سلالم وأرانب
أحمد عمر
لمّا رأيتُ السلًّم الخشبي جاسرا الجدار بالأرض، والعابرين يصعدون لقطف ثمار المعالي، تذكّرتُ أول رسمٍ في التاريخ المصري، وظننت كلَّ الظنِّ أنَّ الصورة في الأرض المحتلة، فالاحتلال رائدٌ في بناء الأسوار والحصون، ثم علمت أنَّ الجدار في "قاهرة المذلِّ"، وأنَّ السلّم أصبح جسر أهالي منطقة المرج شرقي القاهرة إلى الطريق الدائري، وأنّ صورته أثارت جدلًا كبيرًا على مواقع التواصل الاجتماعي.
هدم النظام المصري بعض المنازل اقتداء بالمحتل "الكريم"، فجرف الدرج الخرساني إلى الطريق الدائري، وعلمت أنّ الإدارة الذاتية في سورية قد حظرت على أهل الجزيرة السفر إلى مناطق النظام إلا في حالات الضرورة القصوى بسلّم خشبي أيضا، وكأنَّ النظام دولة العدو مع أنهما يعيشان "قصة حب لا تنتهي"، وبينهما ابن حرام أيضًا، والغرض هو الحجْر السياسي على السوريين، فأصل الطغيان هو العوز كما ورد في أمهات كتب السياسة، مثل "الأمير" لميكافيلي ورواية جورج أورويل الشهيرة "1984" وغيرها من أمهات الكتب وخالاتها.
غضب سجين سابق من إطلاق وصف السجن الكبير على الوطن اقتباسًا من السجن الصغير، فذكّرنا بأنَّ المرء في السجن الكبير يستطيع أن يتزوّج وأن يقرأ، وقد يجد عملًا مثل البيع على بسطة، وليس في السجن الكبير تعذيب، وإنْ كان الانتظار عذابًا، وكاد أن يقول: عذاب الظلم أحلى عذاب، وهو رأيٌ لا يخلو من وجاهةٍ وسداد. ويعلم بعضنا أن ثمّة سجونا في أميركا اللاتينية تشبه أوطاننا، فهي قرى صغيرة محاطة بالأسوار، يعيش فيها المجرمون مع أسرهم في تبات ونبات، وفي شوارعها عربات، والخبز مبذولٌ من غير طوابير وحصص وبطاقات ذكية. ولم تكن الحواجز والأسوار في بلادنا الأبيّة أكثر مما هي الآن، حتى في الأوطان الناجية من الحروب الأهلية الإجبارية، أو الغارقة في حروبٍ أهلية صامتة. وهناك أنواعٌ من الحواجز، مثل الحواجز الراجلة، والحواجز الطيّارة، والحواجز المائية مثل ترعة السويس. وما دمنا ذكرنا قناة السويس، فإنّ عاشق الفكّة قد أفرط في بناء الجسور العازلة بين أبناء الشعب بعد شطره إلى شعبين، لكل منهما ربٌّ كما جاء في أغنية شهيرة لأحد مطربيه، فالمشير يبحث لنفسه عن منزلةٍ أو مدينةٍ إدارية في التاريخ يذكُره بها الناس ويحمدونه عليها، وقد نقلت لنا الصور والشاشات جسورًا عالية تشبه السد الذي بناه ذو القرنين حجزًا لقوم يأجوج ومأجوج المفسدين في الأرض، بناها "الفكّة" من أجل حجر المصلحين في الأرض.
غلظت الحواجز بين الدول، واضطرّ رؤساء دول كثيرة إلى بناء أسوار حول البلاد، منها أميركا وبولندا وإسرائيل، وقد عبرتُ الحدود التركية بسهولةٍ في مبتدأ الثورة وبيض الهند لا تقطر من دمي، ثم ما لبثت الحكومة التركية أن حصّنت حدودها بالأسوار الخرسانية، بعد أن كثرت العمليات الإرهابية، وقد حالت بين النازحين وأوروبا أسلاك شائكة نصبتها بولندا على حدود طويلة طولها أربعمائة كيلومتر.
أحسنَ العراق إذ بادر إلى استعادة بعض من مواطنيه المهاجرين، ولو كانت حكومة خير ما فارقها أهلها بحثًا عن حياة جديدة في بلاد الأعاجم، أما رئيس فراطة سورية، فقد رحب بنزوح نصف الشعب استبشارًا بتجانس شعبه غير المتجانس، وانتظرتُ أن تبادر دولة كريمة، مثل كندا أو أستراليا، إلى إرسال طائرة تغيث بها النازحين العالقين على حدود بولندا، لتستفيد منهم في زراعة بلادها الواسعة، لكن لا يحنّ على العود إلا قشره، والعود أمسى من غير قشر.
عبر صاحب كتاب "تُحفة النُّظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" ثلاث قارّات، قاطعًا خمسة وسبعين ألف كيلومتر من غير جواز سفر، وكان يُستقبل استقبال الملوك، كما يستقبل جورج غالوي الآن في الدول العربية من غير تأشيرة، فلكل زمانٍ دولة ورجال، وقد ارتفعت الأسوار بين القرى والأحياء، حتى بين البشر، ثم جاء فيروس كورونا فمسخ الناس ومحا الوجوه، ولم نعد نرى من بعضنا سوى العيون التي ليس في طرفها حور.
لامَ كثيرون "سائق" السلّم الخشبي المصري وعاتبوه على جباية الأجور من متسلقي السلم المذكور، ونسوا أن الخط الأعوج من الثور الكبير. أما الرسم الفرعوني القديم الذي ذكّرني به السلّم، فكان صورة لغرابٍ يصعد السلّم!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق