النبي المقاتل والنظرة المنهزمة المؤرخ [م. محمد إلهامي]
ليس حال الضعيف المهزوم في أمتنا اليوم بأسوأ من حال البغداديين الذين طلع عليهم جندي تتري أعزل، ففزعوا منه، فأمرهم بالوقوف هنا وانتظاره حتى يأتي بسيف يستأصلهم به، فسمعوا وأطاعوا من هول ما هم فيه من الرعب والضعف والهزيمة، حتى جاء الأعزل الواحد بسيف فقضى عليهم!
إن الهزيمة تلقي على الحقائق الواضحة ثوبها المشؤوم، فإذا الأعزل الواحد المنتصر كجيش يُخشى ويُخاف، وإذا الجماعة المهزومين تخضع له بالسمع والطاعة، وقوتهم أضعاف قوته!
أجد نفسي كثيرا أمام هذه الصورة حين أقارن بين ما يكتبه كثير من الدعاة والعلماء وأهل الفكر الإسلامي، وبين ما يكتبه المؤرخون غير المسلمين عن ذات الحدث، فكثيرا ما تجد لهجة المسلم لهجة اعتذارية وانسحابية، في أمر لا يُرى فيه عيبٌ أصلا!
من أمثلة ذلك، ما سأسوقه إليك في هذه السطور، من كلام مستشرقين ومؤرخين فرنسيين، كان لهم "بعض" الإنصاف إذ يتناولون سيرة نبينا ﷺ، في مسألة هي أم المسائل الحساسة والشائكة، وهي قتال النبي للمشركين وجهاده إياهم!
خذ لديك مستشرقا مثل هنري دي كاستري، وقد كان من رجال الإدارة الفرنسية في الجزائر، ثم تأثر بالمسلمين، وكتب كتابه "الإسلام: خواطر وسوانح"، أدان فيه ما لحق سيرة النبي من تشويه صليبي وُلِد في عصر الحملات الصليبية، وكان من ضمن ما قاله هذه العبارة البسيطة الواضحة، التي تبدو حين تقرؤها من موقع المهزوم كأنها قذيفة صاروخية:
"ما كان ينبغي للنبي –حبا في السلام- أن يترك الباطل يعلو على كلمة الحق المبين"[1].
وينتقل دي كاستري من الدفاع إلى الهجوم والإدانة، ولا يبالي في انطلاقته هذه أن يُتَّهم بالإرهاب، وباضطهاد الأديان، إنه يستغرب كيف يُمكن أن يُدان الرجل الذي يُحارب الخرافة الوثنية، ويُحارب أن يخضع الإنسان للحجر، متخليا بطوع إرادته عن كرامته وقدره! يقول:
"وقد نظر بعضهم إلى هذه الآيات (آيات الجهاد) وما يماثلها، فاتهموا النبي بالتعصب. أفما كان يجب عليه أن يحارب بقوة السلاح المعاندين من الوثنيين، ليبيد تلك الديانة إلى الأبد من بلاد العرب، كما أنها هي التي أخنت على مذهب التوحيد، مذهب الخليل قبل الإسلام، وأن يجعل بين المؤمنين وبين عبادة الأصنام حدًّا فلا يرجعوا إليها؟"[2].
ثم ينطلق بعدها إلى إدانة جديدة، لأولئك الذين كذبوا على أنفسهم وعلى الناس، حين صَوَّروا لهم أن الإسلام إنما انتشر بالسيف، فيقول دي كاستري مستشهدا بالتاريخ والواقع:
"ولو كان دين محمد انتشر بالعنف والإجبار، للزم أن يقف سيره بانقضاء فتوحات المسلمين، مع أننا لا نزال نرى القرآن يبسط جناحه في جميع أرجاء المسكونة"[3].
أما إميل درمنجم، وهو مستشرق فرنسي غلب عليه الإنصاف، وكتب كتابا عن النبي بعنوان "حياة محمد"، فقد سلك سبيلا آخر في بيان صورة النبي ﷺ لبني قومه، وكان درمنجم يحاول تقديم صورة معتدلة عن النبي في قومٍ ترسخ عندهم أنه صورة مناقضة للمسيح عيسى عليه السلام، فطفق طوال كتابه يقرب بين الإسلام والمسيحية حتى جاوز الحدّ تحت ضغط هذه الرغبة، ولكنه فيما يخص موضوعنا هنا، موضوع النبي والجهاد، فإنه أثبت الحقيقة البسيطة الأولى في هذا الباب وهي أنه:
"لم يشرع الجهاد لهداية الناس بالسيف، ففي القرآن {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} والقرآن يأمر المسلمين بالاعتدال وبألا يبدأوا بالاعتداء"[4].
ووسَّع صورة الجهاد في الإسلام كي يلفت نظر الغربيين، الفرنسيين تحديدا، إلى أن القتال في الإسلام، بل حتى القتال في الجاهلية العربية، لم يبلغ حد التوحش الذي يُعرف في الغرب، كما أن الحديث عن النبي المجاهد المقاتل ينقض الأسطورة القائلة بأنه كان مصابا بالصرع والجنون، فالصورة الغربية تحت ضغط الحقد والأجواء الصليبية، جمعت بين النقيضيْن: الجنون وإدارة الحرب، يقول:
"بلغ عدد مغازي محمد أربعين في عشر سنين، واشترك هذا الرجل (الذي نعته بعضهم بالماكر الماهر ورآه آخرون مصابا بالصرع) في نحو ثلاثين غزوة وأدار نحو عشر معارك بشخصه فضلا عن المفاوضات الصعبة التي قام بها، وليس بمجهول ما يجب أن يتحلّى به السيدُ العربي في الغزوات بجزيرة العرب من تحمل المشاق والصبر على المكاره وخلق الثبات والأناة وحسن السياسة والنشاط والمرونة، وهذا إلى ما يحيق بسلطانه من المخاطر وإلى اعتماده على مؤازرة جمهور متقلب، ففي هذا المضمار الصعب المضني برع محمد"[5].
ويزيد درمنغم الصورة وضوحا، ليتحدث عن شخصية النبي ﷺ في حال السلم والموادعة، أو في حاله بعد النصر والتمكن، فيقول:
"إذا كان محمد يفرط في القسوة عند اشتباك الفريقين ويقابل العدوان بالعدوان والمكر بالمكر، فإنه قلّما يقسو في حالة دَعَتِه، بل كان يبدو معتدلا إلى الغاية كما يشهد بذلك أمره حين فتح مكة، فقد أبدى في أثناء هذا الفتح من الكرم وعظمة النفس ما لا تجد مثله في التاريخ إلا نادرا، وكان محمد يوصي جنوده بأن يرحموا الضعفاء والشيوخ والنساء والأولاد، وكان ينهى عن هدم البيوت وإهلاك الحرث وقطع الشجر المثمر، ويأمر بألا يَسُلَّ مسلمٌ حسامه إلا عند أقصى الضرورة، وسنرى أنه أنحى باللائمة على بعض رجاله فعوَّض بالمال مما اقترفوه، وهو الذي رأى أن النفس الواحدة خيرٌ من كل الغنائم"[6].
ومن قبل إميل درمنجم، كان المستشرق الفرنسي الشهير لويس سيديو، صاحب الكتاب الشهير "خلاصة تاريخ العرب"، الذي هو ربما أول كتاب فرنسي يُترجم للعربية ويشمل التاريخ الإسلامي العام، كان لويس سيديو قد سلك نفس الطريقة، في توسيع الصورة لبيان حقيقة شخصية النبي ﷺ، وأنها لم تكن –كما يتصوره الغربيون- سبَّاقة إلى القتال والدماء، يقول سيديو:
"وأما أخلاقه وأفعاله فكانت غاية في الكمال؛ منها عفوه عن ألدّ أعدائه بعد فتح مكة، وحلمه في الأخذ بحقوق الحرب من القبائل، وأسفه على قضائة على بعض، وعدم استعانته بما له من عظيم السطوة والسلطة على إجابة داعي القسوة، ولذا كان يحاول بالحث العود بمن خرج عن الحد من أصحابه إلى حدود الاعتدال، ومنها إباؤه إشارة عمر عليه بقتل الأسرى بعد واقعة بدر، وصفحه عمن قتل عمه حمزة، وقوله: اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد حين أخذ بثأر قريبه من بني جذيمة"[7].
ولا حرج على المستشرق إذا لم يفطن أن أن خالدا بريئ من تهمة الثأر من بني جذيمة، إذ ليس لهؤلاء القدرة على سبر الروايات ومعرفة الصحيح منها من الضعيف، ولكن المقصد واضح، وهو أن النبي ﷺ تبرأ من الخطأ ولو ارتكبه بعض صحابته، ولو كان الذين جرى الخطأ عليهم هم قومٌ من أعدائه!
إن القليل من قراءة سيرة النبي والاطلاع عليها يكشف للباحث فورا أنه إزاء رجل عظيم، حمل رسالة الهداية، ثم حمل السيف من أجل هذه الرسالة لا من أجل اضطهاد الناس وإكراههم على دينه!
لكن القصد من هذه السطور السابقة، أن الفرنسي الذي أصابه الإنصاف كان أوضح في قراءته وبيانه من المسلم الذي أصابته الهزيمة، فلم ير أحدهم أن مجرد حمل السيف والقتال كان عيبا، ولا أنه أمر يستحق أن نتكلف له التأويلات والاعتذارات!!
إن نفسية القارئ هي من تفرض عليه طبيعة الفهم، وأحرى بالمسلمين أن يخلعوا ثوب الهزيمة ونظارة الضعف، وأن ينظروا للأمر بعين من آمن بالله واعتز بدينه، عندئذ تشرق في نفسه فتوحات الفهم والبيان، ويشرق في قلبه نور العلم والعمل.
نشر في الهيئة العالمية لنصرة نبي الإسلام ﷺ
[1] هنري دي كاستري، الإسلام: خواطر وسوانح، ترجمة: أحمد فتحي زغلول، ط1 (القاهرة: مكتبة النافذة، 2008م)، ص67.
[2] هنري دي كاستري، الإسلام، ص65.
[3] هنري دي كاستري، الإسلام، ص131.
[4] درمنغم، حياة محمد، ترجمة: عادل زعيتر، ط2 (القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، د. ت)، ص196.
[5] درمنغم، حياة محمد، ص198.
[6] درمنغم، حياة محمد، ص197.
[7] سيديو، خلاصة تاريخ العرب، أمر بتهذيبه وترجمته: علي باشا مبارك، ط1 (القاهرة: مطبعة محمد أفندي مصطفى، 1309ه)، ص64.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق