كيف تبدو الديمقراطية الدموية؟
محمود عبد الهادي
أشرت في مقالي "إدارة الدبلوماسية الفائقة" -مطلع الشهر الجاري- إلى أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، ستدير مصالح الولايات المتحدة في العالم عن طريق إستراتيجية جديدة تعتمد بشكل كبير على الدبلوماسية، وما تحمله من وعود وأماني وتطمينات أو شجب وإدانة واستنكار، لا على التهديد والابتزاز وقرع طبول الحرب، وذلك انسجاما مع خطة بايدن لإدارة العالم المتطابقة مع أهداف الأمم المتحدة لتحويل العالم، والمعروفة بخطة التنمية المستدامة 2030. وفي هذا الإطار، تأتي جولات وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن المكوكية، وكان آخرها زيارته إلى دول غرب أفريقيا الأسبوع الماضي، وزار فيها كلا من كينيا ونيجيريا والسنغال.
إن استمرار الولايات المتحدة والدول الغربية في تلوين مواقفها من الأنظمة الانقلابية وسلوكياتها الاستبدادية والقمعية، وفقا لمصالحها، لن يكون في صالح تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وسيدفع المنطقة العربية والعالم إلى المزيد من الاحتقان والاضطراب والفوضى، وسيزيد من إحباط القوى المؤمنة بالديمقراطية الحقيقية بوصفها حلا مثاليا لحالة الصراع المحتدم على السلطة في العديد من دول العالم الثالث.
على من يضحكون؟
في الكلمة الطويلة التي ألقاها بلينكن في العاصمة النيجيرية أبوجا -أمام المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا المعروفة بـ"سيدياو" أو "إيكواس"- قدّم الوزير النسخة النموذجية لما تعمل الإدارة الأميركية على تسويقه في دول العالم الثالث -في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية- انطلاقا من خطة الرئيس بايدن لإدارة العالم، تحقيقا لأهداف التنمية المستدامة، وتشجيعا للدول الغنية على الإسهام في المشروعات الاستثمارية التي تحقق هذه الأهداف. وقد اشتملت الكلمة على 5 محاور رئيسية، هي:
- القضاء على وباء كوفيد-19.
- الاستجابة والتصدي لأزمة المناخ.
- بناء اقتصاد عالمي أكثر استقرارا وشمولية.
- تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان.
- دفع الأمن والسلام الدائمين إلى الأمام في أفريقيا.
وتمثّل هذه المحاور 5 أهداف رئيسية من أهداف التنمية المستدامة، وأشارت في ثناياها إلى عدد من الأهداف الأخرى كالمساواة بين الجنسين، والتحول الرقمي.
ونقف في هذا المقال عند المحور الرابع الخاص بالديمقراطية وحقوق الإنسان، الذي يعبر عن تفاصيل الرؤية السياسية للإدارة الأميركية الحالية الخاصة بالديمقراطية، والتي يحملها الوزير حيثما ذهب. هذه الرؤية توضح حجم الخداع الذي تقوم به الإدارة الأميركية لشعوب العالم الثالث، وهي تبيع لهم أوهام الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وفي ما يلي ملخص ما ذكره بلينكن تحت هذا المحور:
- إن الاستبدادية تتزايد في جميع أرجاء العالم.
- صارت التكنولوجيا تُستخدم من أجل إسكات المعارضة ومحاكمة المواطنين.
- على النظم الديمقراطية أن تلبي النداء لمحاربة المعلومات المغلوطة، والدفاع عن حرية الإنترنت، والحد من إساءة استخدام تكنولوجيا المراقبة، ووضع المعايير للسلوك المسؤول في الفضاء الإلكتروني.
- أصبحت الحكومات أقل شفافية، والفساد يتنامى، وفي أماكن عديدة، أصبحت الانتخابات سببا لاشتعال العنف.
- القادة يتجاهلون المدة المحددة لبقائهم في المنصب، ويزوّرون أو يؤجلون الانتخابات، ويستغلون المظالم الاجتماعية لاكتساب السلطة والاحتفاظ بها، ويلقون القبض على شخصيات المعارضة، ويقمعون وسائل الإعلام.
- العديد من الأفارقة يعيشون الآن في ظل حكومات استبدادية.
- انتزعت الجيوش السلطة من الحكومات المدنية 4 مرات خلال العام الحالي.
- استطلاعات الرأي المتتالية في دول القارة تظهر أن الشعوب الأفريقية تؤيد الديمقراطية.
- التراجع الديمقراطي ليس مشكلة أفريقية فحسب، إنها مشكلة عالمية، والولايات المتحدة نفسها تكافح التهديدات التي تتعرض لها ديمقراطيتها.
- ينبغي توضيح كيف يمكن للنظم الديمقراطية أن تحقق ما يريده المواطنون، بسرعة وكفاءة. حتى لا يفقد المواطنون ثقتهم في النظام الديمقراطي، فيدعم ذلك حجج الحكومات الاستبدادية بأن نظامهم هو الأفضل.
- ينبغي حماية المجتمعات المدنية الحرة المزدهرة، التي تعطي المواطنين وسائل سلمية للتعبير عن مظالمهم، وللدفع نحو التغيير.
لقد بدا الوزير مثاليا في تشخيص الدكتاتورية والاستبداد ونتائجها، لدرجة أنك تحسبه وكأنه أحد زعماء المعارضة المضطهدين على أيدي الأنظمة المستبدة، في إحدى دول العالم الثالث، إنه يتحدث وكأن الولايات المتحدة تتعرف على أفريقيا للمرة الأولى في تاريخها، أو كأنها ليس لها يد في صناعة الدكتاتورية والاستبدادية، ودعمها، والسكوت عن تجاوزاتها وانتهاكاتها. هل نسي الوزير أنه يمثل دولة القطب الوحيد في العالم، التي تجوب العالم شرقا وغربا، من دون حسيب أو رقيب، وتصدر ما تشاء من عقوبات على من تشاء، وفي أي وقت تشاء، لوحدها أو مع شركائها وحلفائها؟!
تناقض القول والفعل
إن الحديث عن الديمقراطية على هذا النحو، في الوقت الذي تقيم فيه الولايات المتحدة علاقات شراكة إستراتيجية مع العديد من الأنظمة الانقلابية والاستبدادية والشمولية والفاسدة، يظهر الوجه الدموي للديمقراطية التي تسوّقها الولايات المتحدة والدول الغربية عامة، في دول العالم الثالث، حيث تهيمن المصالح على المبادئ، ويتحدد نوع الموقف السياسي ومستواه من الأنظمة الانقلابية والاستبدادية وفقا لمدى رعاية هذه الأنظمة لمصالح الولايات المتحدة، ومدى استعدادها للانضواء تحت لوائها، وهذا وحده يكفي لتغض الولايات المتحدة النظر عما ترتكبه هذه الأنظمة من استبداد وفساد، وعما تقوم به من انتهاكات لحقوق الإنسان ومصادرة لكافة الحريات. ويكفي الوزير بلينكن أن يطالع تقارير منظمة العفو الدولية أو التقرير الأميركي السنوي عن حالة حقوق الإنسان في العالم، ليقف على التناقض الكبير بين مبادئ الديمقراطية والحقوق التي يتغنى بها، والواقع الفعلي لمدى التزام حلفاء الولايات المتحدة الإقليميين بهذه المبادئ، وكيف تتفاوت مواقف الولايات المتحدة وردود أفعالها تجاه انتهاكات هؤلاء الحلفاء.
لم يبتدع الوزير بلينكن هذه المبادئ، فلطالما تغنّى بها الحزب الديمقراطي، بإداراته المتعاقبة، ومعه الحزب الجمهوري كذلك، وكان الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما الأفصح لسانا والأدق تعبيرا عند الحديث عن إيمان إدارته الراسخ بالديمقراطية في دول العالم الثالث، وقد جاء في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2015 قوله "الحكومة التي تقمع المعارضة السلمية لا تظهر قوتها، إنها تظهر ضعفها وخوفها… إن الأنظمة التي تخشى شعوبها سوف تنهار في النهاية". وعلى الدوام تأتي مواقف الدول الغربية المركزية متناسقة مع الولايات المتحدة تجاه انتهاكات وتجاوزات الأنظمة الاستبدادية، إما عن طريق السكوت والتجاوز، أو الإدانة والشجب، أو الحصار والعقوبات، أو التدخل المباشر.
شهدت المنطقة العربية في السنوات العشر الماضية عدة نماذج تجلّت فيها هذه التناقضات بكل وضوح، وإن استمرار الولايات المتحدة والدول الغربية في تلوين مواقفها من الأنظمة الانقلابية وسلوكياتها الاستبدادية والقمعية، وفقا لمصالحها، لن يكون في صالح تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وسيدفع المنطقة العربية والعالم إلى المزيد من الاحتقان والاضطراب والفوضى، وسيزيد من إحباط القوى المؤمنة بالديمقراطية الحقيقية بوصفها حلا مثاليا لحالة الصراع المحتدم على السلطة في العديد من دول العالم الثالث، بل وسيؤدي ذلك إلى التعجيل بهدم النموذج الديمقراطي الغربي في الولايات المتحدة وغيرها. وقد أعربت إدارة الرئيس بايدن -على لسانه ولسان وزير خارجيته- في العديد من المناسبات عن الأضرار التي لحقت بالنموذج الديمقراطي الأميركي، وعن حاجته إلى الترميم وإعادة البناء، في أعقاب اقتحام البيت الأبيض من قبل أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب بعد هزيمته في الانتخابات.
إن المسؤولية التاريخية الراهنة الملقاة على كاهل الولايات المتحدة والدول الكبرى تتطلب قدرا عاليا من الإدارة الأخلاقية للقيم السياسية التي ينبغي الالتزام التام بها في توجيه العلاقات الدولية ورعاية المصالح، لتكون القاعدة "المبادئ أولا"، وإلا فإن العالم لن يستطيع تجنب الانفجار القادم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق