الأحد، 9 يناير 2022

قضية فصل الدين عن الحكومة في فكر الإبراهيمي

  قضية فصل الدين عن الحكومة في فكر الإبراهيمي

د.علي الصلابي 

مؤرخ وفقيه ومفكر سياسي

الأمة | لقد اهتم الإمام الإبراهيمي بهذا الموضوع الخطير، وعمل على فصل شؤون الدين عن سيطرة الحكومة الفرنسية في الجزائر، وكافح كفاحاً عظيماً، وناضل نضالاً مريراً لتكون شؤون الدين الإسلامي من حج وإمامة وصيام وصلاة وتعاليم وقضاء وغير ذلك، بعيدة عن سيطرة الحكومة الفرنسية في الجزائر،

ومما كتبه في هذا المجال:

أ ـ الواجب على أعضاء المجلس الجزائري المسلمين أن يطلبوا إدخال الدين المسيحي بكنائسه وأمواله ورجاله تحت سلطة الحكومة دخولاً عملياً، بحيث تكون هي التي تتصرف في الأموال، وتولي من يكون جارياً على هواها، وتعزل من يدعو إلى نزعة سياسية أو إلى حزب أو إلى انتخاب، وأن يطلبوا إدخال الدين اليهودي ببيعه وأحباره وأوقافه تحت سلطتها أيضاً، بحيث لا يجري شيء من التصرفات في ذلك الدين، إلا بأمرها وعلى ما يرضيها، فتسمي الموظفين الدينيين، وتقوم لهم بأجورهم، وتحاسبهم على الأنفاس، وتعزل كل من يستحق العزل، كل ذلك على ما يشهد «الدوسي» المبارك.

يجب على النواب أن يطالبوا بهذا ويتشددوا فيه، لأنه إنصاف وعدل وحكومة الجزائر منصفة عادلة ـ تبارك الله أحسن الخالقين ـ ولأنه المظهر الواضح لقوة الحكومة وسلطتها، ولأنه زيادة في تلك القوَّة وتلك السلطة.

فإذا أبى عليهم ذلك زملاؤهم من النواب الفرنسيين واليهود، وقالوا: إنهم لا يتدخلون في الأديان، أو أبت الحكومة، وقالت: إنها حكومة لائكية، فليقل النواب المسلمون في صراحة وحق: والإسلام؟ لماذا يبقى غريباً شاذاً بعيداً عن هذه اللائكية؟

إن الأديان في الوطن ثلاثة، فمن الواجب أن تعامل معاملة واحدة، وإن المسلمين ومعابدهم أكثر عدداً، فمن الإنصاف أن يكونوا هم القاعدة في المعاملة والأصل في وضع الأحكام، وما دام دينهم مستعمَراً فمن العدل أن يكون الدينان مستعمَرين أيضاً، فإذا لطفنا العبارة قلنا: ما دام الإسلام في قبضة الحكومة، فليكن الدينان الاخران في قبضتها أيضاً.

المسألة خطيرة

هذا هو المنطق المعقول الحكيم الصائب المتزن، فليتمسك به النواب المسلمون وليكونوا رجالاً، فإذا رضيت الحكومة «واستطاعت» ضمَّ الدينين إلى حوزتها، ووضعتهما تحت تصرفها،

كما ضمت الشركات المالية مثلاً، فإن الأمة الإسلامية من وراء النواب ترضى ببقاء مساجدها وأوقافها بيد الحكومة، ونحن نكسر الأقلام، ونكمّ الأفواه، ونحبس الألسنة، فلا نتحرك في هذه المسألة بحرف ولا نفس،

لأن هذه الحالة الخاصة بنا إن كانت خيراً؛ فنحن لا نرضى أن نستأثر بها دون جيراننا المسيحيين واليهود،

وإن كانت شرَّاً فلماذا نختص بها وحدنا، ونحن نريد أن يشاركونا فيها حتى يخفّ ثقلها ويهون وقعها، والمصيبة إذا عمّت هانت، ومن معاني الديمقراطية الاشتراك في الخير والشر.

إن المسألة خطيرة، وإنها مسألة تهم تسعة ملايين من المسلمين، وإن النواب مسؤولون عنها عند الله، محاسبون عليها من الأمة، وإن حجة الأمة فيها أوضح من الشمس، وإننا سنشرحها للنواب حتى يكونوا على بصيرة، وحتى لا يغتروا بالآراء المسخرة من الطوائف المسحرة.

ب ـ لو كانت الحكومة الفرنسية صادقة في فصل الإسلام عن حكومة الجزائر، مجتهدة فيه غير مقلدة للإدارة الجزائرية،

ولا متأثرة بأفكارها الاستعمارية الضيقة، لو كانت كذلك لتولت بنفسها ذلك الفصل قبل تقرير دستور الجزائر،

ولنفذت الفصل بأصوله وفروعه حتى يكون الدستور ـ كدساتير الأمم الديمقراطية ـ خالصاً للدنيويات التي يشترك فيها جميع الناس،

خالياً من الدينيات التي تخص الطوائف، وبذلك يكون دستوراً لأمة جزائرية منسجمة حرة في أديانها مقيدة بدستور واحد في دنياها،

ولكن الحكومة الفرنسية ـ فيما بلونا من أمرها ـ يدركها الغرق في تيار المستعمرين وأعوانهم من الحكام الإداريين كلما اعترضتها مشكلة من مشاكل الجزائر، فلا تسنّ إلا ما يرضيهم وإن أغضبت الحق والإنسانية وهدمت الجمهورية والديمقراطية، ولا ندري أذلك كله دلال أم هيبة أم هما معاً.

فصل الدين عن الحكومة

وفي فصل الدين عن الحكومة وإيكاله إلى أهله شرف عظيم للحكومات الديمقراطية، وأيُ شرف أعظم لفرنسا -مثلاً-

من أن يعلن رئيس جمهوريتها أو رئيس وزرائها -بموافقة برلمانها- أنها فصلت الإسلام بمساجده وأوقافه وقضائه عن حكومة الجزائر،

وتركته لأهله يتصرفون فيه بحرية كما يتصرف إخوانهم في المغرب وتونس والهند والصين،

فتفوز فرنسا وبرلمانها بالذكر الحسن والثناء الطيب في العالم الإسلامي أولاً،

وفي العالم الديمقراطي ثانياً،

لأن التسلط على الأديان بالصورة التي في الجزائر ليس من الإسلام ولا من الديمقراطية ولا من الإنسانية،

فلا عجب أن يطرب لتحرير دين عظيم من ربقة الاستعباد في ناحية من الأرض، كل مسلم على وجه الأرض، وكل ديمقراطي، وكل إنسان.

ولكن الحكومة الفرنسية تتنازل عن هذا الشرف العظيم، وهو إعلان الفصل القطعي تشريعاً وتنفيذاً، للمجلس الجزائري، وهو محجور للبرلمان الفرنسي،

وللحكومة الجزائرية وهي فرع الحكومة الفرنسية، فهل كان هذا التنازل تواضعاً وزهداً وإيثاراً للمجلس الجزائري ومحبة؟ لا لا.

ونحن نعرف السر في هذا التنازل، ونعرف أن حكومة فرنسا وحكومة الجزائر كانتا على اتفاق فيه،

ونعرف أن من تقاليد الحكومة الجزائرية التمسك الشديد بهذه السلطة المطلقة على مساجد المسلمين وأوقافهم، وما هي سلطة،

بل هي ملك مديد، رعاياه هذا العدد العديد من المفتين والأئمة، والمؤذنين و«رجال الدين»،

وإن لحكومة الجزائر في بقاء هذا الجيش تحت يدها مآرب أخرى تفوتها بانفلاته من يدها.

وما زالت هذه الحكومة منذ عشرات السنين تعارض في قضية الفصل وتطاول وتمدّ الآجال،

إلى أن أرهقتها المطالبة وحدثت فكرة «دستور الجزائر»، فأوحت إلى حكومة فرنسا أن تنص على الفصل،

وتكل تنفيذه إلى المجلس الجزائري الذي ولّده الدستور،

 لتصل عن طريقه إلى فائدتين:

الأولى: بقاء ما كان على ما كان.

الثانية: إفهام العالم بأن نواب المسلمين هم الذين رضوا بل طلبوا إبقاء ما كان على ما كان.

وما فعلت هذا إلا لاعتمادها على نفسها، وعلى وسائلها المعروفة في تكوين المجلس الجزائري،

وتشكيله على الكيفية التي تضمن لها ما تريد، وقد فعلت كل ذلك وكونت لنفسها وسائل الفوز،

ولم تبق إلا غيرة السادات النواب على كرامة دينهم وتقديمها على كل اعتبار، فليفهم النواب المسلمون هذا جيداً،

وليحاسبوا ضمائرهم، وليعلموا أن الدين لا مساومة فيه ولا مهاودة، وأن جميل الحكومة مع بعضهم في الأول لا يكون على حساب الدين في الأخير.

ج ـ … ووقع الفصل في باريز لفظاً وكتابة ونصَّاً في الدستور،

فهل يقع الفصل هنا في الجزائر؟

وهل يقع على ما تريده الأمة، أو على ما تبغيه الحكومة؟

والنواب المسلمون مهما يبلغ ببعضهم التأثر، فإنهم لا يوافقونها على إبقاء ما كان على ما كان، لأن ذلك مناقض للفصل الذي نص عليه الدستور نصَّاً صريحاً.

أما الحكومة الجزائرية فإنها تحلف برأس كل عزيز عليها أنها قادرة على الجمع بين الفصل والوصل في ان واحد،

وأنها زعيمة بالجمع بين المتناقضات ولا عجب من حكومة كاثوليكية لائكية، أن تضيف لهما نقيضاً ثالثاً هو «التمسك بالإسلام».

قال الرواي: وكيف يتم ذلك؟

د ـ ذلك أن الحكومة الجزائرية معروفة بالحزم في مثل هذه القضية من شؤون المسلمين،

ومعروفة بادخار الرجال لأوقات الشدة، وبوضع الإحسان عند من يشكره ولا يكفره،

ومن بين من ادخرتهم لهذه القضية وجربتهم فكشفت التجربة عن إخلاص وطاعة، واصطنعتهم وكان الاصطناع في محله.

رجل طموح إلى المناصب، يركب لأجلها الصعب والذلول، ويستسهل في سبيلها إخراب البصرة وإحراق روما،

وهو الحاج، الحاج فعلاً، الحاج نية، أمير الحج الجزائري في إحدى الحجات، الشيخ محمد العاصمي المفتي الحنفي بالجزائر.

ما زلنا نتتبع أعمال هذا الرجل منذ سنين، ونتوسم من حركاته أنه نصب وخفض معاً،

وأنه مهيأ من الحكومة لأن يكون «حلقة مفقودة» لقضية ما في يوم ما،

حتى أوقفنا حسن حظنا أو حظه في هذه الأيام على تقرير مطول في هذه القضية مرفوع باسمه إلى المجلس الجزائري، مقدم إلى بعض أعضائه دون بعضهم،

ومما يلفت منه نظر القاصرين «أمثالنا» ـ وبين لهم أن الأمر مدبر من زمان بعيد ـ

أن التقرير مؤرخ بيوم 21 مارس سنة 1948م مع أن المجلس الجزائري لم ينتخب أعضاؤه إلا يوم 4 إبريل سنة 1948م.

وقرأنا التقرير من أوله إلى آخره، وأعدنا قراءته استجلاء أو استحلاء، فوالذي خلق العاصمي -وقدّر أن يكون مفتياً في العاصمة-

 ما وجدنا فيه من العاصمة إلا اسمه وختمه، أما ما عدا الاسم والختم فهو وضع إدارة الفتيا ورجال «غير رجال الدين».

وقد فهمنا التقرير ومراميه والمحور الذي يدور عليه، وسنشرحه شرحاً يفك معضلاته ويفتح مقفلاته، ومعذرة إلى القراء فهذه طلائع يتبعها الجيش العرمرم، ومقدمات بعدها الحكم المبرم.

من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3): الحلقة: 230

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق