«الاختلاف المذهبي وأثره في التفسير».. نتائج وتوصيات
د. عبد العزيز كامل
هذه نتائج وتوصيات رسالتي «الاختلاف المذهبي وأثره في التفسير»
بعد التطواف الطويل مع المفسرين في اختلافهم وائتلافهم، وبين مذهبيتهم وموضوعيتهم، في عقائدهم وفقههم، ومن خلال تفاسيرهم المشهورة والمغمورة، أجدني أمام فيض من الحقائق والنتائج أوجزها فيما يلي:
١ _ الخلاف والاختلاف يأتيان بمعنًى واحد في استعمال نصوص الكتاب والسُّنة وأقوال أهل العلم، خلافًا لمن فرق بينهما في المعنى.
٢_ المذهبية والاختلاف واقع مقدر في أمور كثيرة ، وأهم صورها : المذهبية الاعتقادية المفرقة، والمذهبية الفقهية الاجتهادية، والأولى مُستنكرة والثانية مُقرة مالم يخالطها تعصب أو بغي.
٣_ لا يجب على أحد أن يتبع مذهبًا فقهيًّا بعينه بدعوى إغلاق باب الاجتهاد، إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله تعالى ، ورسوله صلى الله عليه وسلم ، والعامي لا يصح له مذهب ولو تمذهب به ، لأنه لا يعرف الدليل، والواجب عليه أن يسأل العالم المجتهد الموثوق به، ويجوز له أن يقلد إمامًا من المتبوعين بلا تعصب.
٤_ هناك من فرَّق بين التأويل والتفسير، ولكن الراجح ألا فرق بينهما لرجوعهما في اللغة إلى معنى البيان، ولدلاله النصوص على المساواة بينهما في الاستعمال.
٥ _ التأويل عند السلف كان يستعمل بمعنى بيان معنى الكلام أو نفس المراد من الكلام، أما التأويل عند المتأخرين فإنه يستعمل بمعنى صرف اللفظ من المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به، وهو أنواع في عرفهم : تأويل قريب، وتأويل بعيد، وتأويل مستبعد.
٦_ الاختلاف في عهد الرسالة، كان في أضيق الدوائر وأقلها، بسبب وجود المرجعية الموحدة ممثلة في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم.
٧_ الاختلاف العلمي بين الصحابة بعد عهد الرسالة، كان بفقه وأدب، وأكثره كان اختلاف تنوع، وكان بريئًا من الهوى والجهل، لمنزلة الصحبة وقرب العهد بالرسالة واستمرار السليقة العربية.
٨ _ كانت دائرة الاختلاف في عهد التابعين أوسع مما سبقها، حيث ظهرت بواكير المذهبية على الساحة العلمية، ونشأت المدارس التفسيرية والفقهية والاعتقادية.
٩ _ الاختلاف في عصور التدوين تميز بظواهر جديدة عما سبقه، كان أبرزها ظهور الخلافات اللغوية، وتطور الخلافات الفقهية، وتأصيل الاختلافات الاعتقادية بعد أن بدأت مرحلة الاستقلال المذهبي الفقهي والاعتقادي.
١٠ _ أسباب الاختلاف بين أهل العلم عامة وأهل التفسير منهم بخاصة؛ تعود إلى أسباب بعضها يرجع إلى النص والرواية، وبعضها يرجع إلى الرأي والدراية، وكلا القسمين أدَّيا إلى أنواع جمة من الخلاف.
١١ _ انقسم الاختلاف من حيث موضوعه إلى قسمين: اختلاف في أصول الدين واختلاف في فروعه، ومن حيث طبيعته إلى قسمين : اختلاف تنوع واختلاف تضاد، ومن حيث دوافعه إلى أقسام عديدة منها ما هو بدافع الغيرة على الحق، ومنها ما كان بدافع الجهل، ومنها ما نشأ بسبب البغي ومنها ما قاد إليه الهوى، ومنها ما جاء بدافع التنطع أو الحسد والكبر أو التعصب والتقليد.
أما من حيث الاعتداد بالخلاف؛ فإنه ينقسم إلى قسمين، خلاف يعتد به وخلاف لا يعتد به. وانقسم الخلاف أخيرًا من حيث حكمه إلى اختلاف جائز مقبول وآخر محرم مذموم.
١٢_ مجموع الأنواع السابقة من الاختلاف أسفرت عن حقيقتها في مناهج التفسير، حيث اختلفت مناهج المفسرين إلى قسمين رئيسين هما : التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي، غير أنَّ طبيعة عمل المفسر في كل منهما أوجبت أن يتم التعامل مع التفسير بالمأثور بحيث ينقسم إلى قسمين : تفسير بالمنقول المقبول، وتفسير بالمنقول غير المقبول، وأوجبت أيضًا أن يكون التعامل مع التفسير بالرأي على أنه ينقسم إلى قسمين: تفسير بالرأي المقبول، وتفسير بالرأي المذموم.
١٣ _ التفسير بالمنقول غير المقبول، أخطر وأسوأ أثرًا من التفسير بالرأي غير المقبول، لأنَّ الأول ينسب نفسه للوحي والأثر، والثاني لا ينسب إلا إلى أصحابه.
١٤ _ التفسير بالرأي المحمود هو ما كان عن اجتهاد أو قياس من ذي أهلية لذلك، وهو يقترن بسلامة منهج المفسر ، التي لا يمكن أن تستمد إلا من منهج السلف.
١٥ _ التفسير بالرأي المذموم يأتي عن اجتهاد أو قياس ممن لا يملك الأهلية للتفسير علمًا وديانة، وإليه تنصرف كل نصوص الوعيد ومقالات الذم لمن يفسر القرآن برأيه.
١٦ _ لكل من المفسرين – على اختلاف مذاهبهم – وجهة يقصدها المفسر في تفسيره، قد تكون لغويةً أو عقليةً أو علميةً تجريبيةً أو أدبيةً أو فلسفية، وقد يكون الاتجاه اعتقاديًّا أو فقهيًّا، ولا ضير في تنوع هذه الاتجاهات ما دامت المناهج مستقيمة.
١٧ _ للتفسير الفقهي عند أهل السُّنة سمات تميزه عن التفسير الفقهي عند أصحاب الفرق، أهمها: أنه أغزرها عددًا، وأكثرها علمًا، وأقلها تعصبًا، مع استناده إلى أصول فقهية متقاربة، ومصادر تفسيرية موحدة تنطلق من الكتاب والسُّنة واللغة.
١٨ _ التفسير الفقهي عند أصحاب الفرق لم يعرف إلا عند الشيعة الإثنى عشرية والشيعة الزيدية، والخوارج الأباضية، أما بقية الفرق فنتاجها التفسيري الفقهي نادر أو معدوم.
١٩ _ يتميز التفسير الفقهي لدى أصحاب الفرق بشدة التعصب المذهبي مع اختلاف واضح بينها في الأصول والقواعد الفقهية ، وكذا المصادر التفسيرية والمرجعية الحديثية، فمصادر الشيعة تختلف عن مصادر الخوارج، والخوارج يختلفون عن الزيدية وهكذا..
٢٠ _ مع كثرة اختلاف الفرق مع أهل السُّنة في تفسير الأحكام؛ إلا أنَّ ذلك الخلاف أقل وأدنى خطورةً من اختلافهم مع أهل السنة في العقائد.
٢١_ الاتجاه الاعتقادي في التفسير أخطر اتجاهات التفسير، لأنَّ المفسر فيه يعتمد على القرآن في إبراز معالم مذهبه، ويطوع تلك النصوص لكي لا تبدو مناقضة لأصول مذهبه.
٢٢_ التفاسير المعروفة كلها – مشهورة أو مغمورة – يمكن تصنيفها مذهبيًّا، فلا يكاد يوجد تفسير إلا وصبغة المذهبية ظاهرة عليه، فقهيةً كانت أو اعتقادية، ولكن الصبغات المذهبية للمصنفات التفسيرية طرأ عليها تداخل في العصور الأخيرة لأسباب ترجع إلى حالة الانحطاط العلمي والضعف المنهجي ، قبل سنوات الصحوة الدينية العلمية الأخيرة، التي أعادت التمايز المذهبي بسبب حركة الانتعاش لكل أصحاب المذاهب.
٢٣_ هناك ضوابط وقواعد، يمكن لها – إذا تمت مراعاتها – أن تقلص مساحة الاختلاف، وتنقي ساحة التفسير مما علق بها من آفات، وهي منثورة في بطون الأمهات من الكتب القديمة، ومجموعة في بعض البحوث والرسائل الحديثة، ويمكن في ضوئها أن يُنظر إلى التفاسير نظرة علمية محايدة، تستخلص الأصيل، وتستبعد الزائف الدخيل.
٢٤_ المذاهب الاعتقادية التي تصبغ التفاسير، لا بد لها من منهج تقويم حاكم، تقاس به وتحاكم إليه مسالك المفسرين في تفسير آيات الاعتقاد، ولا بديل عن منهج السلف كمرجعية تضبط جميع المسالك والمناهج في التفسير وغيره.
٢٥_ أهل السنة والجماعة يمثلون الامتداد التاريخي والمنهجي للسلف الصالح، ومصنفاتهم في أصول الدين تعكس طريقة السلف الصحيحة في تناول قضايا العقيدة، استمدادًا وإمدادًا.
٢٦_ المعالم الرئيسة لمنهج السلف من القرون الأولى المفضلة، مجموعة في كتب العقيدة المعتمدة عند أهل السُّنة والجماعة، وذلك في مسائل الإيمان والتوحيد والقدر وغير ذلك.
٢٧ _ يقترب المفسرون أو يبتعدون عن المنهج الصحيح المقبول؛ بقدر اقترابهم أو ابتعادهم عن طريقة السلف ومنهج أهل السُّنة والجماعة.
٢٨ _ الخوارج يمثلون أولى الفرق الإسلامية الخارجة عن النهج الصحيح، ولم يبق منهم في عصرنا بصورة منهجية، إلا الفرقة الأباضية، وهي لها تراث تفسيري لا بأس به من حيث العدد، ولكنه يعكس فكر الخوارج وعقائدهم التي تميزوا بها عن غيرهم، وعلى رأسها التكفير بالكبيرة. والتراث التفسيري للخوارج يجد اليوم من يعيد إخراجه والترويج له، لتزايد القبول بفكرة التكفير، حتى من بعض الطوائف المنتسبة إلى السُّنة.
٢٩_ على الرغم من بُعد البون بين منهج الأباضية ومنهج أهل السُّنة من حيث المرجعية الاعتقادية والمصادر التفسيرية والحديثية، إلا أنهم مع ذلك أقل فرق الخوارج غلوًّا، وفرص الحوار معهم قد تأتي بخير إذا تم الإتفاق على تنحية التعصب جانبًا، ولزوم خبر القرآن وأثر الرسول صلى الله عليه وسلم .
٣٠_ فكر الاعتزال بعد أن قارب على الزوال؛ وجد في العصور الأخيرة من يحاول إحياءه، وهو يقوم على إنزال العقل فوق منـزلته، ولا يوجد من تفاسير المعتزلة اليوم إلا النادر، ومع ذلك فإنَّ فكر الاعتزال هو أقدر الأفكار على التسرب إلى عقول الناس في العصر الحديث، في ظل غياب الفهم الواعي لمنهج أهل السُّنة والجماعة، وعلى الرغم من بشاعة فكر الاعتزال في قضايا مثل: التكفير بالكبيرة والمنـزلة بين المنـزلتين وإنكار صفات الله، إلا أنَّ المروجين له يحاولون إلباسه لباس الاستنارة وسعة الأفق، وهذا يستدعي يقظةً علمية، تحذر الناس من إلباس الحق بالباطل.
٣١_ الشيعة الإمامية أخطر الفرق القديمة والمعاصرة على سلامة قضايا الدين فروعًا وأصولًا، وتفاسيرهم التي تتميز عن بقية تفاسير الفرق بالكثرة والتنوع، تلقى اليوم من الرعاية والترويج في ظل كياناتهم السياسية، ما يكاد يقارب الاهتمام بكتب السلف وأئمة أهل السُّنة.
٣٢_ التباعد الواضح بين منطلقات أهل السُّنة ومنطلقات الرافضة في الاعتقاد؛ يدعو إلى النظر بشيء من الحذر الواقعي إلى دعوات التقارب بين المذهبين، فالواضح أنَّ دعوات التقريب بين أهل السُّنة والشيعة كانت تتكئ فيما تتكئ عليه على قرب المذهب الجعفري في أصوله الفقهية من الأصول الفقهية السُّنية، وهذا صحيح، ولكن الصحيح أيضًا، أنَّ أصول الدين أهم من فروعه، وفقه الاعتقاد هو الفقه الأكبر الذي يصر علماء الشيعة قديمًا وحديثًا على استمداده من مصادر يدَّعون فيها العصمة، مع أنها لا ترقى إلى صلاحية التشريع في الفروع فضلًا عن الأصول.
٣٣_ لا يزال شيعة اليوم على عهد الرفض لفهم جمهور الصحابة في أكثر أصول الاعتقاد، وهم لفهم مَن دون الصحابة أكثر رفضًا، فدعوى تراجعهم عن ضلالات الماضي تعوزها الأدلة في ظل تمسك معاصريهم بأصول سالفيهم.
٣٤_ الشيعة الزيدية من أكثر الفرق اختلافًا فيما بينها، حيث تقترب فصائلها مرةً من الاعتزال، ومرةً من الإمامية الاثني عشرية، ومرةً تقترب من أهل السُّنة، ومع ذلك فهم أقرب الفرق الشيعية إلى السُّنة، وقد شهد المذهب الزيدي قفزةً من الاقتراب إلى السُّنة بمجئ الإمامين الصنعاني والشوكاني. ولكنه عاد فاقترب من الرفض الاثني عشري.
٣٥_ للمتكلمين( الاشاعرة) آثار باقية في كتب التفسير على اختلاف تصنيفها، فمتكلموا الخوارج والمعتزلة والشيعة وأهل السُّنة، سلكوا في التدليل على مسائل الاعتقاد مسالك عقلية اختلطت فيها طرق الاستدلال المنطقية الفلسفية، بطرق الاستدلال الشرعية التي كان عليها سلف الأمة، وهذا في رأيي يمثل أكبر تحد يواجه المنهج السُّني في عقر داره، لأنَّ علم الكلام المذموم على ألسنة أكثر علماء الأمة، يحاول دائمًا أن يلبس لبوسًا مموهة، منها لباس السُّنة.
٣٦_ تفاسير الأحكام اشتهرت بالتصنيف الموزع بين المذاهب الفقهية الكبرى داخل مذهب أهل السُّنة والمذاهب الفقهية خارجه، ولكن ما لم يشتهر هو التصنيف المذهبي الفقهي لكتب التفسير العامة، فلكل مفسر فيها مذهبه الفقهي الذي يظهر أثره عند الاختيارات والترجيحات الفقهية المتعلقة بآيات الأحكام، وعدم وضوح هذا التصنيف، قد يوقع في اللبس عند غير المتخصصين لإيهامه بالتناقض في التفاسير.
٣٧_ الاختلاف الفقهي بين المفسرين ناتج في معظمه من اختلافهم في أصول الفقه، والاختلاف في أصول الفقه أثَّر في الاختلاف في أصول التفسير لدى بعض المفسرين.
٣٨_ الاختلاف الفقهي كانت له آثار ضارة سلبية نشأت عن التعصب المذهبي، وآثار أخرى نافعة وإيجابية، نتجت عن استفراغ الوسع في استخراج دقائق المسائل من آيات الأحكام التي تعد أصل التشريع في الفروع.
٣٩_ للمدارس الفقهية الكبرى مواقف من أدلة الأحكام المتفق عليها وهي (القرآن والسُّنة والإجماع والقياس) ومواقف من أدلة السُّنة المختلف فيها (كقول الصحابي ومذهب أهل المدينة والاستصحاب والاستحسان وشرع من قبلنا) وانعكست هذه المواقف على آراء المفسرين، فظهرت آثارها في كتب التفسير الفقهي، ومواضع آيات الأحكام في التفاسير العامة، مما جعل كتب تفاسير الأحكام مرجعًا أصيلًا للدراسات التطبيقية في أدلة الأحكام المتفق عليها والمختلف فيها.
٤٠_ كان للاختلافات الاعتقادية والتعصبات الفقهية آثار تاريخية بالغة الخطورة على مسيرة الوحدة في الأمة الإسلامية، ولا تزال هذه الآثار مصدر ضرر ودمار يتهدد مسيرتها المستقبلية، ولما كان كتاب الله _ تعالى _ هو المصدر الأول لهداية الأمة وتوحيد صفوفها على الصراط المستقيم، فإنَّ من الغبن والجفاء لهذا الكتاب العظيم أن تستخدم آياته لغير ما أنزلت له، فتبعد عن الهداية أو تفرق بين الصفوف، ولهذا أرى الحاجة ملحةً والضرورة ماسَّةً لبذل جهد إصلاحي كبير ينطلق من كتاب الله لرأب المستطاع من الصدوع، ورتق الممكن من الفتوق في الكيان المعنوي للأمة الإسلامية، وإذا كان المنطلق هو كتاب الله، فلا جرم أنَّ يكون التفسير هو مركب ذلك الانطلاق.
ولهذا يوصي الباحث من واقع دراسته للاختلاف المذهبي وأثره في التفسير بالتوصيات التالية:
أولًا: أولى خطوات إصلاح الأمة انطلاقًا من كتاب الله، تبدأ بتصحيح منهج الفهم لكتاب الله، وإذا كان آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أوَّلها، فإنَّ الأوَّلين كانوا هم السابقين إلى الفهم الصحيح لنصوص الوحي، وهم وحدهم الجيل الذي قام بـ (التفسير العملي للقرآن) فجمع آثار هؤلاء الأخيار في فهم كتاب الله، والتقاطها من مظانها عمل كبير، وجدير بأن تنشأ من أجله مراكز علمية متخصصة في أنحاء العالم الإسلامي.
ثانيًا: من الواجب على العلماء وطلبة العلم أن يراعوا التصنيف المذهبي للكتب التي يستمدون منها الأقوال والنصوص، ليدركوا الخلفية التي ينطلق منها المفسر عندما يُرجح أو يُضعف.
ثالثا: توافرت في عصرنا هذا بما لم تتوافر في عصور قبله، كل إمكانات البحث العلمي الدقيق في ظل التقنيات الحديثة، ومع توافر الكوادر العلمية القادرة على البحث؛ أصبحت مهمة تنقية التراث التفسيري وتصفيته، مهمة حضارية ضرورية. وقد انتعشت في السنوات الأخيرة حركة إحياء التراث التفسيري فأنتجت الجامعات وغير الجامعات إنتاجًا علميًّا مباركًا في تحقيق مرويات الصحابة في التفسير، وبإمكان الباحثين المحققين أن يستفيدوا من ذلكم الإنتاج في تنقيح وتصحيح التفاسير المعتمدة المتداولة – وبخاصة كتب التفسير بالمأثور- لتنشر منها طبعات محققة تتلافى ما خالط تلك التفاسير من آفات.
رابعا : هناك أمل قديم، أصبح قريبًا من التحقيق في ظل الصحوة العلمية الإسلامية المعاصرة، وهو تكوين وإنشاء ديوان تفسيري، يجمع كل الأحاديث والآثار المسندة في التفسير، بحيث يكون تفسيرًا خاليًا من المذهبية الضارة، ولا مجال – في تصوري – لإصدار تفسير خالٍ من تلك المذهبية إلا أن يكون تفسيرًا مجموعًا من آثار ما قبل المذهبية، ولا يعني ذلك إهدار التراث التفسيري الضخم الذي جاء عبر العصور الإسلامية، ولكن المقصود أن يكون ذلك التفسير السلفي غير المذهبي، ميزانًا تقوَّم به كل التفاسير. ومن شأن هذا الإصدار المؤصل أن يرفع عن أشرف العلوم وصمة وصفه بأنه لا أصل له.
خامسا : لا بد أن يتوازى مع جهد استخراج الثمين من التراث، جهد آخر لدفع الغث من الموروث، وذلك لا يكون إلا بفضح المناهج الضالة، وتعرية الأفكار المنحرفة التي تسربت إلى كتب التفسير، وبيان عدم أهلية من تصدوا لذلك لبيان معاني القرآن ويمكن في هذا الصدد وضع موسوعة مذهبية للمصنفات التفسيرية، تطلع القارئ المسلم على الانتماءات المذهبية للمفسرين، بحيث يكون على بينة من أمره وهو يطالع ما يفترض أنه بيان لمراد الله من خطابه للبشر.
سادسًا: هناك مسؤولية جسيمة تقع على الحكومات والمنظمات والمراكز العلمية والثقافية، لمنع تسرب الأفكار المنحرفة والضلالات الشاذة التي تنتشر بزعم حرية الفكر والإبداع، وبخاصة إذا استترت أو تترست بالتفسير وعلوم الشريعة الأخرى، فمن شأن ذلك أن يمنح المجتمعات الإسلامية نوعًا من الأمن طال إهمال توفيره وهو (الأمن الفكري) .
والباحث يسجل هنا ملحظًا على جانب كبير من الأهمية والخطورة في نظره، وهو أنَّ هناك طفرةً متزايدةً في انتعاش وانتشار أفكار مذاهب الفرق، من خلال الشبكة العالمية للمعلومات (الإنترنت)، حيث تدعو كل الفرق بكل الوسائل إلى أفكارها بعرض ما لديها من تراث ونتاج فكري في التفسير وغيره من خلال مئات المواقع التابعة لها على الشبكة. وهي تركز في الوقت نفسه على التصدي لمنهج أهل السُّنة بالطعن فيه والتحذير منه، وهذا يضاعف مسؤولية أصحاب المنهج الصحيح في التصدي لهذا الخطر وذاك الضرر بجهد مماثل، ينشد الإصلاح ويهدف إلى إبلاغ كلمة الحق الصافية المبرأة من الضلالة والهوى.
واخيرا..نسأل الله أن يرد المسلمين إليه ردًّا جميلًا، وأن يعيدهم إلى دينه عودًا حميدًا، وأن يجعلنا وأهلنا وإخواننا وعلماءنا وأساتذتنا أهلًا لأن نكون من أهل القرآن، وأن يهدينا ويهدي بنا وييسر الهدى لنا.
وصل اللهم على نبينا محمد وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق