لو نكون أكثر جدية!
"أفضل وسيلة كي تتعايش مع المساء هو أن تعامله مثل النهار. لو أني أجد أناساً ليس لديهم شيء يفعلونه غير الكلام معي عن أي أمر طوال الليل، ونبقى بحالة صحو في المساء الطويل. لدي شعور بكوني صرصاراً كتب عنه كافكا في وهم المسخ".
كاتب الفقرة السالفة هو الراحل اليساري توني جودت، من أشهر مؤرخي الفكر في القرن العشرين عن تاريخ أوروبا، كتب كتابه الأخير عن سيرته الذاتية "شاليه الذكريات"، وهو يصف في تلك الفقرة حالته مع مرض إيه إل إس ALS، وهو مرض قاتل يشل الأعصاب أو العضلات، ويحيل الإنسان إلى جسد لا يعمل فيه غير عقله الواعي. مات توني بعد ذلك بفترة بسيطة، ولعل أشهر كتبه "عبء المسؤولية"، الذي يتحدث فيه عن مسؤولية المثقف تجاه قضايا العالم.
أما أوليفر ساكس، عالم الأعصاب والكاتب الشهير، وكتبت عنه مرة في مقال "من حيلي لقبيري"، فقد كتب في مقال له بـ"نيويورك تايمز" يصف فيه حاله بعد علمه بقرب أجله بعد انتشار السرطان في جسده "... كنت محظوظاً، فقد عشت عشر سنوات مع المرض وأنا بكامل وعيي، وعندما يموت أحد من المعاصرين من جيلي أشعر بانقطاع في وتيرة حياتي... كل إنسان متفرد في جيناته وذاته، وعندما يموت لا يمكن تعويضه بآخر..."، لم ينتظر أوليفر القدر للحظة وفاته، فقد أنهى حياته عن عمر يقارب الثمانين، ومن كتبه الجميلة "الرجل الذي أخطأ زوجته بقبعته"...! هل تتصور أن تخطئ زوجتك بعقالك أو كوفيتك بعد سنوات طويلة من نمطية الحياة الزوجية! رغم معاناة أوليفر مع المرض لكنه ظل متفائلاً بالحياة التي عاشها حتى آخر لحظة من عمره.
المسرحي الراحل سعد الله ونوس يبدو أكثر واقعية وتشاؤماً في أسئلته الوجودية عن نهاية الإنسان، فهو يبدي حنقه عن قدره مع السرطان اللعين، يتساءل سعد بعد أن أبلغه الطبيب بقرب النهاية
"... ما معنى الشجاعة؟ وماذا تفيد الشجاعة رجلاً تقرر رحيله؟ ولماذا ينبغي أن أكون شجاعاً؟ لماذا لا يحق لي أن أنهار، وأن أعول، وأن أبكي كل سوائلي... ذرفت دمعتين يتيمتين لم أجد بعدهما ما أذرفه. أليس العجز عن البكاء هو جزء من هذا الخواء الداخلي الذي كان يهيئ موتي، ويعلن عنه...". وختم سعد الله ونوس رأيه في معنى الوجود "... لقد حاجج أيوب ربه، أما أنا فمن أحاجج، وليس لدي غير هذا اليقين الموحش... من الظلام جئت وإلى الظلام أعود".
الكتابة من الأدباء والشعراء والمفكرين عن الرحيل النهائي طويلة، كثير منهم شخصوا الحياة بجدية، وعاشوا بتعبير هايدغر "بوجود أصيل" عن زمانية الكينونة، هم لم يتيهوا في شؤونهم اليومية، لم يضيعوا في شواغل الحياة والكثير من توافه الأمور... ماذا أشتري، لو أني أحصل على كذا وكذا... ماذا غرد فلان عن هذا أو ذاك النائب.... شوفوا ماذا كتب هذا في "واتساب"...؟ شبابنا ينسون النهاية وهذا أمر طبيعي، لكن على الأقل لندعوهم إلى أن يكونوا أكثر جدية مع خواء واقعنا في دولة بني بشت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق