حقوق الإنسان .. البقاء للأشهر
محمد سلطان آية حجازي مصطفى قاسم
وائل قنديل
أنت لا تصدّق أن ماكينة حقوق الإنسان الغربية مصابة بالعطب، أو بالعمى الذي يجعلها تعمل هنا، وتتعطل هناك .. أو تتحرّك من أجل المعروفين، وتدّعي العجز أمام حالات المجهولين.
حسنًا، هذه حكايات ثلاثة مواطنين أميركيين، من أصل مصري. أولهم شخص عادي، لا يعمل في منظماتٍ حقوقية، وليس له شلة من الأصدقاء والنشطاء المحليين والدوليين يتحدثون عن مأساته طوال الوقت، وينقلون معاناته إلى المجتمع الدولي. أما الآخران فهما على العكس تمامًا، مرموقان ويتمتعان بعزوة من الأصدقاء والمعارف والزملاء في ميادين العمل الحقوقي والإعلامي الفسيحة.
كان ثلاثتهم في سجون عبد الفتاح السيسي. الأول (الشخص العادي المجهول) بقي مهملًا في زنزانته، حتى مات شهيدًا للقمع وللصمت والتواطؤ. الآخران أنقذهما تدخل رئاسي من البيت الأبيض، تحرّكت بكل منهما طائرة، بأمر الحاكم الأميركي، من القاهرة إلى الولايات المتحدة.
مصطفى قاسم عبدالله هو صاحب أطول فترة إضراب عن الطعام في السجون المصرية، 17 شهرًا. بدأت مأساته حين كان في إجازة عادية إلى مصر، قادمًا من الولايات المتحدة، فاعتقل بالمصادفة يوم مذبحة القرن في ميدان رابعة العدوية يوم 14 أغسطس/ آب 2013، وكان من الناجين من محرقة سيارة ترحيلات في أثناء نقله إلى السجن. وفيما بعد، صدر ضده حكم بالسجن المؤبد، وهو الذي لم يكن يومًا سياسيًا ولا حقوقيًا، و بقي في الزنزانة جتى مات مهملًا ومنسيًا في يناير/ كانون الثاني 2020 . كان مضربًا عن الطعام احتجاجًا على التواطؤ مع القهر. وقبل رحيله، تنبهت السفارة الأميركية، فضغطت عليه، لكي يتنازل عن جنسيته المصرية، كي يشتري حياته، وقد فعل، لكنه ظل محبوسًا مكانه، حتى فاضت روحه.
قلت بعد رحيله إن مأساة شهيد معركة الاحتجاج بالأمعاء الخاوية ضد فظاعات سجون السيسي، الأميركي المصري مصطفى قاسم، ممتدّة منذ كان باراك أوباما رئيسًا ديمقراطيًا للولايات المتحدة، ولم تحرّك الإدارة الأميركية ساكنًا، لأنه، على الأغلب، ليس مشهورًا ولا معروفًا، وليس حاضرًا طوال الوقت في المنصّات الإعلامية، أو على مواقع التواصل الاجتماعي، ذلك أنه كان وراءه زوجة وطفلاهما، لا حول لهم ولا قوة، يستطيعون الوصول بالكاد إلى الإعلام، وإن وصلوا فالنشر على أضيق نطاق، عن مأساة الوالد المحبوس ظلمًا، مع مرضه وقهره، في ظروفٍ غير آدمية.
مات مصطفى قاسم، فحضر بقوة في وسائل الإعلام والسوشيال ميديا، حتى إعلام السيسي تكلم عن موته، على نحو يذكّر بالمقولة الصهيونية "الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت". كانت أسرته تحلم برشفة عدل وإنسانية، وتمنّي النفس بأن يتم إنقاذه، كما حصل مع محمد سلطان، الذي تدخلت إدارة أوباما لدى سلطات السيسي، حتى تم إنقاذه من الهلاك في السجون المصرية، وعاد إلى أميركا ومعه حياته وحريته. كان حديث الصحافة ومنظمات حقوق الإنسان في أثناء سجنه، مضربًا عن الطعام حتى صار على مشارف الموت، فكان لابد من التنازل عن الجنسية المصرية، كي تستعيده واشنطن.
قلت وقتها: لا أتصوّر أن من العدل أن يلوم أحد محمد سلطان على قراره الرحيل من عذاب المقبرة، وهو على قيد الحياة، ذلك أنهم، باختصار شديد، أعلنوها صريحة: كونك مصرياً، فهذا يعني موتك، لو كنت معارضاً أو معترضاً على شروط الحياة داخل تراب المقبرة المقدس.
كانت المسافة بين "محمد سلطان الأميركي" و"محمد سلطان المصري" هي الفرق بين الدولة والمقبرة، وبين المجتمع الإنساني وتجمعات الوحوش البرّية في مناطق البحيرات والمستنقعات العطنة، هي الفرق بين الإنسان وباقي الكائنات.
قصة محمد سلطان 2015 تكرّرت بتفاصيلها مع آية حجازي 2017 بعد تولي دونالد ترامب السلطة واستقباله للسيسي. كانت مدير"جمعية بلادي" لمساعدة أطفال الشوارع، آية حجازي، قد أمضت ثلاث سنوات من الحبس الاحتياطي، وتُحاكم بتهمة ملفقة، هي تشكيل عصابة منظمة؛ لاستقطاب أطفال الشوارع، والهاربين من سوء معاملة ذويهم. وفي كل مرة تمثل أمام القاضي كان القرار استمرار حبسها هي وزوجها وزملائها، حتى وقف السيسي بين يدي ترامب، فسأله الأخير عن آية حجازي التي تمتلئ الميديا بقصتها، وفي لمح البصر كان القاضي، نفسه الذي يجدّد حبسها كل جلسة قد أصدر حكمًا ببراءتها، هي وزوجها وآخرين، لتسافر فورًا ويستقبلها ترامب في البيت الأبيض، لتنتهي المأساة بإنقاذ حياة آية، وإعلان موت العدالة في مصر .
الثلاثة مصطفى قاسم ومحمد سلطان وآية حجازي أميركيون، والظلم واحد، والظالم أيضًا واحد، لكن الأول مات إهمالًا ونسيانًا، فيما نجا الآخران بالضغط الإعلامي والسياسي، وتلك هي باختصار حكاية حقوق الإنسان في مصر والعالم .. حكاية تعيسة تنتهي دائمًا بأن البقاء للأشهر.
لن تجد فرقًا كبيرًا بين أوباما الديمقراطي، القادم من التراث الإنساني الرائع للمناضل مارتن لوثر كينغ، وترامب الرأسمالي المتوحش، القادم من عالم التجارة والسمسرة، وأخيرًا إيمانويل ماكرون، سليل ثورة الحرية والمساواة الفرنسية، وبائع "الرافال" الذي يتربح من تسويق جنرالات الدم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق