أنور الجندي
راهب الفكر والثقافة
نشأته
ولد « أحمد أنور سيد أحمد الجندي» عام 1917 بقرية ديروط التابعة لمركز أسيوط بصعيد مصر، ويمتد نسبه لعائلة عريقة عُرفت بالعلم؛ فجده لوالدته كان قاضيًا شرعيًا يشتغل بتحقيق التراث، وكان والده مثقفًا يهتم بالثقافة الإسلامية، وكان «أنور» – الذي تسمى باسم «أنور باشا» القائد التركي الذي اشترك في حرب فلسطين والذي كان ذائع الشهرة حينئذ – قد حفظ القرآن الكريم كاملاً في كتَّاب القرية في سن مبكرة، ثم ألحقه والده بوظيفة في بنك مصر بعد أن أنهى دراسة التجارة بالمرحلة التعليمية المتوسطة، ثم واصل دراسته أثناء عمله، حيث التحق بالجامعة في الفترة المسائية ودرس الاقتصاد وإدارة الأعمال، إلى أن تخرج في الجامعة الأمريكية بعد أن أجاد اللغة الإنجليزية التي سعى لدراستها حتى يطلع على شبهات الغربيين التي تطعن في الإسلام[1].
تكوينه الفكري
لقد لخص جهده البحثي العظيم في هذه القضية حين قال: قرأت بطاقات دار الكتب وهي تربو على مليوني بطاقة، وأحصيت في كراريس بعض أسمائها، وراجعت فهارس المجلات الكثيرة الكبرى، كالهلال والمقتطف والمشرق، والمنار، والرسالة، والثقافة، وأحصيت منها بعض رؤوس موضوعات، وراجعت جريدة الأهرام على مدى عشرين عاما، وراجعت المقطم، واللواء، والبلاغ، وكوكب الشرق، والجهاد، وغيرها من الصحف، وعشرات من المجلات العديدة والدوريات التي عُرفت في بلادنا في خلال هذا القرن![2]
ويقول: ما زلت أفخر بأني كتبت في (أبولو) وأنا في هذه السن (17) عامًا، وقد فتح لي هذا باب النشر في أشهر الجرائد والمجلات آنئذ مثل البلاغ وكوكب الشرق والرسالة وغيرها من المجلات والصحف!
ويقول: على الأدباء والمثقفين عامة أن يدركوا أنهم على بر الأمان، ولا خوف عليكم، ما تمسكوا بالعربية “لغة القرآن” لغة أكثر من ألف مليون مسلم، وليس مائة مليون هم الغرب وحدهم؛ لأنه ما تزال قوي التخريب وفلول الاستعمار والأحقاد والغزو الثقافي تطارد اللغة العربية الفصحى مطاردة شديدة ، وهناك اتجاه تغريبي يرمي إلى هدم الفصحى وعزلها!
امتاز أنور الجندي رحمه الله بالقدرة على التأليف الموسوعي والمعجمي، وإعداد الكتب الضخمة الممتدة التي تتناول جزئيات كثيرة، وفروعًا شتى، ولذا يجد القارئ في مؤلفاته موسوعات متنوعة تتناول أصول الإسلام، ومناهج العلوم، والأدب العربين والتاريخ الإسلامي، والدعوة الإسلامية، والأعلام العرب والمسلمين، المعاصرين منهم والقدامى، والصحافة الحديثة والمعاصرة، والتبشير والاستشراق والتغريب[3].
ويعد عام 1940 نقطة تحول في حياة الأستاذ أنور الجندي.. فبعد قراءته لكتاب “وجهة الإسلام“ لمجموعة من المستشرقين الأمر الذي كان له أثر كبير في تحول حياته من الحياة الهادئة الناعمة إلى حياة مجاهد بالقلم يتصدى لما يوجه نحو الأمة من حملات تغريبية ..
فقد لفت هذا الكتاب نظره إلى حجم المؤامرة على الإسلام، فما كان من أنور الجندي إلا أن قال:
“هذا قلمي عدتي وسلاحي من أجل مقاومة النفوذ الفكري والأجنبي والغزو الثقافي” .. وأكد أيضًا أنه تولد لديه تحد كبير يخبر عنه فيقول: ذلك هو التحدي الذي أذهلني ودفعني إلى معرفة أبعاد هذا الخطر وما هي القضية كلها أساسًا وما هو الدور الذي يمكن لكتَّاب الإسلام أن يقوموا به في سبيل تحطيم هذه الخطة وتدمير وجهتها.
وخص هذه السنة بقوله:
عام 1940 تقريبًا .. وقد أخذت أبحث عن هذه المخططات (الاستشراق والتبشير والغزو الثقافي) والتغريب والدخول في قضية كبرى هي “تصحيح المفاهيم“، وأمضيت عشر سنوات كاملة بين أضابير دار الكتب ودورياته فقد كان ضروريًّا أن أعرف جذور العملية ممثلة في الصحافة التي كانت تُعايش ذلك العصر منذ الاحتلال البريطاني 1882 وإلى ذلك اليوم كانت أعمالي قائمة أساسًا على التعريف بعظمة الإسلام وتاريخه وتراثه وتقديم صورة الأمة الإسلامية في مجال عظمة تاريخها وأمجادها، وكان هذا مفهومي للدعوة الإسلامية..[4]
البنا يشعل جذوة الفكر لديه
يقول: إنني مدين بتكويني الفكري إلى القرآن والسنة، الإسلام بمفهومه الأصيل كما كشف عنه الأستاذ الإمام حسن البنا بما فهم الأوائل فيه عودة إلى المنابع[5].
التقى المؤرخ العملاق والمفكر الكبير أنور الجندي بالإمام الشهيد حسن البنا في بواكير حياته، فكان هذا اللقاء -حقًا- مباركًا، وكانت بيعة الرجل الأمين زادًا أصيلًا على طريق النور. أخذ فيه “الجندي” نفسه بنفسه على وضع منهج إسلامي متكامل لمقدمات العلوم والمناهج، يكون زادًا لأبناء الحركة الإسلامية ونبراسًا لطلاب العلم والأمناء في كل مكان؛ فأخرج هذا المنهج في 10 أجزاء ضخمة يتناول فيه بالبحث الجذور الأساسية للفكر الإسلامي التي بناها القرآن الكريم والسنة المطهرة، وما واجهه من محاولات ترجمة الفكر اليوناني الفارسي والهندي، وكيف قاوم مفهوم “أهل السنة والجماعة” وكيف انبعثت حركة اليقظة الإسلامية في العصر الحديث من قلب العالم الإسلامي نفسه –وعلى زاد وعطاء من الإسلام- فقاومت حركات الاحتلال والاستغلال والتغريب والتخريب والغزو الفكري والثقافي.. ويذكر للعلامة الجندي عند الله وعند الناس أن هذه الموسوعة الضخمة تعجز الآن عشرات المجامع ومئات المؤسسات والهيئات أن تأتي بمثلها. أو بقريب منها.
وظل الجندي على العهد إلى آخر نفس في حياته، حيث كان يضع أمام سرير نومه صورة لوالده وجده والإمام الشهيد حسن البنا رضوان الله على الجميع. وخص الإمام البنا بثلاثة كتب أولها في صدر شبابه، حين كان يصدر موسوعة فكرية إسلامية لمنهجه “الفكر وبناء الثقافة” أول كل شهر بصفة دورية فكان منها عام 1946: “الإخوان المسلمون في ميزان الحق”. وكتاب “قائد الدعوة.. حياة رجل وتاريخ مدرسة”، ثم اختتم حياته المباركة بكتابه النفيس “حسن البنا.. الداعية الإمام والمجدد الشهيد.[6]
اهتماماته
يقول: أنا محام في قضية الحكم بكتاب الله، ما زلت موكلاً فيها منذ بضع وأربعين سنة، منذ رفع القضية الإمام الذي استشهد في سبيلها قبل خمسين عاما للناس، حيث أعد لها الدفوع، وأقدم المذكرات بتكليف بعقد وبيعة إلى الحق تبارك وتعالى، وعهد على بيع النفس لله والجنة – سلعة الله الغالية – هي الثمن لهذا التكليف! (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة).
إنني محام: للدفاع عن ميراث هذه الأمة.
إنني محام: لتصحيح المفاهيم وكشف الزيف والشبهات عن فكر الإسلام.
إنني محام: للدعوة إلى الله ونشر كلمة لا إله إلا الله في العالمين. إن المسؤولية ضخمة والمهمة شاقة، وهي تستغرق كل الوقت وكل العمر، وما مكنني ربي فيه خير. سلاحي القلم ، أرسل به القذائف على معسكر العدو، وأسأل الله أن أموت مجاهد الكلمة شهيد الحق.
ومازلت منذ حملت هذه الأمانة، وأنا أحس أن هناك “جذوة” متقدة في أعماق النفس وتحديًا قائمًا لا يتوقف ولا يفتر، لقد كانت آمالًا وأحلامًا وأماني لأناس كثيرين، غابت ثم عادت، واطمأنت النفوس واستسلمت للرضا
بالواقع ، أما صاحب أمانة الدعوة الإسلامية، فإنه مازال قائمًا بها لايستنيم ولايهدأ ولايحس بالرضا عن النفس أو بأنه ألقى حمله الثقيل أو تخفَّف منه… وهو إلى ذلك مكلف بإضاءة الطريق أمام الإنسانية لتعرف ربها، لتعرف طريق الخَلْق إلى الحق [7].
الشباب جمهوره الأول
كان الأستاذ أنور الجندي يميل في كتاباته إلى التسهيل والتبسيط، وتقريب الثقافة العامة لجمهور المتعلمين، دون تقعر أو تفيهق أو جنوح إلى الإغراب والتعقيد، فكان أسلوبه سهلًا واضحًا مشرقًا. وكان الأستاذ الجندي لا يميل إلى التحقيق والتوثيق العلمي، فلم تكن هذه مهمته، ولم يكن هذا شأنه، ولذلك لا ينبغي أن يؤخذ عليه أنه لا يذكر مراجع ما ينقله من معلومات، ولا يوثقها أدنى توثيق، فإنه لم يلتزم بذلك ولم يدّعه. وكل إنسان يحاسب على المنهج الذي ارتضاه لنفسه، هل وفَّى به وأعطاه حقه أم لا؟
أما لماذا لم يأخذ بالمنهج العلمي؟ ألعجز منه أو لكسل، أو لرؤية خاصة تبناها وسار على نهجها؟
يبدو أن هذا الاحتمال الأخير هو الأقرب، وذلك أنه لم يكن يكتب للعلماء والمتخصصين، بل كان أكثر ما يكتبه للشباب، حتى إنه حين كتب موسوعته الإسلامية التي سماها (معلمة الإسلام) وجمع فيها 99 مصطلحا في مختلف أبواب الثقافة والحضارة والعلوم والفنون والآداب والشرائع، جعل عنوان مقدمة هذه المعلمة: (إلى شباب الإسلام) وقال في بدايتها: الحديث في هذه المعلمة موجه إلى شباب الإسلام والعرب، فهم عدة الوطن الكبير، وجيل الغد الحافل بمسؤولياته وتبعاته، وهم الذين سوف يحملون أمانة الدفاع عن هذه العقيدة في مواجهة الأخطار التي تحيط بها من كل جانب، فمن حقهم على جيلنا أن يقدم لهم خلاصة ما وصل إليه من فكر وتجربة.. وأن نُعبِّد لهم الطريق إلى الغاية المرتجاة… هذه مسؤوليتنا إزاءهم، فإذا لم نقم بها كنا آثمين، وكان علينا تبعة التقصير. ا.هـ.
وأعتقد أن كتبه قد آتت أكلها في تثقيف الشباب المسلم، وتحصينهم من الهجمات الثقافية الغربية المادية والعلمانية، التي لا ترضى إلا بأن تقتلعهم من جذورهم وأصالتهم[8].
زاهدًا في دنياه عزيزًا في نفسه
كان الأستاذ الجندي زاهدًا في الدنيا وزخرفها، قانعًا بالقليل من الرزق، راضيًا بما قسم الله له، لا يطمع أن يكون له قصر ولا سيارة، حسبه أن يعيش مكتفيًا مستورًا، وكان بهذا من أغنى الناس، كان كما قال علي كرم الله وجهه:
يعز غنى النفس إن قل ماله
ويغني غنى المال وهو ذليل
وكان أربه من الدنيا محدودا، فليس له من الأولاد إلا ابنة واحدة، تعلمت في الأزهر، وحصلت على إجازة (ليسانس) في الدراسات الإسلامية من جامعة الأزهر، وكانت رغباته تنحصر في أن يقرأ ويكتب وينشر ما يكتب. كما سئل أحد علماء السلف: فيم سعادتك؟ قال: في حُجَّة تتبختر اتضاحًا، وشبهة تتضاءل افتضاحا.
حكى الكاتب الصحفي عبد السلام البسيوني أنه ذهب إلى القاهرة مع فريق من تليفزيون قطر ليجري حوارا مع عدد من العلماء والدعاة كان الأستاذ أنور منهم أو في طليعتهم. ولم يجد في منزله الذي يسكنه مكانا يصلح للتصوير فيه، فقد كان في حي شعبي مليء بالضجيج، وكان المنزل ضيقًا مشغولًا بالكتب في كل مكان، فاقترح عليه أن يجري الحوار معه في الفندق. وبعد أن انتهى الحوار، تقدم مدير الإنتاج بمبلغ من المال يقول له: نرجو يا أستاذ أن تقبل هذا المبلغ الرمزي مكافأة منا، وإن كان دون ما تستحق. فإذا بالرجل يرفض رفضًا حاسمًا، ويقول: أنا قابلتكم وليس في نيتي أن آخذ مكافأة، ولست مستعدًا أن أغير نيتي، ولم أقدم شيئًا يستحق المكافأة.
قالوا له: هذا ليس من جيوبنا، إنه من الدولة.. وأصر الرجل على موقفه، وأبى أن يأخذ فلسا!
وكان الأستاذ الجندي يكتب مقالات في مجلة (منار الإسلام) في أبو ظبي، وفوجئ القراء يوما بإعلان في المجلة يناشد الأستاذ أنور الجندي أن يبعث إلى إدارة المجلة بعنوانه، لترسل إليه مستحقات له تأخرت لديها. ومعنى هذا أنه لا يطلب ما يستحق، ناهيك أن يلح في الطلب كالآخرين[9].
جاءته جائزة كبيرة مرموقة، فأباها وقال: إنما أطلب جائزتي الكبرى من ربي.. لا أريد أن آتي يوم القيامة فيقال لي: لقد أخذت جائزتك من فلان.
وفي مرضه الأخير استأذنته إحدى الجامعات الاستشراقية الكبيرة في الغرب، أن تطلق اسمه على إحدى قاعاتها الكبرى، فرفض ذلك قائلاً: لقد حاولوا شراء هذا القلم من قبل فما استطاعوا، ولن أمكنهم اليوم من ذلك أبدًا[10].
وفاته
ذكر الطبيب الذي كان يعالجه: أنه استقبل القبلة قبل مفارقة الدنيا، وصلى، وقال بصوت مسموع: إني فرح بلقاء الله، بأبي أنت وأمي يا سيدي يا رسول الله[11]. وكان ذلك يوم الاثنين الموافق 28 من يناير عام 2002
رحم الله ” أنور الجندي “، وأعظم له المثوبة والأجر.
أهم مؤلفاته
الهوامش
[1] المكتبة الشاملة ، على شبكة الإنترنت ، أنور الجندي .
[2] أنور الجندي . شهادة العصر والتاريخ . خمسون عاما على طريق الدعوة الإسلامية .
[3] أنور الجندي المجهول المعلوم . الجزيرة نت في 3/2/2012.
[4] https://www.ikhwanwiki.com
[5] السابق . ص8.
[1] المكتبة الشاملة ، على شبكة الإنترنت ، أنور الجندي .
[2] أنور الجندي . شهادة العصر والتاريخ . خمسون عاما على طريق الدعوة الإسلامية .
[3] أنور الجندي المجهول المعلوم . الجزيرة نت في 3/2/2012.
[4] https://www.ikhwanwiki.com
[5] السابق . ص8.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق