الاثنين، 15 نوفمبر 2021

المنتج العربي الوحيد

 المنتج العربي الوحيد

علي أبو هميلة

اللغة واحدة من أهم وسائل التواصل البشرية، وهي ثاني وسيلة أنتجتها البشرية بعد لغة الإشارة والصوت، وبانتقال البشر من التعامل بالإشارة والصوت، وبإنتاج اللغة دخلنا إلى مرحلة جديدة في التطور التاريخي للتعامل البشري.

كانت اللغة هي طريقة التعامل الرابعة للبشرية، بعد الإشارة والصوت المبهم والصورة أو الرسم، وكان العرب أصحاب لغة إعجازية دائما، خاصة في شبة الجزيرة العربية التي اشتهرت معلقاتها بين القبائل في عصور ما قبل الإسلام، وقبل التواصل مع أطراف الجغرافيا حول الجزيرة، ومع المعلقات ذاع الشعر العربي ومقولات الحكمة والمعاهدات بين القبائل التي كانت تكتب بلغة فريدة.

نزل القرآن الكريم باللغة العربية، وكانت اللغة هي المعجزة في الكتاب السماوي، فقد أعجزت اللغة القرآنية أهل اللغة من العرب، عن أن يأتوا بآية من مثله، واستمر هذا الإعجاز حتى يومنا هذا، فلا يزال الكثيرون يقفون عند آيات معينة وكلمات في كتاب الله المحفوظ الكريم، عاجزين عن فك ملامح الإعجاز فيها.

في مصر: كانت اللغة قديمة العهد قدم التاريخ المصري، وعلى جوانب وحوائط المعابد المصرية نجد اللغة المصرية القديمة متفردة، ومزجت اللغة بين الحروف الهيروغليفية والصور إذ أبدع المصريون في الرسوم التي تشرح معنى الكلام، وكذلك في توثيق حياتهم، ولعل أبرز ما ترك لنا من تراث اللغة المصرية القديمة (شكاوى الفلاح الفصيح)…

هي بردية شهيرة تحكي لنا مظلمة فلاح مصري فقير من جابي الضرائب، الذي أخذ حماره -وهو كل ما يمتلكه- ضريبه، فلجا الفلاح إلى القصر والملك يشكو مظلمته بلغة فريدة، أعجبت الملك فتركه في باب القصر، يكتب شكواه اليومية حتى بلغت عشر مظالم، أصبحت تراثا فريدا في الشكوى من الظلم، وقد أخرج المخرج المصري شادي عبدالسلام قصته في فيلم قصير يحمل نفس الاسم (شكاوى الفلاح الفصيح).

السؤال الذي يطرح نفسه الآن في ظل الكلام الذي أصبح المنتج العربي الوحيد، في هذه المنطقة الممتدة من المحيط للخليج، فيما عدا بعض الهبات هنا وهناك على فترات، هل كان  العرب لا يفعلون شيئا إلا الكلام؟

هل أنتجوا كلاما وفقط، ألم تكن هناك رحلات البيع والشراء (رحلتا الشتاء والصيف)؟ هل كانت هذه الرحلات تحمل على ظهور الإبل كلاما؟ أم منتجات عربية من شبة الجزيرة العربية؟ هل كانت تعود من بلاد الشام بكلمات، أم بمنتجات منها مثل الملابس والأغذية؟

 هل ترك المصريون القدماء كلاما ورسوما على الجدران فقط؟

ألم يصنعوا أدوات حياتهم وحليهم، وبنوا وشيدوا معمارا، يقف أمامه العالم مذهولا بتفرده بين بنايات العالم القديم؟ ألم يدركوا الجغرافيا، والفلك والهندسة والكيماء؟ ألم يقدموا للعالم منجزهم الحضاري الفريد؟

الجزيرة العربية التي أبدعت بعد الإسلام، أمة ناهضة كبيرة أنتجت العلوم، وقدمت للبشرية ما لم يقدمه أحد، في وقت كان الظلام يعم العالم غربا وشرقا، وقدم علماء العرب الرياضيات والطب والكيمياء والفنون والعلوم لكل البشرية.

نعم كان هذا الحال، فلماذا أصبح المنتج العربي الوحيد الآن هو الكلام؟ لم نعد نقدم للعالم ولأنفسنا الا كلمات، لا تسمن ولا تغني من جوع، نعم الكلام مهم، ولكن بجانب الكلام هناك الفعل الذي يدل عليه، فاترك لنفسك ساحة من الوقت وفكر معي: ماذا ينتج العرب الآن غير الكلام؟

هل ننتج علوما نقدمها إلى العالم؟ هل ننتج تكنولوجيا نواجه بها التقدم العلمي؟ هل ينتج العرب سلاحا يدافعون به عن أنفسهم؟ هل ينتج العرب طعامهم وشرابهم وملابسهم؟ ستحتار كثيرا كما تحيرني تلك الاسئلة طويلا.

أغرب ما يمكن أن تواجهه الآن، أن تتعرف على الكلام العربي المنتج من العرب، وسكان هذه المنطقة في تلك اللحظة، انظر معي في أهم هاشتاجات عربية خلال الفترة الأخيرة أو تابع بماذا تكلم المصريون في الآونة الأخيرة؟

سنتعب أنا وأنت لنجد موضوعا له أهميته العلمية، أو الاجتماعية، أو الاقتصادية خلال السنوات الأخيرة، صارت وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة (الهري) كما يقول لي صديقي الآن.

في مصر أصبحت الحياة بين المساء والسهرة هاشتاج، ثم نوم ثم هاشتاج ليلى (وكما يقول المثل المصري كلام الليل مدهون بزبدة يطلع عليه النهار يسيح).

هكذا حتى لو كان الكلام له قيمة فعلية، كنت أفسره دائما بأنه في الليل يتم تفريغ شحنات التفاعل مع الأحداث، وفي الصباح ينسى المصريون ما قالوه ليلا ويغرقوا في مشاكلهم.

وقد استطاعت الحكومات في وطننا السعيد استغلال حالة الكلام الليلي! فأصبحت تتفن بمساعدة إعلاميين لديها في إنتاج حالة كلام ( نتاج لغة) فاصبحنا نطير وراء (تهنئة النادي الأهلي للاعبه السابق محمد ابو تريكة بعيد ميلاده)، أو ( دخول إبراهيم عيسى صيدلية ليجد صيدليا يقرأ في كتاب الله، ولا يقرأ في كتاب علمي)، أو (مسرحية المومس الفاصلة لسارتر والتي تنوي تقديمها الفنانة المصرية الهام شاهين).

 لنمضي ليلنا في كلام عن هذا، أو تلك ونطلق هاشتاجات لا نملك الآن إلا إنتاجها.

هكذا يصير الكلام منتجنا الوحيد بين كل الأمم، ولا نساهم في إنتاج أي منتج آخر،
فهل يُنفخ في هذه المنطقة نفحة جديدة؟، يطلق طاقاتها الكبيرة ويعيدها سيرتها الأولى قادرة على أن تنتج شيئا غير الكلام واللغة.

كانت ثمة هبة حدثت في أول العشرية الثانية في القرن الحادي و العشرين، بانتفاضة الربيع العربي وأُجهضت، ومازالوا يحاولون مع بقاياها.

ثمة بقعة ضوء بالسماء العربية في مايو الماضي، بعملية سيف القدس التي قدمت نموذجا عربيا فريدا، في إنتاج السلاح والتخطيط والأمل في النصر، نعم نستطيع ولكن نحتاج إلى من يريد.

صديقي ينتج شيئا غير الكلام

صديقي طبيب استشاري باطنة في مصر، يعمل في مستشفى عزل يقاوم المرض ساعات طويلة من النهار والليل، يشرف على أقسام العزل ويواجه المرض كل يوم، والموت كذلك..
لكنه لا يتوانى عن البحث العلمي، يتطلع إلى الدوريات العلمية يترجمها ويقدمها للمتخصصين أو العامة من معارفه.

تنشر عنه الصحف والمواقع الإخبارية ترجماته العلمية ومتابعاته، أما المفاجأة الكبرى فهي أنه كاتب قصة قصيرة، ويكتب في الأحداث السياسية، ويترجم تقارير سياسية، واقتصادية من دوريات عالمية ومتخصصة، وفي ذات الوقت لا يتأخر عن أداء عمله كطبيب.

استغرب كثيرا من أين يأتي بكل هذا الوقت في يومه؟
ولكنه نموذج للإنسان العربي والمصري حين يريد أن يقدم منتجا يفيد أمته والعالم غير الكلام، أعتقد واثقا أن هذه الأمة فيها نماذج بلا حصر مثل صديقي ..
علينا فقط أن نمتلك الإرادة العربية اللازمة لمنحهم الفرصة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق