هل انتحل مكيافيلي كتاب "الأمير" من ابن البطريق؟
راجت أطروحات عديدة خلال العقود الماضية حول العلاقة بين الفكر السياسي الإسلامي ونظيره الغربي. وقد حاول باحثون كُثر إثبات وجود هذه العلاقة من خلال تقفي آثار وتأثيرات بعض الكتابات العربية والفارسية على مفكري القرون الوسطي في أوروبا كما هو الحال في كتابات الباحث الفرنسي من أصول لبنانية رينيه خوام (1917-2004)، والباحث الإنجليزي المعروف أنطوني بلاك (1936-) وغيرهما من الباحثين الذين أشاروا إلى أن ثمة علاقة وثيقة بين كتب الآداب السلطانية (النصائح السياسية) التي كان يقدمها الكتّاب والفلاسفة العرب للخلفاء والأمراء والسلاطين، وتلك التي قدّمها المفكر الإيطالي نيكولو مكيافيلي (1496-1527) في كتابه المعروف "الأمير".
بغض النظر عن مدى التشابه والاختلاف بين كتابي "الأمير" و"سرّ الأسرار"، فإن التواصل والتلاقح بين الثقافتين العربية-الإسلامية والغربية ليس أمرا غريبا أو مفاجئا، وهو أمر ثابت تاريخيا. بيد أن الجديد في الأمر، حسب الكتاب المشار إليه، هو أن يكون للفكر السياسي العربي دورا محوريا في صياغة أسس نظيره الغربي، ممثلا في كتابات مكيافيلي خاصة كتاب "الأمير" الذي يعد من أهم الكتب المؤسسة للفكر السياسي الغربي حتى يومنا هذا.
آخر تلك المحاولات الاستكشافية للتأثير العربي والإسلامي على الفكر السياسي الغربي خلال مرحلة القرون الوسطى جاءت من خلال كتاب مهّم صدر قبل عدة أعوام عن دار نشر "بالغريف ماكميلان" (Palgrave Macmillan) يحمل عنوان "مكيافيلي، الإسلام، والشرق: إعادة توجيه أسس الفكر السياسي". وهو عبارة عن مجموعة دراسات رصينة قدمها باحثون أوروبيون وأتراك حول الجذور العربية والإسلامية لكتاب "الأمير" لمكيافيلي.
قراءة سريعة في الكتاب تشير إلى تأكيد ما كان يبدو أمرا مشكوكا فيه بشأن وجود تأثير لبعض كتابات الفلاسفة والمفكرين العرب والمسلمين على الفكر السياسي الغربي، وخاصة كتاب "الأمير" لمكيافيلي الذي يعد -بالنسبة لكثير من الباحثين- مؤسس الفكر السياسي الحديث في أوروبا. ففي دراسته المهمة بالكتاب، يشير الباحث الإيطالي وأحد محرري الكتاب "لوشيو بياسوري" إلى أن ثمة علاقة وثيقة بين كتاب "الأمير" لمكيافيلي وكتاب "سرّ الأسرار"، الذي يقال أن يحيى بن البطريق -أحد أشهر مترجمي العصر العباسي الأول- قد ألفه نقلا عن ترجماته لكتابات أرسطو، وذلك خلال الفترة بين عامي 850-900 من الميلاد. فمن المعروف أن أرسطو كان مُعلّما للإمبراطور المقدوني الإسكندر الثالث -المعروف بالإسكندر الأكبر والإسكندر ذي القرنين- وكان يسدي له بعض النصائح السياسية التي جُمعت ونُشرت في كتاب "السياسة والفراسة في تدبير الرئاسة" لأرسطو. وثمة خلاف منهجي ومعرفي بين الباحثين حول إذا ما كان كتاب ابن البطريق هو نفسه كتاب أرسطو المشار إليه.
على أي حال، يشير بياسوري إلى أن مكيافيلي لم يكن له ليكتب كتابه "الأمير" من دون الاطلاع على كتاب "سرّ الأسرار" الذي كان قد تُرجم أول مرة إلي اللاتينية في أوائل القرن الثاني عشر، وإن كانت الترجمة في طبعة صغيرة ومختصرة، وذلك عن طريق المترجم المعروف وقتها يوحنا الإشبيلي، ويُقال أنه أهدى ترجمة الكتاب إلى ملكة البرتغال آنذاك الملكة تيريزا. كما أنه بعد قرن من ذلك، قام القسيس الإيطالي والمترجم المعروف في العصور الوسطى فيليب طرابلس بترجمة النسخة الكاملة من كتاب "سرّ الأسرار". وهنا يقول بياسوري إن كتاب "سرّ الأسرار" كان قد أصبح من أشهر الكتب في "العصور الوسطى"، إن لم يكن أشهرها، حيث تمت ترجمته إلى عدة لغات أوروبية كالإيطالية والألمانية والفرنسية والإنجليزية، وطُبع منه ما يقرب من 34 طبعة خلال الفترة ما بين 1472 و1540. كما نُسخ منه ما يقرب من نحو 500 نسخة تم توزيعها في مختلف أنحاء أوروبا بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وما يقرب من 23 مخطوطة منها لا تزال موجودة حاليا؛ وإن كانت بمحتويات مختلفة، حسب بياسوري الذين ينّبه أيضا إلى أن كتاب "سرّ الأسرار" قد حمل عناوين، وربما أجزاء، مختلفة بحسب اللغات الأوروبية. أما الأكثر دهشة وإثارة، فهو أن "سرّ الأسرار" كان أشبه بموسوعة عربية تضم السياسة والطب وعلم الفراسة وعلم السحر، وأضاف الكثير لما جاء في نصائح أرسطو للإسكندر الأكبر.
وبما أن مكيافيلي كان يقطن في ذلك الوقت بمدينة فلورنسا الإيطالية، التي كانت تشهد نهضة فكرية وثقافية وفنية، فقد كان كتاب "سرّ الأسرار" من أكثر الكتب، إن لم يكن أكثرها، انتشارا في المدن الأوربية، وأغلب الظن أن مكيافيلي قد قرأه وتأثر به، وإن لم يقل ذلك صراحة. وبحسب بياسوري، فإنه بعد ظهور كتاب "الأمير" في منتصف القرن السادس عشر، حصل تراجع لكتاب "سرّ الأسرار"، وهو ما جعل المقارنة بين محتوى الكتابين تتراجع وتختفي حتى بدايات القرن الماضي، وذلك حين أعاد الباحث ألان غيلبرت -وهو من أشهر من نقل كتابات مكيافيلي من الإيطالية إلى الإنجليزية- طرح الموضوع من جديد في مقال له حول تأثير "سرّ الأسرار" على كتاب "الأمير" وذلك أوائل القرن الماضي. بل الأكثر من ذلك، هناك من الباحثين الغربيين -أمثال جاك جوهوري وميجلور جريتشي- الذين يقولون صراحة بأن ثمة أجزاء من كتاب "سر الأسرار" قد تم نقلها ووضعها في كتاب "الأمير". ولربما يكون هذا أحد أسباب انتشار الكتاب في العالم العربي علي طريقة "هذه بضاعتنا رُدت إلينا".
وبغض النظر عن مدى التشابه والاختلاف بين كتابي "الأمير" و"سرّ الأسرار"، فإن التواصل والتلاقح بين الثقافتين العربية-الإسلامية والغربية ليس أمرا غريبا أو مفاجئا، وهو أمر ثابت تاريخيا. بيد أن الجديد في الأمر، حسب الكتاب المشار إليه، هو أن يكون للفكر السياسي العربي دورا محوريا في صياغة أسس نظيره الغربي، ممثلا في كتابات مكيافيلي خاصة كتاب "الأمير" الذي يعد من أهم الكتب المؤسسة للفكر السياسي الغربي حتى يومنا هذا. كما أن المنهج الذي اتبعه مكيافيلي في وضع كتابه "الأمير" وهو منهج الواقعية والبراغماتية السياسية يشبه إلى حد كبير منهج عدد من المفكرين والفلاسفة والفقهاء المسلمين الذين انشغلوا بالمسألة السياسية في العصور الوسطى، ولعل أبرزهم أبو الحسن علي بن محمد بين حبيب البصري الماوردي، ولهذا حديث آخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق