في انتظار يناير الذي لا يجيئ
وائل قنديل
بمعايير الحساب التقليدي، من المفترض أن 2020 سنة بسيطة، لكنها بحسابات الواقع وسيرورة الأحداث كانت كبيسةً جدًا، ومكدّسة بالفواجع والأحزان.. وقليل من الضوء أيضًا.
في مصر، هي سنة عويس الراوي، النوبي الأصيل شهيد الكرامة الإنسانية الذي قتلته الشرطة بدم بارد، لأنه تصدّى لإهانات ضابط صغير لوالده المسن. تراجيديا عويس الراوي كانت تكفي لزلزلة المجتمع بأسره، كما جرى قبل عشر سنوات مع خالد سعيد في الإسكندرية، لكن ذلك لم يحدث، لأن المجتمع فقئت عينه وانسدّت مسامه.
هي كذلك سنة محمد منير، الكاتب الصحافي الذي قال لا، فقرّر الاستبداد أن يتحالف مع الوباء لتصفيته، بطعنةٍ من فيروس كورونا الذي أصيب به في أثناء حبسه احتياطيًا بعد مداهمة منزله واعتقاله، بتهمة الكلام المحترم.
في عام الجائحة، تصوّر الناس أن النظام قد يحاول أن ينتحل بعض الصفات الإنسانية المحترمة، فيخفّف من جرعات البطش الأمني، لتقوية المناعة الاجتماعية لمواجهة وباءٍ فتّاك، لا قِبل لبلدٍ بصدّه إلا بحالة تضامن إنساني كاملة.
غير أن السلطة اختارت أن تكون مع الوباء ضد الناس، وقرّرت أن تستثمر في الفيروس، وتمنحه تسهيلاتٍ للتوسّع والانتشار، لن تجدها في أي مكان في العالم.
وكما قلت وقتها إننا بصدد نظامٍ يجد مصلحته ومتعته، معًا، في سحق قيم مثل التعايش والمشاركة والمساواة والعدالة، ويتغذّى على التهام حرية المواطن وكرامته، وأظنه يجد في فيروس كورونا حليفًا استراتيجيًا مناسبًا، يتربّح منه ماديًا، ويتكسّب أمنيًا، ويضاعف أرصدته من القمع والقهر والإهانة.
بينما كان الوباء يضرب بخسّة ووضاعة، لم يفوّت النظام الفرصة، وقرّر أن يهجم هو الآخر، فكانت حربه على أراضي الناس ومساكنهم في مختلف المحافظات، فيما عرفت بحرب الإزالات التي لم تتوقف إلا عندما قرّر الأهالي أن يدافعوا عن وجودهم.. هنا فقط سكت هدير بلدوزرات الهدم، وغيّرت السلطة خطابها ولهجتها وطلبت الصلح.
تزامن ذلك مع الجزء الثاني من ظاهرة محمد علي، الموسمية السبتمبرية، وكالعادة استجاب الشعب لدعوات السياسة وحضر بكامل حماسه. لكن، كالعادة أيضًا، وجد نفسه وحيدا في مواجهة آلة قمع أمنيٍّ جبارةٍ تحصد العشرات، اعتقالًا وحبسًا، ترافقها منصّات سخرية طبقية مقيتة، تنبعث من أبواق نخبوية، مارست عليها استعلاءً سخيفًا، لم يكن يقلّ في ضراوته عن ماكينة القمع الأمني.
في المحصلة، انحسرت الطموحات مجدّدا من أملٍ في إحداث التغيير، إلى رجاءٍ بإخلاء سبيل بعض من حلموا بالتغيير.
على أن المغامرة لم تخل من إيجابيات، إذ أن ذلك كله يراكم غضبًا وحلمًا، يوقن الجميع بأنهما سيتوّجان حتمًا بما يشبه ما جرى في يناير / كانون ثاني 2011.. كل الأطراف تدرك أنه لابد من"يناير" وإن طال الوجع، غير أن هذا"اليناير" لا يجيئ، إلا إذا كانت هناك إرادة حقيقية في استقباله، لا مجرّد رغبة شكلية تتكرّر على نحو احتفالي عابر كل عام.
وإذا كان ما مضى من محاولة تغيير في العام 2011 قد حمل عنوان الكرامة الإنسانية، فإن القادم ربما يكون انتفاضة من أجل الكرامتين معًا، الإنسانية والوطنية، حيث لا يقل حجم الألم من المهانة القومية التي تتردّى فيها مصر عن الوجع الخاص الذي يعصف بالمواطن المهان في كرامته الشخصية.
قبل أن تلملم 2020 ملفاتها، تفاجئنا بعلامات تشقّق في جدار التبعية الكاملة من سلطة الانقلاب لنظام الإمارات، المندفع، بكل طاقته، إلى التحالف مع الكيان الصهيوني، للهيمنة على المنطقة، الأمر الذي يزعج النظام المصري، ليس عن موقفٍ وطنيٍّ وأخلاقي، وإنما لأن المتبوع (الإمارات) يطمع في الاستحواذ على الوظيفة الإقليمية للتابع (السيسي) وكيلًا للمشروع الصهيوني في المنطقة.
تبيّن هذه المسألة أي عمق انحدر إليه هؤلاء بدولة اسمها مصر، بات حكّام الإمارات يتصرّفون وكأنها إدارة ملحقة بهم، يقرّرون نيابة عنها ويتكلمون باسمها، ويحدّدون مسارات حركتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق