الأربعاء، 9 ديسمبر 2020

رقصة الطاغية المحظوظ والديك الفرنسي

رقصة الطاغية المحظوظ والديك الفرنسي


وائل قنديل

09 ديسمبر 2020

 هل يمكن اعتبار الرئيس الفرنسي الشاب، إيمانويل ماكرون، ممثلًا  لقيم الثورة الفرنسية ومبادئها؟.


يفرض السؤال نفسه، بعد أن ظهر أول من أمس مع عبد الفتاح السيسي، ليمنحه رخصة بممارسة الاستبداد وقتل الحريات، وهو يطمئنه بأنه مهما استعمل من أدواتٍ للتعذيب والمصادرة وتغيبب حقوق الإنسان، لن تبخل عليه فرنسا بصفقات السلاح والدعم الاقتصادي، ثم يختزل موضوع حقوق الإنسان في مصر في مجموعة من النشطاء محدّدين بالاسم.


هل هذا الـ"ماكرون" ابن أو حفيد لثورة"الحرية والمساواة والإخاء" التي يراها مؤرخون وباحثون كثيرون الملهمة لكل الشعوب الباحثة عن تغيير ديمقراطي وعدالة وتنوير في العالم؟. قبل ست سنوات وستة أشهر، بحثت عند كارل ماركس عما قد يصلح لرسم بورتريه للطاغية الصغير، من واقع قراءة كتابه المهم عن الثورة المضادة الفرنسية، التي قام بها نابليون الصغير، منتحلًا وجه نابليون الكبير (بونابرت). كتبت تحت عنوان "قداسة المشير عبد الفتاح بونابرت" من واقع قراءة سريعة في كتاب كارل ماركس "الثامن عشر من بريميير" مقتبسًا عبارة من الفيلسوف هيغل في مقدمة الكتاب، إن "جميع الأحداث والشخصيات العظيمة في تاريخ العالم تظهر، إذا جاز القول، مرتين"، فيسعفه ماركس بإضافة مهمة، بقوله إن هيغل نسي أن يضيف "المرّة الأولى كمأساة والمرة الثانية كمسخرة".


كنت أتعجب من ذهاب قطاع من الناصريين والقوميين إلى النبش في أقبية التاريخ المظلمة عن أوجه شبه بين جمال عبد الناصر وعبد الفتاح السيسي، وإصرار بعضهم على أن الجنرال الجديد، صاحب الولاء المطلق للتصوّر الصهيوني للشرق الأوسط، والذي يعدّه الإسرائيليون أهم مكاسبهم بعد يونيو/ حزيران 1967، هو صورة من جمال عبد الناصر.


في الواقع، تنطبق ثنائية "المأساة والمسخرة"، على نحو أعمق، عند الحديث عن ماكرون بمعيار آباء الديمقراطية الفرنسية، إذ يبدو مقطوع الصلة تمامًا بالتراث الفكري للفلاسفة والسياسيين الذين ارتبطت أسماؤهم بأدبيات الثورة الفرنسية، ويظهر وكأنه جنرالٌ، مرصّعٌ بالنياشين والرتب من دون أن يكون قد أكمل تعليمه المتوسط، هاربٌ للتو من بين صفحات كتب الاستبداد الشرقي، ليعبر المتوسط ويستقر في أوروبا.


حديث ماكرون، في المؤتمر الصحافي الذي جمعه بالسيسي بقصر الأليزيه أول من أمس، جاء كما لو كان ترديدًا لكلام السيسي في المؤتمر الصحفي الذي جمعه مع ماكرون بقصر الاتحادية قبل نحو عام مضى، إذ قال السيسي، بلهجة حاسمة في ذلك الوقت، "لن تعلموننا إنسانيتنا فهي غير إنسانيتكم"، ثم أضاف"لا ينبغي أن يطبق المنظور الغربي على الحريات المدنية في مصر".


كان ذلك الكلام مستهجنًا ومحلّ امتعاض من ماكرون في ذلك الوقت، لكنه صار عاديًا ومقبولًا من الشخص نفسه بعد أقل من عام، ظهر فيه الرئيس الفرنسي وكأنه نسخة أصغر وأقلّ وضوحًا من دونالد ترامب، مؤسّس مدرسة الاستثمار في الطغاة والتربّح المضمون من تجارة الحرب على الإرهاب.


السيسي طاغية محظوظ للغاية، من عدّة أوجه، منها أنه حاصر ماكرون في لحظة ضعف غير مسبوقة على مستويي الداخل والخارج، وكان كالغريق الذي يتعلّق بأهداب الاستبداد، على وقع أزماته المتعدّدة، فكانت تلك الرقصة على شرف حقوق الإنسان المهدورة.


في هذه اللحظة المختارة بدقة، نجد الفرنسي الصغير يتنكر لمبادئ الثورة الفرنسية، ويلجأ إلى ما يمكن اعتباره "الاستقواء بالطغيان الشرقي"، فتنقلب المعادلة من استقواء طاغية شرقي بالغرب الاستعماري، إلى استنجاد حاكم دولةٍ ترى نفسها أرض الديمقراطية والحرية بالاستبداد الشرقي، بحثًا عن ثغرةٍ في جدار المقاطعة الشعبية الهائلة من شعوب الدول الإسلامية، ردًا على إهانة مقدساتها.


لكن السيسي محظوظ أكثر بأنه صعد إلى الحكم بانقلابه العسكري في فترةٍ قرّر فيها ما يسمى ضمير العالم أن ينام بعمق، ويترك كل غرائز القنص والتربّح والابتزاز في حالة يقظة ونشاط لا يتوقف.


خرج انقلاب السيسي إلى الحياة، فوجد حفاوةً هائلة من زعماء، في السلطة أو خارجين منها للتو، على استعداد لتقديم الدعم والرعاية بالأجر، لم يكن أولهم توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا السابق ومستشار ولي عهد أبو ظبي لحظة وقوع الانقلاب، والذي قال فيه روبرت فيسك حينها "إن الشخص الذي جلب لبريطانيا الفوز في  أفغانستان وفي العراق، والذي كان دائما يدين، بدون خوفٍ أو مهابة، الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية، ها هو الآن يلقي بكل شرفه وسمعته خلف الماريشال عبد الفتاح السيسي".  نما انقلاب السيسي ليجد أكثر من "بلير" هنا وهناك، حتى جاء دونالد ترامب، ثم إيمانويل ماكرون، ليكون الطاغية الذي يبيض ذهبًا لهذه النوعية من الحكام الغربيين الذين يخبئون جنرالاتٍ وتجار موت تحت ملامحهم المدنية الأنيقة.


في هذه الوضعية، من الطبيعي أن يتدلّل السيسي ويمتعض من أسئلة صحافيين تصنفه ضمن الطغاة والمستبدين، بينما هو يرى نفسه واحدًا من الشعراء المجدّدين، مثله مثل بودلير أو لامارتين، أو روائيًا مثل فيكتور هوغو، أو مفكرًا وفيلسوفًا على شاكلة فولتير وجان جاك روسو.. 

أليس هو من قال عن نفسه إن العالم يلجأ إليه باعتباره طبيب الفلاسفة؟.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق