بيجوفيتش.. مسلم صلب أمام أعاصير الغربباحث في التاريخ والحضارة الإسلامية
يمثل الرئيس المجاهد والمفكر المتميز علي عزت بيجوفيتش نموذجا متميزا للمسلم الذي استوعب الثلاثية التي ينبغي أن يحوزها من أراد فهم الغرب: الإسلام، الغرب، الفوارق بينهما. وهذا مع أنه نشأ في الغرب لا في الشرق، مما يدعم ما ذهبنا إليه من أن الاستغراب في حقيقته ليس مفهوما جغرافيا.
الإسلام بين الشرق والغرب
ويعَدّ كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب” نموذجا في شرح ما نعنيه من تأسيس الأصول لعلم الاستغراب،
ولا أحسب أحدا يبحث في مجال الفكر والحضارة يسعه أن لا يقرأ هذا الكتاب لما فيه من عمق ورسوخ ودقة نظر وسمو فهم،
ثم هو بعد ذلك قد صيغ في عبارات سلسلة ومبسطة(1) نقلت المعنى العميق الدقيق في ثوب رفيق رقيق.
وُلِد علي عزت بيجوفيتش في مدينة “بوسنة كروبا” شمال غرب البوسنة،
وكانت وقتها جزءا من الاتحاد اليوغسلافي، عام 1925م،
واندرج في النشاط الإسلامي منذ كان في الخامسة عشرة من عمره،
وأسس جمعية “الشبان المسلمين” في ظل الهيمنة الشيوعية لجوزيف تيتو على يوغسلافيا،
فذاق السجن وهو في الحادية والعشرين لمدة ثلاث سنوات لأجل مقالات كتبها يدفع فيها هجمات شيوعية على الإسلام والمسلمين،
ثم سجن مرة أخرى في عهد جوزيف تيتو بتهمة أنه ضد الشيوعية حتى أفرج عنه عام 1954م،
وكان في التاسعة والعشرين من عمره، عمل بعد هذا محاميا حتى أكمل دراسته العليا في القانون عام1962م،
ثم سجن مرة ثالثة بتهمة أنه يريد إنشاء دولة إسلامية واحدة من خلال مقالاته التي جمِعت في كتابه “الإعلان الإسلامي”،
فحكم عليه عام 1983م بالسجن لمدة أربعة عشر عام، لكنه قضى منها ستة فقط ثم أعيدت المحاكمة مع ضعف النظام السياسي الشيوعي قبيل انهيار الاتحاد السوفيتي.
الخروج من السجن وانهيار الاتحاد السوفيتي
ولما خرج من السجن أنشأ حزب العمل الديمقراطي عام 1989م، ليكون سبيله إلى إنقاذ الوضع الإسلامي في البوسنة،
إذ ها هو الاتحاد اليوغسلافي ينهار ويوشك ألا يظلم إلا المسلمون الذين كانت قياداتهم الرسمية شيوعية،
بينما تحولت قيادات باقي دول الاتحاد من الشيوعية البغيضة إلى العنصرية البغيضة،
وأثبت ملوسوفيتش أنه يريد وراثة الاتحاد المتفكك ليصنع مشروعه “صربيا الكبرى” حيث تمتَصّ خيرات باقي دول الاتحاد لمصلحة صربيا وحدها.
وبالفعل دخل الحزب الانتخابات في البوسنة وفاز بها علي عزت بيجوفيتش ليكون أول رئيس للبوسنة بعد تفكك الاتحاد اليوغسلافي
وقادها في محنتها الشنيعة التي أحيط بها فيها من كافة العالم في واحدة من أقسى مآسي القرن في أوروبا، بل هي الأقسى بعد الحرب العالمية الثانية(2)
وقد نقل مترجم الكتاب عن المؤلف أن أفكار الكتاب استقرت في ذهن المؤلف قبل صدور الكتاب بنحو عشرين سنة،
أي في عقد الستينات، وقد وضع المؤلف كتابه في قسمين هذه خلاصتهما(3):
في القسم الأول يستعرض المؤلف الرؤى التي تفسر العالم:
إن الرؤى التي تفسر العالم ثلاث:
المادية، الدينية، الإسلامية؛
فالرؤية المادية متعلقة بالجسد، والدينية متعلقة بالروح، بينما الإنسان كائن مزدوج يحمل في جسده روحا،
فلذلك تنحاز كل رؤية لما تتعلق به، فالرؤية المادية لا تقيم اعتبارا للروح، والرؤية الدينية لا تقيم اعتبارا للجسد، وهذا يضع الإنسانية في مشكلة حقيقية.
الماديون يؤمنون بإنسان دارون إذ الإنسان كائن متطور،
بينما الدينيون يؤمنون بالإنسان الذي رسمه مايكل أنجلو على سقف كنيسة السستن طبقا لما ورد في “الكتاب المقدس”،
وهو الإنسان الذي خلقه الله بأمر منه وأنشأ فيه الروح بلا تطور ولا تاريخ.
ومن هنا يفترق القوم إلى جهتين لا تلتقيان، إذ إن “الإنسان” في مفهوم الماديين ليس هو “الإنسان” في مفهوم الدينيين، فكلاهما يتحدث عن شيء يختلف عن الآخر.
ولهذا تظهر الثنائيات المتناقضة بين الجسد وحاجاته (كيف أعيش)
والروح وطموحاتها (لماذا أعيش)، بين الحضارة (التقدم المادي = تأثير الذكاء على الطبيعة)
والثقافة (الموقف الفكري = تأثير الدين على الإنسان أو الإنسان على نفسه)، بين الأداة (استعمال المادة)
والعبادة (إشباع الروح)، بين التعليم (كعملية تستهدف تحصيل مهارة)
والتأمل (كعملية تستهدف الوصول إلى المعاني والحقائق)، بين اليوتوبيا (التي تصنع مجتمعا على مثال واحد)
والدراما (التي تصف حياة مركبة فيها ما لا يحصى من التنوعات والاختلافات)، بين المصلحة (المادية النفعية)
والواجب (الإنساني الأخلاقي)، بين العلم (حقائق تكْتَشَف، ويخرج منتجات للاستعمال) والفن (إبداع يخلق، ومنتجاته للاستمتاع)… إلخ.
وينعكس هذا الاختلاف بين التيارين على الكثير من المفاهيم،
فالتقدم والتخلف لهما معانٍ مختلفة لدى كل منهما، هذا يقيسها بتراكم العلم والتطور، وهذا يقيسها بمدى القرب أو البعد عن القيم المقدسة(4)،
والمساواة لها معنى مختلف فهي مقاييس آلية رقمية لدى الماديين، بينما هي تتعلق بالتنوعات والخصائص لدى الدينيين،
بل حتى ما يبدو أنها مفاهيم محايدة مثل “الزمن” ليس كذلك، فالزمن في مفهوم المادة والحضارة زمن مستقيم مستمر ترمز إليه الساعة،
بينما الزمن في مفهوم الروح والثقافة دائري، فيه عودة دائمة وإعادة تخيل للزمن.
وفي النهاية يعاني كل فريق من مشكلات، ففيما تقوم ضد الماديين حقائق إنسانية راسخة،
لا يسع الدينيين رفض الحضارة ولو أرادوا.
فلا الماديون استطاعوا التخلص من آثار الروح، ولا الدينيون استطاعوا التخلص من ضرورات الجسد.
لأن الثنائية (والوحدة) للجسد والروح هي “أكبر وأرسخ وأقدم تجربة بشرية، لم تستطع أي فلسفة بشرية أن تتجاوز هذه المشكلة”.
الرؤية الإسلامية
وبعد أن انتهى من توضيح الرؤيتين: المادية والدينية، يطرح علي عزت بيجوفيتش -في القسم الثاني من الكتاب- الرؤية الإسلامية،
ويعطي لها لفظا جديدا هو “الوحدة ثنائية القطب”، ويشرح كيف يمثل الإسلام الفهم الشامل للإنسان، الفهم الذي يجمع بين الروح والمادة،
وكيف أنه بهذا يمثل “طريقا ثالثا” بين الرؤيتين: المادية والدينية، ويصف كيف قامت عبادات الإسلام وشعائره، ومؤسساته وشريعته،
على تحقيق الغايتين معا؛ إذ الفصل بين هذه الحاجات مستحيل ولا سبيل إليه.
ومن هنا فإن النجاح الديني والدنيوي لمحمد r هو التعبير الأمثل عن رؤية الإسلام في الحياة، لأنه نجاح الرسالة الدينية الأخلاقية في هذا العالم الأرضي،
وهذا النجاح هو نفسه سبيل الوصول للنجاح المنشود في الحياة الآخرة، ولا أدل على هذا من أن النبي، صلى الله عليه وسلم، وقبل وفاته بقليل كان يجهز لحملة عسكرية في شمال الجزيرة العربية.
وبعد أن شرح الملامح التي تجعل الإسلام طريقا ثالثا، أراد أن يقول بأن فكرة الطريق الثالث نفسها ممكنة،
ولها تجليات خارج الإسلام، فاختار نموذج بريطانيا الذي يسير وسطا بين التيارات الأوروبية، فهو يتمتع بالديمقراطية والملكية معا،
لا تأخذ ثوراتها مجراها إلى النهاية بل هم مغرمون بالوصول إلى حلول وسط.
وهذا القسم الثاني الذي شرح فيه الإسلام يبدو أكثر وضوحا إذا ضممنا إليه كتابه الآخر “الإعلان الإسلامي”،
إذ هو مختص بشرح الفكرة الإسلامية وتحديد نقاط الخلل لدى المسلمين ثم طرح الحل من خلال تصحيح فهم الإسلام وتطبيق ما لا يطبق منه.
يمكن قول الكثير في شأن بيجوفيتش وأفكاره، إلا أن المهم في سياقنا الآن، هو نموذجه كمسلم درس الغرب وهضم حضارته ونقدها من قاعدة إسلامية، فحقق بهذا الثلاثية التي ذكرناها، وهي:
1- فهم الإسلام
فالبرغم من نشأة الرجل في الغرب وعدم تلقيه دراسة دينية تقليدية،
كذلك بالرغم من غياب النصوص الإسلامية عن كتبه إلا قليلا، فإن فهمه للإسلام وطبيعته كان من الوضوح والقوة إلى حد لا يظفر به كثير ممن تلقى دراسة شرعية تقليدية،
وهو حين أراد أن ينقل نصوصا تدعم فكرته من “علماء” مسلمين، استعان بنصوص يوصف أصحابها في عالمنا العربي -أحيانا- بالمتشددين، مثل سيد قطب،
وكثير من استنباطاته جديدة تماما على إنسان نشأ وتعلم في الغرب،
فلئن كانت من إبداعاته فهو أمر مدهش يستحق التتبع والبحث عن تكوينه العلمي،
وإن كانت من ترجمات منقولة عن مصادر عربية فهذا يشهد باتساع حصيلته العلمية.
2- فهم الغرب
وبرغم الحصيلة الواسعة لدى بيجوفيتش من الحضارة الغربية -والتي تشهد بها النصوص الكثيرة المنقولة عن المفكرين والفلاسفة الغربيين- فإنه لم يستَلَب في تفاصيلها ولم يضع في دهاليزها،
بل استطاع أن يرد كل هذه التفاصيل إلى أصولها وثوابتها وكليَّاتها حتى استقرت كافة التفاصيل في مسارين متمايزين:
الرؤية الدينية والرؤية المادية، ثم ينسجم هذان المساران في كونهما “نظرة أحادية” إلى الإنسان،
وهي الفكرة العميقة الغائرة في كل هذه التفاصيل التي تبدو كثيرة ومشوشة ومنتثرة لا يجمعها رابط أبدا.
وعندئذ قام بيجوفيتش بنقد هذه الفكرة الأصلية الكلية وطرح في مقابلها المفهوم الإسلامي الذي يرفض النظر إلى الإنسان على أنه كائن أحادي الجانب،
بل هو كائن يجمع بين الطبيعتين:
البشرية (الجسد) والإلهية (نفخة الروح)،
فلكل منهما طبائع وخصائض كما لكل منهما آثار ونتائج، ومن هنا فلا يصلح لهذا الإنسان إلا رؤية تجمع بينهما،
وهذه الرؤية لا توجد إلا في الإسلام الذي يجمع في عباداته وشعائره ومؤسساته بين الجسد والروح.
3- فهم الفوارق بين الإسلام والغرب
وهو ما بدا في رسالة الكتاب والغرض منه، وفي تقسيمه إلى قسمين: قسم عن الغرب، وقسم عن الإسلام، والفوارق بينهما منثورة فيه ولكنها متركزة أكثر في القسم الثاني.
إن عظمة بيجوفيتش لا تقتصر فحسب على إنتاجه الفكري، ولكنها تمتد لتشمل مواقفه العملية، فلقد وُضِع الرجل على المحكّ العملي، بل لا نبالغ أن نقول إنه قد وضِع في صراع ضخم، أضخم بكثير من إمكانياته،
وصار عليه أن يواجه طوال حياته أمواجا عاصفة: بدءا بالشيوعية،
ثم النازية -أثناء الاجتياح الألماني ليوغسلافيا في الحرب العالمية الثانية- ثم الشيوعية من جديد، ثم القومية الصربية،
والبراجماتية الغربية التي خانت كل مبادئها وأسلمت شعبا للذبح والقتل، ثم طرحت حلا يشرعن ما أخِذ بالسيف. وهو في كل هذا لم ينبهر ويفتن، أو يضعف ويسقط.
فهكذا كان نموذجا علميا وعمليا لفهم الغرب ودراسته برؤية إسلامية.
[1] وهنا لا ننسى أن نشكر د. محمد يوسف عدس الذي نقل هذا الكتاب إلى العربية،وكانت ترجمته لا تقل روعة ولا دقة ولا حسن فهم وصياغة عن النص الأصلي، فصار النص الفلسفي بقلمه نصا بديعا ذا لمسة أدبية متفننة.
[2] انظر مقدمة المترجم د. محمد يوسف عدس لكتاب بيجوفيتش “الإعلان الإسلامي” ص17 وما بعدها، د. محمد يوسف عدس: مذكرات علي عزت بيجوفيتش.
[3] ننقل هنا عن النسخة العربية الصادرة في القاهرة، عام 1997م، عن دار الجامعات،
بينما أخذت معلومة أن أفكار الكتاب كانت في ذهن مؤلفه قبل عشرين سنة من صدوره من المقدمة التي كتبها المترجم لطبعة دار الشروق الصادرة في القاهرة 2013م.
وقد كانت للمؤلف تقديم وملاحظات على الطبعة العربية أدرجت في طبعة دار الجامعات،
ثم كتب تعليقا آخر على الكتاب في كتابه “هروبي إلى الحرية” ص227 وما بعدها، من الطبعة العربية التي صدرت عن دار الفكر في دمشق عام 2002م.
[4] فالماديون مثلا يرون صلب المسيح فشلا، بينما يراه المسيحيون لحظة النجاح ورمز الخلاص، بينما “نجاح” محمد r أمر لا يرحب به المسيحيون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق