روعة النص القرآني وتحريف وخداع الترجمة – (2) -
المعلم وطالب العلم والمعرفة والقانون القُرآني:
إن العلاقة بين من يتعلم وأستاذه هي علاقة احترام وطاعة .. علاقة تتطلب ممن يتعلم الصبر واستراتيجية ممارسة تقتضي وقتا لتتكون وتصبح حاذقة. فهي تتطلب من المعلم المعرفة، والصبر، واستراتيجية تعليمية لتضع مواقف عملية التكوين في نصابها. والعلاقة بين من يتعلم والمعرفة هي علاقة ديناميكية. وهي ليست مثيرة للاهتمام إلا إن غيّرت علاقة من يتعلم بالمعرفة، ثم بغاية المعرفة، وأخيراً بمسئولية هذه المعرفة. فالأمر لا يتعلق بحشو الكلمات والمفاهيم والشكليات، وإنما في أن نتشرّب مبدأ المعنى. وذلك يتطلب جهوداً مضنية، قد تتخللها لحظات من الإحباط والتخلي واستعادة الثقة؛ لأن المحرك ليس فكرياً وإنما دينياً ..
إن المعرفة أداة. وهي تتعلم وتتطور بالجهد والتركيز اللذان يتكئان على المثابرة لتحمل هذه التربية التي كثيراً ما تتجه إلى عكس نداء (الأنا) الكسول المغرور. وها هنا تتدخل المعرفة التي تتميز عن العلم. فالمعرفة تتعلق بغايات، وأخلاقيات، وجماليات، وبدوافع العلم والفعل. أنها الجوهر الذي يعطى للقلب رؤية، وللروح نيّة، وللجيل مشروع تاريخي. أما العلم فيهدف إلى محتوى المعلومة النظرية أو العلمية، وإلى الوسائل المستخدمة من أجل البحث وتخزين أو نشر ونقل وتكديس المعلومة النافعة الفعالة، بغض الطرف عن غاياتها. والعبارة الشهيرة القائلة بأن: "العلم بلا ضمير ليس إلا هدماً" هي أحد أشكال التعبير عن ذلك القانون القرآني الذي يجمع بين المعلم والمثابرة والمعرفة ..
وليس بغريب أن نرى في أواخر سورة الكهف تحذيراً لكل الذين يعملون بلا مبدأ، ولا غاية، ولا معرفة:
* (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا) [الكهف: 103].
وليس بغريب أيضاً أن تنتهي هذه السورة بتلك الآية الرائعة التي يجب على كافة العقول النبيلة أن تسجد لها، وعلى كل القلوب النابضة أن تتأملها:
* (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) [الكهف: 109].
وعودة إلى موضوع تحليلنا: تأثير الفكر (الإكليروسي) و(العلماني) في الرسائل الجامعية التي تتناول (الإسلام "الفرنسي). ففي هذا التحليل لن نقع في لعبة الصراع ونقوم بالمقارنة بين السفر إلى بلدة (لورد)، لحج مختلق عبر المجامع، والحج إلى مكة، الذي أنزله المولى فرضاً من الفروض، ومقارنة المظاهر الاحتفالية، والمضيفية، أو جلب التذكارات. فالمنطق البسيط والموضوعي يقول إن هاتان الوسيلتين لا يمكن مقارنتهما، فمن يقوم بالحج إلى مكة يلحظ أنه لا يمكن عمل أية مقارنة بينه وبين الذهاب إلى الفاتيكان أو بلدة (لورد). فعند المتحضرين في الغرب لا نجد نفس الورع، وأولئك البؤساء الذين يأتون من أعماق بلاد أفغانستان والذين لم يعرفوا لا الحضارة ولا أدواتها الترفيهية، لا يشعرون بأية حاجة سوى النظر إلى الكعبة أو مسجد الرسول صلوات الله عليه. ورغم خشونتهم وخلط عاداتهم المناقضة لروح الإسلام، فإن إيمانهم صادق، وتبجيلهم للأماكن المقدسة بلا شائبة، وحبهم لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام لا يقارن، وورعهم الديني مثالي النزعة. أما لدى متحضرو الغرب فنجد، على العكس من ذلك، كلمات طنانة، دينية تجارية، وتسويق تيوقراطي، واقتصاد للورع، وسياحة طقوسية، وتيوصوفية، وتيوسياسية، إلخ ..
لذلك سنتوقف أمام المشهد الذي يؤلمنا، حيث نرى الانحراف قد تم تعميمه فيما أمكننا قراءته حول هذا الموضوع ..
مؤثرات تحريفية:
وأول انحراف هو تأثير الثقافة الفرنسية التي أدت قانونيتها المفرطة إلى تحريف قراءة وتأويل نص القرآن وممارسة العبادات للمسلم. فبعد إفراغ النص القرآني من جوهره راحوا يستقرءونه مع القيام بعملية تحويل دلالية للمعنى الديني الرهيف للقرآن تجاه المظهر الشكلي التصالحي والتعاقدي لقانون التجارة في الجمهورية الفرنسية! ونظل مندهشين من انسياب القوانين للتحكم في حياة وضمير المواطنين مثلما حدث مع موضوع الحجاب الإسلامي. ولا يتوقف اندهاشنا عند الطبيعة الوقحة لبعض القوانين فيما يتعلق بالإلهام الإلهي لهذه العقلية، التي تحاول تقنين كل شيء، ضاربين عُرض الحائط بالحب المفترض من المسيحيين لأمثالهم من البشر. وإذا كان (فيكتور هيجو) الثوري في مجال الأدب والمسرح الفرنسي قد أعرب عن هذه القاعدة المتحررة، قائلا: "إن حق الحب مقدس مثل حق التفكير"، فمن حقنا أن نحب ديننا، ونبينا عليه الصلاة والسلام، ونحب قيم الإسلام بما في ذلك حياء نساؤنا الفخورات بحجابهن. ومن حقنا أن نذكركم إذا ما كان العهد القديم ميال للقوانين، فقد أتى (يسوع) ليضع حداً للقوانين الظالمة معلنا للفاريسيين ولجند الرومان: " لقد انتهى زمن الغاية، أنه زمن الحب" ..
ويتساءل أحياناً طلابنا الذين من أصل إسلامي ويعملون تحت إشراف علماء متأسلمين ومستشرقين علمانيين حول التبادل غير المتساوي وغير العادل بين إله المسلمين والإنسان في نظر الجهود المالية والمادية لما يقوم به هذا الأخير عند إتمام فريضة الحج. إننا نحضر مناقشات بيزنطية من قبيل: " كيف يمكن الإيمان بمساواة وعدالة في عملية تبادلية بين إله مفترض فيه أنه أعلى ومطلق، وإنسان مفترض فيه أنه أدنى ونسبى؟ ".
والجزء الثاني من هذه الفرضية في البحث عن التساوي بين الله والإنسان تتولد عن الأساطير ونزعة المساواة العلمانية التي ترفض قانون الاختلاف، الذي يحكم العالم والمبدأ العام للواقع، سواء بالنسبة للإيمان أو بالنسبة للعالم: وحدانية الخالق بلا ند، وبلا وسيط، وبلا شريك، وبلا نسيان أو تعب ولا سُبات ولا حوادث أو صُدف. إن كل شيء متجانس وفقا لمبدأ الوحدة الحاكمة للتنوع ومرادفة للتنوع، وقد اجتمع في وحدة المعنى والغاية والسبب ..
أن روح المسلم الواقع في شراك علم البلاغة والخطاب الغربي، يصبح أكثر حساسية لمبدأ القديس (توما) القائل: "لا أومن إلا بما أراه"، كما أنه شديد الحساسية لسراب النزعة المساواتية، التي تتحول باسم حق المساواة إلى نفى الحق في الاختلاف، لتنساق في أكبر عملية هدم أخلاقي واجتماعي وأيديولوجي للمجتمع، ألا وهي: اللا تميّز! إن هذا اللا تميّز هو الذي يخلق عدم المساواة. فاللا مبالاة والتسوية الديمقراطية من الأسفل تؤدى إلى مجتمع ذي مذهبين: من جهة المتساوون غير المختلفين، وقد وُضعوا في نفس النسق اللا شخصي للتعليم والعمل والترقية والحقوق والواجبات؛ ومن ناحية أخرى نخبة من المميزين، في تنافس مضمون وحماية رعوية وتسهيلات واختلاف في الرواتب والتقديرات وفقاً للثروة والشهرة والسلطة ..
إن الميكانيكا توضح للعقل الديكارتي أن التقسيم العادل والمتزن لحركة ما للتماسك الميكانيكي والتماسك الديناميكي لنسق ما يتطلب الرجوع إلى أنسقة فرعية يطلق عليها عن وجه حق تفاضليات. تفارقي موزع للسرعات، ونسق تنويعات بالنسبة لمرجعية كل علم الرياضيات، والفيزياء؛ لأن كل تقنية الروح الديكارتي تكمن في وضع معياريتهم في معادلة أو في تحليل. وكل علوم الفيزياء التي تتناول الديناميكا تعتمد على مشتقات، أي على تفاضليات بالنسبة للزمن أو لتغيرات المادة والطاقة بالنسبة للمراجع التي هي ذاتها ديناميكية. أنه المجتمع العلمي الذي يود أن يجعل من الإنسان استنساخاً، إنساناً لا متميز، لا جنسي، مثلى أو مزدوج الجنسية !.
إن عبارة "ها هو الإنسان" الشهيرة، وخلط ترجماتها تمثل مأساة الغرب: ذلك هو الإنسان الذي نبحث عنه، أو هذا هو إنسان (بيلاطس البنطى) الذي أتى ليأخذ يسوع إلى تعذيبه، أو أتى ليلحظ الموت الافتراضي ليسوع ليتأكد من اكتشاف الخائن الذي أسلمه للرومان، وتم صلبه بدلا منه. من هذه الجملة التي أسئ فهمها، وأسئ ترجمتها، وأسئ تضمينها، وأسئ تأريخها، وبسببها تولدت مأساة الغرب وعواقبه على شعوب إفريقيا وآسيا. فمن كلمة "الإنسان" في هذه العبارة، سينجم طوفان يغرق حضارة جعلت معبوداتها شيطانية: (كالجنس والمال) آلهة يجب أن تنزع في حضرتها كل محرمات الأخلاقيات المسيحية. وبذلك أصبحت الخطايا المميتة، الجشع، الفسق، الزنا، النهم، الطمع، كلها تمثل معايير النجاح الاجتماعي ..
ومن عبارة الإنسان هذه تولدت مأساة عدم التميّز وأسطورة المساواة التي ترفض اختلاف الآخر. إن المقابل لكلمة إنسان باليونانية تعنى "هومو" Homo)) أي مماثل. أي أننا جميعا نظراء كالمثلثات المتشابهة: نفس زوايا النظر، نفس صلة العظمة. أن التمييز الوحيد هنا يكمن في اختلافه مع مملكة الجماد، والحيوان، والنبات. وهذا الاختلاف في النوع أنكره العصر الحديث بنظرية (داروين)، وهذا المبحث المسيحي حول الإنسان والداروينية الجديدة، نفس المبحث قد تم إجهاضه من كل مفهومه الديني ليتحول إلى مادية نافية لتقدم العلم وعلم الإنسان ..
وفى لغة القرآن العربية الإنسان ليس ال "هومو"، المثل، وإنما الكائن المميز الذي يمثل تميّزه تعارضا مع الوَحْش (المتوحش اللا اجتماعي، المسخ، العاصي لله، المختبئ في الظلمات). إنه الكائن الاجتماعي المنبثق من الفعل العربي "أنَسَ"، أي يؤنس، يشارك، يواسى، يتقرب من النور. إنها كل عظمة الإنسان التي يتم التعبير عنها في هذا اللفظ، والذي يتم تداوله في تعبير عربية القرآن التي تواريها كلمة "هومو". أنه معنى مختلف تماما غير تلك القوانين الظالمة والتي سيصيغها (موسى عليه السلام) في بحثه عن الحقيقة: (آنَسَ نَاراً)، لمح ناراً، اقترب من النار. إنه كل الاختلاف الكامن بين الإنسان، والإنس والجن؛ فالإنس: ذلك الكائن المخلوق من صلصال آسن، ثم أكرمه المولى عز وجل بأن منحه نَفَس الحياة، والعقل، والموهبة. بينما الجن: فهو ذلك الكائن المخلوق من نار، والذي خرج منه الشيطان الرجيم.
هذا هو الاختلاف الذي لم تُفلح ألف عام من الاستحواذ غير المعلن على الحضارة الإسلامية بعد صبغتها باللاتينية، هو ما لم يتمكن الغرب من فهمه ولا استيراده: أن ذلك التكريم غير القابل للتقادم الذي خص به المولى الإنسان مُصان ومقدس: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ).
وهذا التكريم الذي يجعل من اللغة واصطلاحاتها وسيلة تعبير، وعاء حامل للمعرفة، وصلة تعارف مُتبادلة، وليس سلاح لنفى الهوية، وسياسة سيطرة ثقافية ولغة عدمية ووقحة:
* (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13].
والإسلام، الذي يعتبر الكائن الآدمي كإنس، يجعل من المساواة عقيدة إيمان بعطاء الذات وورع التعاون، ومحنة اختبار في تحقيق العدالة الاجتماعية والتقوى، وليس إجراءات قانونية تفرضها مركزية الدولة.
* (وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ) [النحل: 71].
إن التقاسم المتساوي بين الأحرار والعبيد في القرآن لا يمكن تصوره في جمهورية تزعم المساواة، والمفترض فيها من حيث المعنى أن ترعى الصالح العام.
لا يوجد أي قانون يمكنه اقتحام قلب مغلق للعطاء، والمشاركة، واحترام الآخر، والتعاون المتبادل. أي ضد الإيمان والاهتمام بجزاء أكبر، أو بالعقاب بلا نهاية بلا ضمان للمساواة في الحقوق أمام العدالة، أمام الاحتياجات، أمام الواجبات، دون إنكار اختلاق الاحتياجات، وواجبات التضامن، والملكات، والخبرات، والكفاءات والهبات الشرعية الناجمة عن العمل الشرعي المفيد اجتماعياً.
إن قانون (الديالكتيكية) الذي يحكم العالم يتطلب من حيث العدل ومن حيث الضرورة خلق (الديناميكية) الاجتماعية، أن يكون هناك اختلاف في التنافس على الخير، أو تعارض حينما يكون هناك تباعد حول مفهوم الخير، والعدل، والحقيقة، وعند الضرورة حين تكون هناك تكاملية بإظهار الثراء والحكمة وكرم المعطى المحسن:
* (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [ فاطر: 12].
* (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ) [ فاطر: 27].
* (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) [فاطر: 28].
نحن إذن مختلفون، وهذا الاختلاف جزء من عقيدة إيماننا. وإنكار هذا الاختلاف يعنى إنكار حكمة الله ومدى قدراته في أن يخلق ما يريده إلى ما لا نهاية.
* (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيرًا (17) مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19) كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21)) [الإسراء: 17-21].
* (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)) [ هود: 118-119].
ومبدأ المعنى يتطلب أن نطرح على أنفسنا هذا السؤال بلا أي حرج أو خداع أيديولوجي: (هل يستوي الأعمى والبصير)؟، هل يستوي من يعلم ومن لا يعلم؟
إن الاعتراف بهذا الفارق يعنى تقبله مع كافة عواقبه: الدخول في الصراع إن كان يمس الإسلام أو الأمة المسلمة، وتقبله إن كان يناقضنا بلا عدوان علينا. وتجب الإشارة إلى أننا هنا لا نتهم أو نلعن أو نكفّر من يفكرون بطريقة أخرى غيرنا. فنحن لا نقوم إلا بالكشف عن الغلطة أو الخطأ في الحكم لكي يقوم العقلاء بتجنب تجربة سيئة، وأن يفيق الأقل علما وأن يكونوا نافذي البصر إذ يقع عليهم رسالة ومهمة تتطلب الذكاء والحس ..
إن الاختلاف هو القانون لذلك يجب علينا أن نتقبله وخاصة ألا يعلو صوتنا احتقاراً للآخرين، لأن هذا القانون يوضح لنا مسئوليتنا تجاه الآخرين لنقودهم إلى العقل، وإلى الإيمان، وإلى الخير، وإلى ما هو جميل دون أن نفقد الصبر ودون أن نفقد الأمل، وخاصة شاكرين المولى عز وجل أننا لسنا من الضالين. إن الغلطة والخطأ أو اللبس هو الذي يعيننا لنرفع الشك والإبهام ونساهم في توضيح الطريق أو جزء مما يجب علينا سلوكه، دون أن نعطى أنفسنا ألقاب التقوى أو حق احتقار الآخر أو سبه. إن المخطئ كالضال يعنينا كإنسان علينا أن نصطحبه ونقنعه وأن نوقظه بلا قهر أو دعاية أو تلاعب. فالاختلاف هو قانون نفس مجال اللغويات:
* (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات :13].
* (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) [الروم: 22].
كما أن واجب المعرفة، والاعتراف والتبادل، هو ضرورة دينية تتطلب احترام الاختلاف العرقي، واللغوي، والثقافي، والاجتماعي والديني. وإذا أردنا تناول الإسلام وموضوعاته، فيجب علينا تناوله في تجانسه الخاص وبمضمون معانيه الدينية ونسقه الفكري والحضاري. أما القيام بنقل مفاهيم وأساليب الكنيسة وعلمانيتها إلى الإسلام، فذلك يعد خيانة لفحوى ومضمون القرآن: اللغة العربية والإسلام.
إن حب الحقيقة والحق في الاختلاف يعطينا واجب الشهادة ضد هذه الخيانة المتعمدة أو اللا واعية وأن نطالب بمزيد من الحماس بين الشباب الذين يعيشون في عالم لم يعد لديه الوقت ليقرأ أو ليبحث عن المعنى الذي استقاه من منتجات الحضارة المادية المعروضة من قِبَل متخصصين، يُجيدون التحايل بالإشارات والرموز والتلاعب بالجمهور، حتى وإن كان هذا الجمهور في مدرج جامعي وليس في مدرجات إستاد كرة القدم أو قاعة رقص أو أحد الكازينوهات.
حق الاختلاف:
إن الاختلاف في الإسلام يصل إلى درجة من العدل لا تعرفها أي ديانة أخرى: فكل جماعة تعيش تحت إدارة مسلمة لا تُعامل كأقلية وإنما كجزء من الأمة، فلا يتمتع بحرية العبادة والعقيدة فحسب، وإنما أيضا بحقه في اللجوء إلى مرجعياته الثقافية والأيديولوجية في مجال حقه الشخصي والأسرى بل والقانوني. إن أي مسيحي أو يهودي كان يحق له الاختيار بين قاضى وقوانين مسلمة أو من بين ديانته الخاصة. فالشريعة الإسلامية التي لا يكف الغرب عن مهاجمتها لا يتم تطبيقها بصورة عشوائية وإجبارية على المسلم وغير المسلم. وذلك في زمن لم تكن الإنسانية تعرف فيه إلا إسلام واحد، ذلك الذي يبشره محمد صلى الله عليه وسلم هو وأتباعه، وجميعهم لم يكونوا من خريجي السوربون ولا من الأزهر ولا من أم القرى.
وتقبّل الاختلاف يعنى الحياة مع مطلب الحق والعدل مع مراعاة الاحتياجات الحقيقية والإمكانيات الحقيقية. إن المساواة الحقيقية تكمن في حق الاختلاف. والحكمة الحقيقية تكمن في الاعتراف بهذا الاختلاف. ولا يعنى فرض مساواة غير مختلفة تنتهي بهدم روح الندية، والمطالبة الشرعية بالحق وتنتهي روح العدل والمساواة. إن الإنسان العقلاني الذي تعد عقلانيته كَمية يقترف ظلماً حين يحرم إنساناً من حرية أن يكون ما يتطلع إليه ويحرمه من جزاءه الشخصي ولكنه صواب (وفقا لروح العدل وروح القانون) وعادل (العدل وقد تم تطبيقه كما ورد بلا نسيان، وبلا تحريف وبنفس القدر في الرغبة في الحياد الإنساني):
* (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) [الذاريات: 9].
كيف يمكن إذن لشخص "عقلاني" مُبرمج وفقاً لأيديولوجية المساواة أن يرى العدل والمساواة (أو عدم المساواة) بين الأضاحي ومخاطر الحاج من ناحية، والنِعم الإلهية من ناحية أخرى:
* (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) [ الحج: 28].
حينما يتحمس المسلمون بتحويل هدف الحج من "مسيرة المجاهد" للدفاع عن الإيمان والإسلام والأمة المسلمة إلى معاناة واحتيال وأكاذيب وإهمال ومصالح مالية .. فهم يفقدون النِعم والجزاء. فكلنا بصورة أو بأخرى مطالبون بتأدية الحج كما يجب. ففي الماضي كان القائمون على الخدمة في الأماكن المقدسة (المطوفون والسُّقاة)، الذين كانوا يوهبون أنفسهم لخدمة الحجيج حباً في الله واحتراماً للتقاليد الإبراهيمية والمحمدية. ومع ذلك فالقرآن، من أيام الرسول عليه الصلاة والسلام، لم يُعطهم وضع مساوي مع الذين يهبون أنفسهم في سبيل الحق وحقوق الإنسان:
* (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [التوبة: 19].
أما اليوم فقد تحول كل شيء إلى أرباح وإنتاجية ومكاسب تحت سيطرة هذه الثقافة الحديثة الرأسمالية المزيفة التي تؤثر ظهور السماسرة والمرابون وتجار الرحلات الذين يجذبهم المكسب السهل وسذاجة الحجاج الذين عادة ما يكونوا مُسنين ويجهلون مراسم الحج. وفى هذا المجال فإن الجمعيات المسلمة وممثلي الدولة والأئمة يستحقون اتهام التقصير وعدم المقدرة.
وعلى صعيد الفكر السياسي والاقتصادي في الواقع، حتى وإن اعترفنا بفرص ودقة عبارات التسويق الديني واقتصاد الورع، فنحن أبعد ما نكون عن المشاكل الأساسية التي لا يمكن للمحتالين إخفائها فيما يتعلق بالدمار الذي يخلفه انهيار الاقتصاد العالمي على نفسية المسلم، المساق إلى مذبح وحدانية السوق، وعليه إنكار إيمانه وقيمه بتبني نموذج استهلاكي ومالي قائم على الربا وعلى استغلال الإنسان. فلا يمكن متابعة تحقيق أي هدف أيا كان نبله إذا ما أخطأنا في تحديد الأولويات والأهداف بمحاولة إصلاح الظل بدلا من الشجرة المعوجة ..
إن أهم منظمتين وأكثرهم شهرة في فرنسا هما (المجلس الفرنسي للإسلام) و (اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا) تقع عليهما المسئولية الأكبر. نحن نتحمل جزءاً أقل إذ لا نملك أي تكليف ولا أي تمثيل، وإنما بموجب فرض الكفاية فإن إخفاق البعض يُلزم البعض الآخر.
إن الأمة في الإسلام لا يمكنها في أي لحظة من لحظاتها وظروفها أن تتخلى عن مسئولياتها، لأن حيويتها، واعتبارها، وتقدمها، وانتشارها، بل وحياتها تعتمد على حماسها وعلى كفاءتها في تحمل مسئولياتها. ومن خلال هذا البحث نساهم في النقاش وندعو كل مسلم وكل كائن حر أن يشارك من أجل كرامة الإنسان، ومناصرة الحق لكي يعطى معنى لكلامه ..
إن إخفاقنا، ومشاكلنا الموروثة من تراجع الحضارة الإسلامية ومن الاستعمار، لا يمكنها أن تُنسينا أن العقل المتفتح لا يمكنه بناء دلائل كاذبة بزعم أن شركة سياحة أو مرشد غير مؤهل قد تلاعب بحجاج مُسنين. ومن المخجل على الصعيد الفكري أن نخلط عمداً العقد بين الحجاج والمسافر أو المرشد والعقد مع الله. ومن المخجل بالنسبة لمثقف أن يستغل هذه النواقص ليعرض بؤسنا الذي لا يجهله أحد ويتناسى الأساس وهو: إخفاق الدولة الفرنسية التي تترك المسلمين الفرنسيين، أو المقيمين على أرضها، يعيشون كمواطنين منفيين مُستبعدين من الأماكن التي يسودها القانون، وتتركهم لقمة صائغة للمهربين لمختلف أنواع السلع في سوق "الحلال" وإتمام مناسك الحج والعمرة ..
إن الظروف الاجتماعية والخلط الدائم هو ما يجعل الذهن العلماني الكافر الغدّار والإيمان العاقل للمؤمن المخلص يواجهان نفس اللغز لتنظيم وسياق الحج كل عام، لكن بدوافع متعارضة: "تضحيات بضعة أيام عابرة مقابل الجنة الخالد" ..
* - الموضوع -موصول- بمشيئة الله تعالى ..
بقلم: العالمة الجليلة، أ. د زينب عبد العزيز -متعها بالصحة والعافية-
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق