قراءة في فكر: “مراد هوفمان” ( 2 )
د.عطية عدلان
عضو رابطة علماء أهل السنّة ومدير مركز محكمات للبحوث والدراسات
الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
لم يَرُقْ للسياسيين في ألمانيا إسلامُ الدكتور “مراد هوفمان”، رغم أنّها كسائر دول الغرب تدعي الحرية، ولاسيما حرية العقيدة، ولقد تَحَدَّثَ في صفحات عن الحملة التي شَنَّها عليه الإعلام بسبب كتاب “الإسلام كبديل”، وعن الاضطهاد الإداري الذي تعرض له كسياسي ألماني ناجح في جميع ما أسند إليه من أعمال([1])، ومع ذلك لا أظنّ أنّ هذا الاضطهاد كان له أثرٌ في ثورته على الادعاء الأوربيّ؛ لِمَا بدا من أنفاس قلمه ونبضات كلماته ووحي السطور التي خطَّها في بيان الحقيقة أنّه إنسان كبير، تتحرك مشاعره وعواطفه مع عقله الناضج وفكره الصائب لا مع موجات ردود الأفعال الوقتية.
لقد ثار الرجل ثورة كبيرة على ادعاء أوربا، ولاسيما فيما يتعلق بعلاقتها بالعالم الإسلاميّ، تلك العلاقة التي ظهر فيها فضل الإسلام على الغرب وجناية الغرب على الإسلام كخطين متوازيين يمضيان أبدا في اتجاهين متعاكسين متضادين، وإذا كانت الحروب الصليبية قد عكست إلى حد كبير مقدار العداوة بين الغرب والشرق فإنّ تركيز الدكتور هوفمان عليها في ثورته على الادعاء الأوربيّ كان واضحا وجليّاً؛ لينتهي إلى نتيجة يلخصها في قوله: “ولقد أدرك بعض الأوربيين في ذلك الوقت حقيقة أثارت حرجهم، بل وأزعجتهم، حقيقة مفادها أنّ الغرب هو غروب صباح أشرق في بلاد الشرق”([2]).
أمّا الأحداث التي كانت على مقربة منه رميةً بحجر في البوسنة، فقد قامت شاهدة بأبلغ الصدق وأجلى اليقين على بجاحة الادعاء وسواد الكراهية والعداء، فها هو يدلي بشهادته في مرارة وألم: “لم تشهد أوربا منذ عَصْرَيّ ستالين وهتلر مثل هذه الجرائم، ولم تشهد أوربا منذ أيام الملك والملكة الكاثوليكيين جدًا في إسبانيا القرن السادس عشر حربا دينية مثل هذه، ومع ذلك لم يتدخل العالم المتحضر عسكريا، ولكن انشغل في المساعدات الإنسانية؛ وعمل بجد واجتهاد حتى يضمن للمسلمين أن يعذبوا أو يغتصبوا أو يموتوا وهم شبعانون!”([3])، ويواصل وصف الكارثة الإنسانية البشعة: ” فهاجمت طائرات الناتو من 30 أغسطس وحتى 14 سبتمبر 1995م مواقع عسكرية حربية، الأمر الذي تأخر فترة طويلة؛ مما أدى إلى 200000 قتيل و50000 حالة اغتصاب وأضعاف ذلك من اللاجئين … وكل ذلك في قلب أوربا وتحت سمع وبصر القوى المتحضرة”([4]).
ويؤكد في سياق آخر أنّه لم يكن هناك من دافع سوى ذلك الحقد الصليبي الموروث من مئات السنين، فيقول: “وذلك بالرغم من علم الجميع وإدراكهم لجرائم الصرب، وأنّ تعطشهم المجنون للانتقام من معركة دارت رحاها قبل 600 عام في كوسوفا، ويزكيها ويضرم نيرانها كل من بطريركي الصرب واليونان الأرثوذكسين”([5])، وعندما يتوفر في يد العقلية الحاقدة المغلقة آلة عسكرية متطورة فإنّ ما يحل على رأس البشرية كلها هو الخراب والتباب، كما قال العظيم “بيغوفيتش”: “إنّ تاريخ الإمبريالية سلسلة من القصص الحقيقية لشعوب متحضرة شنت حروبا ظالمة استئصالية ضد شعوب متخلفة أقل تعليماً، كان أكبر ذنبهم أنهم يدافعون عن أنفسهم وحرياتهم، أنّ المستوى التعليميّ الراقي للغزاة لم يؤثر على الأهداف أو الأساليب، لقد ساعد فقط على كفاءة الغزاة وفرض الهزيمة على ضحاياهم”([6]).
ثم يعود إلى ذكريات الحروب الصليبية ونتئجها في كتابة الأخطر “الإسلام في الألفية الثالثة ديانة في صعود” فيقول: ” لم يتعامل الفرسان الصليبيون مع الإسلام على أنّه دين آخر، بل على أنّه خروج على المسيحية، وابتعاد عن تعاليمها الأصلية يجب محاربته بكل الطرق – حتى أبشعها – والتي شملت كل الفظائع وحمامات الدم وشيّ أطفال المسلمين، بل وأكل لحومهم – حسب مراجع تاريخية غربية – عندما اقتحموا كلا من القدس ودمياط. لقد مرت 200 من الحروب دون أن ينتصر العالم الغربي على العالم الإسلاميّ، وكذلك دون إبداء أيّ محاولة لفهمه”([7]).
وفي المقابل لم يكن الجهاد الإسلاميّ وبالا على الشعوب، وما يقال عن الجهاد الإسلاميّ من أنّه ممارسة لفرض العقيدة بالقوة فهو مجرد ادعاء كاذب، وهنا يشرح الدكتور هوفمان أسباب الظاهرة التاريخية المبهرة، فيقول في “الإسلام كبديل”: “فإن كان صحيحا من الوجهة العسكرية أنه لم تستطع أي قوة أن تصمد أمام حماسة المسلمين؛ فإنّه أيضا صحيح بنفس الدرجة أنّه لم يكن بوسع تلك القوات قليلة العدد أن تسيطر على تلك المساحات الشاسعة ما لم يرض بها الأهالي وينضموا تحت لوائها”([8])، ويزيد المسألة بيانا في كتابه الآخر “الإسلام في الألفية الثالثة”: “هذا هو الوصف الدقيق للمشاعر التي حكمت علاقة الإسلام بالغرب منذ القدم وإلى يومنا هذا: الرعب والخوف؛ لقد بدأ هذا منذ التوسع المذهل للإسلام في القرنين السابع والثامن الميلاديين، هذا التوسع الذي مازال يذهلنا حتى يومنا هذا، ولا نفهم أسبابه، ولكن ما كان للمحاربين العرب الذين لم يتعدّ تعدادهم عشرة آلاف أن يحققوا كل هذا النجاح – رغم حماستهم الدينية واستهانتهم بالموت بل وطلبهم إياه لنيل الشهادة – إلا لأنّ مواطني بيزنطة وفارس لجئوا إلى المسلمين واعتنقوا بأعداد هائلة؛ لأسباب: التسامح الديني، ونظام الضرائب … ومحاولتهم لإقرار العدل … والتصور الإسلامي لصورة الإله …”([9]).
وهذه الشهادة شهد بها من قبله كثيرون أشار إليهم هوفمان، منهم “منتوجمري وات” الذي يقول في كتابه الشهير: “فضل الإسلام على الحضارة الغربية” يقول: “ومن ثم فقد أضحى الغرض من الجهاد ليس تحويل الناس عن دياناتهم إلى الإسلام، وإنما إخضاعهم للحكم الإسلاميّ … وقد كان ما يدفعونه أحياناً أقل مما كانوا يدفعونه لحكامهم السابقين، كما أن الدولة الإسلامية كانت تعتبر أمر حمايتهم حماية فعالة واجباً من أقدس الواجبات”([10]).، ومنهم “مايكل هارت” الذي يقول في كتابه “الخالدون مائة أعظمهم محمد صلى الله عليه وسلم” يقول: ” الغزوات العربية التي سادت القرن السابع ما يزال دورها عميقا وأثرها بليغا في تاريخ الإنسانية حتى يومنا هذا”([11])، فكل محاولة لتشبيه الدولة الإسلامية في توسعها كأي إمبراطورية هي تزوير للتاريخ وتزييف للحقائق، يقول محمد أسد: ” إنّ تلك الموازنة الشائعة والتي كثيرا ما يسشهد بها القوم ليست سوى واحدة من السخافات الكثيرة التي تغذي بها عقول الجيل الحاضر، إذ ليس ثمة شيء ما مشترك بين الإمبراطوريتين الإسلامية والرومانية ما عدا أنّهما امتدتا فوق أراض شاسعة وشعوب متباينة”([12]).
وبرغم السبق الحضاري، وبرغم فضل الحضارة الإسلامية على الحضارة الغربية؛ يعمد الغرب إلى تشويه الإسلام وتاريخ الأمة الإسلامية، وهو دور قام به بخبث ومكر ودهاء المستشرقون، وقامت به كذلك وبقوة واحترافية وسائل الإعلام الغربية؛ لذلك استفاض هوفمان في كتابيه الأكثر أهمية في بيان خطر هاتين الجهتين، فبعد أن استغرق في الحديث عن المستشرقين قال: “مارس أكثر العلماء أبحاثهم لخدمة المصالح الاستعمارية وإخضاع العالم الإسلاميّ للغرب، سواء كان ذلك بوعي أو بدون وعي”([13])، “وما زالت الحاجة ماسّة لأن تؤلف زجريد هونكة كتبًا مثل (الله ليس كذلك)؛ لتزيل لكثير من الأوربيين عُقَدَهم الاستعلائية تجاه العالمين العربي والإسلاميّ” وفي سياق آخر بعد استغراق في بيان الجرائم التي يرتكبها الإعلام الغربيّ يقول: “تدعم وسائل الإعلام الانطباع السائد بأنّ الإسلامَ دينٌ عفا عليه الزمن، بلا أدنى بادرة أمل في إصلاحه أو تنويره … والنمط السائد لتحقيق هذا الانطباع وتقويته هو إبراز ثغرات الإسلام، خاصة إذا ما قورنت بالنموذج الغربي”([14]).
ولعلنا في المقال الثالث من السلسلة نكشف عن خط ثالث في كتابات هوفمان يستثمر فيه نتائج الحقائق السابقة ليؤصل لما هو أخطر، وهو مستقبل الإسلام في الغرب، والله المستعان. (يتبع).
([1]) ر: رحلة إلى مكة – مراد هوفمان – العبيكان – الرياض – ط أولى 2001م صــــ221 وما بعدها
([2]) رحلة إلى مكة – مراد هوفمان – العبيكان – الرياض – ط أولى 2001م صــــ225
([3]) الإسلام كبديل – د. مراد هوفمان – ترجمة: عادل المعلم – دار الشروق – القاهرة – ط أولى 1997م صــــ158
([4]) الإسلام كبديل – د. مراد هوفمان – ترجمة: عادل المعلم – دار الشروق – القاهرة – ط أولى 1997م صــــ159
([5]) رحلة إلى مكة – مراد هوفمان – العبيكان – الرياض – ط أولى 2001م صــــ217
([6]) الإسلام بين الشرق والغرب – على عزت بيغوفيتش – ترجمة محمد يوسف عدس – دار النشر للجامات مصر – مؤسسة بافاريا للنشر والإعلام – ط ثانية 1997م صـــــــ 101
([7]) الإسلام في الألفية الثالثة ديانة في صعود – د. مراد هوفمان – ترجمة: عادل المعلم وزميله – مكتبة الشروق – القاهرة – ط ت بدون صــــ71
([8]) الإسلام كبديل – د. مراد هوفمان – ترجمة: عادل المعلم – دار الشروق – القاهرة – ط أولى 1997م صــــ17-18
([9]) الإسلام في الألفية الثالثة ديانة في صعود – د. مراد هوفمان – ت: عادل المعلم وزميله – مكتبة الشروق – صــــ68 (بتصرف بسيط)
([10]) فضل الإسلام على الحضارة الغربية – مونتجومري وات – ترجمة حسين أحمد أمين – دار الشروق بيروت لبنان – ط 1983م صـــــــــ15
([11]) الخالدون مائة أعظمهم محمد صلى الله عليه وسلم – مايكل هارت – ت أنيس منصور – المكتب المصري الحديث – القاهرة ط ت بدون صــــ19
([12]) الإسلام على مفترق الطرق – محمد أسد – ترجمة عمر فروخ – دار العلم للملايين – بيروت – ط 1987م صـــــ35
([13]) الإسلام كبديل – د. مراد هوفمان – ترجمة: عادل المعلم – دار الشروق – القاهرة – ط أولى 1997م صــــ136
([14]) الإسلام في الألفية الثالثة ديانة في صعود – د. مراد هوفمان – ترجمة: عادل المعلم وزميله – مكتبة الشروق – القاهرة – ط ت بدون صــــ83
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق