِ التشريعيةِ خلالَ شهرينِ من تاريخِ إعلانِ موافقةِ الشعبِ على الدستورِ الجديدِ".
في حُجرةٍ أخرى كانَ اللواءُ عبد الفتاح السيسي قد أدَّى اليمينَ الدستوريةَ أمامَ الرئيسِ وزيراً للدفاعِ، وقد رقّاه الرئيسُ لرتبتَينِ عسكريتَينِ ومن لواءٍ إلى فريقٍ، ففريقٍ أوّلَ، وعند خروجِهِ خارجَ المبنى الداخليِّ للقصرِ، وجدَ أمامَه المشيرَ طنطاوي والفريقَ عنان، فأخبرَهما أنّه أدّى اليمينَ وزيراً للدفاعِ لاعتقادِه أنّهما مَن رشّحاهُ للرئيسِ وزيراً للدفاعِ؟ وعلّقَ عنان: لو طُلِبَ رأيُنا فبطبيعةِ الحالِ كنّا سنرشحُكَ!
كانَ يحاولُ ألا يتسرّبَ إليهِما الإحساسُ بأنّه كانَ جزءاً من مؤامرةٍ عليهِما، وإذا كانَ لا يعنيهِ الفريقَ سامي عنان في شيءٍ، فإنَّ المشيرَ كانَ يعاملُهُ كابنِهِ، منذُ أنْ كانَ في رتبةِ المقدَّمِ، حتى كانَ يُطلَقُ عليهِ داخلَ الجيشِ أنّه ابنُ المشيرِ المدللِ!
وقد غطّى قرارُ عزلِ طنطاوي وعنان، علَى ما جاءَ في نفسِ القرارِ من عزلٍ لعددٍ من أعضاءِ المجلسِ العسكريِّ هم الفريقُ مهاب مميش، والفريقُ عبد العزيز محمّد سيف الدين، والفريقُ رضا محمود حافظ عبد المجيد.
كمَا شملَ القرارُ تعيينَ المستشارِ محمود مَكّي نائباً لرئيسِ الجمهوريّةِ.
وعندَ إعلانِهِ هذه القراراتِ حرصَ الدكتورُ ياسر علي المتحدّثُ باسمِ الرئاسةِ على التأكيدِ أنّها قراراتٌ تأتِي في إطارِ استكمالِ أهدافِ ثورةِ 25 يناير، في إشارةٍ لا تخطِئُ العينُ دلالتَها.
وفي المساءِ كانَ الرئيسُ يحتفلُ بليلةِ القدرِ، وقد تغيَّبَ طنطاوي وعنان، في إشارةٍ أيضاً لا تخطِئُ العينُ دلالتَها، وأعلنَ الرئيسُ في كلمتِهِ: "قصدتُ مصلحةَ الوطنِ ولم أستهدفْ أشخاصاً أو إحراجَ مؤسساتٍ" وبرغبةٍ في "عودةِ القواتِ المسلحةِ (التي يتمنَّى لهَا كلَّ خيرٍ) إلى ممارسةِ دورِها في حمايةِ البلادِ. وفي هذا أكثرُ من إشارةٍ لا تخطِئُ العينُ – أيضاً – دلالتَها.
مفاجأةٌ للغربِ وإسرائيلَ:
وجاءتِ الجماهيرُ سواءٌ من الإخوانِ أو من غيرِهِم إلى ميدانِ التحريرِ لحمايةِ قراراتِ الرئيسِ، ودعا الشيخُ حازم أبو إسماعيل أنصارَه لقطعِ الاعتكافِ والحضورِ للتحريرِ والاتّحاديةِ، وعقدتِ الجماعةُ مؤتمراً أمامَ القصرِ الرئاسيِّ، في رسائلَ واضحةٍ، بأنَّ الشعبَ لنْ يفرطَ فيما تحققَ، فلم يكنِ الثوارُ يُدركونَ في فرطِ السعادةِ إنْ كانوا في علمٍ أمْ في حُلمٍ؟
فهل يعقلُ أنّ محمّد مرسي يُنهي الوجودَ العسكريَّ بهذه الشجاعةِ، وأكثرُ المتفائلينَ لم يكنْ يتخيّلُ- ولو في أحلامِهِ- صدورَ قراراتٍ تطْوِي حكمَ العسكرِ.
وكانتِ القراراتُ مُفاجِئةً أيضاً للدوائرِ الغربيةِ، وقالَ الإعلامُ الغربيُّ: مُرسي يستعيدُ سُلطاتِهِ ويوجّهُ ضربةً مفاجِئةً للمجلسِ العسكريِّ ويدخلُ التاريخَ!
فقد وصفتْ شبكةُ "بلومبرغ" الأمريكيةُ القراراتِ التي أصدرَها الرئيسُ بـ "الخطوةِ المذهلةِ والشجاعةِ للغايةِ"، وذكرتْ هيئةُ الإذاعةِ البريطانيةِ "بي بي سي" أنَّ هذهِ القراراتِ فاجأتْ مصرَ ووجهتْ ضربةً مفاجئةً للقوةِ العسكريةِ، معتبرةً أنّ تلك الخطوةَ ستدخلُ التاريخَ باعتبارِها تعبيراً مهماً في التوازنِ العسكريِّ المدنيِّ للسلطةِ لصالحِ الجانبِ المدنيِّ.
وقالتْ: "إنّها المرةُ الأولى في تاريخِ مصرَ التي يُصدِرُ فيها سياسيٌّ مدنيٌّ منتخبٌ قراراتٍ على قياداتِ المؤسسةِ العسكريةِ".
وقالتْ وكالةُ "أسوشيتدبرس" إنّ قراراتِ الرئيسِ أجْرأُ تحرُّكٍ حتى الآنَ للاستيلاءِ على السلطةِ.
وأضافتْ الوكالةُ: إنّ مُرسي بقراراتِهِ استعادَ سلطاتِهِ التي أخذَها منهُ المجلسُ العسكريُّ، ومن بينِها السيطرةُ على عمليةِ صياغةِ الدستورِ وسلطةِ التشريعِ.
ووصفتْ صحيفةُ "الغارديان" البريطانيةُ القراراتِ بـ "الكاسحةِ"، ووصفتْ عزلَ طنطاوي وعنان بـ "الخلعِ" من السلطةِ.
وكتبتْ "واشنطن بوست" الأمريكيةُ: إنّ القراراتِ التي أصدرَها مُرسي هي أجْرأُ خطوةٍ يقومُ بها مُرسي حتى الآنَ، لتثبيتِ دعائمِ السلطةِ وتهميشِ المتبقينَ الرئيسيينَ من عهدِ الرئيسِ المخلوعِ مبارك.
ووصفتْها "وول ستريت جورنال" الأمريكيةُ بالإجراءِ الذكِي. بينَما وصفتْها "نيويورك تايمز" الأمريكيةُ بـ "الانقلابِ"، "بعدَ أنْ أُجبرَ قادةُ الجيشِ على التقاعدِ" واعتبرتِ الخطوةَ بـ "التطهيرِ المذهلِ".
وأشارتْ كلٌّ من "وول ستريت جورنال" و"نيويورك تايمز" إلى أنَّ المسؤولينَ في واشنطن يراقبونَ عن كثبٍ المواجهةَ بينَ حكومةِ مُرسي المدنيةِ وقادةِ الجيشِ. وكانُوا قد رحّبوا مؤخّراً بمؤشراتِ المفاوضاتِ حولَ كيفيةِ اقتسامِ السلطةِ في مصرَ في الكواليسِ، وأنّهم يحاولونَ تقييمَ الآثارِ المترتبةِ على هذه الخطوةِ "لأنّ المشيرَ طنطاوي كانَ وثيقَ الصلةِ بالولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ منذُ عهدِ الرئيسِ السابقِ".
القلقُ الشديدُ كانَ على الجبهةِ الإسرائيليةِ من هذه القراراتِ التي وُصفتْ بأنّها "أقوَى من زلزالِ الإطاحةِ بمبارك"، وقالتِ الإذاعةُ الإسرائيليةُ نقلاً عن مصدرٍ إسرائيليٍّ لم تذكرِ اسْمَه إنّ القرارَ فاجأَ صنّاعَ القرارِ في إسرائيلَ التي ترَى فيهِ خطوةً أخرى نحوَ التطرُّفِ.
ونقلتْ صحيفةُ "معاريف" عمّن وصفتْهُم بالمصادرِ الإسرائيليةِ رفيعةِ المستوَى بأنّها خطواتٌ استكماليةٌ لإتمامِ الثورةِ المدنيةِ، عبرَ فصلِ الجيشِ عنِ السياسةِ وإعادةِ تعريفِ وتحديدِ مسؤولياتِ المجلسِ العسكريِّ مع التأكيدِ على أنّ رئيسَ الدولةِ هو القائدُ الأعلَى للقواتِ المسلحةِ.
وقالتْ صحيفةُ "هاآرتس": إنّها خطوةٌ لا مفرَّ منْها، خاصةً بعدَ أنْ أصدرَ المجلسُ العسكريُّ عدةَ إشاراتٍ دلّتْ على عزمِهِ مواصلةَ السيطرةِ على مقاليدِ الأمورِ.
أمّا المحللُ العسكريُ أليكس فيشمان فكتبَ في صحيفةِ "يديعوت آحرنوت: "هي دراما من الصعبِ وصفَها بالكلماتِ.. وهذه هي إحدى نقاطِ الذِّروةِ الكبيرةِ التي تُفاجئُ فيها الثورةُ المصريةُ العالمَ".
وأضافَ إنّ طنطاوي وعنان لم يعرفا أنّه ستتمُّ الإطاحةُ بهما من منصبِهِما وأنّ الطقوسَ التي أعقبتِ الإقالةَ (يقصدُ التكريمَ) كانَ الهدفُ منها حفظَ كرامتِهما وتفادِي قيامِهما بالانتقامِ أو إلحاقِ الضررِ بالثورةِ. واصفاً القراراتِ بأنّها عمليةٌ جديدةٌ لتطهيرِ النظامِ ومصرَ من رجالِ مبارك وزرعِ أشخاصٍ جددٍ. مُشيراً إلى أنّ القراراتِ سقطتْ على إسرائيلَ كالرّعدِ في يومٍ صحْوٍ، "فقد أخرجَ الرئيسُ إلى التقاعدِ، مجموعةً لا يُستهانُ بها من الرجالِ الذين احتفظُوا سنواتٍ طويلةً بعلاقاتِ عملٍ مع جهاتٍ في إسرائيلَ..."!
أصداءُ الزلزالِ داخلياً:
وقد كانَ لهذه القراراتِ الحاسمةِ تأثيراتُها في الداخلِ المصريِّ، وهي التي أنهتْ ازدواجيةَ الحكمِ، وأكدتْ قوةَ الرئيسِ، فتوقّفتْ كثيرٌ من محاولاتِ الدولةِ العميقةِ، للتطاولِ على مقامِ الرئاسةِ.
فالنائبُ العامُّ المستشارُ عبد المجيد محمود، الذي لمْ يقتربْ من توفيق عكاشة وهو يُهدِرُ دمَ رئيسِ الدولةِ، تحرّكَ في نفسِ يومِ صدورِ هذه القراراتِ /الزلزالِ، وكانَ قرارُ نيابةِ أمنِ الدولةِ العليا بمنعِ "عكاشة" من السفرِ، وإحالةِ صحفيٍّ آخرَ هو إسلام عفيفي رئيسُ تحريرِ جريدةِ "الدستور" إلى محكمةِ الجناياتِ، بتهمةِ إهانةِ رئيسِ الدولةِ.
وفي اليومِ التالي 13 أغسطس/ أب أحالَ النائبُ العامُّ "توفيق عكاشة" رئيسَ قناةِ "الفراعِين" إلى جناياتِ القاهرةِ، وتضمّنَ نفسُ القرارِ إحالةَ عفيفي أيضاً للجناياتِ، ربّما ليؤكّدَ النائبُ العامُّ أنّه مَن يحمِي هيبةَ الرئيسِ، والتهمةُ الموجهةُ لهُما هي نشرُ أخبارٍ وشائعاتٍ كاذبةٍ تنطوِي على إهانةِ الرئيسِ.
ورداً على الاتّهام بالتقاعسِ عن التحقيقِ معهُما، كانَ الحرصُ أنْ يُنشرَ أنَّ النيابةَ بدأتِ التحقيقَ بالفعلِ، وأنّها حددتْ لهما أكثرَ من موعدٍ لاستجوابِهمَا إلّا أنّهما رفضا الحضورَ، ونُشِرَ في الصحفِ "إنّ قرارَ إحالةِ المتهمينَ هو الأسرعُ من نوعِهِ".
وهكذا قدّمَ النائبُ العامُّ عذرَهُ، فالنيابةُ بدأتِ التحقيقَ، وحددتْ أكثرَ من موعدٍ للمتهمَينِ، لكنَّهما رفضَا الحضورَ، ليبدُو أمامَ الرئيسِ في حكمِ "قليلِ الحِيلةِ"، أفضلَ لهُ من أنْ يُتّهمَ بالتقاعسِ أو التواطُؤِ.
وكأنَّه لم يكنْ بإمكانِ النيابةِ أنْ تقومَ بضبطِهمَا واحضارِهمَا، فقد حدثَ من صحفيينَ أنْ رفضُوا الحضورَ أمامَ النيابةِ في قضايا نشْرٍ، لكنْ ليسَ في مثلِ هذِه القضايا، ولا أنكرُ أنّني كنتُ أوّلَ مَنْ حرّضَ على هذا، وبدأْنا التنفيذَ الفعليَّ فيما يختصُّ بعددٍ من البلاغاتِ التي اتّهِمَ فيها زملاءُ بجريدةِ "الأحرار"، لاسيَّما بعدَ حضورِ زميلٍ أمامَ النيابةِ في إحدَى قضايا الفسادِ، ورغمَ أنَّه قدَّمَ للنيابةِ مستنداً رسمياً عن كلِّ اتهامٍ كتبَهُ ضدَّ إحدَى هيئاتِ الدولةِ، إلَّا أنّ النيابةَ أحالتْهُ للجناياتِ، وقالَ هو إنَّ أحدَ قياداتِ النيابةِ منتدبٌ لهذه الهيئةِ مستشاراً قانونياً، كانَ يقفُ وراءَ هذه الإحالةِ، وقد حصلَ على حكمٍ بالبراءةِ لقدرتِهِ على إثباتِ حقيقةِ ما نُشِرَ بالمستنداتِ الكاشفةِ للفسادِ في هذِه الهيئةِ!
كانَ اجتهادِي القانونيُّ، أنَّ الإجراءَ المخيفَ الذي تملكُهُ النيابةُ هو "الضبطُ والإحضارُ"، لكنّ هذا القرارَ هو في الاتّهاماتِ التي يكونُ من سلطةِ النيابةِ فيها الحبسُ الاحتياطيُّ، وقد ألغَى المُشرّعُ الحبسَ الاحتياطيَّ، إلّا في نوعٍ معينٍ من قضايَا النشرِ، هو إهانةُ رئيسِ الجمهوريةِ، وإهانةُ ممثلٍ لدولةٍ أجنبيةٍ، وقد ناضلَ الصحفيونَ من أجلِ إلغاءِ الحبسِ في عمومِهِ فِي هذه الجرائمِ، وتمَّ تعديلُ قانونِ العقوباتِ في سنةِ 2004، لكنَّه لمْ يستجبْ للجماعةِ الصحفيةِ بإلغاءِ الحبسِ في هذَين الاتّهامَينِ، بجانبِ المادةِ 308، أيضاً من قانونِ العقوباتِ التي تقررُ عقوبةَ الحبسِ على سبيلِ الجوازِ للقاضِي، في جرائمِ الخوضِ في الأعراضِ، لكنْ لم تكنِ الجرائمُ التي تقعُ تحتَ طائلةِ هذا النصِّ، تجيزُ الحبسَ الاحتياطيَّ!
لقد تمّ تعديلُ النصِّ الخاصِّ بممثلِ دولةٍ أجنبيةٍ ليكونَ قاصراً على مَن يعملُ منْهم في مصرَ، ومعَ ذلكَ قالَ مكرم محمد أحمد نقيبُ الصحفيينَ، إنَّه نصٌّ خاصٌّ لحمايةِ خادمِ الحرمينِ الشريفينِ (كنّا نقولُ عنهُ ذلكَ قبلَ تعديلِهِ واستمرَّ هذا القولُ معَ تعديلِهِ). وقالَ مكرم في معرضِ طلبِهِ إلغاءَ هذا النصِّ، فلْيطلبِ الرئيسُ من الجماعةِ الصحفيةِ عدمَ التطاولِ على الملكِ السعوديِّ، وهُم سيلتزمونَ بذلكَ بدونِ نصٍّ!
بَيدَ أنَّ مبارك أغلقَ البابَ على المطالبينَ بتعديلِهِما بسيفِ الحياءِ، عندَما علّقَ: ما هو السببُ في طلبِ إلغاءِ الحبسِ الاحتياطيِّ في جريمةِ إهانةِ رئيسِ الجمهوريةِ.. "أنتُم عاوْزِينْ تِشْتِمُونِي ولّا أيهْ"!
معركةُ الحبسِ الاحتياطيِّ في قضايَا النشرِ، معركةٌ طويلةٌ، تُوّجتْ بصدورِ قانونِ نِقابةِ الصحفيينَ الحالِي في سبتمبر 1970، والذِي جاءَ فِي مذكرتِهِ الإيضاحيةِ، أنَّهُ حقّقَ إنجازاً للجماعةِ الصحفيةِ من حيثُ إنه ألغَى الحبسَ الاحتياطيَّ في قضايَا النشرِ. ثمّ جاءَ نظامُ مبارك وأصدرَ قانوناً جديداً للصِّحافةِ (93 لسنةِ 1995)، أقرَّ فيه الحبسَ الاحتياطيَّ، في كلِّ الجرائمِ التي تقعُ بواسطةِ الصحفِ، وتصدَّى الصحفيونَ لهذا القانونِ، وبجمعيةٍ عموميةٍ في نِقابتِهم، كانتْ في حالِ انعقادٍ مستمرٍّ، إلى أنْ أجبرتِ النظامَ على إلغاءِ القانونِ بعدَ عامٍ من هذه الانتفاضةِ!
لصالحِ المجلسِ العسكريِّ:
والمعنَى هنا، أنَّه معَ ارتكابِ جريمةِ إهانةِ رئيسِ الجمهوريةِ، لم يكنْ للنيابةِ أنْ تقفَ مكتوفةَ الأيدِي، على أساسِ أنّها حدّدتْ أكثرَ من موعدٍ للمتهمَينِ ولم يحضرَا، فقد كانَ من سُلطتِها أنْ تصدرَ قراراً بضبطِ وإحضارِ المُتهمَينِ، لكنّها لم تفعلْ، لأنَّ مَن يهينونَ رئيسَ الدولةِ يؤدّونَ أدواراً لصالحِ المجلسِ العسكريِّ (الشريكِ في الحُكمِ)، فلمّا سقطتِ الشراكةُ، كانَ التحرّكُ لإعلانِ البراءةِ بمثلِ هذه الإجراءاتِ الحادةِ والسريعةِ، فمحكمةُ جناياتِ الجيزةِ قضتْ بحبسِ إسلام عفيفي في 23 أغسطس، على ذمةِ قضيةِ إهانةِ رئيسِ الجمهوريةِ، لكنّ الرئيسَ أصدرَ قراراً بقانونٍ بإلغاءِ الحبسِ الاحتياطيِّ في كلِّ جرائمِ النشرِ والعلانيةِ، بما في ذلكَ تهمةُ إهانةِ رئيسِ الجمهوريةِ، ليتمَّ الإفراجُ عن "عفيفي" في نفسِ اليومِ.
ولم تتوقفْ أصداءُ الزلزالِ عندَ هذا الحدِّ، فإذا كانتْ هناكَ دعوةٌ لمليونيةٍ يومَ 24 أغسطس تستهدفُ عزلَ الرئيسِ، وتدعُو لإحراقِ مقرّاتِ جماعةِ الإخوانِ، فإنَّ تشكيلاتٍ من الجيشِ والشرطةِ انطلقتْ لمعاينةِ مقرِّ الجماعةِ في المُقطّمِ، وتمّ الدفعُ بقواتِ الأمنِ المركزيِ لتأمينِ "مقارِّ" الإخوانِ في المحافظاتِ، وأصدرتْ وزارةُ الداخليةِ تعليماتٍ إلى جميعِ مديرياتِ الأمنِ على مستوَى الجمهوريةِ بالتصدّي لأيِ أعمالِ شغبٍ أو خروجٍ على الشرعيةِ وضبطِ المحرضينَ، ومواجهةِ أيِّ اقتحاماتٍ "لمنشآتٍ" والتصدِّي لأيِّ عناصرَ خارجةٍ. وبحسبِ وزارةِ الداخليةِ، فقد خصّصتْ قواتٍ لتأمينِ مكتبِ الإرشادِ وبعضِ المقارِ الرئيسيّةِ لحزبِ الحريةِ والعدالةِ، بجانبِ وجودِ تمركزٍ قويٍّ يضمُّ مجموعاتٍ قتاليةً من جنودِ الأمنِ المركزيِّ بالقربِ من المركزِ العامِّ للجماعةِ بالمُقطمِ!
فلمْ يتقاعسِ الوزيرُ أحمد جمال الدين، عن قيامِ الشرطةِ بدورِها بحُجةِ أنّها تعالجُ جراحَها وآلامَها النفسيةَ.
معركةُ ياسر رزق:
كانتِ الدعوةُ لمليونيةِ إسقاطِ الرئيسِ المنتخبِ في 24 أغسطس، لكنّ دعاتِها صمتُوا بعدَ الزلزالِ، وإنِ استمرتْ جريدةُ "المِصري اليوم" تنفخُ فِي الكِيرِ، ربّما لأنّ رئيسَ تحريرِها الجديدَ ياسر رزق كانَ ينتقمُ لنفسِهِ!
كانَ رزق يرأسُ تحريرَ جريدةِ "الأخبار"، وكانَ منحازاً تماماً للمجلسِ العسكريِّ، لقربِهِ من المُشيرِ مُحمّد حُسين طنطاوي، ونظراً لعملِهِ السابقِ محرّراً عسكرياً للجريدةِ سنواتٍ طويلةً، هي فترةُ عملِهِ بالصِّحافةِ منذُ تخرُّجِهِ فِي سنةِ 1986 في الجامعةِ، وقد أصبحَ فِي وقتٍ لاحقٍ مندوباً لـ "الأخبار" برئاسةِ الجمهوريةِ، فلم يتخلَّ عن كونِهِ محرّراً عسكرياً مع آخرينَ!
وفي مرحلةِ ما بعدَ الثورةِ، أطلقتُ علَى "الأخبار" صحيفةَ المجلسِ العسكريِّ، لكنّ الإخوانَ كانُوا قد قرّرُوا الإطاحةَ بهِ، لأنّه كانَ صوتَ المجلسِ العسكريِّ الزاعقَ، في معضلةِ ازدواجيةِ الحكمِ، فلم يقبلُوا وساطةَ العسكريّينَ بالإبقاءِ عليهِ، وكانَ يدركُ هُو حالةَ التربُّصِ هذه، فلم يتقدّمْ للاستمرارِ عبرَ اللجنةِ المُشكّلةِ لاختيارِ رؤساءِ التحريرِ، لإدراكِهِ أنّ العسكرَ إذا كانُوا يملكونَ القدرةَ على الإبقاءِ عليهِ فلنْ يحتاجَ للمرورِ عبرَ هذه الآلياتِ، فإذا افتقدُوا القدرةَ على ذلكَ فلنْ يكونَ التقدُّمُ لها ضامناً لاختيارِهِ واستمرارِهِ في موقعِهِ!
وصدرَ قرارُ مجلسِ الشورَى بتعيينِ مُحمّد حسن البنا رئيساً لتحريرِ جريدةِ "الأخبار"، وكانَ هذا قبلَ عزلِ طنطاوي بأربعةِ أيامٍ، وفي اليومِ التالِي كانَ يتسلُّمُ وظيفتَه الجديدةَ رئيساً لتحريرِ جريدةِ "المِصري اليوم"، وهُو الموقعُ الذِي عُرضَ عليهِ من قبلِ صلاح دياب مالكِ "المِصري اليوم"، عندَما كانَ يشغلُ موقعَ رئيسِ تحريرِ "الأخبار" مع مضاعفةِ راتبِهِ ستةَ أضعافٍ، فقالَ: لن أفرّطَ في كرسيٍّ جلسَ عليهِ مصطفَى بِكْ أمين، لأجلسَ على كرسيِ مَجدِي الجلاد.
وها هُو يقبلُ بهذا المنصبِ الآنَ، وقد جاءَ إليه محمّلاً بالغبنِ من الحكمِ القائمِ، ثمّ إنّه الحكمُ الذي أطاحَ بالمشيرِ، الذي كانَ يقرّبُهُ منهُ، ولم تكنْ علاقتُهُ بالجديدِ عبد الفتاح السيسي في قوةِ علاقتِهِ بالمشيرِ المعزولِ!
ذهبتِ "المِصري اليوم" تدقُّ طبولَ الحربِ ليومِ 24 أغسطس، وبتحريضِ الذين أطلقُوا الدعوةَ لمليونيةِ عزلِ مُرسي للاستمرارِ فِي المَهمةِ، وبنشرِ أخبارٍ عنْها.
فتُجرِي حواراً مع مُحمد أبو حامد، تقولُ إنّه مواجهةٌ بينَه وبينَ القياديِّ الإخوانيِّ جمال حِشمت، لكن جمال حشمت أرسلَ ردّاً يقولُ فيهِ إنّه لم يكنْ يدلِي بتصريحاتِهِ على أنّها تمثّلُ مواجهةً مع مُحمّد أبو حامد!
إنّها محاولةُ النفخِ في الدعوةِ وصاحبِها، فعناوين الأخبارُ تتوالَى عن محاولاتِ الحشدِ التي تتواصلُ لـ 24 أغسطس.
- "مليونية 24 أغسطس"..
- "توقعات بحدوث صدام مع الإخوان والداعون للتظاهر يطالبون بتأمينهم".
- وفِي يومٍ آخرَ يكونُ النشرُ: "سياسيون: أهداف التظاهرات غير محددة والرئاسة تتعامل بازدواجية".
- "مظاهرات رفض الإخوان: 3 حركات قبطية وأزهريون مع الدولة المدنية تعلن المشاركة".
إنّها عمليةُ افتعالٍ واضحةٍ، وإنْ كانتْ بعضُ الأخبارِ تبدُو من حيثُ الشكلُ موضوعيةً، ثمّ إعلان حملتَي شفيق وصباحي عدمَ المشاركةِ، فإنَّ النشرَ في حدِّ ذاتِهِ يُعطي الموضوعَ حجماً كبيراً، و"المِصري اليوم" تتحدثُ عن مليونيةٍ!
وإذا كانتِ الدعوةُ من ثلاثةِ أشخاصٍ، فقد اختفَى اثنانِ بعدَ الزلزالِ: "مصطفَى بكْري" و"توفيق عكاشة"، ولم يبقَ فِي المشهدِ إلا مُحمد أبو حامد لتنفخَ فيهِ "المِصري اليوم" لعلَّهُ يقوَى على صلبِ طولِهِ!
بَيدَ أنَّ خطابَه تغيّرَ الآنَ، لم يعُدْ يتحدثُ عن عزلِ مُرسي، أو استخدامِ القوةِ، فأكّدَ أنّها ثورةٌ سلميةٌ. ولم يعُدْ من أهدافِها عزلُ الرئيسِ، فقطْ: أولاً: تنفيذُ حلِّ جماعةِ الإخوانِ وتسليمُ أموالِها وأصولِها للدولةِ باعتبارِها مالاً عاماً ملكاً للشعبِ. وثانياً: إعادةُ التحقيقِ فِي القضايا التي اتُّهِم فيها قادةُ الإخوانِ، ومنْها التّخابرُ وغسلُ الأموالِ وأحداثُ العنفِ التي صاحبتْ ثورةَ يناير، وفتحُ السجونِ ومهاجمةُ الأقسامِ. وثالثاً: فتحُ التحقيقِ فِي موقعةِ الجملِ لتحديدِ المسؤولِ عنْها.
فمنْ يقدرُ على المطالبةِ بعزلِ أو إسقاطِ رئيسٍ قويٍّ، حقّقَ انتصاراً مذهلاً بعزلِ قادةِ المجلسِ العسكريِّ، وأنهَى وجودَهم في الحُكمِ بجرّةِ إعلانٍ دستوريٍّ؟!
وأمامَ طلبِ أصحابِ المليونيةِ بحمايتِهم من الإخوانِ، قالَ الرئيسُ إنّهم سيكونونَ في حمايةِ الدولةِ!
وأعلنتْ حركاتٌ عدةٌ البراءةَ من المشاركةِ فيها مثلُ حركةِ كفاية، ورابطةِ مصابِي الثورةِ، والطرقِ الصوفيةِ، بمن فيهِم الشيخُ علاء أبو العزايم الذي قالَ إنَّ الطرقَ الصوفيةَ ليستْ معَ تلكَ الدعواتِ؛ لأنَّ مصلحةَ مصرَ العُليا تقتضِي العملَ والإنتاجَ. وذلكَ على عكسِ تصريحاتٍ أخرَى لهُ.
الملاحظةُ الجديرةُ بالدراسةِ هنا، أنَّ مَنْ بقِيَ مِن مطلقِي الدعوةِ في المشهدِ استبعدَ عزلَ مُرسي منْ أهدافِ المليونيةِ، إلّا أنّ "المِصري اليوم" ظلتْ تؤكدُ أنَّ الهدفَ عزلُهُ.
وقد مرَّ يومُ الجُمعة 24 أغسطس مرورَ الكرامِ، وصدرَ عددُ اليومِ التالِي لـ "المِصري اليوم" بهذا "المانشيت": "مليونية إسقاط الإخوان".. بلا جماهير.
لقد انتهَى الدرسُ يا غَبِي. بحسبِ اسمِ المسرحيةِ الشهيرةِ.
إقالةٌ أمِ اسْتقالةٌ:
إنَّ السؤالَ الذي طرحَ نفسَه: هلْ كانَ عزلُ طنطاوي وعنان قراراً خالصاً للرئيسِ مُحمّد مرسي، أم أنّهما استقالا رغبةً منْهما؟!
عندما صدرتْ هذه القراراتُ، لمْ يكنْ أحدٌ يجادلُ في أنَّ الرئيسَ هو مَن اتخذَها، لأنّ الناسَ كانتْ تتابعُ سيرَ الأحداثِ عن قربٍ، لكنْ حدثَ بعدَ هذا أنْ أنتجتِ الشؤونُ المعنويةُ روايةً أخرَى، وهي أنّ طنطاوي وعنان استقالا بمحضِ إرادتِهما، فلم تكنْ لديهِما الرغبةُ في الاستمرارِ معَ حاكمٍ مدنيٍّ، ونُشرتِ الروايةُ على نطاقٍ واسعٍ، حتّى لا يعتقدَ أحدٌ أنّ الأمرَ في حدودِ قدرةِ الحاكمِ المدنيِّ، وهناكَ من تبنَّوا هذه الروايةَ وساهمُوا في ترويجِها لانتزاعِ صفةِ القوةِ من الرئيسِ، ضمنَ حملةِ استهدافِهِ واستهْيافِهِ، فهلْ هذا الشخصُ يقدرُ علَى عزلِ قادةِ المجلسِ العسكريِّ؟!
وللأسفِ، فإنَّ الإخوانَ لم يساهمُوا في نشرِ حقيقةِ ما جرَى ولو عبرَ تسريباتٍ للإعلامِ، ليُثبِّتُوا فؤادَ الناسِ، بأنَّ الدكتورَ مُحمّد مُرسي ليسَ هو الرجلَ الضعيفَ، فقد تعاملُوا بتواضعٍ، في غيرِ محِلِّهِ، وبجلبِ سلوكِ الدراويشِ بعيداً عن المَوَالدِ وخارجَ أضرحةِ الأولياءِ.
وفي بعضِ الأحيانِ كانَ التفريطُ في الإنجازِ الكبيرِ من أجلِ تحقيقِ إنجازاتٍ صغيرةٍ لا قيمةَ لهَا!
لقد عزلُوا جمال عبد الرحيم من رئاسةِ تحريرِ جريدةِ "الجمهورية"، لأنّه كانَ يتعاملُ بغلظةٍ مع طلباتِ مسؤولٍ بمجلسِ الشورَى عن الإخوانِ كانَ يظنُّ أنَّ موقعَهُ يجعلُهُ فِي مقامِ رئيسِ رؤساءِ تحريرِ الصحفِ القوميةِ، فيتدخلُ فِي تفاصيلِ الأمورِ داخلَ المؤسساتِ، بشكلٍ لم تعرفْهُ الصِّحافةُ المصريةُ في العهودِ السابقةِ، مثلَ نقلِ محررٍ من قسمٍ إلى قسمٍ، وهو دورٌ قد لا يقومُ بهِ رئيسُ التحريرِ نفسُهُ لأنّه أقلُّ مِن أنْ يشغلَهُ.
فلمّا نشرتْ جريدةُ "الجمهورية" خبراً عن أنّ النائبَ العامَّ بصددِ اتخاذِ قرارٍ بمنعِ المشيرِ مُحمد حُسين طنطاوي من السفرِ اعتبرَها رئيسُ مجلسِ الشورَى فرصةً للتخلّصِ من جمال عبد الرحيم، بحجةِ أنَّه أغضبَ الجيشَ بما نشرَ، وكانَ قولِي يومَها، دعوا الجيشَ يغارُ علَى المؤسسةِ ويقومُ باعتقالِهِ، ولا تكونُوا أنتم طرفاً في الموضوعِ، إنْ كانَ الجيشُ غاضباً فعلاً!
كانَ المحامِي سمير صبري قد تقدّمَ ببلاغٍ للنائبِ العامِّ لمنعِ طنطاوي بعدَ عزلِهِ من السفرِ والتحقيقِ معه في اتهاماتٍ وجّهَهَا لهُ، ونقلَ على لسانِ وزيرِ العدلِ كلاماً مثلَ هذا ونشرتْ الخبرَ صحيفةٌ أخرَى، لم يجرِ عليهَا ما جرَى في حالةِ جريدةِ "الجمهورية"، ثمَّ إنَّ الخبرَ منشورٌ باسمِ محرِّرٍ، فإنْ كانَ لابدَّ من إجراءٍ قانونيٍ فلْيُتخذْ حيالَه، وقبلَ هذا وبعدَهُ، فإنَّ الأمرَ ليسَ أزمةً كبرَى، فلْيصدرْ بيانٌ من النائبِ العامِّ بتكذيبِ الخبرِ، لينشرَ في عمومِ وسائلِ الإعلامِ!
لكنْ إزاءَ هذا النصرِ التافهِ لصالحِ نائبِ الشورَى عن الجماعةِ، تمَّ جرحُ الانتصارِ الكبيرِ والمساهمةِ في تبديدِهِ!
لم يغضبِ الجيشُ للإطاحةِ بوزيرِ الدفاعِ ورئيسِ الأركانِ، لكنّه زمجرَ غاضباً لنشرِ خبرٍ في جريدةٍ عن منعِهِ من السفرِ!
بعدَ الانقلابِ العسكريِّ راجتْ دعايةٌ أنّ الرئيسَ لم يعزلْ المشيرَ، لكنّه هو مَن طلبَ التقاعدَ، وأنَّ الرئيسَ لمْ يخْتَرْ عبد الفتاح السيسي، ولكنّه فُرِضَ عليهِ!
فقد قبلُوا أنْ يكونَ الرئيسُ مسلوبَ الإرادةِ على أنْ يكونَ قد تعرّضَ لعمليةِ خداعٍ، أو أنْ تكونَ أخطاءٌ في الحِساباتِ كانتْ السببَ في وقوعِ الانقلابِ عليهِ، فتمَّ تجريدُهُ من قِبلِ أنصارِهِ من أهمِّ إنجازٍ لَه، فإن كانَ ليسَ أكثرَ من جهةٍ لتلقِّي إخطاراتِ التعيينِ والعزلِ، فما هو مبرّرُ استمرارِهِ في السلطةِ؟!
والآنَ وبعدَ التحقيقِ في وقائعِ هذه المرحلةِ، فإنَّ الإجابةَ عن السؤالَينِ المهمَّينِ فيها هي: نعمْ!
فهل عزلَ الرئيسُ محمّد مُرسي قادةَ الجيشِ طنطاوي وعنان وغيّرَهما بإرادتِهِ الحُرةِ؟.. نعمْ!
وهل الرئيسُ هو مَن اختارَ عبد الفتاح السيسي وزيراً للدفاعِ؟.. نعمْ!
موضوعُ عبد الفتاح السيسي سنتطرّقُ لهُ في حلْقةٍ قادمةٍ، لكنْ بخصوصِ قرارِ عزلِ طنطاوي وعنان فأضعُ أمامَ القارئِ هذه القرائنِ:
أولاً: لقد دعَا الإخوانُ قبلَ وبعدَ القراراتِ أتباعَهم للاحتشادِ في ميدانِ التحريرِ حمايةً لقراراتِ الرئيسِ، فإذا لم تكنْ هذه القراراتُ عزلاً، لا قَبولَ استقالةٍ، فما الداعِي لهذه الدعوةِ للحشدِ؟
ثانياً: في مساءِ يومِ الإقالةِ كانَ الاحتفالُ بليلةِ القدرِ، فلماذا لم يحضرْ طنطاوي وعنان الاحتفالَ، للتأكيدِ على أنَّ ما جرَى تمَّ برغبةٍ منْهما، فليسَ في صالحِهِما أنْ يقالَ إنّ الرئيسَ عزلَهُما، إنْ لم يكنْ قد عزلَهما فعلاً؟
ثالثاً: إذا كانَ القرارُ تمَّ برغبةِ القادةِ العسكريينَ فلماذا حرصَ الرئيسُ في خطابِهِ في الاحتفالِ بليلةِ القدرِ على إعلانِ أنّهُ لم يستهدفِ الإساءةَ لمؤسساتٍ بقراراتِهِ، وأنّه يستهدفُ عودةَ الجيشِ لحمايةِ الوطنِ، بما يعنِي إخراجَه من الحكمِ، فهل كانتْ رغبةُ طنطاوي أنْ يَخرجَ الجيشُ من الحكمِ؟
رابعاً: لماذا أعلنتِ الدوائرُ الغربيةُ أنَّ القراراتِ مفاجئةً لهَا، ولماذا لم تُوضعْ في الصورةِ، إذا كانَ متفقاً عليها سلفاً، وأنَّها ليستْ أكثرَ من رغبةِ القادةِ العسكريينَ في التقاعدِ، واستجابةِ الرئيسِ لهذه الرغبةِ؟
ولماذا كانَ ذهولُ دوائرِ الحكمِ في إسرائيلَ للإطاحةِ بمنْ تربطُهم بهم علاقةٌ وهم العسكريونَ، ولماذا لم يتمَّ إخطارُهم مِن قبلِ هؤلاءِ العسكريينَ أنفسِهم بأنّهم بصددِ التقاعدِ؟
خامساً: كيفَ يعقلُ أنَّ طنطاوي الذي كانَ لا يريدُ أنْ يغادرَ الحكمَ، فيحلَّ مجلسَ الشعبِ، ويُصدرَ إعلاناً دستورياً يمكنُه من الاستمرارِ شريكاً في الحكمِ، أنْ يقبلَ بسهولةٍ تركَ هذه الشراكةِ، ومغادرةَ الحكمِ وليسَ فقطْ مغادرةُ موقعِهِ كوزيرٍ للدفاعِ، والفاصلُ الزمنيُّ بينَ إعلانِهِ، والإعلانِ الذي أُلغِي بهِ هذا الإعلانُ هُو أقلُّ من شهرَينِ.. فهل يعقلُ أنَّه زهدٌ في السلطةِ سريعاً؟
وهل يعقلُ أنّه من أجلِ أنْ يستريحَ أنْ يقبلَ إخراجَ الجيشِ من الحكمِ؟ ولماذا وعقدةُ الأمرِ بيدِهِ، لم يستقلْ مع بقاءِ الإعلانِ الدستوريِّ، بما يمكنُ من استمرارِ وزيرِ الدفاعِ ورئيسِ الأركانِ الجديدَينِ ليكونا شريكَينِ في الحكمِ ومعهما المجلسُ الأعلَى للقواتِ المسلحةِ، واستمرارِ ذاتِ الصلاحياتِ التي نصَّ عليها الإعلانُ الدستوريُّ؟!
سادساً: لقد صرّحَ المتحدثُ باسمِ الرئاسةِ الدكتورُ ياسر علي بعدَ ستةِ أيامٍ منْ هذِه القراراتِ بأنَّ قياداتِ المجلسِ العسكريِّ التزمتْ بقراراتِ الرئيسِ (فوراً) ولم ترفضْها، بما يؤكّدُ أنَّها قراراتِ الرئيسِ وأنَّ القياداتِ العسكريةَ التزمتْ بهَا، وما هو المبرّرُ لأنْ يعلنَ هذا إذا كانتِ استقالةً وليستْ إقالةً، بلْ لماذا صمتَ المعنيّانِ بالأمرِ، إنْ كانَا قد استقالَا ولم يُقالَا؟!
إنَّ فصْلَ الخطابِ هنا، في تصريحاتٍ للفريقِ مهاب مميش قائدِ القواتِ البحريةِ السابقِ الذي شملَهُ القرارُ بالعزلِ، التي جاءَ فيها أنَّ الجيشَ يحترمُ الشرعيةَ ويؤدّي التحيةَ العسكريةَ لقرارِ الرئيسِ، وأنّه علمَ بالقرارِ بعد صدورِهِ، وأنَّ القياداتِ العسكريةَ فُوجئتْ بهِ، مشدّداً علّى أنَّ الجيشَ المصريَّ يحترمُ الرئيسَ المنتخبَ ويحترمُ قراراتِه!
وقالَ إنّه كانَ نائماً عندما صدرَ القرارُ وتمَّ إيقاظُهُ ليجدَ القراراتِ في التلفزيونِ يلقِيهَا المتحدّثُ باسمِ الرئاسةِ!
ومعَ ذلكَ حدثَ توافقٌ بينَ الغرماءِ علَى تجريدِ الدكتورِ مُحمّد مُرسي من أهمِّ قرارٍ في سنةِ حكمِهِ، لأهدافٍ مختلفةٍ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق