الثلاثاء، 22 ديسمبر 2020

كلمة عن كتاب "الدولة المستحيلة"

 كلمة عن كتاب "الدولة المستحيلة"


 م. محمد إلهامي

 منذ أن أنهيتُ كتاب "الدولة المستحيلة" لوائل حلاق، وأنا أهيئ نفسي لتدبيج مقال مطوّل عنه، ومع الأسف يمرُّ الوقت وتجتمع المشاغل مع ضعف الهمة فلا يلبث المرء إلا أن يكون بين خياريْن: إما أن يُدرك بعضَ ما نوى أو أن يتخلى عنه كله.


ولهذا، فما هذه السطور إلا خواطر متناثرة، لا تزال تترسب في الذاكرة، قدَّرْتُ أن بثَّها خيرٌ من طيِّها.

[1]

بداية، ولكي نريح القارئ العجول، فأنا في صفّ المعجبين بالكتاب والمؤيدين لفكرته، والفكرة البسيطة للكتاب أن نموذج النظام الإسلامي مختلف جذريا ومتناقض تماما مع نموذج الدولة الحديثة، ولا يمكن التوفيق بين هذين النموذجيين، إذ أحدهما ديني أخلاقي أنتج بالفعل نظاما عاش 1300 سنة، فضلا عن تجذره في نفوس المسلمين وعالمهم بما يجعل انخلاعهم عنه وانخلاعه عنهم مستحيلا، مثلما يستحيل انخلاع الأوروبي من إرثه اليوناني والمسيحي والتنويري..
بينما النموذج الثاني علماني مادي وهو ابن تجربته الغربية، التي جعلت الدولة إلها حقيقيا متغولا وسائدا على المجتمع، مع أنه ليس لها لا رحمة الإله ولا حكمته، كما أنه ليست لها أخلاق، بل هي نظام عنيف مدمّر ولا إنساني.

وبالتالي -يقول حلاق- فالمسلمون حين يتطلعون إلى "دولة حديثة" كالتي في العالم الغربي، فإنهم يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير! بل يجب على الغرب أن يحاول حل مشكلة الحداثة بالنظر إلى التراث الإسلامي وما فيه من هيمنة أخلاقية قوية.

2. هذه الفكرة في جوهرها ليست جديدة، بل طرحها آخرون من المستشرقين والمسلمين منذ مائة عام على الأقل، ولم تزل تتردد في أروقة البحث ذي الصلة بهذا الموضوع.. ولكن قيمة كتاب حلاق هذا في أمرين؛ الأول: أنه خدم هذه الفكرة وتعمق في إثباتها بنقولات غزيرة من حقول القانون والفلسفة والسياسة لأعلام الفكر الغربي، تدلّ على تمكنه من مادته، وقدته البارعة على المقارنة الموفقة بين النموذجين الإسلامي والغربي. والثاني: هو هذا العنوان التشويقي الإثاري في الزمن الملتبس.

[2]

سأفترض جدلا أن اختيار حلاق للعنوان كان بريئا، وهذا أمر مستبعد جدا، لكن الذي يهمنا الآن أكثر من التفتيش في نواياه أن العنوان غير معبِّر بدقة عن فكرته.. فالكتاب أصلا لم يؤلف ليقرأه المسلمون، بل غرض تأليفه وجمهوره هم الغربيون الذين يُحاول تبصيرهم بعيوب الحداثة وكيف أنه يمكن أن نجد لها حلا في التراث الإسلامي.. فالعنوان الفرعي أدق في التعبير عن غرض الكتاب "الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي"!

ولكني أعرف تماما أنه لو كان هذا هو عنوان الكتاب، فلم يكن أحد ليتشجع لترجمته، ولم يكن مركز عزمي بشارة ليتحمس لنشره، ولكن عزمي بشارة يحمل مشروعا فكريا من أركانه إقناع المسلمين باستحالة عودة الدولة الإسلامية، حتى لو اعترفنا -حقا أو تخديرا- بأنها كانت دولة عظيمة في زمانها وضمن ظرفها التاريخي!

لقد كان عنوان الكتاب واقعا بقوة ضمن مشروع عزمي بشارة.. ولعله لهذا كان هو الكتاب هو الوحيد الذي ترجمه ونشره هذا المركز من تراث حلاق كله.

ولا يمكن أن ننسى الزمن الذي صدر فيه الكتاب، لقد كان زمن الاحتدام الضخم حول المستقبل، في إبان الربيع العربي ووصول الإخوان إلى السلطة في مصر وتونس، واحتمال وصولهما إليها في غيرها.. لقد شهدت هذه الفترة سعارا علمانيا محموما لنقض فكرة الدولة الإسلامية، يستوي في ذلك من اعتمد لغة هادئة أو من اعتمد لغة هائجة.

لقد زادَ هذا كلٌّه -العنوانُ والتوقيتُ- من رواج الكتاب وانتشاره، ولكنه شوَّه فكرته أيضا. أتصور أن الكاتب إذا خُيِّر بين رواج مع تشوه مثير للنقاش والجدل، وبين خفوت وانطماس فسيختار الأول.

كلمة "الدولة" معناها ملتبس، فهي في التراث الإسلامي تساوي الزمن أو العصر أو الحقبة، يقال: دولة بني أمية أو دولة بني العباس ويُقصد به زمانهم، فهي مشتقة من التداول (وتلك الأيام نداولها بين الناس).. ولكنها في المعجم السياسي المعاصر تشير إلى "جهاز الحُكْم" وإلى النظام السياسي.. ولهذا يفهمها المعاصرون العرب باعتبارها مردافا للحكم والسلطة والنظام.. إلخ!

بينما وائل حلاق يرفض استعمال هذا اللفظ "الدولة" إلا بمعنى "الدولة الحديثة" التي هي النسخة الغربية المعاصرة من شكل الحكم.. فالدولة عنده هي هذا المعنى، ويرفض بإصرار أن يُطلق لفظ الدولة على أي معنى آخر، حتى أنه اشتبك في أكثر من حاشية مع مستشرقين آخرين عبَّروا عن نظام الحكم الإسلامي بكلمة "دولة"، واشتبك مع نوح فيلدمان لاستعماله لفظ "دولة" لوصف نظام الحكم الإسلامي في كتابه "سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها" مع أن طرحهما متقارب جدا إن لم يكن متطابقا.

برأيي أن هذا الإصرار على هذا المعنى الوحيد للفظ "الدولة" لا ضرورة له، ففي النهاية فإن المنادين بالدولة الإسلامية -مهما كان إيمانهم بإمكانية تلاقي نظام الحكم الإسلامي مع شكل الدولة الحديثة- يعرفون أنهم في سعيهم هذا يُعدِّلون تعديلا جوهريا في شكل النسخة الغربية المعاصرة من الحكم "الدولة الحديثة".. وبالتالي فليس الاشتباك حول اللفظ أمرا شديد الأهمية طالما نستطيع تمييز الفحوى والمضمون.

كذلك فإن استعماله لفظ "المستحيلة"، بدا لمن لم يقرأ الكتاب، وكأنه يُصدر بهذا حُكْما نهائيا على استحالة عودة نظام الحكم الإسلامي، وهذا المعنى جديرٌ بأن يثير حساسية كل مسلم، مع أنه أوضح صراحة في أكثر من موضع أنه لم يقصد هذا، ولكنه قصد إلى أن شكل نظام الحكم الإسلامي إن عاد للواقع ذات يوم فسيكون مغايرا ومخالفا لشكل الدولة الحديثة. كما أنه طرح فكرة الصعوبات الواقعية، إذ النظام العالمي بتركيبته الرأسمالية المعولمة القائمة على شبكة من الدول القومية القُطرية لن يسمح بقيام حكم إسلامي، وسينفق في هذا كل ما لديه من عنف هائل في سبيل تحطيم أي حركة تسعى إليه.

[3]

ذكرتُ أن الكتاب لم يُكتب لنا، وإنما كتب للجمهور الغربي أو لصناع القرار في الغرب، ومن أبرز الأدلة على هذا أنه أنفق وقتا طويلا في شرح أركان الإسلام -في الباب قبل الأخير إن لم تخني الذاكرة- ليشرح آثارها الأخلاقية على مجتمع المسلمين.

ولهذا فإن الكتاب ليس مفيدا للحركيين ولا لعموم المسلمين، هو مفيد لمساحة المثقفين والباحثين الذين يخوضون هذا السجال الفكري مع العلمانيين أو مع الغربيين، والذين يهتمون بجمع الأدلة في بيان عيوب الدولة الحديثة وتفوق النموذج الإسلامي.

بينما المسلم يتشرب المعاني المطروحة فيه بشكل طبيعي من خلال الكتاب والسنة وتراث المسلمين ومواعظ العلماء والدعاة.. بل يتشربها بطريقة أكثر عمقا وبساطة، بل -وهذا هو الأهم- يتشربها بالطريقة التي تحثه على العمل.

أنا شخصيا قبل عشر سنوات كتبتُ كتابا عن "منهج الإسلام في بناء المجتمع"، أشعر أحيانا حين أقرؤه بأنه تافه لا يطرح جديدا على المجتمع المسلم، وأحيانا أشعر أنه جيد جدا وأتعجب كيف كتبته قبل عشر سنوات، لم أكن قد اطلعت فيها على آلاف الأدلة الإضافية على فكرته الرئيسية، وأشعر بإلحاح أني في حاجة إلى إنتاج نسخة أخرى منه مشروحة ومزيدة تحتوي ما وقعتُ عليه في هذه السنين من الأدلة والإضافات.

ضربتُ المثل بنفسي هنا لكي أقول، وبدون أي محاولة تواضع، أن الشاب المسلم يستطيع ببضاعة قليلة مزجاة من الثقافة العامة أن يعتنق نفس الفكرة الرئيسية التي تبدو وكأنها مفاجئة للبيئة الثقافية يوما ما! وذلك لشدة وضوحها.. والقصد أن أقول: إن هذا الكتاب -كتاب حلاق- ليس مؤثرا أبدا في مسيرة أي حركة إسلامية، لأنها تعتنق فكرته بطبيعتها.. هو ربما كان مفاجئا لقومه ومفاجئا للبيئة الثقافية المرتبطة بالإنتاج الغربي.

حتى الحركات الإسلامية التي تبدو مؤمنة بالحداثة والدولة الحديثة، هي في حقيقة الأمر ليست كذلك، ولو أتيحت لها الفرصة الحقيقية لتطبيق نموذجها، فسينتج عنها بشكل تلقائي تغييرات جوهرية على نموذج الدولة الحديثة يُفرِّغها عمليا من محتواها العلماني، ويتدرج في التطبيق والتنفيذ إلى إنتاج صيغة معاصرة من نظام الحكم الإسلامي. حتى الغنوشي والعثماني -مع عميق بغضي لأفعالهما ورفضي التام لسياساتهما وأفكارهما- إذا أتيحت لهما فرصة تامة وارتفعت عنهما الإكراهات العلمانية والدولية لكانت النتيجة نسخة توفق بين الإسلام والحداثة، وستنتهي حتما إلى الإسلام لا الحداثة!.. على الأقل هذه قناعتي، ولست مستعدا الآن للجدال حولها.

[4]

يعد كتاب وائل حلاق هذا واحدا من الكتب التي أتعجب أن صاحبها لم يعتنق الإسلام.. إن الكتاب يمكن ببساطة أن نجعل عنوانه "الإسلام هو الحل" وسيكون هذا العنوان أكثر تعبيرا عن محتواه من هذا العنوان الحالي.

يصلح الكتاب أن يكون مرافعة ممتازة لصالح نظام الحكم الإسلامي في مقابل نموذج الدولة الحديثة، ولا أكاد أشك أن نشأة وائل حلاق القديمة في الشام وما بقي في ذهنه من ذكراها جعلته يقارن بوضوح بين المجتمع الأخلاقي الذي نشأ فيه وبين الحداثة القاتلة التي يحياها الآن.

إن الذين يقيمون في الغرب يذوقون بالفعل روعة المجتمع الإسلامي الأخلاقي المتكافل، بشرط أن يتخلصوا من عقدة النقص.. وهذا الأمر بدا كثيرا في إنتاج كثيرين من المستشرقين بل وفي إنتاج المسلمين الذين ذهبوا إلى الغرب إذا لم يفقدوا أنفسهم.. ولا يزال تعبير سيد قطب العبقري يرنّ في رأسي منذ قرأته، "أمريكا: تلك الورشة الضخمة الغبية"!

ويمكن في هذا السياق أن نطالع كتابات جوستاف لوبون وآنا ماري شيميل وزيجريد هونكه وعلي عزت بيجوفيتش وعبد الوهاب المسيري.. حتى إن بعض المستشرقين المتعصبين يندّ عنهم شيء كهذا أحيانا مثل جولدزيهر الذي كان يتنكر ليصلي مع المسلمين ورينان الذي كان منظر الصلاة يثير فيه الندم أنه لم يكن مسلما.

قرأت كثيرا من كتب المستشرقين عن سيرة النبي أو فصولا كتبوها عنه وتعجبتُ إلى درجة الحيرة: لماذا لم يُسلم هؤلاء؟!.. إن بعضهم كتب أمورا يعجز عن كتابتها بعض الدعاة والعلماء المسلمين، وما ذلك إلا لأن خبرتهم بـ "الجاهلية" الغربية سمحت لهم بالتقاط جوانب من عظمة الإسلام لا ينتبه لها المسلم.

أحسب أني بعد هذه السنين وصلتُ إلى بعض الجواب: إن منهج الوضعية العلمية السائد في الغرب منذ دخوله عصر العلمانية جعل كثيرا من الباحثين يرى أن مهمته تتوقف عند إتمام البحث بصورة عملية ممتازة، ولا يرى نفسه بعد ذلك مكلفا باتباع ما وصل إليه من الحق أو الخضوع له!

هذه النزعة الوصفية التفسيرية التي لا يتبعها عمل تسربت بقوة إلى مجتمعاتنا العلمية، صار كثير من الباحثون والأساتذة العرب رؤوسا كبيرة متضخمة ممتلئة بالأفكار، لكن لا نصيب لها من سلوكهم وعملهم! صار الباحث يرى عمله واقفا عند جمع المعلومات وتركيب الصورة وتقديم التفسير وربما تقديم بعض التوصيات، دون أن يرى نفسه مُطالبًا بالحركة في سبيل ما آمن به من هذه القناعات!

وهذا أمر مُدَمِّر.. وهو خلاف ما كان عليه حال العلماء في حضارتنا الإسلامية، حيث العلم يُطلب للعمل، وحيث لا يقبل من العالِم أن يخالف ما يقوله.. الآن بإمكان الطبيب أن يحاضر عن خطورة التدخين أو الخمر ثم هو يدخن أو يشرب الخمر، وبإمكان أستاذ الجامعة أن يحاضر عن الحقوق والحريات ثم هو نفسه ترسٌ في آلة استبداد بشعة، بل حتى الحقوقي يحاضرنا عن المرأة والتحرش ثم هو نفسه يزني ويغتصب ويتحرش!!

هذا الحال الذي ينفصل فيه العلم عن العمل، والعلم عن الأخلاق، مقبول في الزمن الغربي حيث المنهجية الوضعية (التي هي بنت العلمانية)، ولكنه مرفوض أشدَّ الرفض في ديننا ومنهجنا.

كتاب حلاق هذا هو واحد من طابور طويل من الكتب التي عرف أصحابها الإسلام ثم لم يعتنقوه.. فكيف يفعل هؤلاء أمام ضمائرهم؟ وكيف يكون حالهم أمام الله يوم القيامة؟!

[5]

كشف هذا الكتاب، عند صدوره، مأساة في حالتنا الثقافية العربية.. فلو امتدت يد إلى كتاب حلاق هذا فغيَّرت أسلوبه الأكاديمي الجاف، واستبدلت بعض صياغاته بأخرى فيها آيات وأحاديث وبعض العاطفة، ومدَّت بعض الأفكار على استقامتها، لتحول هذا الكتاب إلى تنظير جها دي ممتاز، ولصار طبعة جديدة موسعة من "معالم في الطريق" لسيد قطب، أو طبعة جديدة من كتاب تأسيسي حركي لجماعة جها دية!

هذا يخبرك كيف أن الفكرة حين يكتبها غربي باللغة الإنجليزية وبالأسلوب البارد تصير موضع حفاوة وتقدير، أو على الأقل مناقشة وتفكير، ثم كيف أن نفس هذه الفكرة حين يكتبها مسلم غيور تُجابَه بالإنكار والرفض والتنديد والتشنيع!!

إن نخبتنا الثقافية تشربت من أصول التفكير الغربي ما لم تتشرب عشر معشاره من القرآن والسنة، حتى صار ما يعجبنا لا يزيد عن أن يكون "بضاعتنا رُدَّت إلينا"!! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق