عندما يؤلف الجنرال تاريخًا
وائل قنديل
في شرم الشيخ، حيث عبد الفتاح السيسي منفردًا بدور البطل الأوحد في العرض الشبابي المشير، لم يفوّت الفرصة لكي يؤلف تاريخًا شخصيًا له، ولم لا والأمة عن بكرة أبيها مستغرقة في حروب الموتى؟
من بين ما قال "في 2011 السفيرة الأمريكية بتقولي مين ممكن يحكم مصر؟ قولتها اللي هيحكم مصر الإخوان المسلمين. قالتلي وبعدين؟ قولتها هيمشوا؟ سألتني ليه؟ قولتها الشعب المصري لا يُقاد بالقوة .. لا يدخل الجامع أو الكنيسة بالعافية".
دعك من أن هذه الرواية تؤكّد المؤكد سلفًا، أن قرار الانقلاب على أي رئيس لمصر من خارج المؤسسة العسكرية جرى اتخاذه قبل أن تضع ثورة يناير 2011 أوزارها، فما يهم هنا أن السيسي يتحدّث بوصفه الشاهد الوحيد، بعد أن غاب الشهود الأصليون، موتًا وإسكاتًا بالقوة، أو إيثارًا للسلامة، حيث غيب الموت الرئيس ومرشّح جماعة الإخوان المسلمين الفائز، محمد مرسي، وكذا المشير رئيس المجلس العسكري الحاكم للبلاد في ذلك الوقت، حسين طنطاوي، وأيضًا الفريق محمد العصار، أو اللواء في ذلك الوقت، الأكثر قربًا من الدوائر السياسية والدبلوماسية الأميركية، من بين كل أعضاء المجلس العسكري، كما سكت جبرًا وإكراهًا وهو على قيد الحياة، الفريق سامي عنان، حبيس الإقامة الجبرية، فيما تبخّر الفريقان محمود حجازي، ثم صدقي صبحي (وزير الدفاع)، اللذين أطيحا فاستقرّا على شاطئ الصمت.
لست في حاجة لتذكيرك بأنه لا توجد رواية أخرى، وإن وُجدت فلا توجد نافذة يمكن أن تطلّ منها هذه الرواية الأخرى، إذ يرفل الجنرال الأوحد في دفء صداقاته الحديثة مع نوافذ الرواية الأخرى.
لا طائل كذلك من التساؤل عن موافقة المتحدّث على تعيينه وزيرًا للدفاع، بديلًا عن طنطاوي، الأب الروحي له، في عمليةٍ قيل وقتها، إن السيسي هو الذي أنقذ الرئيس الإخواني من مؤامرة المشير ورئيس أركانه، فكوفئ بتعيينه على رأس المؤسسة العسكرية، فالثابت تاريخيًا، والذي سمعته بنفسي، وسمعه أكثر من 30 شخصًا آخرين في تلك الليلة من ليالي يونيو/ حزيران 2012 وبعد إقفال صناديق جولة الإعادة من السباق الثنائي على الرئاسة بين المدني محمد مرسي والعسكري السابق الفريق أحمد شفيق، أن المجلس العسكري، بقيادة المشير طنطاوي، كان أميل إلى إعلان فوز أحمد شفيق، على الرغم من أن عمليات فرز الأصوات كانت تُظهر تفوقًا كاسحًا للرئيس مرسي.
من بين ما قاله الدكتور (الرئيس فيما بعد) محمد مرسي في تلك الليلة، في أثناء الحوار الممتد إلى ساعات النهار الأولى في فندق فيرمونت، إن هناك ضغوطًا ومساومات يمارسها المجلس العسكري لفرض شروطه على المرشّح الفائز، حيث تم تصعيد مفاجئ في أرقام نتيجة الطرف الثاني، ثم تمرير احتمالية تغيير النتيجة بفرض سؤالٍ مخالفٍ للواقع على الناس.
كان مرسي يستعرض معطيات الموقف بعد إعلان فوزه، بشكل غير رسمي، من خلال إذاعة مجموعة القضاة المستقلين نتائج محاضر الفرز في اللجان الفرعية، على مستوى الجمهورية، فأبدى قلقه من أن يتلاعب المجلس العسكري بالنتيجة، مشيرًا إلى خطواتٍ اتخذها العسكريون الذين يمسكون بالسلطة للمساومة، في مقدمتها: قرار وزير العدل منح الضبطية القضائية لأفراد الجيش والمخابرات، وهو القرار الذي وصفه حرفيًا بأنه "أسوأ من قانون الطوارئ" ثم حكم المحكمة الدستورية بحلّ البرلمان المنتخب، وإسراع المجلس العسكري بتنفيذ الحكم في اليوم التالي (الجمعة) قبل أن يأتي يوم "الأحد" بإصدار العسكري الاعلان الدستوري المكمل المعيب أو المكبل لرئيس الجمهورية على حد وصف الحضور، وهو القرار المتضمن تحصين أعضاء المجلس العسكري من العزل، وهيمنة العسكري على سلطة التشريع وإقرار الموازنة والحق في تشكيل جمعية تأسيسية للدستور، وكذا الحق في الاعتراض على ما يشاء من النصوص المقترحة للدستور. ثم كان قرار المجلس العسكري بتشكيل مجلس للدفاع الوطني، من أغلبية عسكرية مطلقة، مع النصّ على أن تكون قراراته بالأغلبية، ما يعني حرفيًا أن لا سلطة لرئيسه، الذي هو رئيس الجمهورية، عليه.
كل هذه القرارات والإجراءات تظهر أن المجلس العسكري نفذ قرار عزل الرئيس مرسي، قبل أن يؤدّي الأخير اليمين رئيسًا منتخبًا للبلاد. وعلى الرغم من ذلك، قبل مرسي التحدّي، مع الإعلان عن تشكيل جبهة وطنية عريضة (اشتهرت فيما بعد بجبهة فيرمونت) تتصدّى لمحاولات هيمنة المجلس العسكري على مفاتيح القرار السياسي في البلاد، وهي الخطوة التي أجبرت مجموعة الجنرالات على الالتزام بالنتيجة الفعلية للانتخابات الرئاسية، وخصوصًا بعد تصاعد القلق الدولي من حماقة التلاعب بالنتائج.
من بين الزيارات العديدة إلى القاهرة في ذلك المناخ السياسي العاصف، كانت زيارة وزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلنتون، واجتماعها بمجموعة جنرالات الحكم في مصر، وتشديد واشنطن على ضرورة عدم الانحراف بمسار العملية السياسية في البلاد.
تنسق هذه الوقائع رواية السيسي الجديدة إن الشعب المصري هو الذي أسقط الرئيس مرسي (جماعة الإخوان)، وأن المسألة لا علاقة لها "برفض دخول المسجد والكنيسة بالقوة"، وإلا ما الحاجة لاستخدام أشد معدّات الحروب النظامية فتكًا للقضاء على التظاهرات الحاشدة الرافضة للانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب؟. لم كانت كل هذه المجازر والمذابح بحق الجماهير إذا كانت هذه الجماهير هي صاحبة قرار التخلص من الرئيس الذي انتخبته قبل أقل من عام؟
الشاهد أننا بصدد فقرة طريفة ومسلية جديدة من حواديت الجنرال، الشاهد الوحيد، لا تقلّ خفًةً وطرافةً عن مذكرات المناضلة السياسية إلهام شاهين، حين قالت يومًا إن مدير مكتب مرسي حاول الاتصال بها كثيرا ليبلغها برغبة مرسي في لقائها، والذي هدّدها قائلا: "لو عاوزين نجيبك هنجيبك"، لكنها برباطة جأش المناضلين قالت له، "لو كلّمتني تاني هبلغ عنك".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق