«المعرفة والسلطة»
محمد إلهاميباحث في التاريخ والحضارة الإسلامية
من أبيات المعري الخالدة التي تختصر فكرة «المعرفة والسلطة» قوله:
أتَوْكم بإقبالهم والحسامُ .. فشدَّ به زاعمٌ ما زَعَمْ
تَلَوْا باطلا، وجَلَوْا صارما .. وقالوا: أصبنا. فقلنا: نعم
فهذا الذي جاء متوشحا سيفه منتصرا به، إنما دعم بهذا السيف رأيه مهما كان زعما،
فلما قال باطله أظهر سيفه، وحينها، قال: لقد أصبنا، فلم نملك إلا أن نقول: نعم.
أشعر بالسخافة حين أكرر معنىً كتبته كثيرا، ثم أجد لنفسي بعض العزاء في أن تكرار المحن يستلزم تكرار القول،
وأتمنى أني أقتفي أثر القرآن الكريم الذي كرَّر المعاني الأساسية المركزية بصياغات عديدة وفي مواطن عديدة!
طابور المسارعين إلى الكفر
هذه التي تقول: لا يوجد دليل على حرمة زواج المسلمة من الكافر،
وهذا الذي دعمها بتأصيل سخيف سمج خبط فيه بين التخريف في الشرع والتخريف في التصور السياسي وتأثيره على الفقهاء.. وغيرهم!
هذا الطابور الطويل من المسارعين إلى الكفر، المهاجرين إليه، المنقلبين على أنفسهم..
هؤلاء ليست مشكلتهم على الحقيقة في الجهل (مع أنهم جهلاء)، ولا في أنهم اجتهدوا فأخطئوا (مع أنهم لم يجتهدوا، إنما أخطئوا فحسب).
المشكلة الحقيقية أن هؤلاء وجدوا أنفسهم في معسكر المهزومين..
والمهزوم -يا صاحبي- ضعيف محطم، فاقد للمناعة، متعلق بأهداب النجاة، يسيء الظن بنفسه وبقومه وبطريقه لا محالة!
لو قرأت شيئا في أدب السجون
لو أنك قرأت شيئا في أدب السجون لوجدت اللحظة المتكررة للقوم، وهم يعاتبون أنفسهم ويلومونها،
ويقولون بلسان حالهم أو مقالهم: لو كنا على حق ما كان هذا مصيرنا. لو كان ثمة إله موجود فكيف يسمح بنزول هذا بنا؟.. إلخ!
مهما كانت القضية التي أُسِروا لأجلها شريفة، ومهما كانت قناعتهم بها، فإن طول الزمن مع شدة العذاب يعيدهم للتفكير في هذا مرة أخرى،
ولا يثبت في هذا الموطن العسير إلا أفذاذ الأفذاذ، وهم نادرون بطبيعة الحال!
الهزيمة.. هذا هو الداء الحقيقي الذي نزل بنا، فأخرج منا أسراب المهاجرين إلى المنتصر الغالب!
زمن السيف الغربي الممتشق!
إن السيف الصارم الذي يلمع في شعاع الشمس، يلقي بهيبته وصولته على الفكرة التي يقولها حامله، ونحن في زمن السيف الغربي الممتشق!..
ولذلك تُحاكم شريعتنا ويُحاكم فقهنا على الميزان الغربي..
نحن نناقش حد الردة لأن الغرب لا يعاقب المرتد،
ونناقش حق الرجل في الزواج من أربعة لأن الغرب لا يرحب بهذا،
ونناقش حق الفتاة في التعري لأن الغرب يسمح بهذا، ونناقش زواج المسلمة من غير المسلم لأن الغرب لا يرى في هذا بأسا..
ونحن نتناقش في الخلافة ويزعم قومنا أنها كانت ظلما وشرا لأن الغرب لا يطيق أن تنبعث لنا خلافة،
ونتناقش في المواطنة لأن الغرب يجعل مواطنته معلقة بالعرق والأرض لا بالدين،
ونتناقش في علاقة الدين بالدنيا لأن الغرب يطرح علينا خلاصة تجربته في هذه العلاقة ولا يرضى لنا بغيرها..
ونناقش أشياء كثيرة.. الجامع المشترك بينها أنها مواضع التناقض مع الغرب الغالب.. ذي السيف اللامع المرهوب!
تلوا باطلا، وجلوا صارما .. وقالوا: أصبنا، فقلنا: نعم
نعم.. ونلتمس لهذه الـ«نعم» أدلة نتخبطها من آية أو حديث أو قول فقيه، ثم نتخبط في تأويل الآية وتصحيح الحديث أو تضعيفه ونصرة قول الفقيه مهما كان شاذا،
ونريد أن ننقي تراثنا من هذا الذي يحرجنا وينكد علينا عيشنا أمام هذا الغرب!
لئن لم تصدقني ففسِّر لي:
لماذا نحرص على تعليم أولادنا الإنجليزية والفرنسية والألمانية، ولا نحرص على تعليمهم لغات الأمم الإفريقية والآسيوية؟
بل لماذا لا نحرص على تعليمهم البرتغالية والمقدونية والألبانية وهي لغات أوروبيين أيضا!!
فسِّر لي لماذا يحفظ مثقفونا آراء الفلاسفة الإنجليز والفرنسيين والأمريكان والألمان، ولا يعرفون أسماء الفلاسفة في الهند والصين واليابان؟!
فسِّر لي لماذا نرتدي الثياب الغربية ولا نفكر في ارتداء الثياب الهندية أو الإفريقية؟..
لماذا نحب أن نأكل البرجر والكوكاكولا ونأنف أن نأكل ما يأكله الصينيون من الفئران والجرذان والثعابين؟!
أقسم ألف ألف مرة، أن لو كانت تجربة مرسي قد نجحت في مصر، وتمكن أن يحكمها بحق، لكان أكثر المهاجرين إلى الكفر مهاجرين إلى الإسلام،
باحثين في أروقة القرآن والسنة والتراث والتاريخ عن كيفية تفعيل الإسلام واستئناف نظامه في واقع حياتنا..
ولعلهم أن يكونوا أكثر جذرية وثورية مما تحتمله الظروف!
المغلوب مولع بتقليد الغالب
ذلك هو الشر الكبير الذي ينزل بالدعوات والحركات والأمم والحضارات، هذا هو الذي يحطمها، لا جسدا فحسب، بل يحطمها روحا وفكرا معا!
رحم الله ابن خلدون، قالها قديما: «المغلوب مولع بتقليد الغالب»
ورحم الله قومنا الذين قالوا قديما «الناس على دين ملوكهم»، و«الناس أتباع من غلب»!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق