ما بين "الكلباني" والشيخ "بيرة" ونادل الحانة!
سليم عزوز
عندما لم يجد الشيخ محمد سعاد جلال لديه متسعاً من الوقت للذهاب إلى منزله وتغيير الزي الأزهري، فجلس في البار الذي يجلس فيه دائماً، ظن أن النادل سيهرول بالمطلوب دون طلب، كما يفعل مع الزبائن المعروفين، فلما لم يفعل، لم يجد مناصاً من أن يطلب بنفسه: "ستلا مشبرة".
بيد أن المفاجأة في أن "النادل" أخبره "أن هذا ممنوع"، مما أدهش "زبون البار"، الذي رغم كونه أستاذاً في الفقه بجامعة الأزهر، ولديه مؤلفات فقهية معتبرة، إلا أنه يحل شرب البيرة، ويفتي بأن الإمام أبي حنيفة يقول ذلك. وقد كتب رأيه في مقال له بجريدة الجمهورية، وكان يكتب فيها زاوية يومية باسم "قرآن وسنة"، مما دفع الشيخ عبد الحميد كشك للهجوم عليه ووصفه بـ"الشيخ بيرة"!
وقد ارتسمت الدهشة على وجه الشيخ سعاد جلال، وهو يسأل النادل: ما هو الممنوع؟ فكان جوابه أن تطلب "البيرة" وأنت بهذا الزي. وإذ بدا الشيخ متفهماً لهذا المنع، لكن النادل عاجله بالقول: وأن تجلس هنا بالكلية.
ولم يكن المكان بمنطقة باب اللوق باراً خالصاً، فقد كان على عكس الحانات الأخرى يجمع بين المقهى والبار، وقد رأى النادل أنه ليس من المستساغ أن يتواجد الشيخ في مكان يقدم الخمور، حتى وإن كان من يرتدي الزي الأزهري سيطلب حلالاً متفقاً عليه. ولم يكن المنع هنا قانونياً، لكن جلوس سعاد جلال بملابسه الأزهرية رآه النادل في الحانة يجرح الشعور العام، ومن هنا امتنع عن أن يقدم له الخمور، ونصحه بمغادرة المكان!
من المؤسف، أن الشيخ عادل بن سالم الكلباني، إمام الحرم السابق، لم يجد من يتصرف معه تصرف هذا النادل، للحفاظ على مكانته الدينية، إن لم يكن لديه ما يمنع من ابتذالها، وقبوله أن يقوم بدور الكومبارس في عمل دعائي
هذا الكلباني فأين النادل؟
ومن المؤسف، أن الشيخ عادل بن سالم الكلباني، إمام الحرم السابق، لم يجد من يتصرف معه تصرف هذا النادل، للحفاظ على مكانته الدينية، إن لم يكن لديه ما يمنع من ابتذالها، وقبوله أن يقوم بدور الكومبارس في عمل دعائي. فإذا كان يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن، فقد كانت قواعد الضبط الاجتماعي من شأنها أن تمنع الرجل من أن ينحدر بمكانته إلى هذا المستنقع الذي وقع فيه، وكان مثار هجوم واسع عليه. ولا نعرف ماذا استفادت المدنية وأفكار التحرر بهذا السقوط المروع لإمام الحرم الشريف!
وقد ذهب الشيخ الكلباني بعيداً، عندما علق معلق مذكراً إياه بأن موقعه الديني وحفظه لكتاب الله، أفضل من دنيا يصيبها أو شهرة يلهث خلفها، فكان تعليق الإمام الذي يفترض فيه الوقار أن وضع رمزاً ساخراً يخرج لسانه، متجاوزاً في ذلك سلوك من إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم؛ إلى السخرية من النصيحة والتي ليس فيها إلا تذكيره بحفظ القرآن الكريم، وإمامة المسلمين في الحرم. وهو رمز يوحي بأن الشيخ في إمامته كان "منتحل صفة"، كما لو كان قد جاء من ديانة أخرى، واخترق صفوف المسلمين وتخطى رقابهم ليتصدر مشهدهم، فلما ضُبط متلبساً بوضعه الجديد لم يشأ أن يخفي أنه خدعهم!
ليس عندي أي تقدير لمن في حكم الشيخ الكلباني لمجرد أنه كان إماماً في الحرم الشريف، فالاختيار يتم حسب مواصفات حكومية وأمنية بالأساس
ليس عندي أي تقدير لمن في حكم الشيخ الكلباني لمجرد أنه كان إماماً في الحرم الشريف، فالاختيار يتم حسب مواصفات حكومية وأمنية بالأساس، لا يقدم فيها ولا يؤخر أن يكون المختار لهذا الموقع حافظاً لكتاب الله. ومن نافلة القول إننا لم نجد إماماً واحداً للحرم في إمامته هو الأندى صوتاً، فالهيبة للمكان وليست للإمام، وليس من بينهم من هم في جمال صوت الشيخ محمد جبريل، أو الشيخ حسن صالح، وليس من خطباء يوم عرفة مثلاً الذين يستمع لهم العالم كله؛ خطيباً مفوهاً، أو عالماً فصيحاً، وعندما تستمع لخطبة الشيخ الشعراوي في السبعينات في هذا اليوم، ستجد الفرق بين "السما والعمى"!
وحسبي أن أئمة الحرم لم يتم اختيارهم بإجماع الأمة، وليس في اختيارهم بالطريقة المعمول بها ما يؤكد أهليتهم لتمثيلها، وإن تصرف بعض من تولوا المناصب الدينية الكبرى بما يليق بمقام الوظيفة، وإن كان اختيارهم وفق قواعد سلطوية. وانظر إلى الشيخين جاد الحق وأحمد الطيب، يستوي لك الصف!
بيد أن العبء هنا على من اختاروا الشيخ الكلباني لهذا الموقع، وعندما أراد السقوط مكّنوه من ذلك، فلم يجد ما يفعله رداً على من قدموا له النصيحة، التي هي لله ولرسوله ولعامة المسلمين وخاصتهم، إلا أن أخرج لهم لسانه في ابتذال تفوق فيه على ذاته.
واللافت هنا أن من اجتبوه وصنعوه على أعينهم هم من مهدوا له طريق الغواية، ليخرج على مقتضى الواجب الوظيفي، من حيث الاحتفاظ بالهيبة اللازمة لتبوؤ المواقع الدينية، لا سيما إذا كانت في حكم إمامة المصلين في البيت الحرام!
إذا كان في ما قام به الشيخ الكلباني من دور، أو ما يعتقد البعض أنه رسالة ضد التطرف وإعلان للدخول للحداثة من أوسع الأبواب، فيؤسفني القول إنها رسالة أخطأت العنوان
الطريق للحداثة:
إذا كان في ما قام به الشيخ الكلباني من دور، أو ما يعتقد البعض أنه رسالة ضد التطرف وإعلان للدخول للحداثة من أوسع الأبواب، فيؤسفني القول إنها رسالة أخطأت العنوان. ولا أدري مبرراً للترحيب الغربي بهذا التوجه الجديد الذي يصب في اتجاه جماعة دينية بعينها، هي دائما تقوم بدور جامع الحطب من التيارات الأخرى، ولا تتأثر بمثل هذا السقوط. وقد رأينا كيف دفعت بالسلفيين بعد الثورة لإخافة الناس، ليكونوا هم البديل الأكثر لياقة، وكيف أنها كانت تنتظر من يُدفع بهم من أهل الدعوة للتبليغ للمساجد لتكون في انتظارهم ولتملأ لهم الفراغ الديني. وقد كانت الوهابية، أو ما أطلق عليه فؤاد زكريا "الإسلام السعودي"، مجابهاً لعملية التحديث في المجتمعات، وسنداً لأنظمة الاستبداد!
وبسقوط المشروعات لا يهزم التدين، وإنما يندفع في مصارف أخرى. ولا أدري مبرر تثمين الإدارة الأمريكية لهذا التوجه الجديد، وقد خدم التوجه القديم أهدافها من حيث العمل على إسقاط الاتحاد السوفييتي بشعارات الحرب الدينية التي رفعت في أفغانستان؟ أم تراها اقتنعت بأن الإسلام الجديد يمثله خطباء الحرة، ومن إبراهيم عيسى إلى إسلام البحيري، ومن ثم لم تعد بحاجة للمشروعات التقليدية؟! إنها بذلك تكون كمن نقضت عزلها من بعد قوة أنكاثا.
إن سقوط الكلباني سقوط لمشروعه وليس هزيمة للتدين!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق