الغباء وانعدام الأخلاق .. قصة ريجيني نموذجا
ياسر أبو هلالة
يغيب عن كثيرين متعاملين مع السياسة العربية عامل الغباء في تفسير قراراتٍ كثيرة، مع أن دوره حاسم عالميا، وحسبك كتاب "دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ، العامل الحاسم"، للخبير في التاريخ العسكري، إيريك دورتشميد (ترجمة محمد حبيب، دار المدى، بيروت، 2002)، لتعلم كم من حدث تاريخي كان سيختفي لو تمتع أصحاب القرار بحدٍّ أدنى من الذكاء.
في مقتل الباحث الإيطالي، جوليو ريجيني، في القاهرة (يناير/ كانون الثاني 2016)، نموذج فجٌّ يكشف دور عامل الغباء في أجهزةٍ يفترض أن يكون الذكاء أساسا في اختيار العناصر التي تعمل فيها وترقيتها.
طبعا، انعدام الأخلاق عامل لا يقل أهمية، بحسب ملفات الادّعاء العام الإيطالي التي كشفتها صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية، فريجيني وصل إلى مصر لإتمام أطروحة الدكتوراه عن النقابات العمالية في جامعة كامبريدج.
سوء حظه قاده إلى نقيب الباعة المتجولين محمد عبدالله، الذي كان جزءا من دراسته. أخلاقه دفعته إلى أكثر من الدراسة، فكّر بمساعدة النقيب البائس من خلال برامج تمويل المجتمع المدني، المبلغ 13 ألف دولار كان زهيدا من منظمةٍ بريطانيةٍ، والتمويل يتم وفق شفافية وأصول تحترم القوانين. النقيب العبقري أبلغ الرائد العبقري مجدي الشريف.
اجتمع لدى نقيب الباعة وضابط الأمن الوطني الغباء وانعدام الأخلاق، زوّد الضابط النقيب بأجهزة تنصّت لرصد تمويل الثورة على نظام عبد الفتاح السيسي. ولم يفلح في تسجيل شيءٍ يدين طالب الدكتوراه.
جنّد معه عديم خلق آخر، هو محامٍ عن حقوق الإنسان يقيم معه في الشقة نفسه. في 25 يناير، ذهب ريجيني ليحتفل بعيد ميلاد صديق له يدرس في الجامعة، فاعتقدت أجهزة الرصد والتنصت أن الحفلة هي الثورة التي ستموّل بـ 13 ألف دولار.
اختطف ريجيني وحقق معه الضابط العبقري، مجدي الشريف، بإشراف اللواء طارق صابر.
هنا بلغت القصة ذروة الغباء، المطلوب تعذيب ريجيني ليعترف بتمويل الثورة، ويقرّ بما يمليه عليه الضابط المختصّ بالتحقيق مع الأجانب.
وتوجد تقنيات تعذيب يتعلمها محدودو الذكاء بسهولة، مثل الإيهام بالغرق، والمنع من النوم. ولكن مجدي، خلال أيام، كان قد قتل ريجيني تعذيبا، وألقيت جثته وعليها كل الأدلة على التعذيب من تكسير الأسنان والعظام إلى إطفاء السجائر بالجسد، وعندما شاهدت والدتُه الجثة لم تعرفه إلا من أنفه.
وبحسب ضابط عمل في الأمن الوطني المصري 15 عاما، وتحول إلى شاهد، فإن طالب الدكتوراه، ذا الـ 28 عاما، كان نصفه عاريا في أثناء التعذيب الوحشي، وكان يهذي بالإيطالية من شدّة التعذيب. تفاخر مجدي، في حديث مع ضابط كيني، بأنه قتل ريجيني تعذيبا، لأنه موساد أو مخابرات أميركية، مع أن جهاز الأمن الوطني متعاونٌ مع الجهازين، وعندما اعتُقل عميل للموساد سابقا خرج معزّزا مكرّما من دون تكسير أسنان.
لم يتوقف الغباء بقتل الطالب. إخفاء الجريمة كان أشد غباء، وأكثر الروايات ترويجا هي العصابة التي سرقت جوّاله وأغراضه وقتلته، والأمن المصري قتل جميع أفراد العصابة، ولم يُبق منهم واحدا حيا يروي كيف حصلت الجريمة. طبعا المصريون الخمسة لم يسأل بهم أحد، أزهقت أرواح شباب مصريين، للتستر على جريمة غبية، بغباء.
لأنه إيطالي، ويدرس الدكتوراه في كامبريدج، لم تمر جريمة قتل جوليو ريجيني بسهولة، ودخلت مصر في أزمة علاقات دولية لن تنتهي من دون إدانة وعقوبات. كان يمكن بقليل من الأخلاق والذكاء تجاوز أزمة تاريخية كهذه، لو تعاون نقيب الباعة معه، وحصل على تمويل للنقابة، وأنجز ريجيني أطروحة الدكتوراه، لن يجد في جهاز الأمن الوطني من يقرأها ويستفيد منها.
وسيُمضي الشاب الإيطالي حياته يدرّس طلابه ويحدّثهم عن طيبة نقيب الباعة ونبل المحامي الذي شاركه في البيت.
سيحمي السيسي المتورّطين، وسيشيد بذكائهم وفطنتهم التي تحمي مصر من تكرار 25 يناير، واللواء طارق صابر هو المسؤول عن اعتقال الناشطين الحقوقيين أخيرا، وأفرج عنهم بضغط دولي، ليس أكثر ذكاء ولا أخلاقا من نقيب الباعة المتجولين.
ولذلك حال مصر كما نراه، ولن تقوم لها، ولا للعرب، قائمة، طالما تتحكّم بحياتهم ومستقبل شبابهم أجهزةٌ عمادها قلةٌ في العقل والخلق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق