الجمعة، 4 ديسمبر 2020

التطبيع الناعم والتطبيع الوقح

 التطبيع الناعم والتطبيع الوقح

      سكارليت جوهانسون: النضال من أجل المستوطنات      


وائل قنديل

قرّرت أبو ظبي أن تسبق خيالنا المفرط في عبثيته بآلاف الأميال، الأمر الذي يجعل سقف توقعاتنا السيئة منها، والذي نظنّه شديد الارتفاع، يسقط فوق رؤوسنا بأسرع مما نفكر فيه. 

نحن بصدد تسونامي يحرّك الغرابيب السود من أماكنها، فتهوي فوق أرواحنا، إلى الحد الذي يجعل الخيال نفسه موضوعًا تافهًا وساذجًا، إذ كلما حلّقت بأفكارك السيئة بعيدًا اكتشفت أنك تحت الواقع الفعلي بمسافات بعيدة.

كنتُ أجرّب إطلاق مكوك الخيال في رحلةٍ لا نهائية الأسبوع الماضي لاستشراف ما يمكن أن تصل إليه الحالة التطبيعية الهادرة بين تل أبيب وكل من أبو ظبي والمنامة، فشطحت حتى قلت إنه في رمضان المقبل ربما يصفعوننا بحملاتٍ للتبرّع لكفالة مستوطنين، أو بناء مستوطناتٍ في الأرض المحتلة .. لم أكن أعلم أنهم أسرع من خيالي، أو أن خيالي أتفه من واقعهم، على هذا النحو، حتى تطايرت الأنباء عن إقامة حفلات زواجٍ لمستوطنين صهاينة في الإمارات، واستضافة عائلات حاخامات متطرّفين في بيوت عائلات إماراتية.

لم ينتظروا حتى يحلّ رمضان، لينهالوا علينا بالمفاجآت الخيالية، فهم لا يضيعون وقتهم، ولا يتركون لنا وقتًا للتخيّل.

كنا نظن أننا نُفرط في الخيال، حين سافرنا على مكوك التوقعات المجنونة، حتى وصلنا إلى أنهم ربما يطلقون الدعوات إلى حماية المستعمرين الصهاينة من المقاومين الفلسطينيين، لكن الوفد الرسمي البحريني الذي حل ضيفًا على إسرائيل، أخيرا، أخرج لنا لسانه، ولعب حاجبيه، ساخرًا من سذاجة مخيلتنا، حين صرّح رئيسه للإعلام الصهيوني بضرورة التصدّي لمن أسماهم "المتطرّفين الفلسطينيين" الذين يحولون بين وفود التطبيع العربية وبين المسجد الأقصى، ما يضطرّ المطبعين "الطيبين الأطهار" إلى الدخول سرًا في حماية جنود الاحتلال، لحمايتهم من ردة فعل الفلسطينيين "الإرهابيين الأشرار" الذين يهاجمون قطعان المطبّعين العرب.

حسمت أبو ظبي اختياراتها، وأعلنت، بوضوح، أنها لا تجد نفسها في علاقة إلا مع تل أبيب، هكذا، وبحسب "بلومبيرغ"، قرّرت، بكل إصرار، أنها غير معنيةٍ بالمصالحة الخليجية، حيث تجد راحتها واستقرارها وسعادتها في الحضن الصهيوني، وليس لديها فائض مشاعر، أو انتماء، لكي تمنحه لمحيطها العربي، فمع إسرائيل ذلك أفضل جدًا بالنسبة لها. هكذا تقولها رسميًا، وعبر الناطقين باسمها على شبكات التواصل الاجتماعي، ممن يبدأون يومهم بالدعاء إلى الله أن يديم سعادتهم مع "إخوتهم الإسرائيليين".

الواقع، أننا مستهدفون بالتطبيع من كل الجهات، إذ يبدو الشعب العربي كله وكأنه تحت حصار تطبيعي لا يرحم. وعلى الرغم من ذلك، يبدع هذا الشعب في صموده وممانعته، وقدرته على رد هجمات التطبيع الخشن الصريح، الواضح، أو بكلمة واحدة: الوقح.

ربما كان هذا الصمود الباسل هو الدافع لجيش التطبيع لكي يجرّب، مجدّدًا، سياسة التطبيع الناعم الأنيق، الذي يتسلل إلى الوعي العام في عبواتٍ إنسانية فاخرة، ذات أغلفة مبهرة، كأن تصبح فاتنة هوليوود سكارليت جوهانسون عنوانًا مفروضًا للتضامن الإنساني مع ضحايا القمع في الوطن العربي، كما في حالة المحتجزين الثلاثة التابعين للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، الذين تنتفض الدبلوماسية الدولية كلها من أجلهم، وهذا جيدٌ ولا غبار عليه، حتى لو كان الانتفاض هنا انتقائيًا وعنصريًا، يتجاهل عشرات الآلاف من الخاضعين لقمع أشد وأكثر توحشًا.

فجأة، يتم طرح سكارليت جوهانسون أيقونة نضالٍ من أجل الإنسانية، من دون أن يقول المبتهجون باستحضارها إلى المشهد بهذه الكثافة من هي سكارليت جوهانسون.

هي الأكثر تطرّفًا بين مشاهير السينما العالمية في دعم الاحتلال والتوسع الاستيطاني الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المغتصبة، والتي تم اختيارها  عام 2014 لقيادة حملة  ترويجية لصالح شركة "صودا ستريم" الإسرائيلية، التي تشارك في بناء المستوطنات، فتطوّعت لتنفيذ المهمة ببالغ الحماس، معلنةً أن التوسع الاستيطاني حق قانوني للاحتلال الصهيوني.

هي التي عُرفت كذلك بأنها من أعنف المناضلين من أجل إسرائيل في مواجهة حملات مقاطعة البضائع الصهيونية، تلك الحملات النبيلة التي يقبع بسببها رامي شعث، صديق نشطاء المبادرة المصرية، في سجون عبد الفتاح السيسي، عقابًا له على نضاله ضد الاحتلال.

جوهانسون كانت محل ثناء وإشادة من رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، لجهودها في خدمة الاحتلال، والتي هي عندها أهم من أي نشاط آخر، إلى درجة أنها ضحّت بمنصبها سفيرة لمنظمة أوكسفام العالمية لمحاربة الفقر، وفضلت الاستمرار في عملها على رأس حملة الترويج لبناء المستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية المحتلة.

كان حريًا بالذين يصفقون ويهللون لدفاع سكارليت جوهانسون عن نشطاء "الحقوق الشخصية" أن يتذكّروا، ويُذَكِّروا، بأنها أكثر شراسة في الدفاع عما تراه "الحقوق الإسرائيلية" على حساب "حقوق الشعب الفلسطيني". لكنهم لم يفعلوا، كما كان الأمر مع استضافة وتكريم الممثل المنحاز على نحو متعصب، للكيان الصهيوني ، جيرار ديبارديو، في مهرجان نجيب ساويرس السينمائي في منتجع الجونة السياحي بمدينة الغردقة، حين انتفض المجتمع المدني المصري ضد مشاركته، ولم يترك الناس ينخدعون بمحاولة تسويقه، بوصفه مدافعًا عن المسلمين ودينهم ورسولهم العظيم، ضد عنصرية ماكرون واليمين المتطرف.

لا أحد ضد الحرية للجميع، لكن من دون أن نكون مجبرين على تجرع جرعة تطبيع إجبارية مع كل حملة ذات طابع إنساني، ذلك أن التطبيع الناعم أكثر خطورة من التطبيع الخشن.











































































ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق