الشيوخ الظرفاء: معهم ستنسون جميع هزائمكم
أحمد عمر
إذا جاز لأهل السنّة أن يرفعوا شعاراً مثل شعار الشيعة المأساوي: كل أرض كربلاء، فسيكون: كل أرض أندلس، وبينهما فروق منها بناء القصور وبناء القبور.
وقد قضى الإسبان على الحضارة الإسلامية الأندلسية استئصالاً بمحاكم التفتيش أو بالتنصير، أما محاكم التفتيش التي خلّفها الاستعمار وراءه كما خلف الطرواديون حصانهم الخشبي في أخوات الأندلس العربية المعاصرة والإسلامية فقد لجأت إلى طريقتين في الاستئصال؛ واحدة مرّة كالحنظل والثانية حلوة كالعسل، فقضت بطريقة الحنظل على العلماء بالاعتقال والقتل، ودفعت بجرعات العسل البقية الباقية منهم إلى التهريج إما بالطرائف المبهجة وإما بالفتاوى المضحكة.
فأولاد الجنية يعرفون "أن المزاحة تُذهب المهابة"، وبلغ الأمر بالعسل والمعسل ذروته في مصر، فوجدنا علماء يمزجون بين الطرافة والفتوى مثل الشيخ مبروك عطية، وهو شيخ حليق له محبّون ومقلّدون ومريدون، وتتدفق له عشرات فيديوهات التقليد الكوميدي، ومقلدوه يحملون في أيديهم باقات من البصل أو البرسيم بدلاً من باقة الورد.
وهو لا يظهر على المنابر إلا مع باقة الورد فهي سيفه، فهو مدرك لصناعة الكاريكاتور والنمط، ويشبه دونكيشوت بل ويقلده. ولو قلدته أنا كاتب هذه السطور لوضعت بدلا من باقة الورد مسدسا في يدي، فمن الضحك ما قتل "يا زينبو".
مبروك عطية:
وتقليده يجري ليس بقراءة كتبه، وإنما ببث صور للمقلِد بصوت مبروك عطية حتى ظهر على عادل إمام. ومبروك عطية له محاسن منها أنه رجل عليم وشيخ شجاع، ندّد مرّة تنديدا قاسيا بإخراج السيسي الناس من بيوتهم وتدميرها، فطربتُ له أشد الطرب، فأنا أحبُّ الشجعان، ثم اضطر إلى أن يغني مع عبد الحليم حافظ: توبة إن كنت أخاصمك تاني توبة. فعل ذلك بهاتف واحد من جند فرعون فغيَّر فتواه إلى نقيضها.. فقهاء الطرائف فقهاء من بسكويت يتهشمون من رنة هاتف.
يعرف جند فرعون الغارقون أنَّ ضرر هذا الشيخ على الإسلام أكبر من نفعه، فجرعة الكوميديا في فتاويه قاتلة
ويعرف جند فرعون الغارقون أنَّ ضرر هذا الشيخ على الإسلام أكبر من نفعه، فجرعة الكوميديا في فتاويه قاتلة. وتقدير السبب في رجوعه عن غضبته لهدم البيوت أن جنود فرعون اتصلوا به وهددوه أو حذروه، فارعوى بسهولة من غير تعذيب أو اعتقال.
وهناك طبقة ثانية من الشيوخ، يعملون في قصر الفرنسي ماسبيرو، جعلوا من الدين ملعبا، يهدمونه بأيديهم وطرائفهم، مثل خالد الجندي وأحمد كريمة ويؤازرهما أسامة الأزهري من قصر الاتحادية، فزاد الطين بلة عندما رد على زميله "الشيخ" إبراهيم عيسى في واقعة فتوى الصيدلي التقي، فدعا بالحكمة والموعظة الحسنة من لا يستحقها، فقال: إن كان هذا الصيدلي قد قصّر في إتقان تخصصه وقراءة مراجعه، فقد قصّر في هدي القرآن الذي يقرؤه، وحينئذ فواجبه (الفاء من الشيخ وليست مني) أن يتقن تخصصه لا أن يهجر قراءة القرآن العظيم.
كاد النظام أن يهدر دم الصيدلي التقي:
الحقيقة أننا أمام صورتين من التطرف (الكلام لصاحب الفاء الشيخ أسامة الأزهري): إخوانيٌ يقرأ القرآن فيخرج منه بقتل الناس وتكفيرهم، فيواجه "تطرفا مضادا" يريد من الناس ألا تقرأ القرآن الكريم أصلاً". فهما - أي الشيخان عيسى والأزهري - زميلان يتعاونان على الفتيا وعدوهما واحد هو الصيدلي الذي جعلوه من الإخوان، ومن يقرأ الفتويين؛ فتوى الشيخ إبراهيم عيسى وفتوى الرفيق أسامة الأزهري، يظنُّ أن الإخوان يكفّرون الناس وأن الصيادلة المصريين يبتكرون الأدوية ليل نهار إلا القرّاء منهم.
زميلان يتعاونان على الفتيا وعدوهما واحد هو الصيدلي الذي جعلوه من الإخوان، ومن يقرأ الفتويين؛ فتوى الشيخ إبراهيم عيسى وفتوى الرفيق أسامة الأزهري، يظنُّ أن الإخوان يكفّرون الناس وأن الصيادلة المصريين يبتكرون الأدوية ليل نهار إلا القرّاء منهم
ويندر أن تجد صيدلياً يصنع الأدوية، فالصيدلي بائع عليم، والصيادلة في سوريا يؤجرون شهاداتهم لباعة يعرفون أسماء الأدوية ويعملون أعمالاً أخرى. وأعرف صيدلياً اخترع حشوة طبية للسنِّ المنخور رخيصة وطويلة العمر يا طويل العمر، فاعتقلته المخابرات لأنَّ الاختراع ممنوع في البلاد العربية، فالابتكار يهدد الصناعات الدوائية لشركات الأدوية العالمية. لسان حال الحكومة هو: يحق لك أيها المواطن أن تمرض كل أنواع الأمراض، لكن الشفاء سيكون على أيدينا وأقدامنا وسياطنا.
أمّا شوقي علام، ومختار جمعة، وأحمد بدر الدجى حسون؛ فهم شيوخ لم تصدر عنهم طرفة واحدة من أجل الحفاظ على هيبة النظام، وليس هيبة الإسلام. هم لا يميلون إلى الاستظراف لكنهم يضحكون الجنَّ بفتاويهم العجيبة.
نذكر بأن هذا المختار جمعة أمّ الناس في صلاة جهرية فأخطأ في الفاتحة! فالشيخ لا يعرف صراط الذين أنعمت عليهم، ولهذا يبني السيسي لهم الجسور والكباري.
هناك أمر آخر هو أن أكثر شيوخ النظام يحملون اسم جمعة - بسبب تجمعهم حول النظام في منطقة الدلتا - وجعلوا مصر وسوريا سائبة لآلهتهم الأوروبيين، مثل الناقة في الجاهلية.
أزهري فيه خير كثير:
هناك أزهري فصيح، حاضر الحجة، مناصر للسيسي، وقد تكون موالاته تِقية.. يحبُّ الظهور بأزياء لاصقة تبيّن فصاحة عضلاته، ويصفه كارهوه بفتى "المجانص"، وهو يردُّ في فيديوهاته على "الزملاء" الأفاضل أمثال إبراهيم عيسى بالحكمة والموعظة الحسنة أيضا. سمعت له فيديو الرد على فتوى الصيدلي التقي، وتوقعت أن يذكر فيه أنَّ الله قال: نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ، والقرآن عند المسلمين سيّد الأدوية، للفرد والجماعة، لكن كثيراً من الناس لا يعلمون. وكلام فتى المجانص لا بأس به، إنه يشبه غاليليو الذي قال همساً: ومع ذلك إنها تدور، أو لعله كذلك.
تلفزيونات السيسي لا تمانع في ظهور فتى المجانص، وهو الوحيد فيمن أعرف فيه خير كثير، وأعرف سبب إجازة ظهوره أو أقدره تقديراً، فهو يبشر محبيه وينذر مبغضيه بأنَّ الأزهر قادم! إنه يعمل على "فتكنة" الإسلام
تلفزيونات السيسي لا تمانع في ظهور فتى المجانص، وهو الوحيد فيمن أعرف فيه خير كثير، وأعرف سبب إجازة ظهوره أو أقدره تقديراً، فهو يبشر محبيه وينذر مبغضيه بأنَّ الأزهر قادم! إنه يعمل على "فتكنة" الإسلام.
ومن مظاهر فتكنة الإسلام أن شيخاً أزهرياً نبيهاً وعالماً ومجتهداً يطلق على شيخ الأزهر الحالي وعضو الحزب الوطني السابق وأحد أركان الانقلاب لقب: "الإمام الأكبر"، وهذا لعمري وعمرو دياب وعمرو خالد شيء عجاب، فلا رتب ولا ألقاب في الإسلام. وأمثال هذا اللقب شائع عند الشيعة وعند المسيحيين، مثل الحبر الأعظم وآية الله العظمى، وليس عند أهل السنة والجماعة، بل هو منكر حتى لو كان إماما حقا لا إماما معينا من النظام.
ومن مظاهر النحر "بالكوميديا الإسلامية" على الشاشات العربية أنَّ صوراً بثّت لأزهريين ثلاثة استضافتهم فرنسا، بينهم الشيخ ميزو، على مائدة الطعام وهم يأكلون بنهم ويفتون بالمنكرات، ويأتمون بالإمام الفرنسي فولتير. ورأيت صورة لعدد كبير من شيوخ الأزهر يمر بينهم نادل يحمل صفحة من الكعك في أحد المهرجانات، وهم يمدون أيديهم إليها وكأنهم نازحون في مخيم للنازحين على حدود بولندا أو في مخيمات اليونان.
فتحي صافي رحمه الله:
وقد تفشّت عدوى الدعوة بالطرائف والكوميديا إلى سوريا، فأذن النظام السوري بتقديم برنامج إذاعي للشيخ الظريف فتحي صافي رحمه الله وأحسن مثواه. وهو شيخ معروف بنوادره، وهو رجل حاضر النكتة، ويخلط الظرف بالفتيا. مثال ذلك أن شابا اتصل به وقد ارتكب فاحشة الزنا، فقال الشيخ: لو كان الأمر له لقذف به من الطابق السادس، وليس كل ما يستفتى به صالح للبث، فضحكنا من فتوى الشيخ لكنه لم يفتِ الشاب.
تفشّت عدوى الدعوة بالطرائف والكوميديا إلى سوريا، فأذن النظام السوري بتقديم برنامج إذاعي للشيخ الظريف فتحي صافي رحمه الله وأحسن مثواه
وهو أحذق من الشيخ مبروك عطية الذي يفرط في الطرائف والاستظراف ويكثر من الألفاظ الإنكليزية، ويمنع المستفتي من عرض سؤاله ويقطعه، وفيه شدة وليونة، ولا يظهر إلا بنظارة سوداء مثل أبطال الأفلام البوليسية، ولا يظهر على الشاشات إلا حاملا باقة ورد حمراء. وقيل إنَّ سبب ذلك حمّى عيد فالنتاين، وقيل من أجل الحب، وقيل إنَّ سبب وضعه النظارة السوداء هو عين له مصابة شفاها الله، وقيل إنّ الورد الأحمر للتقية والمفاكهة والغرام في أمة سيد الأنام.
عندليب حلب والشام:
ونحسب أن سبب إنهاء منصب الفتوى في سوريا والمحافظات بخلع أحمد حسون خلعاً من غير دماء؛ هو أن النظام في سوريا أدرك أنَّ لحم أهل السنّة والجماعة قد استوى، وأنَّ خلع المفتي من منصبه سيتم من غير تخدير ومن دون ألم، بل إن الأفراح والزغاريد ظهرت على صفحات التواصل مرحبة بخلع هذا الضرس الفاسد، الذي أكثر من المواعيد غير العاطفية الدينية مع إلهام شاهين وناتاشا من غير ورد أحمر.
يمكن أن نتذكر شيوخاً وأئمة كانوا يُستقبلون استقبال الملوك في الدول العظمى إبان الحرب العالمية الثانية، مثل الحاج أمين الحسيني، أو يخشاهم عتاة الملوك مثل حافظ الأسد الذي كان يحسب ألف حساب لعبد الرحمن حبنكة الميداني، ومحمد حسني مبارك الذي كان يخشى محمد الغزالي
والمفتي السوري ليس من أهل الفتيا ولا من أهل التلاوة ولا من أهل الفقه، وليست له مؤلفات. وهو ظريف كما ينقل عنه من التقوا به، لكنه يتجنب التظارف على الهواء حرصا على هيبة النظام، وهو مطلع على الدين ويلمُّ بالمعارف العامة مثل عمرو خالد. وكان عمرو خالد نفسه قد انزلق بعد مجد وشهرة من الدعوة إلى جنة عدنان ورب غير غضبان، إلى الدعوة، إلى أكل الفراخ من أجل قيام الليل، فأكله الثعلب.
يمكن أن نتذكر شيوخاً وأئمة كانوا يُستقبلون استقبال الملوك في الدول العظمى إبان الحرب العالمية الثانية، مثل الحاج أمين الحسيني، أو يخشاهم عتاة الملوك مثل حافظ الأسد الذي كان يحسب ألف حساب لعبد الرحمن حبنكة الميداني، ومحمد حسني مبارك الذي كان يخشى محمد الغزالي.
وكان سبب تحول الأئمة من الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة إلى الدعوة بالطرائف والنوادر أمرين:
إما لأنّ الإمام عادل إمام وسم العصر بوسمه وأتعب من بعده من الأئمة والدعاة، وإما لأنَّ الدعاة السابقين كانوا يدعون المسلمين في خطب الجمعة إلى الدين بالتخويف من عذاب القبر، فرفقوا بهذا الشعب المسكين وأشفقوا عليه.
وقد بادر دعاة علمانيون كثيرون إلى إنكار عذاب القبر، فهم يدركون أنه لا طاقة للمسلم بعذابين؛ عذاب الدنيا وعذاب القبر، حتى أنَّ بعض شيوخ الكوميديا أباحوا جنة الآخرة لجميع الأديان، ما دامت الدنيا محرمة على الشعب.
مورو للملهاة والغنوشي للمأساة:
لم تسلم عاصمة المسلمين مكة المكرمة من الكوميديا الإسلامية، فقد ظهر إمام الحرم السابق الشيخ الكلباني وهو يلعب كوتشينة البلوت كما في أفلام الإيطالي ترانس هيل
سبقت تونس سوريا في الترفيه الديني الذي تصدره الشيخ عبد الفتاح مورو، فأدّى فقرات تمثيلية حتى يبرهن على أنه ابن عصره، أمّا الغنوشي فمثّل الجانب المأساوي، وكان قد قَبِل مؤاخاة الفاسدين من العسكر والنظام القديم وذاب في العلمانية التونسية الشرسة، فرأيناه في مشهد حزين يُبكي القلوب، ورأينا برلمانية تونسية تعبث به ثم اضطرته لأن يقف على باب البرلمان راجيا متوسلا متضرعا الحارس أن يسمح له بدخول برلمانه، ثم دارت به الأزمان فمُنع كتابه في معرض الكتاب التونسي.
ولم تسلم عاصمة المسلمين مكة المكرمة من الكوميديا الإسلامية، فقد ظهر إمام الحرم السابق الشيخ الكلباني وهو يلعب كوتشينة البلوت كما في أفلام الإيطالي ترانس هيل، ثم رأيناه يقود المسلمين إلى معركة يرموك إلكترونية على سروج الكراسي المطهمة والأرائك المسوّمة ويقول: هل أصلح للتمثيل في هوليود؟ أنا أظن أنه يستحق الأوسكار.
تعب المسلمون من الحروب والوقوف على أبواب الأفران والنزوح في البراري والبحار، وآن لهم أن ينعموا بمباهج الحياة الدنيا الإلكترونية، ويأتموا بأئمة هدى الكوميديا وصراط المغامرات المثيرة.
الشيخ الشجاع:
هناك شيخ وحيد من المؤسسة الرسمية في دولة عربية، هي سلطنة عمان، يصدر فتاوى شجاعة، وقد سألت خبيراً عن تفسير بسالة هذا المفتي الذي يصفق لأردوغان ويرسل له التهاني، فقال لي: واجبنا في الدين أن نحسن الظنَّ بإخوتنا المسلمين، وفي السياسة أن نسيء الظنَّ بخصومنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق