يقول الخبر الذي نقله موقع "أكسيوس" الأميركي إن وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، "طلب من إسرائيل حثّ جيش السودان على إنهاء الانقلاب العسكري". ويقول خبر آخر نقله موقع "والا" الإسرائيلي إن "وفدا إسرائيلياً ضم عناصر من جهاز الاستخبارات (الموساد) زار العاصمة الخرطوم سرّا، بعد أن أعلن الجيش استيلاءه على السلطة". وأبلغ دبلوماسي غربي الموقع أن الوفد الإسرائيلي اجتمع مع الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي)، نائب رئيس مجلس السيادة السوداني ومسؤول قوات "الدعم السريع" في الخرطوم. كما أن حميدتي، والذي يرتبط بعلاقات جيدة مع "الموساد"، كان قد زار إسرائيل قبل أسابيع من الانقلاب على رأس وفد عسكري سوداني، وأجرى اجتماعات مع مسؤولين في مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، ومع جهات أخرى في ديوان رئيس الحكومة الإسرائيلية في تل أبيب.
هكذا، أصبحت إسرائيل، التي عُقدت لأجل مواجهتها قمة عربية طارئة في الخرطوم في التاسع والعشرين من أغسطس/ آب عام 1967، عُرفت وقتها بقمّة "اللاءات الثلاث" (لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض) مع "العدو الصهيوني" (هكذا كان يسمّيه أصحاب الجلالة والفخامة والسمو والسيادة من القادة العرب آنذاك!)، هي خط الدفاع الأساسي عن الأنظمة السلطوية العربية، وذلك في مواجهة شعوبها وشبابها. كما باتت إسرائيل أيضا، ويا لها من مفارقة، الوسيط الموثوق فيه للتدخل، والتوّسط، بين قادة "الجيوش" العربية وجيوشها من جهة، وفصائلهم ونخبهم المدنية من جهة أخرى. وبالقطع، ليس هذا حُبّا أو حرصاً منها على الديمقراطية، وإنما بالأساس خوفاً منها على عروش حلفائها السلطويين في العالم العربي. وهي مسألة لم تعد في حاجة لأدلةٍ كثيرة لإثباتها. فالوساطات، والضغوط، الإسرائيلية على أميركا من أجل تثبيت أنظمة حكم هؤلاء السلطويين وسلطتهم، ودعمهم، لا تُعدّ ولا تُحصى، وذلك إلى الدرجة التي باتت فيها الطريق إلى الحكم والسلطة في بلاد العرب لا بد وأن تمرّ عبر تل أبيب!
إسرائيل ليست "جمعية خيرية"، وقطعاً ليست "بابا نويل" الذي يوزّع الحلوى والهدايا مجّاناً، ولكنها دوماً تقبض الثمن ومقدّما، لقاء الخدمات التي تقدّمها للدكتاتوريين العرب
خُذ الحالة المصرية، مثلاً، وهي الأكثر فجاجة ووضوحاً فيما يخص نفوذ إسرائيل ودورها في تثبيت حكم السلطويين العرب، وفي أكبر وأهم دولة عربية، وهي مصر. لولا الضغط الإسرائيلي، غير المحدود، وبالتنسيق الكامل مع أشقائهم وحلفائهم الإماراتيين، على إدارة أوباما، لما نجح الجنرال عبد الفتاح السيسي في انقلابه في الثالث من يوليو/ تموز 2013، ولما استقرّ نظامه السلطوي على مدار السنوات الثماني الماضية. ولولا سيطرتها التامة وتحكّمها في البيت الأبيض خلال فترة رئاسة ترامب، لما أصبح السيسي "ديكتاتور ترامب المُفضّل". أما أحدث المؤشّرات في هذا الصدد، فهو ما قرأناه أخيراً من تصريحات لرئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد، نفتالي بينت، نقلاً عن موقع "أكسيوس" الأميركي، يحذّر فيها الرئيس الأميركي جو بايدن، في أثناء لقائهما في البيت الأبيض، أوائل سبتمبر/ أيلول الماضي، من توجيه انتقاداتٍ إلى كلٍ من مصر والسعودية بخصوص مسألة حقوق الإنسان. وفي الأغلب الأحوال، فإن بايدن سيفعل! أي أن إسرائيل قامت، ولا تزال، بتطويع ثلاث إدارات أميركية، وتوجيه بوصلتها، من أجل تثبيت نظام السيسي وحمايته.
هكذا، مرّة واحدة، أصبح بينت، ومن خلفه اللوبي الصهيوني في أميركا، المنافحين والمدافعين عن أنظمة عربية لا تتردّد في اختطاف معارضيها وقتلهم بالرصاص الحيّ، ولا تتورّع عن تقطيعهم، وتذويب جثثهم بحامض الأسيد كما حدث مع الصحافي السعودي الراحل، جمال خاشقجي.
السؤال المهّم: ما المقابل الذي تحصل عليه إسرائيل من دعمها السلطويين العرب؟ وما الثمن الذي تدفعه الشعوب العربية نظير هذا الدعم؟ أما المقابل فهو كثير وكبير وغير مسبوق، فإسرائيل ليست "جمعية خيرية"، وقطعاً ليست "بابا نويل" الذي يوزّع الحلوى والهدايا مجّاناً، ولكنها دوماً تقبض الثمن ومقدّما. وهل بعد التحكّم في سياسات أكبر عاصمة عربية وقراراتها مكسب؟ وهل بعد السيطرة على مقدّرات دول وثرواتها نجاح؟ وهل بعد لقاءات التطبيع وحفلاته واتفاقاته، مع ما يقرب من ربع عدد البلدان العربية، جائزة؟ وهل بعد تدجين نخب سياسية وإعلامية عربية شابة من حلم؟
أصبحت إسرائيل، وبشكل لا لبس فيه، الملاذ والحصن الآمن الذي يحمي عروش السلطويين العرب، من المحيط إلى الخليج
أما الثمن فهو أيضا كثير وكبير وغير مسبوق، فقد دفعت قطاعات عريضة، من المجتمعات العربية، ولا تزال، أثماناً باهظة نتيجة لإجهاض حلم الحرية والتغيير على مدار العقد الماضي، ورغبة سياسيّيها وقادة جيوشها البقاء في السلطة بأي ثمن، وبأية تكلفة، ولو كانت النتيجة تدمير الدول وتقسيم المجتمعات وسحق الشعوب. فعلى مدار السنوات الماضية، سقطت دول عربية كبيرة، وقُسّمت مجتمعات ظلت قرونا طويلة موحدة ومتماسكة، وهُجّرت شعوب بأكملها، واشتعلت حروب أهلية، واستباحت إسرائيل العواصم العربية من المحيط إلى الخليج استخباراتياً وأمنياً وسياسياً واقتصادياً. وباتت أقرب إلى السلطويين العرب من أبناء جلدتهم، فالحكام العرب يثقون الآن في نظرائهم الإسرائيليين أكثر مما يثقون في نخبهم وشعوبهم. ويبدون أكثر حرصاً على إرضاء مطالب ساسة تل أبيب وتلبيتها أكثر من حرصهم على تلبية مطالب مجتمعاتهم وشعوبهم. وقد وصلنا أخيراً إلى النقطة التي بات فيها إرضاء المواطن الإسرائيلي، أو بالأحرى استرضاؤه، بنداً مهماً على أجندة السلطويين العرب. وقد سمعنا ذلك مراراً وتكراراً في خطابات جنرالات وحكام عرب يدافعون فيها عن "مصالح" المواطن الإسرائيلي و"أمنه"، أكثر من دفاعهم عن مصالح مواطنيهم وحقوقهم.
إذاً، نقف الآن، أمام "تحالف للشياطين" لا يبقي ولا يذر. وهو تحالفٌ باتت حلقاته واضحة، وتتكشف سوءاته كل يوم وفي كل المحافل، فلم يعد المحور الرباعي للثورة المضادّة (مصر والإمارات والسعودية وإسرائيل) يخفي أجندته وأهدافه، بل يجاهر، ويتفاخر بها علناً، "على عينك، يا تاجر" كما يٍقال.
وقد وصل هذا التحالف إلى مرحلته الأكثر خطورة، وذلك بعد أن أصبحت إسرائيل، وبشكل لا لبس فيه، الملاذ والحصن الآمن الذي يحمي عروش السلطويين العرب، من المحيط إلى الخليج. ولكنه وبدون شك سيكون الملاذ الأخير لهؤلاء في مواجهة شعوبٍ عطشى للحرية والكرامة والعدل، وهو ما يجعل معركة الحرية والتحرير من هؤلاء جميعاً معركة واحدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق