الأربعاء، 8 أبريل 2020

أصغر من أن يُرى!

أصغر من أن يُرى!

خواطر صعلوك
محمد ناصر العطوان

دعوني أخبركم بسر صغير، لن أقدم الخلاص للبشرية ككاتب، ما لم تلتزم البشرية ذاتها بمعايير النظافة الشخصية، فمهما ارتديتم من الكمامات... يمكن أن يضيع كل الحرص في تلك اللحظة التي تلمسون أنوفكم أو أعينكم بيد غير نظيفة!

واسمحوا لي أن أستعرض الفكرة السابقة بطريقة أخرى.
مرحبا... اسمي «كمام» وسعيد جداً لأني أخبركم عن نفسي اليوم، وعن أهميتي وتاريخي المتسامح جداً... والذي لا يفرق بين الناس على اختلاف مذاهبهم وأديانهم، أو حتى حجم أنوفهم... أتعامل مع الجميع للغرض الذي وضعت من أجله.
وأنا منتشر منذ زمن بعيد في شرق قارة آسيا تحديداً في شمالها وجنوبها، صحيح أنه تم اختراعي على يدي عالميين ألمانيين عام 1897م، إلا أنني دخلت على الأزياء الشعبية في شرق آسيا في القرن الواحد والعشرين، وأصبحت جزءاً من الموضة هناك، ولم يعد ارتدائي في أيام تخلو من الأزمات الصحية يثير الدهشة أو التساؤل!
وصحيح أن إمكانياتي محدودة في الوقاية ذات الجودة، إلا أنني منتشر بين الناس بمستويات متعددة، فيتم استخدامي لمنع الكائنات الحية الدقيقة التي تخرج مع رذاذ العطس والهباء الجوي إلى فم وأنف من يرتديني، ويتم استخدامي من النجار للحماية من استنشاق غبار الأخشاب، ومن الصباغ للتقليل من روائح الصبغ، ومن عامل البناء الذي يخلط الأسمنت ويحتاج الحماية من غباره، حتى المتظاهرون في شرق آسيا أصبحوا يرتدونني من أجل إخفاء هويتهم عن القوات الأمنية.
حسناً... اسمحوا لي أن أخبركم كيف أصبحت بهذه الأهمية، رغم قدراتي المتواضعة.
في عام 1918 - وبسبب الإنفلونزا الإسبانية - انتشرت بكثرة في اليابان ثم أوروبا، وبسبب الغبار الذي خلفه هدم 600 ألف منزل في اليابان بسبب الزلازل، تم ارتدائي على نطاق واسع في اليابان، ثم تم إدخال بعد التعديلات والتحسينات على تصميمي وشكلي عام 1960، لأخرج بالشكل الموجود اليوم حيث لي سلك معدني لإحكام الإغلاق على الوجه وجسر الأنف مهما كان شكله، وزادت شهرتي بسبب ارتفاع الاستهلاك لي منذ 2009م ومخاوف من الإنفلونزا.
كذلك مما زاد من أهميتي أن بعض علماء الاجتماع قد ربط بيني وبين مفهوم التباعد الاجتماعي، ففي الأوقات التي لا تمر بها البشرية بأي أزمات أو أوبئة، يتم ارتدائي على أنف وفم بعض الشباب والشابات الذين يضعون سماعات الأغاني على آذانهم تعبيراً عن نوع من أنواع الانعزال عن المجتمع، وعدم الرغبة في الحديث أو سماع أحد في الشارع أو في المترو، أما في الأوقات التي تمر بها البشرية بأزمات فيتم ارتدائي كما هو حاصل اليوم بينكم.
في النهاية، فمنذ العصر الذي كان فيه الطبيب يخرج إلى الناس ليُعلن لهم فيه عن الدواء ومعجون الأسنان وحتى العصر الذي أصبح «الفاشينستا» هو المُعلن عن الدواء ومعجون الأسنان وخلطات الليمون والعسل والزنجبيل معاً، لم يكن على وجه الأرض من هو أكثر ثباتاً وتطوراً مني، ورغم ذلك فها أنا أقولها لكم:
لن أقدم الخلاص للبشرية ما لم تلتزم بمعايير النظافة الشخصية، فمهما ارتديتم مني... يمكن أن يضيع كل الحرص في تلك اللحظة التي تلمسون أنوفكم أو أعينكم بيد غير نظيفة!

على الهامش:
ماذا سيحل بنا الآن؟
ينبهنا المؤرخ العظيم أرنولد توينبي - الذي درس وتعمق في خمس وعشرين حضارة في سفره الكبير مختصراً دراسة التاريخ - إلى أن الحضارات والدول لا يرجع انهيارها إلى انحطاط في الأساليب الصناعية أو التكنولوجية، بل في إخفاق الطاقة الإبداعية في الأقلية المبدعة.

@moh1alatwan

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق