ونحن نحاول ملكًا لحقنا بقيصر فوجدنا حفتر. وحفتر جنرال ليبي ومواطن أميركي، ادّخرته أميركا منذ ثلاثة عقود في مصارف الرجال والقادة، فازداد سعره وعلا قدره، وجاء أوان استخدامه.
وهو متهم بجرائم قتل وإبادة جماعية، مرّتين، مرّة من القذافي، ومرّة من الشعب الليبي. ولم تجدِ قضايا رفعت ضده من مواطنين ليبيين في أميركا، وكان قد استودع وزارة الدفاع نائبه وترشّح للرئاسة، وسيعود إلى الدفاع مشيرًا إن خانته الحيلة وفشل التزوير، وفاز ابن صاحبه سيف الإسلام القذافي بالرئاسة، الذي انبثق أيضًا من غيهب الغسق، مثل الكوكب الدرّي في الأفق. وكان القذافي الابن مدّخرًا في مكان في الجنوب الليبي، برعاية قوة روسية، فظهر بصورةٍ أجمل من صورة الجنرال الأحمر المدّخر في الرعاية الأميركية لليوم الأبيض. احترنا بينهما أيهما أكثر زينة وأخطف للبصر وأسكر للنظر، خليفة بلقاسم حفتر، بزيّه ونياشينه الكثيرة ومشيته الملكية الاستعراضية، وتبختره على السجاجيد الحمراء في عواصم الثورة المضادّة، أم سيف الإسلام القذافي معتمًّا بعمامة، في عباءته العربية الفاخرة، مغمورًا بألوان الأضواء، ومعفّرًا بأنوار العقيق والكوارتز، فذكرنا بحبِّ والده الأزياء الغريبة التي صممتها له أرقى دور الأزياء العالمية، وهي أزياء مقتبسة من صور الاسكندر، وهنيبعل، وعمر المختار.
ثم رأينا الإعلام يحتفي بمدّخرات بشرية رئاسية نسائية مثل رغد صدام حسين، وعائشة القذافي، ولو كان لزين العابدين بن علي أولاد لظهروا أيضًا وعزّوا بعد ذلٍّ. النظام يعتقل آباء المعارضين وأبناءهم، فذنوبهم موزورة ومورثة، أما الطغاة، فأبناؤهم أبرياء لا يرثون ذنوب آبائهم، حتى لو كانوا مضبوطين بالجرم المشهود.
وبرز اسم أصهار زين العابدين بن علي في تصريحٍ لرشيد عمار، قائد أركان الجيش التونسي، إبّان حكم الرئيس المخلوع، أنَّ وزير الدفاع الأسبق رضا قريرة طلب منه إطلاق النار على أصهار بن علي لدى فرارهم من البلد إبّان الثورة.
ما هذا العطر الذي يتطيّب به الطغاة حتى تقع الشعوب في حبهم، فينبعثون من الرماد!
يشمّ من تصريح قائد أركان الدفاع التونسي السابق عطران. أولهما أن أصهار زين العابدين مظلومون أبرياء. الثاني أن الثورة شرّيرة.
ولم يتهم راشد الغنوشي حتى الآن بتهمة ما مثل التخابر مع "حماس".
وفي المشهد الذي ظهر فيه سيف القذافي وهو يوقع على طلب الترشيح وألوان ريش الطاووس حوله وفوقه، ظهر وتلا آية قرآنية منقوصة، وزعم أنه لا يفعل بهذا الترشيح إلا خدمة للشعب، وهي خطبةٌ يكرّرها كل الزعماء الفاضلين.
لدى أميركا مالٌ كثير، وأجهزةٌ تعرف كيف تدّخر الرجال لساعة العسرة ووقت الشدة، وتضع الخطط لخمسين سنة، ولديها لاعبو احتياط في المباريات السياسية الدولية التي تجري في الخفاء، وهي تكرّم رجالها وتنعّمهم، وكانت قد تحاشت استقبال الشاه الفارسي الهارب من الثورة الإيرانية رضا بهلوي، فاستقبله أنور السادات، نائبًا عنها أحسن نيابة. وكانت الديار المقدّسة منتجعًا للطغاة الهاربين من شعوبهم والمحاربين القدماء، عيدي أمين وبن علي وبرويز مشرف وغيرهم كثير، أما الحجاج الثائرون على الظلم في بلادهم، فقد يسقطون في مصيدة الحج، ويسلّمون إلى حكامهم.
قد يوصف عطف حكام الديار المقدسة على الحكام الهاربين المطلوبين أو المنفيين من شعوبهم بالرقة والرحمة، فبين الحكام السابقين عيش وملح، والطيور على أشكالها، وقد يكون ادّخارًا أيضًا.
في المشهد الأخير في فيلم "العطر" المأخوذ من "قصة قاتل" لباتريك زوسكيند، تنقلب الصورة بسحر العطر الذي يبتدعه غروني، ينحني الكونت أنطوان ريتش على قدم قاتل ابنته الوحيدة وفلذة كبده، ويطلب منه الصفح، العطر المسكر الذي يفوح من صور الطغاة السابقين هو عطر الصورة، عطر يسكر العين.
سكّرت أبصارنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق