حرب أميركا في أوكرانيا (10) خداع النظام الدولي القائم على القواعد
محمود عبد الهادي
تنشأ الأنظمة الدولية بعد الحروب الكبرى على أيدي المنتصرين فيها، بما يحقق مصالحهم، ويحافظ على مكتسباتهم، ويزيد من مناطق نفوذهم وهيمنتهم، وهو ما حدث بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية. وبعد انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي، والتي انتهت بتفكيكه عام 1991، ورغم مرور أكثر من 75 عاما على الحرب العالمية الثانية، والنظام الدولي الذي تأسس بعدها، فإن الدول المنتصرة في الحرب، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تتصرف في جميع أنحاء العالم وفقا لمصالحها، دونما اعتبار للاتفاقيات والمعاهدات والقرارات التي يقوم عليها النظام الدولي القائم منذ ذلك الوقت وحتى الآن، ودونما اعتبار للمطالبات العديدة بإصلاح وتطوير هذا النظام.
ومع ذلك تصرّ الإدارة الأميركية الحالية أكثر من سابقاتها على مواصلة خداعها بالحديث عن حماية ما يعرف بـ "النظام الدولي القائم على القواعد"، باعتباره النظام الذي سيحقق العدالة والمساواة والحرية والازدهار والتقدم لجميع دول العالم.
تعمل الولايات المتحدة جاهدة على ترسيخ النظام الدولي الذي يحافظ على زعامتها ويؤمن مصالحها، وتعمل الصين جاهدة كذلك، على تأسيس نظام دولي جديد، يقوم على قواعد وأسس جديدة، لا تسمح للولايات المتحدة والغرب بفرض المبادئ والقيم التي يريدونها على العالم. فهل ينجح الطرفان في تحقيق ذلك بدون حرب عالمية ثالثة؟ أم أن ذلك مخالف لسنن التغيير، وسنن صعود الأمم وهبوطها.
خداع متبادل
تستمر الإدارات الأميركية في خطابها المخادع لدول العالم الثالث، حول الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والسلام والاستقرار والتنمية والرفاه والتطور، وغير ذلك من الشعارات البراقة التي سيحققها لها "النظام الدولي القائم على القواعد". وتتجاوب دول العالم الثالث مع هذا الخطاب، وهي تعلم جيدا مدى الخداع الذي ينطوي عليه، وتعلم حجم الانتهاكات التي تقوم بها الولايات المتحدة للديمقراطية وحقوق الإنسان، وعدد الحروب المدمرة والفادحة التي قامت بها في العديد من الدول، كما تعلم حجم الخذلان الذي تعاملت به تجاه العديد من الاعتداءات على الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم.
هذه الدول تعلم جيدا حقيقة النزعة العدوانية والميول الاستبدادية التي تتصف بها الولايات المتحدة، ومدى الزيف الذي يغلف شعاراتها وقيمها، ولكن هذه الدول تخادع هي الأخرى الولايات المتحدة، بتصديقها على هذه الشعارات والقيم، حفاظا على مصالح أنظمتها الحاكمة، كلٌّ وفق ظروفه الداخلية، وطبيعة حاجته لدى الولايات المتحدة.
فرغم أن الصين دولة شيوعية يحكمها حزب واحد، ولا تؤمن بالديمقراطية والتعددية ولا بكثير من القيم الغربية، وبرغم العديد من الانتهاكات التي توجهها المنظمات الحقوقية للصين، فإنها أحد أكبر الشركاء الاقتصاديين للولايات المتحدة والغرب، وقد بلغ حجم التجارة بين الولايات المتحدة والصين العام الماضي أكثر من 775 مليار دولار، بزيادة 28.7% عن العام الذي قبله. أما المواجهة التي تتحرك بها الولايات المتحدة تجاه الصين فليست لتقويض نظامها الاستبدادي، ولا لمحاسبتها على انتهاكاتها المتكررة لحقوق الإنسان، وإنما لأن الصين يقينا تتحرك بكل جديدة وإصرار لإعادة تشكيل النظام الدولي، وإنهاء حالة القطب الواحد التي تسود العالم منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وهذا يعني تغيير النظام الدولي القائم وتأسيس نظام دولي جديد على مبادئ وقيم جديدة.
وكذلك الحال بالنسبة لروسيا، فقد تعاونت مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في العديد من المجالات، بل وأصبحت روسيا وجميع الدول المستقلة عن الاتحاد السوفياتي، الآسيوية والشرق أوروبية، شركاء لحلف الناتو، ضمن ما يعرف بـ"مجلس الشراكة الأوروبية الأطلسية" (EAPC)، وقد وصل حجم التبادل التجاري بين روسيا والولايات المتحدة إلى حوالي 40 مليار دولار عام 2021.
وليس بعيدا عنا قمة الأمن والتنمية التي عقدها الرئيس الأميركي جو بايدن في جدة منتصف يوليو/تموز الماضي، بمشاركة دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن والعراق، ومعظمها دول استبدادية، ذات سجل حافل من الانتهاكات والتجاوزات للشعارات والقيم الأميركية.
الاعتبارات الأمنية والاقتصادية للولايات المتحدة دفعتها إلى تفضيل الأنظمة الاستبدادية الصديقة، والتراجع عن إرساء الديمقراطية، والتسامح مع الدكتاتوريين الذين يتمسكون بعلاقات وثيقة مع واشنطن بأي ثمن للحفاظ على سلطتهم، لأنهم في هذه الحالة يكونون أكثر خضوعا لمصالح الولايات المتحدة من الحلفاء الديمقراطيين.
وفي الورقة التي أعدها لمعهد كارنيغي للسلام عام 2004 بعنوان "الرقص حول الديمقراطية"، تحدث نائب رئيس مجلس الأمن القومي الأسبق والكاتب الأميركي المعروف "غراهام فولر" عن ظاهرة "الطغاة الودودين" في الشرق الأوسط، أثناء الحرب الباردة وبعدها وأثناء إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش الابن "الحرب على الإرهاب"، حيث أدت هذه الظروف إلى تفضيل الأنظمة الاستبدادية الصديقة، وأدت الاعتبارات الأمنية المصاحبة إلى التراجع عن إرساء الديمقراطية، وإلى التسامح مع الدكتاتوريين الذين يدعمون "الحرب على الإرهاب"، وهؤلاء الدكتاتوريون يتمسكون بعلاقات وثيقة مع واشنطن بأي ثمن للحفاظ على سلطتهم، وبالتالي فهم أكثر خضوعا لمصالح الولايات المتحدة من الحلفاء الديمقراطيين. وهذه الاعتبارات الأمنية ستبقى قائمة، ما قامت الولايات المتحدة، وإن تعددت ظروفها وأشكالها، فضلا عن الاعتبارات الاقتصادية التي تزيد من حميمية العلاقة بين الإدارات الأميركية المتعاقبة من جهة، وبين الأنظمة الاستبدادية المتعاقبة في المنطقة العربية من جهة أخرى.
وإن الزيارة الاستثنائية الغريبة، التي قامت بها نانسي بلوسي، رئيسة مجلس النواب الأميركي لجزيرة تايوان بداية أغسطس/آب الجاري، أحد الأمثلة الواضحة على طبيعة "النظام الدولي القائم على القواعد"، وفق الفهم الأميركي، والذي كثر ترديد الإدارة الأميركية له مؤخرا على نحو ما أوضحنا في المقال السابق. فرغم وجود اتفاق بين الولايات المتحدة والصين، على الصين الواحدة، وعلى تبعية تايوان للصين، ورغم صدور قرار من الأمم المتحدة بذلك، إلا أن بلوسي أكدت أن الولايات المتحدة لن تتخلى عن تايوان، وأن إصرار واشنطن على الحفاظ على الديمقراطية في تايوان وبقية العالم لا يزال صلبا لا يلين. فالنظام الدولي القائم على القواعد الذي تتحدث عنه الإدارة الأميركية، يتشكل وفق مصالحها وإستراتيجياتها.
أهداف محتملة
ومن المؤكد أن تكرار الإدارة الأميركية الحالية لمفهوم "النظام الدولي القائم على القواعد" لا يأتي من قبيل اللوازم اللفظية للخطابات السياسية الرصينة، ورغم عدم وضوح المفهوم، وغياب أي وثيقة رسمية توضح ما ينطوي عليه، فإنه من المؤكد أن الإدارة الأميركية تهدف من وراء تكرار الحديث عن "النظام الدولي القائم على القواعد" إلى جملة من الأهداف، التي ربما كان من بينها ما يأتي وفق سياق المجريات الراهنة:
- إيجاد ذريعة دولية كبرى تحشد تحت رايتها الحلفاء والشركاء في حربها القادمة ضد روسيا والصين، باعتبارهما تعملان على تقويض النظام الدولي، وتسعيان إلى زعزعة الاستقرار العالمي، وفرض الاستبداد وتدمير القيم المكتسبة على مدى العقود السابقة. وذلك على غرار ما فعله الرئيس جورج بوش الابن، عندما أعلن "الحرب على الإرهاب" عام 2001، رافعا شعار أنه "من ليس معنا فهو ضدنا"، وهو ما كان له الأثر البالغ في انضمام معظم دول العالم إلى تحالف "الحرب على الإهاب"، وتأكيد زعامة الولايات المتحدة للعالم، والمحافظة على نظام القطب الواحد، وتعزيز قبول دول العالم من حلفاء وشركاء وأصدقاء الولايات المتحدة بهذه الزعامة، والوقوف إلى جانبها ضد القوى المنافسة على هذه الزعامة.
- تثبيت قواعد النظام الدولي القائم، ومؤسساته واتفاقياته ومعاهداته وقراراته، بالمفهوم الأميركي الغربي، وقطع الطريق على المحاولات التي تقوم بها الصين أو روسيا لتغيير هذه القواعد.
- تأكيد إذعان جميع دول العالم التي ستدخل في التحالف الدولي للمواجهة القادمة، لهذا النظام، وما يحمله من مبادئ وقيم تفرضها الولايات المتحدة وحلفاؤها، وتلزم دول التحالف على الالتزام بها، على النحو الذي تقتضيه التصورات الغربية لتغيير العالم، وفقا لمشروع أهداف التنمية المستدامة.
- التمهيد لعملية إعادة تطوير النظام الدولي الحالي أحادي القطب، مع المحافظة على قواعده الأساسية، التي تضمن الزعامة الأميركية، والسيادة الكاملة للمبادئ والقيم الغربية الراهنة.
وستعمل الولايات المتحدة جاهدة على تحقيق هذه الأهداف، وستعمل الصين جاهدة كذلك، على الحيلولة دون ذلك، وعلى تأسيس نظام دولي جديد، يقوم على قواعد وأسس جديدة، لا تسمح للغرب بفرض المبادئ والقيم التي يريدونها على العالم. فهل يتقدم الطرفان نحو منطقة وسطى، يتم فيها تطوير النظام الدولي الحالي بدون حرب عالمية ثالثة؟ أم أن ذلك مخالف لسنن التغيير، وسنن صعود الأمم وهبوطها، ولا مفر من الحرب؟
(يتبع)…
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق