محمد الشارخ أدخل في عالم الرقمنة التشكيل العربي الذي نراه في "كيبورد" الحواسيب
محمود الرحبي
من المهم في 18 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وهو اليوم العالمي للغة العربية، الاحتفاء برجل الأعمال الكويتي، محمد الشارخ، الذي سخّر كثيرا من إمكاناته، بسخاء، في سبيل التوثيق الأدبي واللغوي للعربية ورقمنتها وبسط علومها في سبيل التداول العام للمثقفين والمتعلمين والناشئة. أنفق من ماله ووقته ما يفترض أن تمنحه مؤسساتٌ وبلدانٌ على تطوير لغة القرآن الكريم والشعر الجاهلي وأبي عثمان الجاحظ. تحفل مسيرته بالكثير في حقل ما يسمّى الاقتصاد البنفسجي، وهو اقتصادٌ يعتمد على التنمية الثقافية، حيث إن دولا وأفرادا عديدين يلجأون إلى هذا النوع من الاقتصاد الذي تكون منافعه غير مادّيةٍ بالأساس، بل منهم من يوقف مشاريع تجارية من أجل تمويل مشاريع ثقافية.
لن تجد في أوطاننا العربية، في هذا المجال، إلا قلة من رجال الأعمال، يكون محمد الشارخ في صدارتهم. لعدة أسباب، أهمها التنويع والمثابرة المستمرة وعدم الانقطاع. حين كان في عقد الثمانينيات عضوا في مجلس إدارة البنك الدولي في الولايات المتحدة، استفاد من بداية انتشار الحاسوب الآلي في خدمة اللغة العربية، حيث طوّر أكثر من 90 برنامجا تعليميا وتثقيفيا، حصل أربعة منها على براءة اختراع. كما أدخل في عالم الرقمنة التشكيل العربي الذي نراه في "كيبورد" الحواسيب. حيث أسّس شركة صخر لهذا الهدف. كما أدخل القرآن الكريم في هذه البرمجة، فاستحقّ دعوة شكر وتقدير من ملك المغرب الراحل، الحسن الثاني.
وأخيرا، تم الإعلان عن المعجم المعاصر الذي طرحه للجميع من دون مقابل، إلى جانب المصحّح الكتابي، بهدف الحفاظ على سلامة اللغة العربية، وهو مشروع سيكون مفيدا لكل من يزاول الكتابة من طلبة وصحافيين وموظفين، إلى جانب المعجم الإلكتروني.
ومن إنجازاته الكثيرة، الأرشيف الثقافي للأدب الذي احتوى على مليوني صفحة من المجلات الأدبية العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر. وما زالت مبادراته مستمرّة في هذا الجانب، ولا تتوقف عند حد.
ولن يُنسى كذلك دعمه اللامحدود جائزة الملتقى للقصة العربية في الكويت، وقد استمعت إلى كلمة لمدير الجائزة، الكاتب الكويتي طالب الرفاعي، متحدّثا فيها عن إسهامات محمد الشارخ.
هناك أمر يُحسب للنبلاء والأثرياء الأوروبيين في شأن المبادرات الثقافية. مثلا، موسكو مدينة أشبه بمتحف مفتوح كما رأيتها، يُحسب للقيصر والنبلاء الروس حبهم الثقافة والعلم ومحاولة إشاعته عن طريق الجامعات والمكتبات والمسرح، الأمر الذي أثر إيجابا على الثقافة العامة عند الطبقة المتوسطة والكتّاب. وأسّس الكونت تشيرميتوفا من مجموعة من الخدم فرقة مسرحية عرفت شهرة واسعة. كما أن أثرياء كثيرين اعتنوا بالفنون وجمع اللوحات العالمية، حتى أن أشهر أعمال مانيه ورينوار وغيرهما موجودة في روسيا. أضف إلى ذلك وجود تداخل كبير في الثقافات، حيث المتعارف عليه أن تكون مربيات الأطفال فرنسيات، ومهنة الحدادة موكلة للألمان... إلخ.
أخبرني مرة أخي أحمد، المقيم في موسكو، أن زميلة لبنانية زارت موسكو قادمة من باريس، ومعها سيدة فرنسية، فأخذهما إلى جولة في مركز المدينة، ودخلوا متحف الفنون الأوروبية الحديثة، وهو قصر عريق من سبعة طوابق، كل طابق مخصّص للوحات بلد أوروبي. وهناك متاحف أكبر منه. وفي القسم الفرنسي، لاحظ أن الفرنسية تذرف دموعها، سألها عن السبب، فقالت: تخيّل، هذه أعمال أعظم فنانينا ويحتفظ بها الروس! فقال لها أحمد: ولكن الروس اشتروها ولم يسرقوها. (إشارة مضمرة إلى ما اختلسه الأميركان والفرنسيون من العرب خلال حروبهم).
وبمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، أقول إن العربية ليست لغة فقط، بل هي ثقافة أيضا، فلا يمكن حصرها في استخدامات مناطقية أو عرقية، لأنها لغة منفتحة وعالمية، وكان لها تاريخ شمولي في القرون الهجرية الأولى، حيث ألّف بها مختلف الأعراق والأمم، بل كانت همزة توصيل من السريانية واليونانية، حيث حافظت العربية على شطرٍ مهم من التراث اليوناني الذي هو أسّ التراث الأوروبي. من خلالها، نقرأ تراثا هائلا وأرشيفا لم نكتشفه كاملا بعد، ناهيك عما ضاع منه، وهو كثير، من مؤلفات علمية وأدبية وفلسفية. وفي هذا المجال، يمكن الرجوع إلى كتاب "تكوين العقل العربي"، النواة الأولى لمشروع محمد عابد الجابري، الضخم، للوقوف على مفاصل هذه اللغة العظيمة التي أعطت الإنسانية ما لا يمكن لعقلٍ أن يتصوّره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق