عَلْمَنَةُ الإسلام: في التعقيب على تعقيب د. سعد العثماني
بقلم د. عطية عدلان
في الثامن من يناير 2021 صدر لي مقال بموقع “المعهد المصري للدراسات” بعنوان: (
مشروع علمنة الإسلام .. سعد الدين العثماني أنموذجا)[1]، وبعد نحو عام من نشر هذا المقال، وتحديداً في 13 يناير 2022 نشر الدكتور سعد العثماني ردا على مقالي في نفس الموقع، بعنوان
(شهاب الدين القرافي في مواجهة التشدد)[2]، ومن تأمل أقواله في هذا المقال ومقارنتها بأقواله في نظريته العامة التي لخصتُها في مقالي المشار إليه، والتي هي ظاهرةٌ في كتبه وأبحاثه السابقة؛ سيجد أنّ في أقواله السابقة لغةً أكثر صرامة في إخراج تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالسياسة من دائرة التشريع؛ تمهيدا للقول بمدنية الدولة في الإسلام، فهل ابتعدَ اليوم خطواتٍ عن جوهر نظريته؟ أم ماذا جرى؟
على أيّ حال هذه ملاحظة بسيطة أحببت أن ألفت النظر إليها، ومن رجع إلى أقواله لمس هذا الفرق، كقوله مثلا: “ونستنتج منه أن ولاة الأمور بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ليسوا (دائما) ملزمين بتنفيذ التصرفات النبوية بالإمامة، بل (قد) يبدعون …)، ولا ريب أنّ مراجعة الحق – ولو جزئيا – خير من التمادي في الباطل، والرجل لا يعدم الفضل؛ فهو من غرْس الحركة الإسلامية على كل حال.
ومن راجع أقوالي في الرد عليه، سواء في كتابي[3] أو في مقالي الذي تفضل هو بالرد عليه، وكذلك أقوالي في الرد على من قسموا السنة إلى تشريعية وغير تشريعية[4]؛ علم أنّني لا أمانع في أنّ كثيراً من التصرفات النبوية جاءت – على خلاف الأصل العام – واقعةً خارج دائرة التشريع الملزم، وهذا مما لا ينكر، فقد قال العلماء: إنّ “ما لم يخرج من أفعال الرسول مخرج الشرع لا يثبت فيه الشرع”[5]؛ فهل تتقارب وجهات النظر لدينا؟ لننتظر ما تحمله لنا السطور القادمة!
وحتى يتضح الفارق بيننا من بداية الطريق؛ أطرح هذه المسألة مثالا – وبالمثال يتضح المقال – وهي مسألة معاهدة الصلح مع دار الحرب، التي تناولها الفقهاء تحت عنوان الموادعة والصلح والهدنة، وقرروا فيها أحكاما شرعية قامت عليها أدلة من الكتاب والسنة، واعتبروها شرعا ودينا، وهي كلها واقعة في مجال أعمال السياسة وفي دائرة التصرف بالإمامة.
الحكم الشرعيّ الأول هو أنّ عقد الصلح جائز بشروطه الشرعية، عند كافة المذاهب الإسلامية «الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، والزيدية، والإمامية، والإباضية، وغيرهم»[6]، ومن أدلة الجواز قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾[الأنفال: 61]، وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة عام الحديبية على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين.
الحكم الشرعيّ الثاني هو أنّ هذا الجواز مرهون بشروط تكاد جميعها تلتقي عليها كلمة العلماء؛ حيث لم يقع الخلاف بينهم إلا في القليل منها وفي زوايا بسيطة، وتتلخص الشروط التي اشترطها العلماء لصحة وجواز عقد الصلح في الآتي[7]:
1- أن يكون للمسلمين فيه مصلحة حقيقية ظاهرة وراجحة ..
2- ألا يشتمل على شرط فاسد شرعا أو بند مناف للشرع ..
3- أن يتمتع العاقد للصلح بأهلية تولي هذا العقد، وهو الإمام أو من ينوب عنه أو يقوم مقامه ..
4- ألا يكون الصلح مؤبدا.
هذه كلها أحكام شرعية، لا يجوز لحاكم أن يخالفها، وليست أموراً دنيوية محضة، أمّا الأمر الدنيوي الذي تُرك للقيادة السياسية فهو تقدير الموقف؛ للإجابة على السؤال الواقعيّ: هل في هذا الصلح مصلحةٌ للمسلمين أم لا؟ وهل بنود الصلح مشتملة على شروط فاسدة أم لا؟ وهكذا، فهذا التقدير للمصلحة والتنزيل للحكم من اختصاصات القيادة السياسية، بالمشاورة مع أهل الشورى.
ولكون تقدير هذه الأمور من اختصاصات القيادة السياسية – مع اعتبارات أخرى متعلقة بترتيب الأحكام – وجب أن يكون تناول الناس للأمور الواقعة في مجال السياسة من خلال القيادة السياسية ومن خلال أجهزة الدولة، فهي من قبيل التصرف بالإمامة؛ لذلك لا يصح أن يتولاها الناس كما يتولون الأمور التي هي من قبيل الفتوى والتشريع العام؛ هذا الترتيب لا يخالف فيه أحد من العلماء بما فيهم شهاب الدين القرافي وغيره من العلماء الأجلاء الذي ابتلوا بتمزيق فقههم على أيدي بعض أبنائهم!
وتنزيلا على الواقع نقول: إن رأت القيادة السياسية في زماننا هذا أن عقد معاهدة سلام واتفاقية تطبيع مع الكيان الصهيوني فيه مصلحة راجحة وظاهرة، وليس فيه ما يفسده من الشروط المنافية للشرع؛ مضت فيه متوكلة على الله – مثلما فعل الدكتور العثماني عندما كان رئيسا للحكومة المغربية! – وإن رأت القيادة السياسية أنّ المفسدة غالبة وطاغية؛ توقفت وأمسكت وامتنعت، وهذا ما لم يفعله أحد من حكام العرب قاطبة – بما فيهم الدكتور العثماني – رغم ظهور المفسدة! لذلك صدر من علماء الأمة الحكم الشرعي بأنّ معاهدات السلام والتطبيع مع الكيان الصهيوني باطلة ومحرمة شرعا؛ فهل يملك أحد أن يقول إنّ هذه الأمور من قبيل السياسة ومن قبيل التصرف بالإمامة فهو بمنأى عن يد الشريعة؟!
هذا مثال واحد، وقس على ذلك ما لا يحصى من الأمثلة في أبواب السياسة الشرعية، المليئة بالأحكام الشرعية الثابتة، والتي فيها إلى جانب الأحكام الشرعية الثابتة مساحات للأحكام الفقهية الاجتهادية المتغيرة، ومساحات أخرى – تتسع وتضيق بحسب الحال – متروكة لتصرف الإمام من جهة التنزيل ورعاية المصالح العامة للأمة، هذا ما تقرره الشريعة باستقراء أحكامها في أبواب السياسة والقضاء والمعاملات وغيرها، وهذا هو الفهم المتسق مع أصول الدين؛ لأنّ الإسلام ليس محصورا في العبادات بمعناها الخاص (الشعائر التعبدية)، والتي خصّها الدكتور العثماني في بعض دراساته باسم “الدين”، فإنّ أهم ما يميز الدين الإسلاميّ والشريعة الإسلامية الشمول والعموم، وهما خاصيتان تقوضان كل ما يدعيه من يذهبون إلى فصل الدين عن الحياة (العلمانية) أو من يقتربون منه بمحاولات (علمنة الإسلام).
فإنْ كان الدكتور العثماني يقصد بما أَطلَق عليه “التمييز” وبما ساق عليه أقوال العلماء الأجلاء كالقرافي والشاطبي وابن القيم وغيرهم؛ إن كان يقصد هذا المعنى الذي قررناه آنفا فنحن متفقون، وجدير بنا أن ننهي هذا الجدل، أمّا إن كان يقصد إخراج التصرف السياسي جملة من دائرة التشريع، ونزع الحجية عن التصرفات النبوية في أبواب الإمامة والقضاء – وهذا ما بدا واضحا في كتاباته السابقة – فبيننا وبينه كتابُ الله وسنةُ رسوله وأقوال أئمة الدين، بما فيهم هؤلاء الأئمة، الذين تَصَرَّف هو في كلامهم بهذه الطريقة الغريبة التي تخالف المنهجية العلمية الصحيحة.
ونعود لنؤكد أنّ تقسيم الإمام القرافيّ رحمه الله لتصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقصد به قط إخراج التصرفات النبوية (الأقوال والأفعال والتقريرات) بالإمامة والقضاء عن دائرة الحجية، وإنما الذي قصده تحديدا هو تصحيح تلقي الناس لها وتعاملهم بمقتضاها، فما كان من تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالقضاء فلا يوكل إلى آحاد الناس التصرف بها إلا عن طريق قاضي الوقت، فلا يصح أن يقوم آحاد الرعية – مثلا – بإقامة الحد على الزاني أو السارق، وما كان منها بالسياسة فلا يصح لآحاد الناس أن يتصرفوا فيها إلا عن طريق الإمام في الوقت، فلا يصح لآحاد الرعية – مثلا – أن يعقدوا هدنة مع دار الحرب، أما ما كان بطريق البلاغ أو الفتيا فموكول إلى كل فرد التصرف به مباشرة اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتوقف على إمام أو حاكم، فيصلي المسلم ويصوم ويمتنع عن تعاطي المحرمات وغير ذلك دون توقف على حكم حاكم أو قضاء قاض.
وهذه بعض أقواله أسوقها هنا للتأكيد على هذا المقصد، يقول: “فما فعله عليه السلام بطريق الإمامة كقسمة الغنائم وتفريق أموال بيت المال على المصالح، وإقامة الحدود وترتيب الجيوش، وقتال البغاة، وتوزيع الأقطاعات في القرى والمعادن، ونحو ذلك فلا يجوز لأحد الإقدام عليه إلا بإذن إمام الوقت الحاضر، لأنه صلى الله عليه وسلم إنما فعله بطريق الإمامة، وما استبيح إلا بإذنه، فكان ذلك شرعاً مقرِّراً لقوله تعالى: (واتبعوه لعلكم تهتدون). وما فعله عليه الصلاة والسلام بطريق الحكم كالتمليك بالشفعة، وفسوخ الأنكحة والعقود … فلا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم الحاكم في الوقت الحاضر … وأما تصرفه عليه الصلاة والسلام بالفتيا والرسالة والتبليغ فذلك شرع يتقرر على الخلائق إلى يوم الدين، يلزمنا أن نتبع كل حكم مما بلغه إلينا عن ربه بسببه، من غير اعتبار حكم حاكم ولا نظر إمام، لأنه صلى الله عليه وسلم مُبَلِّغٌ لنا ارتباطَ ذلك الحكم بذلك السبب، وخلّى بين الخلائق وبين ربهم”[8].
ومن تأمّل هذا الكلام وجد فيه التفسير الصحيح لمقصده من تقسيم التصرفات النبوية إلى تصرفات بالفتوى والبلاغ وتصرفات بالقضاء وتصرفات بالسياسة، ولم يقصد قط إخراج التصرفات بالقضاء والسياسة من دائرة الحجية، وإلا فهل يقصد القرافي من الأمثلة التي ذكرها كتقسيم الغنائم وإقامة الحدود وتوزيع أموال بيت المال – وهي مما وردت فيه آيات في كتاب الله – أنّ أمثال هذه الأمور متروكة لتقدير القيادة السياسة في كل وقت دون أن يعود فيها للشرع؟ كلا ما قصد هذا ولا قال به، ولا يقول به أحد من علماء الأمة، وإنّما قصد به أنّ تنفيذ هذه الأحكام لا يكون إلا من خلال الإمام؛ لأنّ إدراك مواقع هذه الأحكام وتنزيلها عليها من اختصاصات الإمام، ولو تركت للآحاد لاضطربت الأمور.
وقل مثل ذلك في أمثلة أخرى ذكرها الإمام، لا يمكن إمضاؤها بمنأى عن الشرع، كفسوخ الأنكحة والتمليك بالشفعة، وغير ذلك، فكل هذا لا يمكن أن يقام بمنأى عن الأحكام التي تنظمه والتي ورد فيها أحاديث عديدة، لكنّ تنفيذها يكون من خلال قاضي الوقت (الحاكم)؛ لأنّه المنوط به اختبار المناط الذي تتنزل عليه الأحكام الشرعية، وليس ذلك لآحاد الرعية؛ وإلا لتزلزلت الأوضاع العامّة في المجتمع.
أمّا ما كان من قبيل الفتوى والبلاغ فذلك شرع لا يتوقف تنزيله على حكم حاكم ولا قضاء قاض؛ لأنّنا “يلزمنا أن نتبع كل حكم مما بلغه إلينا عن ربه (بِسَبَبِهِ)، من غير اعتبار حكم حاكم ولا نظر إمام، لأنه صلى الله عليه وسلم مُبَلِّغٌ لنا (ارتباطَ ذلك الحكم بذلك السبب)، وخلّى بين الخلائق وبين ربهم” فلا حاجة للناس في ربط الأحكام ب(أسبابها) إلى قاض أو إمام، وهذا ما عناه بقوله: “فذلك شرع يتقرر على الخلائق إلى يوم الدين” أي: لا يتغير بِتَغَيُّرِ تقديرِ القضاة والولاة في مسألة انطباق الأحكام على أسبابها، لكن لا يعني أنّ ما ورد من قبيل الفتوى شرع دائم وما ورد في أبواب السياسة والقضاء مؤقت؛ فذلك هاجس يطارد العلمانيين والحداثيين، أعاذنا الله وفضيلة الدكتور منه.
وحتى تتضح لنا علةُ هذا التقسيم، وعلة المنع من تنفيذ الأحكام الواقعة في دائرة القضاء والإمامة إلا من خلال القاضي والإمام، وأنّ دور القاضي والإمام هو ربط الأحكام الواقعة في دائرة القضاء والسياسة بأسبابها؛ نذهب إلى “ابن فرحون” حيث يضرب أمثلة لأحكام شرعية لا يمكن العمل بها – وإن كانت بتشريع القرآن والسنة – إلا من خلال القاضي أو الحاكم، فيقول: “الأحكام على أربعة أقسام، القسم الأول: لا بد فيه من حكم الحاكم وهو ما يحتاج إلى نظر وتحرير وبذل جهد في تحرير سببه ومقدار مسببه، وذلك كالطلاق بالإعسار والطلاق بالاضطرار والطلاق على المولى؛ لأنه يفتقر إلى تحقيق الإعسار، وهل هو ممن يلزمه الطلاق بعدم النفقة أم لا، كما لو تزوجت فقيرا علمت بفقره فإنها لا تطلق عليه بالإعسار بالنفقة، وكذلك تحقيق حاله، وهو هل هو ممن يرجى له شيء أم لا؟، وكذلك تحقيق صورة الإضرار، وكذلك يمين المولى، ينظر هل هي لعذر أو لغير عذر؟ كمن حلف أن لا يطأها وهي مرضع خوفا على ولده فينظر فيما ادعاه، فإن كان مقصوده الإضرار طلقت عليه، وإن كان لمصلحة لم تطلق عليه، وكذلك التطليق على الغائب، وكذلك التطليق على المعترض ونحو هؤلاء … ومما يفتقر إلى حكم الحاكم تفليس من أحاط الدين بماله … وكذلك قسمة الغنائم، وإن كانت معلومة المقادير، وأسباب الاستحقاقات فلا بد فيها من الحاكم، ولو فوضت لجميع الناس لدخلهم الطمع، وأحب كل إنسان لنفسه من كرائم الأموال ما يطلبه غيره، فكان ذلك يؤدي إلى الفتن، وكذلك جباية الجزية وأخذ الخراجات من أراضي العنوة لو جعلت إلى العامة لفسد الحال، فلا بد فيها من حكم الحاكم، وكذلك التعزيرات؛ لأنها تفتقر إلى تحرير الجناية وحال الجاني والمجني عليه، فلا بد فيها من الحاكم، وكذلك ما جرى هذا المجرى كاستيفاء القصاص. وكثير من الأحكام، يطول تتبعها”[9].
أمّا التذرع بهذا التقسيم؛ لإخراج التصرفات النبوية في أبواب القضاء والسياسة من دائرة التشريع، وجعلها من السنة غير التشريعية -كما زعم الدكتور في غير موضع من كتاباته – فهذا مما لا يُقبل، ولا يقول به أحد في الأمّة، ويحضرني هنا كلمة للإمام الطاهر ابن عاشور – وهو من أئمة المالكية الذين يحظون بثناء الدكتور العثماني – يقول فيها: “واعلم أن أشد الأحوال التي ذكرناها اختصاصاً برسول الله – صلى الله عليه وسلم – هي حالة التشريع، لأن التشريع هو المراد الأول لله تعالى من بعثته، حتى حصر أحواله فيه في قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ}، فلذلك يجب المصير إلى اعتبار ما صدر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الأقوال والأفعال فيما هو من عوارض أحوال الأمة صادراً مصدر التشريع ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك”[10].
ولعل ما قاله الإمام ابن عاشور يقودنا إلى علاج القضية الأقدم التي ربما انبثقت عنها هذه القضية، وهي قضية الأمور الدنيوية التي تخرج من دائرة التشريع، وقد تعرض لها الدكتور العثماني في كثير من كتاباته بنفس الطريقة التي يمارس بها التعامل مع النصوص ومع أقوال العلماء، وأحب – بهذه المناسبة – أن أحسمها قبل المضيّ في بيان قصد العلماء من تقسيماتهم، فقد أورد الدكتور العثماني – في سياق محاولاته المستميتة لإخراج التصرفات السياسية عن دائرة الحجية – أورد حديث تأبير النخل، ثم تعامل معه بطريقة غريبة، حيث اعتبر جميع ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تصرفات بالسياسة والقضاء من الأمور الدنيوية؛ فمن المهم إذن أن نمر بهذه القضية سريعا؛ لكونها ذات أثر كبير في فهم الداء وفي وصف الدواء.
عَنْ عَائِشَةَ، وأَنَسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ، فَقَالَ: «لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ» قَالَ: فَخَرَجَ شِيصاً، فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ: «مَا لِنَخْلِكُمْ؟» قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ»[11]، وعن رافع بن خديج، قال: قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يأبرون النخل، يقولون: يلقحون النخل، فقال: «ما تصنعون؟» قالوا: كنا نصنعه، قال: «لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً» فتركوه، فنفضت أو فنقصت، قال فذكروا ذلك له فقال: «إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي، فإنما أنا بشر»[12] وروى مسلم عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون، فقال: «لو لم تفعلوا لصلح» قال: فخرج شيصا، فمر بهم فقال: «ما لنخلكم؟» قالوا: قلت كذا وكذا، قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم»[13].
هذا هو الحديث الذي يتعلق به كل الذين يسلكون سبيل الفصل بين الدين والحياة (العلمانية)، والحقيقة أنّ هذا الحديث من أروع الأحاديث التي تُقَرِّر أصلا كبيرا في هذا الدين العظيم، وهو أنّ أمور الدنيا موكولة إلى العقول البشرية والعلوم الإنسانية والخبرات والتجارب، موكولة للإنسان (الخليفة) يجتهد فيها بما وهبه الله تعالى من العقل والحكمة والنظر، وأنّ الشريعة لا تتدخل في تفاصيلها وإنّما فقط تتدخل بالحياطة الخارجية عبر قواعد عامة تضبط السلوك والتصرف بما يعظم المنفعة ويدفع المضرة، وهذا من أعظم وأهم خصائص الشريعة الإسلامية العظيمة.
لكن ما هي على وجه التحديد الأمور الدنيوية؟ هذا هو السؤال الجوهريّ الذي يحمي العقل والفهم من الانزلاق في هذه المسألة الخطيرة، فإنّه من المستحيل شرعاً أن يكون البيع والشراء والرهن والهبة والشركة والمضاربة والحجر والتفليس والدين والقرض من الأمور الدنيوية بإطلاق، مع أنها ليست من العبادات ولا العقائد، ومثلها مسائل المعاهدات والمهادنات والتحالفات والجهاد والفيء والغنائم وما شابهها، ومثلها عقد البيعة للإمام وعزله عند الاقتضاء والشورى وغيرها، ومثلها القضاء وشروط القاضي والبينات والدعاوى وغيرها، يستحيل أن تكون هذه الأمور – التي هي ليست من أمور الآخرة وليست من الشعائر ولا الأخلاق ولا العقائد – يستحيل أن تكون بإطلاق من الأمور الدنيوية، يستحيل أن تكون كتأبير النخل ينطبق عليها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم).
ومن يقول بهذا فيلزمه أن يحدد موقفه بوضوح من الآيات الكريمة الواردة في مثل هذه الأمور، كقول الله تعالى في هذه الآيات: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة: 275) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) (النساء: 29) (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (البقرة: 283) (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الأنفال: 41) (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (الأنفال: 58) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) (المائدة: 106) (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة: 5) (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (المائدة: 38) (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33).
فكل هذه الأمور من البيع والشراء والرهن والربا وقطع يد السارق وعقوبة المحارب والإشهاد والمعاهدات وتخميس الغنائم وغيرها، مما تعرضت لبيان حكمه آياتٌ كثيرة في كتاب الله تعالى، هي في حقيقتها أمور من قبيل تنظيم المجتمع وترتيب أحوال الخلق وتنظيم العلاقات بين الناس، وليست من قبيل العبادات والأمور الأخروية؛ فهل نقول إنّها من الأمور الدنيوية على المعنى الذي ورد به الحديث؛ فيكون الناس أعلم بها من الرسول؛ بل من الله الذي أنزل حكمها في كتابه؟!
إنّ الجانب الدنيوي في البيع يكون مثلاً في طريقة المساومة وفن عرض السلعة والأدوات التي يستعملها في نقل السلعة ورصفها وعرضها، والأسواق التي تنظمها من الجهة التقنية والتنظيمية وما شابه ذلك، أمّا شروط صحة البيع والمحرمات من البيوع وغير ذلك مما تعرض له القرآن والسنة ببيان الأحكام، كنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغرر والربا، وعن بيع وتداول ما يحرم أكله، فهي قطعا ليست من الأمور الدنيوية على المعنى الذي جاء في حديث تأبير النخل، وقس على ذلك كل ما ذكرناه وما لم نذكره من الموضوعات التي تعرض القرآن والسنة لبيان أحكامها بالحل أو الحرمة أو الوجوب أو الاستحباب أو الكراهة أو الصحة أو البطلان.
وبالاستقراء نستطيع أن نقول: إنّ الفرق بين الأمور الدنيوية وبين الأحكام الشرعية – التي هي من “العاديات” لا العبادات – كالفرق بين تأبير النخل وبين “المزابنة”، وكالفرق بين زراعة القمح في الشتاء لا في الصيف وبين “المحاقلة”، وكالفرق بين صك النقود وطباعة أوراق البنكنوت وبين “الصرف”، وكالفرق بين وسائل وأساليب التحقيق وبين “الدعاوى والبينات”، وكالفرق بين صناعة السلاح وتدريب الجنود ووضع الخطط الحربية وبين “أحكام الجهاد”، وكالفرق بين أساليب ووسائل المناورة السياسية وطرق إدارة الحوار والصراع السياسي وبين “أحكام الهدنة وأحكام التحالفات” وغير ذلك، وهكذا ..
فتأبير النخل وزراعة القمح وصك النقود وصناعة السلاح والبروتوكلات الدبلوماسية وطرق الإدارة وما شابهها من الأمور الدنيوية، التي تركت في الأصل للتجربة البشرية، ولا تتدخل الشريعة إلا بالحياطة الخارجية التي تحفظ النشاط البشريّ من الانزلاق، وتعظم من الاستفادة به، أما المزابنة، والمحاقلة، والصرف والجهاد والإعداد له والدعاوى والبينات والمعاهدات وغير ذلك فهي من “العاديات”، التي هي من أمور الدين وإن لم تكن من العبادات، والتي تنظمها الأحكام الشرعية وإن كان الأصل فيها العفو.
وقل مثل ذلك في سائر الأحاديث التي اعتمدوا عليها، فمثلا حديث أم سلمة مرفوعاً في قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يعني أنّ القضاء كله من أمور الدنيا على المعنى الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) وإنّما القضاء اشتمل على ما هو من أمور الدنيا وما هو من قبيل العاديات التي هي منطقة تشريع بلا خلاف؛ فسماع الدعوى أمر من أمور الدين، ومن أحكام القضاء في الإسلام، وكذلك وجوب الحكم بما توافر من أدلة مادية ظاهرة، وتنظيم الدعاوى وترتيب البينات، لكن قدرة القاضي على الوصول إلى الحقيقة من خلال سماعه للدعوى ومهارته في اكتشاف اللحن في الحجاج أمر دنيوي، وكذلك أساليب ووسائل التحري وما يتعلق بها من تقنيات ونظم وأوضاع تنظيمية، “وقوله صلى الله عليه وسلم (إنما أنا بشر) معناه التنبيه على حالة البشرية وأن البشر لا يعلمون من الغيب وبواطن الأمور شيئا، وأنه إنما يحكم بين الناس بالظاهر”[14]؛ فقد يصيب في ربط الحكم بسببه وقد يخطئ، فهذه المساحة – مساحة التنزيل وربط الحكم بسببه – منوطة بالقاضي وهو بشر.
هذه الأمور الدنيوية يوجد منها في عالم السياسة وفي النظم السياسية الكثير المتنوع، فأغلب ما يدخل في باب الآليات والأدوات وما هو من قبيل الأمور التقنية المادية هو من أمور الدنيا، ومناهج الإدارة للدولة ومؤسساتها، وكذلك أساليب التعامل الدبلوماسي، وما شابه ذلك مما هو موكول إلى قدرات البشر يُعَدُّ من أمور الدنيا، وما دامت كذلك فليست مما يشمله التشريع، وإنما هي متروكة للإبداع الإنسانيّ، وللحكمة الإنسانية، وللتجارب البشرية المتراكمة، وهكذا، أمّا الأحكام الشرعية فشأن آخر.
فأسس النظام الإسلاميّ كالعدل والشورى وسيادة الشريعة وسلطان الأمة من الأمور الدينية، وكذلك الأحكام الشرعية التي تحقق هذه الأسس في واقع الناس وتنظمها كالأحكام المتعلقة بتحقيق العدالة في الحكم والقضاء والاقتصاد وتوزيع الثروة وغير ذلك؛ جميعها من الدين وليست من أمور الدنيا، وكذلك الأحكام المؤطرة والمنظمة لمؤسسات النظام الإسلاميّ والتي اسْتُخْلِصت من السنة القولية والعملية ومن سنة الخلفاء الراشدين التي دلنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث عدّة؛ كلها من أمور الدين لا من أمور الدنيا، وكذلك الأحكام التي تنظم الممارسة السياسية داخليا وخارجيا بما يتفق مع مقاصد الشريعة وأسس وقواعد النظام الإسلامي، مثل أحكام الحرب وآثارها والمهادنات وشروطها، كل ذلك من أمور الدين لا من أمور الدنيا.
نعود إلى النقول التي نقلها في مقاله، فأمّا قول الإمام ابن القيم: “وقد يقوله بمنصب الإمامة، فيكون مصلحة للأمة في ذلك الوقت وذلك المكان، وعلى تلك الحال فيلزم مَنْ بعدَه من الأئمة مراعاة ذلك على حسب المصلحة التي راعاها النبي – صلى الله عليه وسلم – زمانا ومكانا وحالا”[15]، وكذلك قوله: “والمقصود: أن هذا وأمثاله سياسة جزئية بحسب المصلحة، يختلف باختلاف الأزمنة، فظنها من ظنها شرائع عامة لازمة للأمة إلى يوم القيامة، ولكلٍّ عذرٌ وأجرٌ. ومن اجتهد في طاعة الله ورسوله فهو دائر بين الأجر والأجرين، وهذه السياسة التي ساسوا بها الأمة وأضعافها هي من تأويل القرآن والسنة. ولكن: هل هي من الشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة، أم من السياسات الجزئية التابعة للمصالح، فيتقيد بها زماناً ومكاناً؟”[16]، فهذا كله وارد في سياق آخر غير السياق الذي ورد فيه تقسيم القرافي.
فتقسيم القرافي وارد لبيان ترتيب التنزيل للأحكام، وكيف تتلقى الأمة كل نوع من هذه الأحكام وتقوم بتنزيله، فمنها ما تقوم بتنزيله وتطبيقه من خلال منصات القضاء، ومنها ما تقوم بتنزيله وتطبيقه من خلال السلطة السياسية، ومنها ما تقوم بتنزيله وتطبيقه دون الرجوع لمؤسسات الدولة؛ فهو تصرف للأفراد يقومون به مباشرة دون حاجة لتدخل مؤسسة من مؤسسات الدول، “فالمقصود من كلام القرافيّ البحثُ عن ذلك في تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بيانا للاختصاصات وتوزيعا للسلطات وحصرا لما يدخل في اختصاص كل سلطة”[17]
أمّا كلام الإمام ابن القيم فهو وارد في سياق مختلف، وهو سياق بيان خاصية تتعلق بمجال السياسة، حيث تكثر فيه مساحات التصرفات المنوطة بالمصالح المتغيرة بحسب الزمان والمكان والحال، وتأتي متجاورة مع مساحات أخرى في نفس المجال السياسي وهي مساحات التشريع العام المستمر إلى يوم الدين دون أن يتغير، فينبغي التفريق بين هذه وتلك عند النظر لبعض القضايا الجزئية كالمسألة التي تعرض لها في سياق هذا البيان وهي مسألة السَّلَب، واختلاف العلماء في فهم حديث: (من قتل قتيلا فله سَلَبُه): أيستحق المجاهد سلب القتيل سواء صرح الإمام أو من ينوب عنه بهذا الشرط قبل المعركة؟ أم لا يستحقه إلا إذا قال الإمام أو القائد قبل المعركة ذلك وأعلن عن ذلك الشرط؟ فمن فهم الحديث على أنّه من التشريع العام في باب السياسة الشرعية – مثله كمثل تقسيم الغنائم والفيء – اعتبر أن حق المجاهد ثابت بدون تصريح من أحد، ومن اعتبر أن هذا الحديث من (السياسة الجزئية) المنوطة بالمصالح المتغيرة قال لا يستحق المجاهد ذلك إلا إذا أعلن الإمام أو القائد قبل المعركة ذلك.
لذلك عقّب الإمام ابن القيم بهذا التعقيب الذي قبض عنه الدكتور العثماني يده أثناء النقل: “وهذه السياسة التي ساسوا بها الأمة وأضعافها هي من تأويل القرآن والسنة. ولكن: هل هي من الشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة، أم من السياسات الجزئية التابعة للمصالح، فيتقيد بها زماناً ومكاناً؟” فهذا السياق يفسر مقصده؛ فكل هذه السياسات تُعَدُّ من تأويلهم للكتاب والسنة، لكن منها ما هو من التشريع العام والشرائع الكلية الثابتة المستمرة، ومنها ما هو من السياسة الجزئية.
فإن وردت مسألة أو نازلة في هذا الميدان الواسع المتجدد؛ نظرنا: إن كانت من التشريع العام الذي ورد فيه نصوص وأحكام كقسمة الغنائم والفيء وإقامة الحدود فهذه مما لا يتغير بتغير الأزمان والأماكن والأحوال، وإن كانت من السياسة الجزئية فهي مما أنيط بالمصالح التي تتغير بتغير الزمان والمكان والحال؛ فيجب مراعاة ذلك اقتداء برسول الله، كما قال ابن القيم في العبارة التي قضمها الدكتور وهو مندفع نحو تقرير نظريته، وإن وردت المسألة مترددة بين هذا وذاك كانت موضعا لاختلاف العلماء، كالسَّلَب.
فسواء كان الأمر من قبيل الشرع العام والأحكام الكلية المستمرة أو كان من السياسة الجزئية فإنّه على وجه ما وبصورة ما تأويلٌ للقرآن والسنة، ويجب الاقتداء فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بتطبيق الأحكام الثابتة دون توقف على نظر في تغير المصالح بتغير الأزمان، وبالاهتداء والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في تقدير المصالح فيما هو من قبيل السياسات الجزئية المتغيرة.
ومما يؤكد أنّ التقسيمات التي ذهب إليها علماؤنا الأجلاء لا تعني مطلقاً ما ذهب إليه الدكتور العثماني وأمثاله ممن يحلوا لهم إخراج التصرفات السياسية جملة من دائرة الحجّية؛ أنّ علماء الأمة قاطبة – وفي القلب منهم القرافيّ وغيره ممن تكلموا في هذه التقاسيم – لم يظهر على مسلكهم في التصنيف الفقهي ما يدل على أنّهم قصدوا ذلك المعنى البعيد؛ فهل يصح أن يقرروا في الأصول شيئاً لا يلتزمونه في الفروع؟ إلى حدّ أن يكون عاماً طامّاً لا يتخلف عند أحد منهم!
فها هم جميعاً يصنفون في الفقه، فيتطرقون إلى أحكام الإمامة والموادعات وآثار الحرب والجهاد والقضاء وغير ذلك بذات الطريقة التي يتناولون بها كافة أبواب الدين، معتمدين على ذات المصادر: الكتاب والسنة والإجماع القياس وغير ذلك، وسأضرب مثالاً بالقرافيّ نفسه وأسوق نصاً من كلامه في الذخيرة، يتعرض فيه لفقه (الإمامة) دون أن يشير من قريب أو بعيد إلى أنها تجربة تاريخية نسبية! أو أنّ تصرفات الرسول والخلفاء هنا غير تشريعية، فها هو يقول: “ولنقتصر من الولايات على مهماتها وهي سبعة، الولاية الأولى: الخلافة العظمى، وهي الولاية، وهي واجبة إجماعاً، إلا الأصم، ووجوبها على الكفاية، أما وجوبها فلقوله تعالى {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} فطاعتهم فرع وجودهم، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولما في مسلم اسمعوا وأطيعوا ولو كان عبدا حبشياً ولأن عدمها يفضي إلى الهرج والتظالم وذلك يجب السعي في إزالته، ولا طريق في مجرى العادة إلا الإمامة، وأما كونها على الكفاية فلأن القاعدة أن كل فعل تكرر مصلحته بتكررها فهو على الأعيان وما لا فعلى الكفاية، فالأولى كالصلوات مقصودها الثناء على الله تعالى وتعظيمه وذلك يتكرر بتعدد المصلين فشرعت على الأعيان تكثيرا للمصلحة، والثاني كإنقاذ الغرقى فإن النازل لك بعد الإنقاذ لا يحصل مصلحه؛ فشرعت على الكفاية نفيا لفعل العبث … قال ابن بشير … وشروط المختارين للإمام ثلاثة: العلم بشروط الإمامة، والعدالة، والحكمة والرأي الموديان للمقصود … قال ابن بشير وشروط الإمام ثلاثة: النجدة، وشرائط الفتوى، والكفاية في المعضلات، وقال الماوردي من الشافعية شرائطها سبعة … ويقدم أهل الحل والعقد أكثر المستحقين فضلا وأكملهم شرطا ممن يسرع الناس إلى طاعته، فإذا عينوه عرضوها عليه، فإن أجاب بايعوه، ولزم جميع الأمة الدخول والانقياد … فإن ظهر بعد بيعة الأفضل من هو أفضل منه لم يعدل عن الأول لصحة عقده وإن ابتدأ بالمفضول لغيبة الأفضل أو مرضه أو كون المفضل أطوع في الناس صح أو لغير عذر فقال الجاحظ وغيره لا ينعقد لفساد الاجتهاد بالتقصير وقال الجمهور ينعقد كما يجوز ذلك في القضاة يولي المفضول ولحصول شرائط الصحة ولأن الزيادة من باب التتمة لا من باب الحاجة … قال ابن بشير وهل ينعقد بغير بيعة لأن مقصود العقد الاختيار وهذا متعين أو لا بد من العقد قاله الجمهور كالقضاء لا بد له من عقد ويأثم أهل العقد إذا امتنعوا وقال الفريق الأول يصير المنفرد قاضيا من غير عقد كما يصير المنفرد بشروط الصلاة إماما والفرق أن القضاء ولاية خاصة يجوز صرفه عنها مع بقائه على صفته والولاية حق عام لا يجوز عزل المتصف بشروطها بعد ولايته”[18].
أرأيت كيف يسلك الإمام في باب الإمامة ذات المسلك الذي سلكه في سائر أبواب الشريعة؛ من الاستدلال بالكتاب والسنة والقياس، ومن النص على أحكام شرعية كالوجوب والحرمة الجواز والشروط وغير ذلك؟! فأين إذن أثر التقسيم إلى سنة تشريعية وغير تشريعية إن كان ذلك قصده؟! كان المفترض بموجب ذلك أن يقول ويطيل القول في أنّ ما فعله الرسول والخلفاء من بعده إنّما فعلوه بموجب العادة ومقتضى التجربة البشرية، ولا حجية فيه، وأنّ الناس يجب أن يقيموا حكمهم بما تقتضيه تجاربهم!
هذا .. على أنّ كثيرا من العلماء لم يتابع الإمام القرافيّ على هذا التقسيم، وعلى رأسهم ابن الشاط الذي علق على كتابه، فله تقسيم آخر أكثر وجاهة وأكثر انسجاما مع الشريعة، حيث قسم الأحكام على أساس الفرق بين البلاغ والتنفيذ، يقول رحمه الله: “المتصرف في الحكم الشرعي إما أن يكون تصرفه فيه بتعريفه، وإما أن يكون بتنفيذه، فإن كان تصرفه فيه بتعريفه فذلك هو: الرسول إن كان هو المبلغ عن الله تعالى، وتصرفه هو الرسالة، وإلا فهو المفتي، وتصرفه هو الفتوى، وإن كان تصرفه فيه بتنفيذه فإما أن يكون تنفيذه ذلك بفصل وقضاء وإبرام وإمضاء، وإما أن لا يكون كذلك، فإن لم يكن كذلك فذلك هو الإمام، وتصرفه هو الإمامة، وإن كان كذلك فذلك هو القاضي، وتصرفه هو القضاء”[19].
وفي الانتهاء أكرر ما قلته في الابتداء: إنْ كان الدكتور العثماني يقصد بما أَطلَق عليه “تمييز لا فصل” وبما ساق للاستلال عليه من أقوال العلماء الأجلاء كالقرافي وابن القيم وغيرهما؛ إن كان يقصد أنّ في أبواب السياسة الشرعية – إلى جانب الأحكام الثابتة والتشريع العام – مساحات متغيرة تُعَدُّ من قبيل السياسة الجزئية؛ فينبغي أن تردّ في كل زمان إلى تقدير المصلحة فيها من خلال السلطة السياسية؛ فنحن متفقون، أمّا إن كان يقصد إخراج التصرفات السياسية جملة من دائرة التشريع، ونزع الحجية عن التصرفات النبوية في أبواب الإمامة والقضاء – وهذا ما بدا صارما في كتاباته السابقة وبدا على استحياء في مقاله هذا – فبيننا وبينه كتابُ الله وسنةُ رسوله وأقوال أئمة الدين، بما فيهم هؤلاء الأئمة، الذين تَصَرَّف هو في كلامهم بهذه الطريقة الغريبة التي تخالف المنهجية العلمية الصحيحة، وقد استبان واتضح مما سبق أنّه لا يستند إلى كتاب ولا إلى سنة ولا حتى إلى قول عالم من علماء الأمة، والله المستعان.
وأخيرا أحب أن أنوه إلى الدافع وراء كل هذه المحاولات، وهو الرغبة العارمة لدى كثير من المنتسبين للعمل السياسي من الإسلاميين في اقتباس النموذج الغربيّ المتمثل في الدولة المدنية، ولأنّ الدولة المدنية بنية غربية غريبة عن ثقافتنا، ولأنّها غرست قوائمها في تربة الحداثة والعلمانية؛ كان لابد من قدر كبير من التأويل المعتسف العنيف للشريعة ولأحكامها، وهذا من أخطر ما يمارس في هذه الأيام، يقول المفكر الإسلامي محمد أسد: “لقد كان العالم الإسلاميّ زمنا ما راكدا؛ فقفز كثير من المسلمين إلى الاستنتاج السطحي الخالص من أن النظام الإسلامي في الاجتماع والاقتصاد لا يتفق مع مقتضيات التقدم؛ فيجب من أجل ذلك أن يحور حسب الأسس الغربية، هؤلاء الناس المتنورون لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن مدى التبعة التي يتحملها الإسلام”.
يجب أن نثق في عقيدتنا وشريعتنا، وأن نتخذ من هذه الثقة قوة دفع لتحقيق سيادة هذه الشريعة، ولقد شهد الكثيرون من علماء الغرب الذين أسلموا بسبب مقارناتهم بين الإسلام والفكر الغربيّ بأنّ الإسلام سوف تكون له الجولة القادمة على حساب جميع النظريات والنظم، يقول الدكتور مراد هوفمان: “عندما تنافس العالم الغربيّ والشيوعية على قيادة العالم كان يمكن اعتبار الإسلام نظاما ثالثا بينهما، ولكنه اليوم البديل للنظام الغربيّ، يتوقع بعض المراقبين بعيدي النظر أن يصبح الإسلام الديانة السائدة في القرن القادم … فليس الإسلام بديلا من البدائل لنظام ما بعد التصنيع الغربيّ، بل هو البديل”[20].
ولسنا بعد هذا الذي قدمنا ندعي العصمة لأقوالنا، ولا ندعي الفضل أو السبق، فهذا اجتهادنا؛ فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء”[21].
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)) (الصافات: 180-182).
[1] راجع المقال في المعهد المصري بتاريخ 8 يناير 2021م “مشروع علمنة الإسلام سعد الدين العثماني أنموذجا“
[2] راجع المقال في المعهد المصري بتاريخ 13 يناير 2022م “شهاب الدين القرافي في مواجهة التشدد”
[3] نظرية الدكتور سعد الدين العثماني في السياسة والدولة في الإسلام .. عرض ونقض .. ط دار الأصول العلمية إسطنبول ط أولى 2017م
[4] السنة غير التشريعية والغلو العصراني – منتدى العلماء – السبت 4/9/2021م
[5] البحر المحيط في أصول الفقه (6/ 476)
[6] ر: المبسوط للسرخسي (10/86) – شرح مختصر خليل محمد بن عبد الله الخرشي (3/ 150) – مغني المحتاج للشربيني (6/86) – كشاف القناع البهوتي(3/111) – التاج المذهب لأحكام المذهب لأحمد بن قاسم الصنعاني (4/449) – شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام جعفر بن الحسن الهذلي(1/303-304) – جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام للمسالمي (ص603) – سبل السلام (1/202)، الدرر البهية (1/339).
[7] ر: المبسوط للسرخسي 10/86 وما بعدها – شرح مختصر خليل للخرشي (150) وما بعدها – الأم محمد بن إدريس الشافعي 4/200 وما بعدها دار المعرفة بيروت – كشاف القناع (3/112) – وما بعدها – التاج المذهب (4/449) وما بعدها – شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام (ص303-304) وما بعدها – جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام، عبد الله بن حميد السالمي (ص603) وما بعدها.
[8] الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام – للإمام القرافيّ – تحقيق عبد الفتاح أبو غدة – ط ثانية 1995 – دار البشائر الإسلامية بيروت صــــــ 108
[9] تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام – ابن فرحون – مكتبة الكليات الأزهرية – ط: الأولى، 1986م (1/ 109-112)
[10]مقاصد الشريعة الإسلامية (3/ 136)
[11] رواه مسلم (4/ 1836)
[12] رواه مسلم برقم (2362)
[13] رواه مسلم برقم (2363)
[14] شرح النووي على مسلم (12/5 )
[15] زاد المعاد 3/ 429
[16] الطرق الحكمية لابن القيم ط عالم الفوائد 1/47
[17] شبهات عصرانية مع أجوبتها – سليمان بن صالح الخراشي – دار الوحيين – الرياض – ط أولى 2009م – صــــــ 127
[18] الذخيرة للقرافي (10/ 23- 27)
[19] هامش الفروق – أنوار البروق في أنواء الفروق – شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي – عالم الكتب – بدون طبعة وتاريخ (1/ 206-207)
[20] الإسلام كبديل – د. مراد هوفمان – ترجمة عادل المعلم – دار الشروق – القاهرة – الطبعة الأولى 1997م – صــــــ9
[21] الإسلام على مفترق الطرق – محمد أسد – ترجمة عمر فروخ – دار العلم للملايين – بيروت – ط 1987م صـــــ79-80
المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق