صراع فى إنتخابات فرنسا والمتاجرة بالإسلاموفوبيا لإرضاء اليمين المتطرف
فرنسا 2022.. قوى يمينية تتنافس في كراهية المسلمين
قلم الخبير السياسى والإقتصادى
د.صلاح الدوبى
تجد الحملات الانتخابية لمرشحي الرئاسة الفرنسية، هذه الأيام، تُعيد إلى الأذهان ما قاله، في فترة السبعينات من القرن الماضي، رئيس الوزراء الصيني آنذاك شوان لاي، رداً على سؤال وجّهه إليه وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، حول رأيه في الثورة الفرنسية.
كان جوابه: «ما زال الوقت مبكراً للحُكم عليها». وعلى ما يبدو، فإن تلك الإجابة، على غرابتها، لم تكن تخلو من حكمة، وإن تحوّلت إلى موضوع سُخرية في وسائل الإعلام الغربية.
الثورة الفرنسية – 1789 – ليست في حاجة إلى تذكير بمبادئها وشعاراتها، أو هذا، على الأقل، ما كنّا نظنّه لأعوام طويلة. إلاّ أن الحال تغيّر لدى انطلاق الحملات الانتخابية، في مختلف مدن ومناطق فرنسا، استعداداً لمعركة الرئاسة في شهر أبريل (نيسان) القادم. الثورة الفرنسية التي هزّت، لدى انفجارها، أركان العالم الإقطاعي في كل أوروبا، صارت هذه الأيام غريبة في موطنها وبين أهلها.
ومن لا يصدق، عليه متابعة ما يصدر عن بعض المرشحين من تصريحات وبيانات عنصرية سيئة هؤلاء سينتخب منهم رئيس فرنسا القادم يا للأسف.
شهر يونيو (حزيران) 1940 تاريخ لا يُنسى في فرنسا. في الأسبوع الأخير منه، وقّع القادة العسكريون على اتفاقية هزيمة بلادهم في الحرب أمام ألمانيا. ووفقاً لبنود تلك الاتفاقية، قُسّمتْ فرنسا شطرين؛ يكون الأول خاضعاً لسيطرة الاحتلال الألماني، والآخر تحت تصرف الفرنسيين وبسيادة فرنسية – اسمية طبعاً. الجزء الفرنسي المستقل كان في جنوب شرقي فرنسا، ممتداً من الحدود السويسرية قريباً من جنيف، حتى يصل قريباً من مدينة تورز – Tours، ثم ينحرف نحو الجنوب الغربي حتى الحدود الإسبانية. في تلك الرقعة من الأرض ظهرت في شهر يوليو (تموز) 1940 دولة فرنسية، في بلدة اسمها «فيشي»، تحت قيادة الجنرال فيليب بيتان، وانتهت في شهر سبتمبر (أيلول) عام 1944، وبدلاً من شعارات الثورة الفرنسية (الحرية – المساواة – الأخوة) رفعتْ دولة فيشي شعار (العمل – العائلة – الوطن).
وإذا كان من الصعب، عادةً، اتفاق المؤرخين على تفسير حدث تاريخي، فإنهم اتفقوا بإجماع على عمالة تلك الدولة المصطنعة للاحتلال الألماني، ووثّقوا تعاونها مع الإدارة النازية في مطاردة اليهود الفرنسيين وغير الفرنسيين، والقبض عليهم وترحيلهم إلى معسكرات الإبادة في بولندا.
المرشح للرئاسة إريك زيمور – وهو يهودي الديانة ومُعلق تلفزيوني جدلي – حاول، خلال حملته الانتخابية، بل قبلها أيضاً، إعادة كتابة التاريخ، بما يستجيب وميوله السياسية، وميول أنصاره.
زيمور مرشح مستقل، ويتخندق في أقصى اليمين سياسياً، وهدفه من دخول سباق الرئاسة، كما يؤكد، هو تحرير فرنسا من المهاجرين العرب والمسلمين الذين يريدون تراثاً إسلامياً عوضاً عن تراثها التاريخي المسيحي. الغريب، أن هناك ليبراليين فرنسيين تواطأوا بصمتهم تضامناً مع تلك الجوقة العنصرية المقيتة، الأمر الذي اضطر الرئيس إيمانويل ماكرون، خلال الأيام الماضية، إلى التدخل على أمل رد الأمور إلى نصابها، وقيامه بزيارة إلى مدينة فيشي، ألقى خلالها خطاباً فنّد فيه ما يروّجه بدوافع سياسية المرشح زيمور من مغالطات تاريخية. وللعلم، واستناداً إلى التقارير الإعلامية، فإن الرئيس ماكرون كان أول رئيس فرنسي يزور فيشي منذ أربعين عاماً. ومن المهم الإشارة كذلك، إلى أن تلك الزيارة لم تحفزّ أياً من المرشحين الآخرين – حتى الآن – على الاقتداء به، والذهاب إلى فيشي.
قبل أقل من 3 أشهر على انتخابات الرئاسة في فرنسا، يتصدر قائمة المرشحين ماكرون وبيكرس ولوبان وزمور، والأربعة يتسابقون لكسب أصوات اليمين المتطرف على حساب المسلمين في البلاد
ويبدو أن مسألة تأثير الإسلام على المجتمع الفرنسي قد أصبحت الورقة الرابحة للانتخابات الرئاسية المقررة في أبريل/نيسان المقبل، بعد أن ذهبت فرنسا أبعد من أي بلد غربي آخر في مواجهة ما تسميها “التيارات الراديكالية” داخل الإسلام.
وهذه هي المرة الأولى في تاريخ الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي يتقاسم فيها اليمين واليمين المتطرف المراتب الأربع الأولى في استطلاعات الرأي، وهو ما يضع مسلمي فرنسا أمام خيارات صعبة في ظل تصاعد الخطاب المعادي للإسلام والمهاجرين في الحملات الانتخابية، بحسب تحليل لوكالة الأناضول.
أظهر آخر استطلاع للرأي أجرته شركة “إيبسوس-سوبرا ستيريا” ونشرت نتائجه السبت 22 يناير/كانون الثاني، أن الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون، ما زال يتصدر نوايا التصويت بـ25%، متقدماً بنحو 10 نقاط عن أقرب منافسيه. وحازت زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان على 15.5% من نوايا التصويت.
وبالنسبة نفسها حلت فاليري بيكريس، مرشحة حزب الجمهوريين، الذي يمثل اليمين الديغولي التقليدي، في المركز الثالث. أما اليميني المتطرف إريك زمور، اليهودي من أصول جزائرية، فتراجع إلى المرتبة الرابعة بـ13%.
ويختلف المرشحون الأربعة حول عدة ملفات، لكن الشيء الوحيد الذي يجمعهم هو خطابهم المعادي للمسلمين والمهاجرين، والتهويل من خطر التهديد الذي يمثله الإسلام على هويتهم العلمانية.
ماكرون ومغازلة اليمين
ماكرون، الذي خرج من عباءة الحزب الاشتراكي (يسار) ثم أسس حزب الجمهورية إلى الأمام (وسط) الذي ضم أجنحة من اليسار وأخرى من اليمين، سرعان ما جنح نحو اليمين، بل زايد في بعض الملفات على اليمين المتطرف في عدائه للإسلام والمسلمين بشكل غير مسبوق.
وأخطر ما خرج به ماكرون، إصدار قانون “مكافحة الانفصالية الإسلامية”، الذي يُضيق من حرية المسلمين، وكذلك غلق 3 مساجد خلال أشهر قليلة، وادعاء وزير داخليته جيرالد دارمانان، أن 70 من أصل أكثر من 2500 مسجد في فرنسا “يعتبر متطرفاً”.
وكان تقرير لصحيفة The Wall Street Journal الأمريكية قد رصد تركيز الرئيس الفرنسي على ما يسميها معركة “رسم الخط الفاصل بين الدين والدولة” لإجبار “المنظمات الإسلامية على الدخول في قالب العلمانية الفرنسية، وهي الاستراتيجية التي يصفها منتقدو ماكرون بأنه يسعى لفرض “نسخة من الإسلام على الطريقة الفرنسية”.
وكثيراً ما استفز ماكرون المسلمين بتصريحاته المعادية للإسلام، على غرار قوله إن “الإسلام في أزمة”، وكذا دعمه للصور المسيئة للرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، وحل جمعيات لمسلمين بينها “التجمع ضد الإسلاموفوبيا بفرنسا”، المناهض للعنصرية ضد المسلمين.
ومع تصاعد النزعة اليمينية المتطرفة في فرنسا خاصة منذ ذبح معلم في 2020 بعد نشره صوراً مسيئة للرسول (ص)، أصبحت تصريحات ومواقف ماكرون أقرب لليمين المتطرف، ومعادية للمهاجرين خاصة المسلمين منهم.
لوبان وزمور.. صراع على زعامة اليمن المتطرف
مارين لوبان، زعيمة حزب “التجمع الوطني”، لم تعد وحيدة في معسكر اليمين المتطرف، فبعد دخول إريك زمور، السباق الرئاسي، زايد على تطرفها، وشق صفوف معسكرها. وحتى الرئيس ماكرون، يحاول أن يغرف من قاعدتها الشعبية، من خلال اقتراب خطابه من الشعبوية المتطرفة.
فلوبان تقاتل في الانتخابات الرئاسية لمنع اضمحلال حزبها، أمام تنافس مرشحين رئاسيين بارزين على تبني خطاب يميني متطرف ضد المسلمين والمهاجرين، أكثر تطرفاً من خطابها.
ففي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أظهر استطلاع أجرته مؤسسة “إيفوب-فيدوسيال” لحساب صحيفة “لو فيغارو” وقناة “إل.سي.آي”، تفوق زمور على لوبان بنسبة 17 مقابل 16% على التوالي.
مرشح لرئاسة فرنسا يدلي بتصريحات حادة ضد المسلمين
واستغل زمور، الذي أدين مرتين بالتحريض على الكراهية، تصاعد الإسلاموفوبيا في البلاد بتوعد المسلمين بتغيير أسمائهم في فرنسا، وسيمنعهم من تسمية أبنائهم “محمد” كمثال، وتحول بسرعة إلى ظاهرة إعلامية استقطبت اهتمام التيارات المتطرفة المعادية للإسلام.
الدعم الثاني الذي تلقاه زمور، وشكل طعنة في ظهر مارين لوبان، تلقيه دعماً قوياً من والدها جان ماري لوبان، الذي سبق أن أطاحت به من رأس “الجبهة الوطنية” قبل أن تغير اسمها إلى “التجمع الوطني”.
لكن مارين لوبان، استعادت المرتبة الثانية رغم تراجعها الطفيف في نوايا التصويت، وذلك لخسارة زمور 4 نقاط كاملة ما بين نوفمبر/تشرين الثاني 2021 ويناير/كانون الثاني 2022.
وقد يعود تراجع شعبية زمور، إلى استعمال مجموعة من أنصاره العنف ضد جمعية مناهضة للعنصرية، تظاهرت في أحد اجتماعاته، في 5 ديسمبر/كانون الأول الماضي، ما دفع وزارة الداخلية إلى حل مجموعة “زواف باريس”، وقبلها جمعية “جيل الهوية”.
تهم بالتحرش الجنسي والعنصرية تلاحق زمور
تلاحق إريك زمور تهم كثيرة بالعنصرية والتحرش الجنسي، فقد سبق وأن أُدين من قبل المحاكم الفرنسية أكثر من مرة بتهمة العنصرية، ومؤخرا فقط اتُهم من طرف 7 سيدات بالاعتداء الجنسي عليهن، حسب ما ورد في شهادات أدلين بها لصحيفة ميديا بارت.
https://www.youtube.com/watch?v=tuc6ZjRlJN8
ولكن كلاً من لوبان وزمور، يتبنيان نظرية “الاستبدال العظيم”، التي تروج لفكرة أن شعوباً أجنبية (المسلمين مثلا) ستحل محل الشعب الفرنسي. وعبر هذه النظرية ينفخ زمور ولوبان في نار الرهاب من المهاجرين لدى اليمين المتطرف، مع التركيز على المسلمين، لكسب شعبية أكبر ولو بإثارة التفرقة والعنصرية ضد ثاني أكبر ديانة في البلاد.
بيكريس.. البحث عن مكان تحت مظلة التطرف
لا تختلف فاليري بيكرس، كثيراً في مواقفها المعادية للمهاجرين، وإن كانت تصريحاتها ضد المسلمين أقل تطرفاً من زمور ولوبان وماكرون، إذ تعهدت في حال انتخابها لرئاسة فرنسا بأن تكون “أكثر تشدداً” بشأن الهجرة.
وتقترح بيكرس، التي فازت في ديسمبر/كانون الأول الماضي بترشيح حزب الجمهوريين (يمين وسط) بـ”ترحيل الأجانب الذين يمثلون تهديداً للأمن العام، خصوصاً من الذين يتبنون خطاباً إسلامياً متشدداً”.
واتهمت ماكرون بالتغاضي عن “الإسلاموية، بل كذلك الهجرة غير الخاضعة للرقابة، وزيادة انعدام الأمن”.
وكانت ماريان لوبان قد استخدمت نفس الأسلوب بمحاولتها تصوير ماكرون بأنه لين مع “الإسلاموية”، وهو مصطلح غير دقيق ومثير للجدل يستخدمه بعض السياسيين في فرنسا لوصف أي حركة سياسية أو اجتماعية بشكل عام تسعى لتنظيم المجتمع وفقاً للقواعد التي ينص عليها الإسلام.
كرس، التي سبق لها أن شغلت منصب وزيرة المالية، فهي ليست سوى امتداد للخطاب المتشدد ضد المسلمين، الذي تبناه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي (2007-2012)، مؤسس حزب الجمهوريين (الاتحاد من أجل حركة شعبية سابقاً).
لكن حزب الجمهوريين، الذي قاد البلاد في حقب مختلفة، فيواجه الآن خطر الاضمحلال على غرار الحزب الاشتراكي، وكلاهما كانا ضحية خروج ماكرون من العدم ليؤسس حزب (الجمهورية إلى الأمام) كخليط من اليسار واليمين.
كما أن جزءاً من قاعدة الجمهوريين استقطبته مارين لوبان، وهذا ما يفسر نزوع بيكرس، لتبني خطاب أكثر تشدداً بشأن الهجرة والمسلمين، وقد يتصاعد هذا الخطاب كلما اقتربنا من موعد الانتخابات في أبريل/نيسان المقبل.
واستفادت بيكرس من انقسام قاعدة اليمين المتطرف بين لوبان وزمور، وصعدت في استطلاع أجرته بولتيكو قبل نحو شهرين من المرتبة الرابعة بنسبة 10%، إلى المرتبة الثانية بنسبة 15.5% في يناير كانون الثاني، بحسب الاستطلاع الأخير الذي نشرته لوموند.
وتعكس نتائج سبر الآراء أن المرشح الذي سيصعد إلى الدور الثاني في مواجهة ماكرون، لم يحسم بعد، وأنه ما زال منحصراً بين بيكرس ولوبان وبدرجة أقل زمور الذي تقلص وهج تصريحاته المتطرفة والعنصرية.
فالإسلاموفوبيا أصبحت التجارة الرائجة في الرئاسيات الفرنسية، والمرشحون الأربعة الأقرب للرئاسة جميعهم يتنافسون حول من يكون أكثر عداءً للمسلمين للفوز بأصوات اليمين المتطرف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق