أزمة السلطة في البلاد العربية
محمد هنيد
يمكن الإقرار دون أدنى مبالغة أو تعويم بأنّ القضايا والممارسات والصراعات المتعلقة بالسلطة ومدارها تُعدّ من بين أخطر المعضلات التي تعمّق أزمة المنطقة العربية سلطة وشعوبا وثقافة وفكرا. لا يقتصر الأمر هنا على السلطة السياسية فقط وإنما يتعلّق بكل أشكال الممارسة والفعل اللذين يتطلبان أدوات السيطرة والنفوذ والإخضاع وسطوة القانون أو السلاح أو المال أو العلاقات.
لكن من جهة أخرى تبدو مقاربة إشكالية السلطة وقراءتها وتفكيك بنيانها مسألة على قدر من الدقة والحساسية والخطورة لأنها تستبطن أخطر ما يعيق نهضة الأمة من جهة وهي تهدد بشكل مباشر كل الكيانات المستفيدة من إخضاع أداة السلطة نفسها وتوظيفها لصالح منافعها العائلية أو الطبقية أو العشائرية أو منظومات الوكالة الاستعمارية الوراثية والعسكرية والإيديولوجية.
المفاهيم والمنهج
لعلّ أول التحصينات الضرورية لصياغة قراءة ممكنة لمقولة السلطة مفهوما أو تطبيقا إنما يتمثّل في ضبط نسق المفاهيم المتعلّق بها ثم تحديد منهج المقاربة الموصل إلى تفكيك عناصر الأزمة. السلطة السياسية ممثلةً في النظام السياسي الحاكم والجهاز التنفيذي التابع له هي أظهرُ مستويات السلطة إذ تستعين في ذلك بالسلطة المسلحة العسكرية والمدنية والسلطة الثقافية والإعلامية التابعة. كما أنها تتأسس على نظام قانوني وتشريعي يضم شبكة القضاء والمحاماة وكل الجهاز القانوني الواقع تحت سيطرة السلطة السياسية.
صحيح أنّ الأصل في السلطة الفصلُ والاستقلالية بين القضائي القانوني والتنفيذي المسلح والتشريعي البرلماني بل إن الأمر يتعدى هذه المستويات الثلاثة إلى السلطة الرابعة أي الإعلام الذي يُشترط فيه الاستقلالية والنزاهة والحياد.
تقع مقولة السلطة إذن بين مستويين مركزيين لا بد من توضيح الجدار الفاصل بينهما وهما مفهوم السلطة في حدّ ذاتها وشروط الفصل بين مستوياتها من جهة وبين ممارسة السلطة باعتبارها مقولة تطبيقية أساسا من جهة ثانية. يتضح من خلال أية مقاربة أولية أنّ العلاقة بين النظرية أو المفهوم وبين التطبيق تكاد تكون علاقة منعدمة خاصة في سياق الممارسة العربية. أي أنه لا توجد علاقة بين المقولات والشروط وبين الممارسة بل تمكن المجازفة بالقول إنّ الممارسة السياسية لأدوات السلطة ليست في الحقيقة إلا خرقا للمقولات والشروط النظرية التي تؤسس المقولة.
إن الفصل بين السلطة القضائية والتشريعية والتنفيذية يكاد يكون منعدما إذ تُحكِم السلطة السياسية قبضتها الحديدية على كل مجالات ومنافذ السلطة في البلاد مهما كان مصدرها ونوعها. بل إنّ السلطة الرابعة أي الإعلام، تحوّلت إلى خادم ذليل للنظام الحاكم وأداة من أدوات القمع والتضليل والتزييف.
السلطة الحقيقية
لا نعدم المجازفة بالقول إن السلطة السياسية بقبضتها الرباعية التنفيذية والقضائية والتشريعية وحتى الإعلامية ليست في الحقيقة إلا واجهة للسلطة العميقة التي تنشِئُها وتتحّكم فيها وتوجّهها. أي أنّ السلطة التي نراها ونُحسّ بقبضتها إنما هي سلطة السطح الظاهر وتحكمه قوّة عميقة هي التي ترسم لها الحدود والنطاق والقدرة على الفعل أو ردّ الفعل.
قد لا يحتاج الأمر إثباتا ولكنّه لا يمكن لأيّ كيان اجتماعي أو مدني أن يعيش دون وجود سلطة تنظيمية تجعل من وجوده أمرا ممكنا، أي أن هذه القراءة لا تتحرك خارج شرط وجود السلطة والحاجة إليها قويّة فاعلة حاضرة على الأرض. لكن من جهة أخرى فإن الحاجة إلى السلطة لا يجب أن تُلغي الشروط التي من دونها تتحول إلى قوة قاهرة وأداة للسيطرة والاستبداد والإفساد وتدمير المجتمع والدولة.
عربيا لا يمكن اليوم إلا تسجيل حصاد الخراب والدمار والقهر والمجاعات والحروب والكوارث التي تسبح فيها البلاد العربية بكل أنواعها وهي حصيلة عقود من ممارسة السلطة من أسفل الهرم الاجتماعي إلى أعلى الهرم السياسي.
السلطة الحقيقية نابعة من المجتمع نفسه عبر المنظومات الأخلاقية والسلوكية وعبر بنية الشخصية الفردية والجماعية نفسها باعتبارها الحاضنة التي تنشأ فيها النواة الأولى لممارسة السلطة. المدرسة ومناهج التربية والتعليم والأسرة إنما هي الحاضنة الأولى لتكوّن مفهوم السلطة في ذهن الفرد وهو ما يجعل منها الأنساق السلطوية الأولى التي يتفاعل معها الطفل في مسار علاقته بالسلطة وتكوين تصوّره عنها وتحديد علاقته بها. من هنا تتكون النواة الأولى للشخصية المتمردّة على السلطة أو الخاضعة لها أو تلك التي تتعطش إليها وتحلم بها. إنّ فصل السلطة عن المحاسبة وعن المسؤولية والمساءلة وعدم ربطها بها ربطا عضويا في حاضنتها التربوية العميقة ليس إلا إطلاقا لها من عنانها ومن كل ما يمكنه أن يردعها عن أن تكون أداة تخريب وتقويض لأسس الأوطان. السلطة تربية على السلطة وتعليم للسلطة وتدريب على ممارسة السلطة وتحذير من مخاطر انزلاق السلطة في الأسرة والمدرسة والمجتمع.
لا يمكن للسلطة فردية كانت أو جماعية أن تقوم دون وازع أخلاقي قيمي صلب وهو ما يمكن تسميته بروح السلطة. الوازع الأخلاقي أو القيمي أو الديني أو الذاتي هو أهمّ الأسس الضامنة لعدم انزلاق السلطة من مجال المسؤولية والتكليف إلى مجال الاستبداد والتوظيف. صحيح أيضا أنه لا ضامن لسلامة ممارسة السلطة من الآليات الرقابية الكثيفة والمحاسبة السريعة والعقاب الردعي القاهر بشكل يمنع تجدد خرقها لكنّ الوازع الذاتي يبقى على رأس الضمانات الكفيلة بتحصين الممارسة السلطوية من الانزلاق.
سلطة الفساد العربية
عربيا لا يمكن اليوم إلا تسجيل حصاد الخراب والدمار والقهر والمجاعات والحروب والكوارث التي تسبح فيها البلاد العربية بكل أنواعها وهي حصيلة عقود من ممارسة السلطة من أسفل الهرم الاجتماعي إلى أعلى الهرم السياسي. لا يمكن اليوم إلا الإقرار بأنّ السلطة الحاكمة بوجهها السياسي بما هي سلطة الدولة المكونة من السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية هي السبب الأساسي لخراب الوطن العربي والمنطقة بأسرها.
إنّ ما آلت إليه البلاد العربية من خراب لا يوصف وعلى كل الأصعدة إنما سببه الاستبداد بالسلطة في كل مستويات الدولة والمجتمع. لا يقتصر أمر فساد الممارسة السلطوية على الدولة والنظام الحاكم وإنما يتعداه إلى أغلب الفواعل المقابلة له من الأحزاب السياسية المعارضة ومنظمات المجتمع المدني وتشكيلات الفضاء المعرفي والعلمي والأكاديمي والفني والرياضي. يحملُ المُعارض العربي والحقوقي والأكاديمي والفنان... جينات الطاغية التي استبطنها ثقافيا وتربويا واجتماعيا. ينزع العربيّ بشخصيته الواقعة تحت مفعول الاستبداد إلى استنساخ الفعل السلطوي الواقع عليه منذ عقود بأن يعيد عن وعي أو عن غفلة عن قصد أو عن ضلالة تفعيل آلة السلطة المستبدّة القاهرة في ممارسة السلطة متى وصل إليها.
إن غياب المسؤولية والمحاسبة وغياب الوازع الذاتي في ممارسة الفعل السلطوي مهما كان مستواه هو الذي فتح البلاد العربية على توحّش الفساد الذي تحوّل إلى الحاكم الحقيقي والسلطة الفعلية في هذه الأقاليم. الفساد الاقتصادي والاجتماعي والديني والسياسي والأخلاقي الاجتماعي ليس إلا حصيلة موضوعية لانفلات السلطة من المحاسبة وسوء توظيفها.
إن تسلّط المعلّم داخل الفصل وتسلّط الأب داخل الأسرة وتسلط زعيم الحزب السياسي داخل الحزب وتسلط المدير داخل المؤسسة ليست إلا المظاهر الجنينية لتسلط الحاكم الذي هو امتداد موضوعي للمشهد الجنيني. ليست الأزمة إذن أزمة سلطة مفهوما وشروطا ونطاقا بل هي قبل كل شيء أزمة ممارسة السلطة المُفرغة من كل ضابط أو محاسب.
لا يجب أن ننسى كذلك أن السلطة السياسية في البلاد العربية إنما تستمد قوتها الحقيقية من العمق الخارجي ونقصد بها المنظومات الدولة التي وضعتها في سدّة الحكم لتمارس لصالحها بالوكالة منذ الأربعينيات من القرن الماضي. يفتح هذا القوس مقولة السيادة لأن وقوع البلاد العربية تحت سلطة الاحتلال غير المباشر اليوم يجعل من مقولة السلطة العربية مقولة نسبية لأنها سلطة بالوكالة وليست سلطة أصلية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق