المرأة السلجوقية
مؤرخ وفقيه ومفكر سياسي
رغماً مما وجد في العصر السلجوقي من فكر عن ضعف المرأة تمثَّل في نظرة كبار رجالات الدولة، وبعض علمائها، إلا أنه كان لبعضهن دورٌ كبير في الميادين العسكرية، والسياسية، والاجتماعية، ويرى الوزير نظام الملك بأن النساء: محجَّبات مستورات، ناقصات العقول، الغاية منهن الإنجاب لحفظ النسل، ويعقد الغزالي للنساء باباً خاصاً في كتابه (التبر المسبوك) يرى فيهِ: أن المرأة أسيرة الرجل ويجب على الرجال مداراة النساء لنقص عقولهن، وبسبب عقولهن لا يجوز لأحد أن يتدبر بآرائهن، ولا يلتفت إلى أقوالهن، ومن اعتمد على آرائهن، ودبَّر نفسه بمشورتهن خسر، فهو يتفق مع الوزير السلجوقي نظام الملك في مقصودة، وهو وجوب إبعاد النساء عن التدخل في شؤون الدولة، ويبين الوزير رأيه على شكل استقراء تاريخي، يقول فيه: لقد اختط الملوك وأولو العزم من الرجال لأنفسهم طرقاً، وعاشوا حياة لم يكن للنساء أو وصيفاتهن فيها أدنى علم بأسرارهم، وقضوا حياتهم في منأى عن قيودهن، وأهوائهن، وأوامرهن، ولم يقعوا تحت ربقة نيرهن قط، ويحذر من نتائج وصولهن إلى مواقع السلطة، بقوله: إن كل من يجعل النساء قيِّمات على الرجال فسيتحمل وحده جرم ذلك أيَّ خطأ، أو انحراف؛ لأنه هو الذي سمح بذلكَ، وتخطى العادة المتبعة، ولكن على الرغم من هذا الرأي فقد شاركت المرأة في العصر السلجوقي في النشاط العسكري، والسياسي، والاجتماعي، وإليكَ بعض الأمثلة:
أولاً: زوجة طغرل بك:
كانت زوجة طغرل بك ـ كما يقول ابن تغري بردي ـ صاحبة رأي وتدبير وحزم وعزم، وكان زوجها السلطان طغرل بك سامعاً لها، ومطيعاً، والأمور مردودةٌ إلى عقلها، وكانت تسير بالعساكر، وتنجده، وتقاتل أعداءه، فقد سارت نجدة لزوجها السلطان طغرل بك في صراعه مع أخيه إبراهيم ينال متخطية آراء المعارضين لها في هذا العمل العسكري.
كما كلف السلطان ألب أرسلان قبل معركة ملاذ كرد سنة (463 هـ) زوجته بالمسير مع الوزير نظام الملك لإيصال أثقال الجيش إلى همذان، وعندما صادر الوزير السلجوقي نظام الملك أموال كوهر خاتون عمة السلطان السلجوقي ملكشاه، حاولت التحرك بجمع الجيوش لقتال الوزير الذي أشار على السلطان بقتلها، فقتلها سنة (476 هـ)، وقضى بذلكَ على حركتها.
ثانياً: تركان خاتون زوجة السلطان ملكشاه:
عندما توفي زوجها استولت على السلطة بعده، وساست الأمور سياسة عظيمة، وأنفقت الأموال التي كانت تزيد على عشرين مليون دينار، فأرضت بها العسكر، واتفقت مع الخليفة على ترتيب ولدها محمود في السلطنة، وعمره يومئذ خمس سنين وعشرة شهور، وخطب له على منابر الحضرة، وترتب لوزارته تاج الملك أبو الغنائم المزربان بن خسرو، وجاء عميد الدولة بخلع من الخليفة، فأفاضها على محمود، ودخل إلى أمه فعزاها وهنأها نيابةً عن الخليفة، ثم خرجت إلى أصفهان، وكان ينافس ابنها أخوه بركيارق، فجرت بين عساكر الطرفين معارك انتصر فيها بركيارق، بعد أن قتل تاج الملك، وعندما فشلت في مواجهة بركيارق أثارت ضده خاله إسماعيل بن ياقوتي أمير أذربيجان، ولكنه هزم أمام قوات بركيارق، وكانت مصممة على الاتصال بتاج الدولة تتش بن ألب أرسلان، حين وافتها المنيةُ سنة (467 هـ)، وكان بيدها أصبهان، ومعها عشرة الاف فارس من الأتراك، وهكذا باشرت الحروب، ودبرت الجيوش، وقادت العساكر، وبموتها انحل أمر ابنها محمود، وعقد الأمر لبركيارق بن ملكشاه.
ثالثاً: خاتون بنت ملكشاه الثانية زوجة المستظهر:
ففي سنة (502 هـ) تزوج المستظهر خاتون بنت ملكشاه، وقد جرى عقد الزواج في مدينة أصبهان، عاصمة الدولة السلجوقية، وفي سنة (504 هـ) بعث الخليفة زين الإسلام أبا سعد محمد نصر الهروي إلى أصفهان؛ لاستدعاء زوجته الخاتون، فدخلت بغداد ونزلت بدار المملكة عند أخيها السلطان محمد، وزينت بغداد، ونقل جهازها في رمضان، فكان على مئة واثنين وستين جملاً، وسبعة وعشرين بغلاً، وجاءت النجائب والمهور والجواري والمزينات، وغلقت الأسواق، ونصبت القباب، وتشاغل الناس بالفرح، وكان الزفاف في ليلة العاشر من رمضان، وكانت ليلة زفافها من ليالي السرور العظيمة.
وفي سنة (517 هـ) أمر المسترشد بعمارة السور على بغداد الشرقية، وقد تناوب على العمارة أهلُ كل محلة لمدة أسبوع، وكان يخرجون بالطبول والضجان والملاهي، وعزم الخليفة على ختان أولاده، وزينت بغداد، وعمل الناس القباب، وعملت خاتون زوجة المستظهر قبة بباب النوبي، علقت عليها من الثياب والجواهر والديباج ما أدهش الناس، وعملت قبة في درب الدواب وعليها غرائب منحوتة مع الحلل، ونصب عليها سترات من الديباج الرومي.
وفي سنة (530 هـ) حصلت لها محمدةٌ، وذلكَ حين حاصر السلطان مسعود الخليفة الراشد بن المسترشد، وخاف أهل بغداد، فحمل كثير منهم أموالهم إلى دار الخليفة ودار الخاتون، ثم خرج الراشد من بغداد بعد أن سلم دار الخلافة ومفاتيحها إلى خاتون، فأخرجت أصحابها لحفظ باب النوبي، وهو باب من أبواب دار الخلافة، وترك الراشد نساءه وأولاده عند الخاتون أيضاً، ودخل ابن مسعود بغداد، واستولى على ممتلكات الراشد، فذهبت إليهِ خاتون، وردت إلى أهل الراشد كل ما أخذه تقريباً، وهكذا عظمت منزلتها كثيراً، وقد لعبت هذه السيدة دوراً مهمّاً في الأحداث الكبرى. يقول عنها ابن الساعي: كانت رئيسة جليلة من أعقل النساء، وأشدهنَّ حزماً، وأنشأت مدرسة بشارع سوق العسكر، ووقفتها على أصحاب الإمام أبي حنيفة وليس في الدنيا مدرسة أكبر منها.
رابعاً: قهرمانة المقتدي:
ومن النساء اللواتي كان لهنَّ التأثير المباشر في وصول المستظهر إلى مركز الخلافة قهرمانة المقتدي، التي كانت تتمتع بنفوذ كبير، فهي تنفذ مهام الدار العزيزة، كما ينفذ الوزير مهام الديوان العزيز، وحين قدمت الطبق للمقتدي كان عنده جارية صغيرة، فمات فجأة، فأغلقت باب الحجرة ووكلت بالباب من يحرسه، وأرسلت إلى الوزير، وتعاهدت وإياه على تأمين مصلحة أصحابها وأصحابه، وعندما أخذت منه اليمين، قالت: حسن الله عزاءك في أمير المؤمنين، فقد زممت أمر الدار، فزمَّ أنت أمر البلد، ثم أدخلته على ولي العهد المستظهر، وقرر معهُ موت المقتدي وخلافته بعده، ومضى الوزير إلى السلطان، وتدارس معهُ الأمر ثم عاد، وأجلس المستظهر، وأشاع موت المقتدي.. كلُّ ذلكَ كان بتدبير القهرمانة.
خامساً: خاتون السفرية:
كانت حظية ملكشاه، ومن جواريهِ، فولدت له محمداً، وسنجر، وكانت تتدين، وتبعث حمال السبيل إلى طريق مكة، ولما حصلت في الملك بحثت عن أهلها وأمها وأخواتها، حتى عرفت مكانهم، ثم بذلت الأموال لمن يأتيها بهم، فلما وصلوا إليها ودخلت أمها كانت قد فارقتها منذُ أربعين سنة، فجلست البنتُ بين جوارٍ يقاربنها في الشبه، حتى تنظر هل تعرفها أم لا؟ فلما سمعت الأم صوتها؛ نهضت إليها، فقبلتها، وأسلمت الأم، فلما توفيت خاتون قعد لها السلطان محمود في العزاء.
سادساً: عالمات، وزاهدات، وواعظات في العهد السلجوقي:
وأما على الصعيد العلمي؛ فقد اشتهر عدد من النساء؛ منهن:
1 ـ دلال بنت أبي الفضل محمد بن عبد العزيز بن المهتدي: سمعت أباها، توفيت سنة (508 هـ).
2 ـ رابعة بنت أبي الحكم بن أبي عبد الله الحيري: سمعت من الجوهري، وابن المسلمة، وابن النقور، وغيرهم، وحدثت وروى عنها ولدها، وكانت خيرة.
3 ـ الحرانية، وبنت الجنيد، وبنت الغراد: تتلمذ عليهن في الزهد أبو الوفاء علي بن عقيل، وهو فريد دهره، وإمام عصره، وبنت الغراد كانت منقطعة إلى قعر بيتها لم تصعد قط، ولها كلام في الورع.
4 ـ فاطمة بنت عبد الله الخيري الفرضي: سمعت الحديث، وحدثت به:
وأما في ميدان الزهد والتعبد فقد اشتهرت ببغداد:
5 ـ السيدة فاطمة بنت الحسين بن الحسن بن فضلويه الرازي: كانت واعظة، متعبدة، لها رباط تجتمع فيه الزاهدات، سمعت أبا جعفر بن المسلمة، وأبا بكر الخطيب، وسمع منها صاحب المنتظم بقراءة شيخهِ أبي الفضل بن ناصر كتاب ذم الغيبة؛ لإبراهيم الحربي، وروت مسند الشافعي.
سابعاً: اختلاط النساء بالرجال:
لم يكن المجتمع البغدادي يستسيغ الاختلاط بين الرجال والنساء في الطرق، وكان المحتسب لا يسمح حتى للزوجين أن يجتمعا في طريقٍ خالٍ من المارة، وكان يفصل بين النساء والرجال أثناء ركوب الزوارق عند عبور دجلة، ولم يكتفِ المحتسب بذلكَ، بل أصدر أمره سنة (502 هـ) بمنع النساء من العبور مع الرجال في نفس الزورق، وصدر التشديد على النساء من المستظهر سنة (494 هـ) حين أمر المحتسب بمنعهن من الخروج ليلاً؛ للتفرج على افتتاح جامع القصر، ومع سهر المستظهر وعنايته بحفظ أخلاق الناس، كانت تقعُ حوادث فيها مخالفة للقوانين الشرعية، فبعضها يفلت من مراقبة الحكومة، والبعض الآخر تتمكن من التعرف عليه، وكان بعض الناسِ يخرجون على القيم الاجتماعية، فكان الرجال يلتقون بالنساء خفية في الليل، ولكن ذلكَ كان من قبيل المغامرة؛ إذ إنهم بمحاولتهم الالتقاء بالنساء يعرضون أنفسهم لانتقام ذويهن كما حدث سنة (500 هـ)، عندما دخل صبيٌّ إلى داره فوجد فيها رجلاً غريباً مع أخته، فما كان منه إلا أن أسرع إلى قتل ذلكَ الرجل. وقد يقوم بمهمة القتل هذه زوج المرأة إذا علم باتصالها برجل اخر، ولا يعبأ بالنتائج المترتبة على هذا القتل بسبب الغيرة على العرض.
المراجع:
1- دولة السلاجقة وبروز مشروع إسلامي، علي محمد الصلابي، صــ (343/348)
2- الحضارة الإسلامية في بغداد، محمد حسين، ص 178.
3- نساء الخلفاء، تاج الدين علي بن انجب، ص 108 ـ 109
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق