الاحتلال المحلي
الفنان الكوميديان في العادة يحصد نتاج مرحه وإضحاكه الجماهير مالًا وشهرة، لكنه عندما يحتك برأس الدولة يكون الحصاد مغايرا، ومن طرائف ما ذكره الكاتب محمد توفيق في كتابه الماتع «الغباء السياسي» بهذا الصدد، عبارة ساخرة قالها الفنان المصري الراحل سعيد صالح في إحدى مسرحياته: «أمي اتجوزت تلات مرات، الأول أكّلنا المش، والتاني علّمنا الغشّ، والتالت لا بيهش ولا بينش».
ضحك الجمهور، وسُجن الكوميدان ستة أشهر، والسبب أنه عرّض برؤساء مصر الثلاثة، الذين تعاقبوا عليها منذ عام 1952، والعامل المشترك بين ثلاثتهم أنهم كانوا يمثلون حكم العسكر بكل مساوئه، الذي يعد احتلالا داخليا تعاني ومن وطأته الأمة، قام بإفقارها ووأد حريتها، ووطّن فيها الأمراض الاجتماعية.
حكم العسكر هو بيض الثعابين الذي تركه الاستعمار في بلادنا، قبل أن يحزم أمتعته ويرحل، وإذ فجأة يتحول العسكري من مهام الذود عن الحمى، إلى دهاليز السياسة وشؤون الحكم والإدارة، ولم يستطع أو بالأحرى لم يُرد كبح جماح نفسه التي أصابها الهوس بالسلطة، فابتلع البلاد بما فيها من العباد ومقدراتهم وثرواتهم، وقام بعسكرة الدولة، وفعل بأهلها ما لم يفعله المحتل، مطمئنًا إلى غفوة وغفلة الجماهير، التي تشترط للاعتراف بالاحتلال أن تكون أسماؤه: روبرت، وجوني، وريتشارد، فإذا كان زيدا وعبيدا فهم من تربتنا ذاتها، فلا ضير في أن نتحمل. شعار «يسقط حكم العسكر» الذي كان علامة بارزة في ثورات الربيع العربي، لم يكن ضربا من التجديد في الفكر الثوري، ولم يكن لتغليف متطلبات الثورة، بل كان طموحا لاجتثاث احتلال محلي عانت منه الأمة عقودا.
لماذا نرفض حكم العسكر؟ سؤال يطرحه المُغيبون استنكارًا، ويطرحه المصطلون بنيران العسكر كنقطتين متعامدتين، قبل الاستئناف والاستطراد عن مساوئ حكم البندقية. العسكري عاشق الفوضى، غالبا ما يبدأ حكمه بفوضى تهيئ له المناخ، وتمهد له الأرض، ويمعن في الفوضى حتى يفيض كأسها، حتى إذا أخذ مكانه على العرش، استحمق القوم واستخفّ بهم، ويشير بيده إلى أنني قد أعدت إليكم الأمان الذي نسيتموه، وكأنه ربيب الأكاسرة، الذين جرت عادتهم في حكم فارس القديمة، أنه إذا مات الحاكم تركت البلاد خمسة أيام بدون ملك، بدون قانون، إنما هي فوضى في فوضى، حتى إذا جاءهم المنقذ الأسطوري قبلوه على الفور، حتى يستعيدوا الأمان، فليس عليهم بعدها أن يسألوا عن الثروة، ولا عن العدالة، ولا عن الشورى، بل تغدو الكرامة رفاهية ينبغي أن لا تداعب المخيلة. ومن عاداته اللصيقة بالفوضى، أنه إذا ما تنامى وعي الجماهير وطالبت بالتغيير أطلق عليهم شبح الذعر والاضطراب، ورفع شعار «أنا أو الفوضى».
وإذا كان الحيوان المجهري المسمى بـ بالتاريغرادا» أو بطيء المشية، أو دب الماء، لا تؤثر فيه الكوارث الطبيعية، ويتشبث بالحياة إلى حد تحمله درجة حرارة تربو على مائتين وخمسين درجة، فإن الحاكم العسكري أشد تشبثا منه بالحياة، ولكن على الكرسي، فباستثناء سياق الربيع العربي – الذي استطاعت الشعوب خلاله، أن تنزل بعض الجنرالات من فوق العروش أحياء – لا يفارق العسكري السلطة إلا محمولا على الأعناق إلى القبور.
وعن انقلابات العسكر فحدث ولا حرج، وكأنما تغريهم قوة السلاح، أو يشعرون بفوقيتهم على المدني، لمجرد أنهم يرتدون بذة الجيش، بل هم ينقلبون على زملائهم وقادتهم، ولا تكاد ترى دولة عربية إلا وانقلب عسكرها، فمن انقلاب العراق 1936 إلى انقلاب عبد الناصر في مصر 1952، الذي صار مذهبا عسكريا أو عدوى أصابت بقية البلدان، انقلب القذافي في لييبا 1969، في ما يعرف بثورة الفاتح، فيما قام الضباط البعثيون بانقلاب في العراق 1963، ليستلهم بعثيو سوريا التجربة ذاتها، حين قامت اللجنة العسكرية للبعث السوري بانقلاب على السلطة، ولم تزل الانقلابات العسكرية تضرب الأمة في الصميم، كان أبرزها انقلاب عبد الفتاح السيسي على الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي. الجنرالات لا يعرفون سوى لغة الأمر والنهي والطاعة العمياء، وأداء التحية العسكرية، هؤلاء كيف يتقبلون النقد أو يسمحون به، فضلا عن الاستجابة لمطالب التغيير.
جولي بريكسمان، من أشهر راكبي الدراجات، ليس لأنها تحترف تلك الرياضة، ولكن لأنها قبل ثلاثة أعوام اعترضت موكب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإشارة بذيئة بيدها، ولم تتعرض لاختفاء قسري، أو كان مآلها أن تقبع خلف الشمس، فلأنها من مجتمع يرى في الحاكم موظفا عامًا في الدولة، فقد ساندها ذلك المجتمع باعتبارها رمزًا للشجاعة، في أن تفوز بعضوية إحدى مقاطعات ولاية فرجينيا، لكن ينبغي أن لا يكون ذلك حافزًا لراكب دراجة في الوطن العربي لمحاكاة بريكسمان، لأنه حتما سيغيب، وتغيب معه دراجته.
وإذا جاء الجنرالات لسدة الحكم فعلى الطامحين إلى الإصلاح أن يعيدوا حساباتهم، فأنى لهم به وهم أمام سلطة لا تسمح بوجود أدوات الإصلاح، فالقضاء ينزل من شموخه ليكون مقصلة لخصوم النظام، والإعلام يتحول إلى راهب في صومعة الجنرال يسبح بحمده، ويقول هو ربكم الأعلى، وعلى الأحزاب السياسية أن تنضوي تحت اللواء أو تتناسى حلم تداول السلطة، وعلى أهل الفن أن يكونوا سفراء لتجميل الجنرال، والحذر كل الحذر من أن يقوموا بدور المعارض، فمصيرهم سيكون المنفى أو السقوط الفني، ربما نستطيع القول إنه وطن جاء لزعيم، وليس أنه زعيم جاء لوطن. وإذا كان الجنرال بهذا النمط المستبد، فإن السلطة تزيده استبدادا، عندما تنعدم المراقبة وتخمد الألسنة وتُقصف الأقلام، ويصبح الجيش آلة ضامنة لمسار الاستبداد، وحول ذلك يقول الكواكبي في «طبائع الاستبداد»: «ما من حكومة تأمن المسؤولية والمؤاخذة بسبب غفلة الأمّة، أو التَّمكُّن من إغفالها إلاّ وتسارع إلى التَّلبُّس بصفة الاستبداد، وبعد أنْ تتمكَّن فيه لا تتركه، وفي خدمتها إحدى الوسيلتين العظيمتين: جهالة الأمَّة، والجنود المنظَّمة».
عندما يحكم الجنرال يحكم إلى جواره الخوف، الذي يسيطر على الناس جراء الاستبداد، فيصبح قرة عين أحدهم وغاية آماله أن يعيش بمأمن من قمع النظام، ويمشي إلى جوار الحائط، وإن استطاع أن يمشي داخله لفعل، فبأي ديمقراطية سينادي؟ وبأي عدالة اجتماعية يطالب؟ وعلى من يعارض حكم الجنرال أن يتحمل نزع صفة الوطنية عنه، لأنه سيكون حينها خائنا للوطن، أوليس الجنرال هو الوطن؟ فطالما أن السلطة المطلقة بيده فسيكون من اليسير أن يضفي الألقاب وينزعها، والمعيار هو موقفك من النظام.
إن من ألد أعداء النهوض سيطرة العسكر على مقاليد الأمور، والتجربة التركية أقرب شاهد، فإنها لم تصل إلى هذه المرحلة من التأثير الإقليمي والفاعلية الدولية، إلا بعدما عاد الجيش إلى الثكنات، وكف يده عن التدخل في إدارة الدولة، مكتفيا بدوره المحوري في حمايتها من الأخطار الخارجية ودعم هيبتها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق