زمن حفاري القبور
نور الدين قدور رافع
أدى انتشار فيروس كورونا المستجد إلى تفاقم الأزمة الصحية لدى كثير من بلدان العالم، الأمر الذي دفع العديد من الحكومات إلى انتهاج سياسات الإغلاق التام للحد من تفشي الوباء، غير أن المتحورات المستجدة لكوفيد-19 جعلت سياسات الإغلاق والحجر -التي قلبت معادلات السّوق بنظامه العولماتي- داخل دائرة الخطر بسبب التداعيات المخيفة بعد توقف النشاط التجاري والسياحي.
إلى جانب المخاوف المرتبطة بالصّحة البشرية وضعف أنظمة رعايتها الطبية، كانت الهواجس المتعلقة بالاقتصاد تضرب مؤشرات الانهيار في وقت تداعى العالم نحو الإغلاق، وبات العديد من الناس تحت رحمة نظام اقتصادي هش تهدده تقلبات العولمة ونكساتها، مما استدعى بعض الحكومات لاتخاذ إجراءات استثنائية للحد من الانزلاق نحو الفوضى والانفلات الأمني.
في المقابل، نشرت صحيفة الغارديان البريطانية تقريرا عن أرباح قياسية في ثروة 75% من النخبة الاقتصادية وشركات التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي، ضمن ظروف قاسية تعيشها المجتمعات، مما استدعى تساؤلات عن جدوى الإجراءات المتخذة للحد من انتشار الفيروس؟ ومدى أهميتها في ظل هذه التحورات غير المنتهية؟ وتداعياتها الاجتماعية والاقتصادية على الطبقات الدنيا؟
المنعطف النيوليبرالي
كانت الصور المخيفة التي تبثها قنوات إعلامية عن أعداد ضحايا الفيروس تفوق التوقعات؛ الآلاف من البشر يدفنون في صف واحد ضمن سلسلة داخل خندق حُفِر بجرافات ضخمة، تحمل الجثث وتلقيها داخل خنادق متراصة، لينثر عليها سماد يمنع انتشار الوباء. الصورة مؤلمة ومرعبة ممن أربكهم الوضع الذي استحدثه المتحور كورونا، كما أنها لم تختلف كثيرا في بعدها الجغرافي؛ فالصين "الشيوعية" لم تهتم وسائل الإعلام بكثرة ضحاياها، بقدر ما انشغلت بالبدايات التي كانت سببا لظهور الوباء، ومدى شفافية نظامها الصحي للتصريح بالإحصاءات، عقب اتهامات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لها بإخفاء معلومات تكشف عن الحالة الوبائية، مقارنا نظامها الشمولي الذي يستطيع التحكم في المعلومات والمجتمع بالأنظمة الديمقراطية الغربية ذات الشفافية والنزاهة، خاصة بعدما أعلنت الحكومة الصينية مطلع عام 2020 تعديل قوائم الإصابة.
ما أحدثته الجائحة بمثابة تراجيديا تاريخية (استثنائية) شملت عالما مضطربا تغزوه الحاجة، إلا أنها لم تكن بالحجم الهائل الذي تسببت به حروب الإنسان مع الإنسان، وليس بعيدا عن الجرافات التي كانت تحفر القبور لضحايا كورونا، كانت مثيلاتها تنقل الموتى من نعوش الدكتاتوريات إلى خنادق التصفية والإبادة البشرية، الصين بنزعتها الفاشية لم تختلف كليا عن الغرب الداعم للإرهاب المنظم والطغم الحاكمة، بل إن النيوليبرالية في تمكنها وتسلطها كانت أشد إفكا وجرما من أنظمة فاشية وظيفتها التمسك بالحكم وقتل الإنسان، وبدل إيقاف الجرائم المنتهكة بالحق الإنساني، يتذرع الغرب بأبخس الحجج معللا تغاضيه اللاأخلاقي بإمكانية محاسبة المجرمين مستقبلا.
الصين والهند مع انتهاكاتهما الجسيمة ضد المسلمين طيلة عقود، تستلهمان دروس التصفية البشرية من الغرب في تعامله اللاإنساني مع تهجير الآلاف من البشر من أفريقيا والشرق الأوسط، ضمن حروب غايتها الأولى القضاء على أي طموح عربي ديمقراطي مستدام، وإلى وقت غير بعيد كانت نهضة الصين الاقتصادية تمثل النموذج الاشتراكي الأنجح والأبقى، إلا أن الواقع الاقتصادي والاجتماعي يثبت بما لا يدع مجالا للشك مدى هيمنة الرأسمالية المتوحشة على التوجه الصيني لخلق ورشة اقتصادية مهمتها تمكين السوق العالمي بعمالة أكثر رخصا.
الوضع ذاته في الغرب مع إمكانية التحول إلى ذوات مستلبة الإرادة في الاختيار، بسبب أن نظام العولمة والتكنولوجيا المتسارعة لم تترك "مجالا طبيعيا" بين ما هو سيء وجيد، لتجعل من الأسوأ نموذجا للتحرر والحداثة والديمقراطية، وبدل تقليم التوحش الرأسمالي المأزوم بسبب تفشي فيروس كورونا، يتوقف العمل على تحرير الشعوب من جرافات الاستهلاك والتبعية للنيوليبرالية، بالعمل على مزيد من التذمر والتمرد لسياسات السّطو الممنهجة والإجراءات العبثية لصد الوباء، من ذلك الإجبار غير الأخلاقي لتلقي اللقاح والعمل على ربطه بالحياة العامة للأفراد، دون الاهتمام بتطوير منظومة الرعاية الصحية، التي تدفع الطبقات الاجتماعية الهشة حصتها من دخلها المحدود، ضمن اقتطاع ضريبي لترقية القطاع ضد الحالات الطارئة والحرجة.
ما يحدث في الغرب من تجاوز لاأخلاقي للعلاقات الإنسانية بين الحكومات والمجتمع، هو تجسيد فعلي للنظرة المستقبلية عن سقوط الرأسمالية إلى أدنى مستوياتها من الاستغلال والهيمنة، فثمة انتقال متسارع نحو اقتصاد رقمي يسود بموجبه سادة وادي السيليكون على القرار السيادي للدول، ويكفي أن يحدد "بيل غيتس" طبيعة الحروب المستقبلية التي تنتظر العالم، كي تبدأ المساومة على عدو منتظر لا يتمثل في الفيروسات القاتلة، بقدر ما سيتم تداول تحذيراته على أنها بداية حرب باردة للاستحواذ على القدرات التكنولوجية لتطوير الفيروسات ولقاحاتها.
مستقبل البشرية مرهون بنخبة تعبث بالتوازن الطبيعي متربعة على عرش التبادلات التجارية والمالية والتفوق التكنولوجي، وهي النخبة ذاتها التي دعت الحكومات إلى مؤتمر المناخ بالمملكة المتحدة للحد من انبعاثات الدفيئة، في تناقض يستبشر كثيرون أنه بداية النهاية للرأسمالية الغربية، بينما هو في الواقع أحد أهم تحوّرات الرأسمالية الغربية التي تقتات نخبتها من صمت البروليتاريا والمهجرين.
يبدو الأمر أكثر صعوبة لتغيير واقع مأزوم بتهافت القلة نحو اكتساب واحتكار القوة، إلا أن رفض شعوب العالم الإجراءات التعسفية طيلة عامين من الوباء، لم تكلل عودة الاحتجاجات والانتفاضات فحسب، عكس ما روّج لها الإعلام الغربي من مزاعم عن "رفض تلقي اللقاح"، بل ضد قمع الحريات والسطو المستمر باسم الصّحة العامة على الخصوصية الفردية، فقبل أن تضرب الجائحة كانت حركة السترات الصفراء تجتاح أوروبا طلبا لاستعادة حقوق العمال وأموالهم المنهوبة من قبل مؤسسات الاتحاد الأوروبي، ضمن حراك عمّالي طلابي قالت عنه صحيفة "لوفيغارو" من أن التصنيف السياسي له عملية معقدة، لما يتخللها من الكثير من المطالب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، الأمر الذي استدعى السلطات الفرنسية لمواجهتها بشكل عنيف، بعدما اتهمت الفوضويين والشعبويين بمناهضتهم للديمقراطية، عقب حمل لافتات تدعو لاستقالة إيمانويل ماكرون والانفصال عن الاتحاد الأوروبي، الذي أظهرت مؤسساته مدى فشلها في مواجهة تحديات كورونا، لتنكفئ دوله على حدودها القومية والبحث عن بدائل للمؤسسات المالية الأوروبية، لرفع الأعباء الملقاة على قطاعيها الصحي والاجتماعي.
حيث المتحوّر المستبد
عربيا، تبدو مسألة تحرير المنطقة شكلا من أساطير التراجيديا التي تحمل في سرديات أدبياتها نوعا من الجنون والإثارة، الكثير من الموت والتهجير والتعذيب، مقابل الحصول على واقع أو مستقبل يمكّن للأجيال الحالمة العيش بكرامة إنسانية، فثمة منتفضون يَعْبُرون المستحيل نحو تحقيق طموحات شعوبهم لنيل الحرية والعدالة، وآخرون وإن اختاروا المنافي كرها لا طوعا فأنهم آثروا ركوب قوارب الموت على أن يحرقوا أوطانهم.
لم يكن العالم العربي بحاجة إلى ويلات الطبيعة كي تقوم جرّافات القبور بحمل الآلاف منهم نحو أجداثهم، فقد علقت الطغم الحاكمة المشانق وأكثرت السجون طمعا في المزيد من الخوف والقهر، مصطنعة دولا هشة ينخرها الفساد والظلم في كل زاوية من مؤسسات الدولة، وحينما لاحت بوادر التغيير في عواصم عربية، تنادى حفارو القبور على أتباعهم أن اقتلوا وما من رقيب أو حسيب، متغاضين عن جرائم كلاب تحرس حدائقهم الجنوبية.
ألم يكن حرق البوعزيزي لجسده حدثا مؤلما وكافيا لتضحيات الشعوب العربية؟ أم أن حرب اليمن وسوريا وليبيا رسمت الصورة الحقيقية للدكتاتوريات العربية وسياساتها الخاشقجية المرعبة ضد الإنسان؟ الكثير من الضحايا مقبورون بلا اسم ولا وهوية.. ولا حتى وطن، وما من شفيع لهم سوى المستقبل الذي يحمل تطلعات شباب يجوب الشوارع والميادين لاستكمال الثورة.
لم تنتفض شعوبنا العربية ضد الأوضاع المعيشية المزرية كما تزعم النخبة التي ظلت سنوات ترضع ثدي السلطة، بل ثارت على نموذج استعماري قمعي مستمر في تعاطيه اللاحضاري واللاأخلاقي مع الإنسان، وبدل رفع شعارات "ثورة الخبز" وما قرُب إليها من دعوات مماثلة تبخس الوعي العربي الثوري، كانت "حرية حرية" و"تتنحاو قاع" و"ارحل" صرخات تلخص جوهر الربيع العربي الذي زلزل "نظاما معرفيا سُلطويا" استمر عقودا منذ الاستقلال في استغلال الثروات الوطنية لصالح الامبريالية الغربية.
وبالنظر إلى حجم المآسي والتضحيات للمغيبين والمهمشين، فإن الوضع اللاإنساني للحضارة يشكل أسمى تجليات الهيمنة والسطو النيوليبرالي، حيث يكافح المهاجرون غير النظاميين على حدود الاتحاد الأوروبي، البحث عن طريق آمن بعيدا عن أوطانهم التي خربتها الآلة العسكرية الغربية وحلفاؤها بالمنطقة، غير أن حفاري القبور يأبون فتح المعابر والحدود للزاحفين نحو الحلم الغربي، في وقت تتعالى فيه أصوات يمينية متطرفة، تجد في حكومات أوروبية ملاذا سياسيا لإقرار قوانين الفصل العنصري ذات الطابع الأمني، بمقدور حفاري القبور تشييد الخنادق للآلاف المؤلفة من ضحايا كورونا، مقابل رفضهم التخلص من هوسهم بالاستحواذ والسيطرة، فجرافاتهم الضخمة لم تعد تخفي جشع الرأسمالية الموغلة في استعباد الإنسان والحضارة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق