الجمعة، 12 نوفمبر 2021

صلاح جاهين.. الفلسفة والتاريخ قصيدة شعر

صلاح جاهين.. الفلسفة والتاريخ قصيدة شعر

 صلاح جاهين

علي أبو هميلة

يتوقف الشعر المصري طويلا أمام حالة صلاح جاهين، بل الفن المصري الحديث كله، في حين ننظر إلى ما أنتجه جاهين في مجالات الفنون المصرية، كشاعر عامية من الشعراء الرواد الذين أسهموا في وضع حجر الأساس لشعر العامية المصرية، أو كرسام كاريكاتير من طراز فريد، ظلت رسوماته اليومية في جريدة الأهرام العريقة، أو الأسبوعية في مجلة صباح الخير، التي كان واحداً من أعمدتها الرئيسية حتى رحيله في أبريل 1986.
صلاح جاهين كاتب الأغاني الفريد سواء تلك التي أرخ فيها لثورة 23 يوليو 1952، والتي صارت بمصاحبة المطرب عبد الحليم حافظ، والملحن المجدد كمال الطويل وتوزيع على إسماعيل أغنية عاطفية في محبة الوطن والقيم النبيلة.
لم يكن إبداع جاهين فقط في الأغنية الوطنية، بل إن أبسط أغاني جاهين كأغنية مثل (البنات.. البنات)، التي كتبها جاهين في مسلسل (هو وهي)، إخراج يحيى العلمي وغناء سعاد حسني- ذات ملمح فني ورسالة حضارية كبيرة..
صلاح جاهين هو كاتب السيناريو الذي قدم للسينما نصوصا سينمائية متميزة، لعل أبرز تلك الأفلام فيلم (شفيقة و متولي)، إخراج علي بدرخان والبطولة لأحمد زكي و سعاد حسني وهو عن القصة الشعبية الشهيرة، وفي هذا الفيلم قدم جاهين أغنية (بانوا بانوا)، وهي أغنية لا تزال حية إذ قامت بالمزج الحقيقي بين علاقة جاهين بمصر وعلاقة شفيقة بما حدث لها ..
كانت الأغنية ضمن إنتاجه بعد هزيمة مصر في يونيو/حزيزان 1967، وهي الهزيمة التي أثرت كثيرا في نفسية صلاح، وإن كنت أظن أن شائعة اكتئاب جاهين غير حقيقية، فقد أبدع جاهين شعريا، بعد الهزيمة وبعد رحيل جمال عبدالناصر، وكان أفضل إنتاجه.

                 الحزن

جاهين أصابه حزن انكسار الحلم الكبير، لكنه لم يستسلم، حاول إعادة قراءة التاريخ، وقدمه مره أخرى، فأنتج واحدة من أهم قصائده التاريخية، وهي قصيدة (على اسم مصر) تلك القصيدة التي تجاوزت الألف بيت:
على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء الله
أنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء
بحبها وهي مالكة الأرض شرق وغرب
وأحبها وهي مرمية جريحة حرب
بحبها بشدة ورقة وعلى استحياء
وأكرهها وألعن ابوها بعشق زي الداء
وأسيبها واهرب في درب وتبقى هي في درب
وتلتفت تلقاني جنبها في الكرب
على اسم مصر.
هذه علاقة جاهين بوطنه، وهذه القصيدة التي أنتجها جاهين في سنواته الأخيرة ولم يستطع إكمال كتابتها، استطاع أن يقدم فيها مزجا بين التاريخ والتغني بمحبوبته التي لم تغادر قلبه، ولم يغادر حلمه تقدمها يوما قلبه:
مصر النسيم في الليالي وبياعين الفل
مصر النسيم في الليالي وبياعين الفل
ومراية بهتانة ع القهوة.. أزورها.. واطل
القى النديم طل من مطرح منا طليت
والقاها برواز معلق عندنا في البيت
فيه القمر مصطفى كامل حبيب الكل
المصري باشا بشواربه اللي ما عرفوا الذل
ومصر فوق في الفراندة واسمها جولييت
ولما جيت بعد روميو بربع قرن بكيت
ومسحت دموعي في كمي ومن ساعتها وعيت
على اسم مصر
لقد استطاع جاهين أن يكتب تاريخ مصر من بداية هجمات الهكسوس في العصر الفرعوني حتى هجمات مغول وهكسوس العصر، عليها مازجا هذا التاريخ بملامح مصرية شعبية أصيلة
مصر السما الفزدوقي عصافير معدية
والقلة مملية على الشباك مندية..
هذا وصف العاشق لحبيبته الخالدة، وأن تطلعنا إلى استكمال القصيدة سنجد هذا العشق الذي لا ينتهي كما حال المنتج الجاهيني (نسبة الي صلاح جاهين)..
وهل يمكن أن ننسى ما قدمه جاهين للأطفال، خاصة الأوبريت الكبير: (الليلة الكبيرة) هذه العرض المسرحي، الذي قدمه على مسرح العرائس بالقاهرة من إخراج صلاح السقا وألحان سيد مكاوي، وغناء نخبة من نجوم الغناء المصري، ولصلاح جاهين أيضا أوبريت آخر اسمه (صحح لما ينجح) قدم أيضا على مسرح العرائس.
لصلاح جاهين تجربة مهمة أيضا في كتابة الفوازير الإذاعية، مع الإذاعية المصرية الكبيرة آمال فهمي.. ولسنوات طوال كانت فوازير البرنامج العام، ملمحا رمضانيا هاما لدي المصريين من إبداع جاهين، الذي نقل التجربة إلى التليفزيون المصري مع المخرج الرائد فهمي عبد الحميد والممثلة نيللي، وقد استطاع عبد الحميد أن يقدم تطورا كبيرا في فن الصورة التلفزيونية مع إبداع جاهين الشعري سبق به خطوات في فن الإخراج التلفزيوني.
اما إبداع جاهين الذي أراه أيضا تجربة شعرية فريدة فهو الرباعيات، التي تعتبر قمة الإبداع الشعري له، حيث قدم جاهين نصا شعريا يتكون من أربعة أبيات شعرية، يلتقى البيت الأول والثاني والرابع في القافية بينما تكسر القاعدة في الثالث:
أنا اللي بالأمر المحال أغتوي
شفت القمر نطيت لفوق في الهوا
طلته ما طلتوش ايه انا يهمني
وليه مدام بالنشوي قلبي أرتوي
عجبي..
ثم يختتم الرباعية بكلمة عجبي.
هل كان جاهين يشرح نفسه للناس في هذه الرباعية؟  هل يبرر حلمه بالثورة التي انكسرت وأحزنته؟  فقد حلم وحاول ولكنه لم يحقق حلمه، لكن قلبه ارتوى بلحظات النجاح، وحتى إن لم يحقق كل ما أراد ..
جاهين يقدم رؤية فلسفية كبيرة في نصوص الرباعيات فتأمله وهو يصف هؤلاء الذين يخدعون الناس بملابسهم ومظهرهم البراق يقول:
ولدي إليك بدل البالون ميت بالون
انفخ وطرقع فيه على كل لون
عساك تشوف مصير
المنفوخين بالسترة والبنطلون
عجبي.
ثم يقدم نصيحة أخرى لولده فيقول:
ولدي نصحتك لما صوتي اتنبح
ما تخافش من جني ولا من شبح
وإن هب فيك عفريت قتيل اسأله
ما دافعش ليه عن نفسه يوم ما اندبح
عجبي.
كانت الكلمة لدى جاهين هامة جدا في أشعاره وفي كتاباته، كان يرى الأهمية القصوى لأن يقول كل منا كلمته وكتب قصيدة بعنوان (اتكلموا)
ما أحلى الكلام.. ما أعظمه.. ما ألزمه
في البدء كانت كلمة الرب الإله
خلقت حياة والخلق منها اتعلموا
فاتكلموا.
أما في الرباعيات فكانت رباعية الصرخة، التي يقول فيها الكلمة لا تميت إنما كتمها هو الذي يميت:
عيني رأت مولود على كتف أمه
يصرخ تهدد فيه يصرخ تضمه
يصرخ تقوله يا ابني ما تنطق كلام
ده اللي يشيل جواه يا كتر همه
عجبي.

                وفي الحب

اما الحب في عيون وفلسفة صلاح جاهين، فهو قارب النجاة الوحيد في هذه الدينا.. جاهين الطفل الكبير الذي عشق الحياة، وكان يفرح بالرقص والغناء ويستغرب كيف لهذه الكتلة الكبيرة من الجسم له أن تتراقص ويغني، كان يحب الحياة ويتغنى بها ويرى في الحب قارب النجاة الوحيد:
بحر الحياة مليان بغرقى الحياة
صرخت خش الموج في حلقي ملاه
قارب نجاة. صرخت
قالوا ما فيش غير بس هو الحب قارب نجاه
عجبي..
إن البحث في هذا الديوان الشعري، الذي أنجزه صلاح جاهين باسم الرباعيات، سنجد أنفسنا أمام منطق فلسفي كبير، كيف أنجزه الشاعر في كلمات بسيطة؟ إنه أحد منجزات صلاح جاهين التي لا يمكن بمقال أن يقدمه أبدا:
سمعت نقطة ميه جوه المحيط
بتقول لنقطة تانية
ما تدخليش في الغويط
أخاف عليك من الغرق
قلت أنا.. ده اللي يخاف من الوعد يبقى عبيط
عجبي.
جاهين حالة مصرية عاشقة لمصر وللأمة العربية، لم يتراخ يوما عن الإبداع وأسعدنا بكل ما أنجز.. لم يرتبط إلا بمحبوبته مصر ودافع عن حبه لها.
كان جاهين إنسانا رقيق المشاعر مرهف الحس، كان يجيد التقاط المواهب، ويتبناها مثل: سعاد حسني وأحمد زكي، والكثير من شعراء العامية المصرية، التي فتح لهم أبواب مجلة صباح الخير، وهو أحد مؤسسيها وصانع مجدها الكبير، مجلة للعقول الجريئة والقلوب الشابة كما قلب صلاح جاهين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق