من أجل إعادة التوازن للعلاقات العسكرية – المدنية العربية
يزيد صايغ ونيثان تورونتو
ليس هناك من وقت أكثر إلحاحاً لإصلاح العلاقات العسكرية – المدنية من اليوم. ذاك أن هذا المجال لا يزال يشهد اختلالاً لا يسمح بنشوء ثقافة مسائلة، ومساحات لنقاشات عامة وبنّاءة حول المسائل العسكرية في منطقتنا، بهدف تصحيح مسار علاقة المدنيين بالعسكر وشؤونهم.
في أعقاب الثورات والانتفاضات العربية عام 2011، أضحت عشر دول عربية في حالة نزاع مسلح نشيط، إما مع قوى خارجية، أو بين مكونات مجتمعاتها. وتُضاف إلى هذه القائمة من النزاعات المسلحة المستجدة، لائحة أخرى من الدول التي تعيش في حالة نزاع معلّق، وسط تهديد دائم بتأجج العنف في أي لحظة. في هذه الدول والمناطق، انهارت القوات المسلحة الوطنية، وظهرت جهات مسلحة جديدة، كسرت شرعية الدولة، أو استطاعت أن تحظى بمستوى معين من رعايتها بغرض تحقيق مصالح مشتركة.
في المقابل، شهدت دول أخرى إعادة تأكيد نفوذ المؤسسات العسكرية التي بسطت هيمنتها، على عكس التوقعات التي حملتها الموجة الأولى من حركة الاحتجاج العربية عام 2011. هذه العودة لتعزيز النفوذ العسكري في الحياة المدينة، تترك بصماتها على المستوى الاقتصادي، كما يحصل في مصر على سبيل المثال، حيث يلعب الجيش دوراً متزايداً في الاقتصاد ويُزاحم القطاع الخاص ويُعرقل نموه، ويقف حائلاً دون ريادة الأعمال والابتكار الضروري لاقتصادات هذا العصر.
بالإمكان قراءة هذا الدور العسكري وتماديه من خلال التدقيق في الاستثمار الهائل في المؤسسات العسكرية في المنطقة، على مدى العقود الأربعة الماضية. بيد أن واردات الأسلحة ارتفعت خلال العقد الماضي وحده، بنسبة 71%، لتصل إلى 135 مليار دولار عام 2014، في حين بلغ إجمالي الإنفاق الدفاعي بتقدير متحفظ عام 2015 ما يقارب 185 مليار دولار. وفي المجمل، تُعتبر القوات المسلحة العربية الأكبر في العالم بالنسبة لعدد السكان. في هذا السياق، صنّف مؤشر العسكرة العالمي منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا – التي تضم الدول العربية إلى جانب تركيا وإيران وإسرائيل – على أنها الأكثر عسكرة دوليًا. يحمل هذا الواقع انعكاسات على مستقبل المنطقة ومجتمعاتها. نتيجة الصراعات المتتالية، تعرضت المنطقة لخسائر بشرية واقتصادية هائلة، ترافقت مع تحولات في العلاقات العسكرية – المدنية، ألقت بثقلها على الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي عانت من حالة عدم استقرار. وإلى جانب الدمار الناجم عن الاستخدام المفرط للقوة المسلحة المنظمة، عززت العسكرة الحكم الاستبدادي، وخلقت إشكالية في الاعتماد على التوظيف العسكري لتوليد الوظائف، وتحقيق الرفاهية الاجتماعية، وسببت فساداً واسع النطاق وخسائر للطاقات البشرية. ولكن، على الرغم من هذه الخلفية القاتمة، فإن هناك مساحة وحاجة أكبر الآن لفتح نقاشات أعمق عن الشؤون الدفاعية والعسكرية في المنطقة، نظراً لسلسلة تطورات أهمها انهيار الجيش العراقي في عامي 2003 و2014، والانسحاب الجزئي للجيش الجزائري من السياسة منذ عام 2000، وللجيش السوري من لبنان عام 2005، واتساع رقعة المطالبة بالديمقراطية منذ انطلاق الثورات العربية عام 2011. بعد أقل من عقد على هذه الثورات، وقعت موجة ثانية من الاحتجاجات أطاحت بالرئيسين الجزائري عبد العزيز بوتفليقة والسوداني عمر البشير، وفي الحالتين، انتهى المخاض السياسي بتفاهم على عملية انتقالية بين الجيش من جهة، والمدنيين من جهة ثانية. هذه المعطيات سمحت بتوليد مساحة جديدة للنقاش وتبادل المعلومات في مجال العلاقات العسكرية – المدنية.
إلى جانب الدمار الناجم عن الاستخدام المفرط للقوة المسلحة المنظمة، عززت العسكرة الحكم الاستبدادي في الشرق الأوسط
في هذا السياق، برزت حاجة الى خلق فرصة غير مسبوقة لوضع العلاقات المدنية -العسكرية في الدول العربية بشكل مباشر على جدول الأعمال العام، وإطلاق حوار هادف وجديد من نوعه، مع الحكومات والمؤسسات العسكرية. ولهذا، أطلق مركز مالكوم كير- كارنيغي للشرق الاوسط أخيراً منصة توازن، لتسليط الضوء على مجال الدفاع والأمن كموضوع حيوي ومهم يمس الأجندات والسياسات الخاصة بالحوكمة الفعالة، ويناقشه في إطار المعرفة العامة. الهدف الأساسي هنا بناء وعي عام بالسياسات الدفاعية وتأثيراتها، وتوفير أساس سليم يمكن من خلاله إطلاق نقاش بنّاء عن العلاقات العسكرية – المدنية في الدول العربية.
والحقيقة أن تجارب أمريكا اللاتينية في إصلاح العلاقات العسكرية – المدنية كانت مصدر إلهام رئيسي هنا، نظراً للدمقرطة وللانتقال الناجح نسبياً من الديكتاتوريات العسكرية الى الحكم المدني. لهذا، اعتمدنا في هذا المشروع على تجربة ناجحة أطلقتها شبكة الأمن والدفاع في أمريكا اللاتينية للتشبيك مع منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الأكاديمية والوكالات الحكومية. ذلك أن هذه التجربة كانت إيجابية لجهة إتاحة تعزيز ثقافة المساءلة للعسكر ودورهم في السياسة، وموازناتهم الضخمة نسبة لحصص قطاعات أخرى مهمة مثل الصحة والتعليم. كان السؤال المحرك والأساسي بالنسبة إلينا، كيف ندفع المواطن العربي، أكان صحافياً أو مهتماً بالشأن العام أو نائباً أو مسؤولاً مدنياً، إلى طرح الأسئلة الضرورية لإتاحة مساحة النقاش الضروري في هذه المسائل؟
من الضروري توفير المعلومة للقارئ العربي لرفع مستوى الوعي في هذا المجال. لهذا رأينا أن اتباع نهج المقارنة بين المعطيات الخاصة بكل دولة عربية سيساعد المسؤولين والمدنيين والناشطين في المنطقة، على حد سواء على الاطلاع على المخاطر والفرص التي تواجه كل دولة في ما يخص العلاقات العسكرية – المدنية وبناء وعي شامل نستطيع من خلاله تعزيز المشاركة الإيجابية بين أصحاب القرار والمصلحة من مدنيين وعسكريين، ودعم بيئة تشجع التدقيق العام في مجال الدفاع.
نعتبر مشروعنا حجر أساس لإطلاق نقاش عام بات ضرورياً مع انهيار جيوش أنفقت المليارات على تأسيسها، وفي ظل سطو العسكر على مجالات مدنية وعلى اقتصادات هشة، ما يحجب فرص التنمية عن مئات الملايين من الناس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق