الجمعة، 16 سبتمبر 2022

استيقظي أيتها الحشرة.. أكفر بكم (2)

استيقظي أيتها الحشرة.. أكفر بكم (2)

جمال الجمل

(1)
قديما في العصور الوسطى، عندما وقف البابا أوريان في حقول كليرمون للإعلان عن الحملة الصليبية، لم يكن يناصر المسيح، ولم يكن يتحدث بتعاليمه عن المحبة والسلام، بل كان يحرض الفقراء على الحقد، ويدعوهم للقتل، ويفتح عيونهم على كنوز الذهب التي تنتظرهم في أورشليم، ويبلغهم أن الرب في انتظارهم لتحرير القدس من دنس المترفين، "فإن جنسا لعينا أبعد ما يكون عن الله قد طغى وبغى في تلك البلاد، فنهب الكنائس وأحرقها". وكان بابا الفاتيكان "المسيس" يدرك أن الجياع الذين يستمعون إليه لن تحركهم آلام يسوع، بل تحركهم آلام بطونهم وأوجاع فقرهم، فالمسيح الذي تحمل العذاب لا يقبل بما ورد في "خطبة الدم".

الآن في عصر الحريات المستعارة، يقف البابا فرانسيس حائرا على ناصية السياسة، فهو يتحدث كثيرا عن وهم الشعارات الغربية ويدعو أوروبا "المادية" لتحويل سياستها نحو مزيد من القيم الأخوية والإنسانية، لكنه يضطر (مثل معظم السياسيين والشخصيات العامة) لإبداء رأيه السياسي في موضوعات حرجة مثل صراع الغرب مع روسيا في أوكرانيا، فيصمت حينذاك عن انتقاده الصريح للغرب، ويقف في المنتصف متحدثا بطريقة (الخاء): إذا كانت النتيجة جيدة فقد أنبأتكم بأنها "خير"، وإن كانت سيئة فقد حذرتكم من أنها "خ.. راء"! وهكذا كانت فتواه عن مدى شرعية قيام الغرب بتقديم السلاح لأوكرانيا: يجوز إذا.. ولا يجوز إذا.. وبكلماته الحرفية قال؛ "إنه قرار سياسي، يمكن أن يكون مقبولا أخلاقيا إذا تم القيام به لغرض أخلاقي، وقرار غير أخلاقي إذا تم بقصد مد زمن الحرب، أو تجارة الأسلحة، أو التخلص من عتاد قديم".

(2)
أتذكر ورطة فؤاد المهندس في إحدى مسرحياته، بينما الممثل الآخر يساومه مفيش حل إلا إذا.. (ثم يصمت)، فيقول المهندس بلهفة: إلا إذا إيه؟.. أرجوك قول وأنا معاك.

المثال الذي اخترته كمقدمة للمقال "غير كوميدي" ولا يتناسب مع مسرحيات المهندس، لكنه مقبول إلا إذا..

عموما أنا لا أستحسن صيغة "إلا إذا.."، وأعتبرها مساومة في شكل حل، أو وسيلة "أخلاقية للتبرير والتمرير. وكنت قد كتبت مقالا بعنوان "البابا يرى بعين واحدة" عن موقف البابا من الحرب في أوكرانيا وتعاطفه مع أطفالها وشعبها، مقابل موقفه من الأطفال في الأرض التي ولد عليها المسيح ودعا سلفه أوريان لتحريرها من دنس الجنس الملعون، ولا أحد يتعاطف مع حق الفلسطينيين الأخلاقي في استقبال السلاح أو الطعام، أو حتى الوقود لتشغيل مولدات الكهرباء!

(3)
قبل أن أترك البابا فرنسيس في حاله، أوضح أنني جمعت بين موقفه وموقف سلفه أوريان؛ لتأكيد وجود فرق كبير في الأداء السياسي لرأس الكنيسة الغربية، وهو موقف إيجابي لصالح الأب فرنسيس؛ فقد تعلم البابا حنكة التعبير عن الانحياز السياسي، ولم ينس أن ينتقد مادية الغرب في حوار مهم لإحدى الصحف الإيطالية، وصف فيه الغرب بأنه في حالة تشيّؤ وعجز لا تسمح له بمساعدة الآخرين وبأن يكون مثالا يحتذى به، ودعا القادة السياسيين في بروكسل لانفتاح إنساني متسامح مع المهاجرين؛ بغرض دمجهم في المجتمع الأوروبي (لأن أوروبا في حاجة إلى دماء جديدة).

هناك تطور إذا يثبت أن لغة الكنيسة في العصور الوسطى لم تعد "مقبولة أخلاقيا" عند إبداء التصريحات في زمننا هذا، كما أن علاقة البابوات بالسياسة لم تعد مباشرة ووقحة كما كانت في زمن صكوك الغفران، لكنني لست ممن يصدقون انفصال الدين عن السياسة في الغرب، فكثيرا ما تكشف زلات اللسان عن استمرار الحروب الصليبية (كما قال بوش أيام حرب العراق)، وكثيرا ما يرتفع الإنجيل كسلاح في يد القادة (كما فعل ترامب أمام كنيسة القديس جون). وهذا يعني أن تطور الأداء لا يخفي تكرار المواقف، بل إن التطور جاء نتيجة التكرار، وهذا هو موضوع المقال الذي بدأته في الأسبوع الماضي، وتعهدت فيه بحديث جديد عن قضية قديمة ومتكررة، لكن قبل أن ندخل في عمق المقال أضع أمامكم في البداية هذا الشعار:

التكرار لا يعلم الحمار، لكنه يعلم الشطّار..

والآن إلى المقال:

(عالقون في تاريخ عالق)

يُحكى أن أحد قادة إسرائيل (ديّان) قال؛ إن "العرب لا يقرؤون"، ويحكى أنه استلطف التعبير وأضاف للتوضيح والتأكيد: وإذا قرؤوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا ينفّذِون، وإذا نفّذوا لا يدققون.

ويحكى أن الدكتور غالي شكري عندما غادر مصر في السبعينيات إلى المنفى الباريسي، انهمك في دراسة نال بها درجة الدكتوراة تحت إشراف المستشرق جاك بيرك، بعنوان "النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث". والترجمة الصعيدية للدراسة تتلخص في نكتة يتندر بها الظرفاء على اللهجة الجنوبية في مصر، فيقولون إن صعيديا ذهب إلى الطبيب فسأله عن شكواه، فقال الصعيدي يصف حاله: "كل ماجي أجف أجع"، والترجمة بالعربية الفصيحة "كلما حاولت أن أقف أقع".

وهذا خير تعبير عن "متلازمة النهضة والسقوط" في تاريخنا: كل ما نيجي نجف نجع".

وحسب دراسات المؤرخين والمثقفين المهتمين بعوامل السقوط في تاريخنا، فإن المشكلة تتمثل في عدم قدرة العرب عموما على التعلم من الأخطاء مهما تكررت الوقائع، لهذا نهدر الزمن وندور في دوائر مفرغة لا نتقدم فيها خطوة على الطريق، بل نراوح في مكاننا مهما تغيرت الملابس والمظاهر التي نستعيرها لنستر تخلفنا ونتشبه بغيرنا من المتقدمين، ومن هذه المتلازمة نبهنا الدكتور قسطنطين زريق في منتصف القرن الماضي إلى ثنائية "التاريخ الحافز" و"التاريخ العبء".

والخلاصة؛ أن العقل العربي مشدود إلى أوتاد الماضي.. مسحور بالدوران في الفراغ واستطابة الشكوى، واستعذاب البكاء على الأطلال، لذلك فإن علاقته بالمستقبل ضعيفة إن لم تكن معدومة؛ لأنها تقتصر على شغف الاشتياق للغيب دون أسس علمية وواقعية تفيد في فهم المستقبل أو الطريق إليه. ولذلك فإن العرب ينامون في استرخاء تحت جدار المستقبل، فلا يقتربون من "حافة الغد"، ولا يفكرون في العبور من اليوم الواحد إلى فضاء الزمن الجديد. وهذه فكرة فيلم "حافة الغد" التي استلهمتها السينما الأمريكية من الأدب الياباني الحديث، وفي هذا إشارة لاهتمام المجتمعات التي تقدمت بموضوعات قد لا تشغل كتاب الأدب والدراما في بلادنا.

(حافة الغد)

لا يهم إن كان الفيلم بعنوان "حافة الغد" أو "تكرار الموت والحياة" أو "كل ما ترغب فيه هو القتل"، المهم أنه يبدأ باستعراض علاقة الإعلام بالسياسة المعاصرة من خلال مقتطفات من نشرات الأخبار تتحدث عن انفجارات غامضة تهز أنحاء العالم، ثم يتبين أنها مقدمة لهجوم هائل تشنه كائنات فضائية تدعى "ميميكس" (الكلمة تعني التقليد والمحاكاة وتكرار أفعال الآخرين)، وتذيع الشاشات الإخبارية أن الضحايا بالملايين، بينما تهتم قوات التأمين بترحيل المسؤولين في الحكومات إلى مخابئ سرية، بعد أن عجزت الجيوش عن ردع تقدم جيوش الغزو على الرغم من كل ما تكبدته الشعوب من ميزانيات التسليح.

بعد فترة يظهر الجنرالات ويتحدثون عن أمل في النصر؛ لأنهم اخترعوا سترة معدنية متطورة تتيح لأي مدني أن يحارب بها بدون حاجة إلى تدريب، وهكذا يمكن تكوين جيش من المحاربين الخارقين. ويتحمس الميجور ويليام كيج لدعوة الناس للحرب، ويقنع الملايين بالانضمام للمعركة ليصبحوا مثل المقاتلة المعدنية "ريتا فراتاسكي" التي اشتهرت بلقب "ملاك فيردان"، وحازت شعبية كبيرة وصارت رمزا للمقاومة ومفتاحا للنصر، فقد ‫تمكّنت من قتل آلاف الغزاة في يومها الأول بعد ارتداء السترة المدرعة.

ويخاطب كيج الجمهور قائلا: تخيّلوا وجود جيش كامل ‫من أمثال ريتا فراتاسكي، ننتظر مشاركتكم في معركة الإسقاط الهائل عن قريب.. ستكون ‫أكبر اجتياح آلي عرفته البشريّة.

‫هكذا كان الرائد كيج يدعو المدنيين للتطوع من أجل الدفاع عن الأرض بعد هزيمة الجيوش النظامية، وفي المشهد التالي نراه في لندن حيث يقدم نفسه لسكرتيرة جنرال جيش الدفاع الموحد: أنا الرائد ويليام كيج ‫من قسم الإعلام في الجيش الأمريكي، وعندما يلتقي بالجنرال يسمع منه تفاصيل مهولة عن المعركة المقبلة وأعداد الضحايا وخوفه من إلقاء اللوم عليه بعد أن.. فيقاطعه كيج قائلا: فهمت.. أنت تفكر في كتابة مذكراتك عن هذه اللحظة واتصلت بي لتسويقها لك، لدي عناوين جذابة مثل كذا وكذا وكذا.

يرد الجنرال: لقد فهمتني خطأ أيها الرائد، لا أطلب منك ‫أن تقنع الناس أنني شخص جيّد، لقد أحضرتك للمشاركة في المعركة، صورتك هناك وسط الجنود ستقنع الملايين بالانضمام بعد أن ظهرت على الشاشات وتحدثت بأمل في النصر، واقتناع بأن السترة يمكنها تغيير مصير المعركة.

رد كيج: (لاحظوا دلالة الاسم التي تعني قفصا وسجنا محدودا من القضبان): أقدّر ثقتك بي أيّها الجنرال، ‫لكنني تخصصت في الإعلام لتفادي المشاركة في الحرب، أنا أرتدي ملابس ضابط لكنني لا أفهم في القتال ولا أحبه، وأخاف من منظر الدم حتى لو من جرح صغير.

يصمم الجنرال على قراره: هذا مناسب أكثر لإقناع البسطاء الذين ليس لهم خبرة في الحرب مثلك، وقد حصلت على موافقة من قيادتك وأصبحت صاحب القرار في شأنك.

حاول كيج أن يهرب، لكن تم اعتقاله وتخديره وإرساله في طائرة إلى الجبهة ليشارك كجندي، مع رسالة تحذر القائد الميداني من خداع كيج بوصفه جنديا فارّا من القتال، ويظهر كيج حالة من الخوف والجبن تجعله مثارا لسخرية الجنود.

(استيقظ أيها الحشرة)

يصل كيج وسط الأمتعة نائما، فيرفسه شاويش الوحدة شاخطا فيه: استيقظ أيها الحشرة.

يرد كيج: ‫هذه ليست الطريقة المناسبة لمخاطبة ضابط أيّها الرقيب.

يرد الشاويش: ‫هذه هي الطريقة التي يجب أن أتحدّث بها مع مجنّد تافه يهرب من المعركة، وبعدها سأضربك بكعب حذائي على فمك.

تتوالى محاولات كيج للتملص من المأزق، لكنه يكتشف أن الجنرال أوقع به بإحكام، ويتم الزج به في معركة الإسقاط ليقتل مع كل زملائه بعد دقائق؛ لأن الغزاة كانوا على علم بموعد ومكان وصولهم. وبعد أن نشاهد وجهه وهو يحترق، نفاجأ في المشهد التالي بالشاويش يرفسه ويوبخه قائلا: استيقظ أيها الحشرة ليتكرر المشهد:

يذهب إلى المعركة ويتم قتله ويعود للحظة الزمنية نفسها، وفي المرة التالية شاهد مقتل ريتا فراتاسكي، فحاول في المرة الثالثة بعد قتله أن يحذرها لتفادي قتلها. وعبثا حاول إقناع القادة أنه علم بما ينتظرهم، وأن الأعداء يعرفون بمكان وموعد الإسقاط وسيموت الجميع، لكنه صار محلا للسخرية وادعاء الجنون للهروب من المعركة.

مع تكرار القتل وإعادة الأحداث نفسها، اكتشف كيج أن لديه بعض المعلومات عن المستقبل، وأن هذه المعلومات تساعده في تجنب بعض المخاطر واكتساب مهارات جديدة لم يكن بمقدوره الحصول عليها في حيواته السابقة، وعندما نجح في إنقاذ فراتاسكي من القتل، قالت له: عندما تصحو من موتك ابحث عني.

وتتكرر مشاهد اليوم الواحد؛ لأن كيج قبل أن يموت انفجرت ذخيرته في كائن فضائي نادر وغمرته دماء الكائن، الذي يمتلك خاصية إعادة الزمن والتحكم فيه لاستئناف حياته من جديد وتجنب لحظة القتل.

وكانت فراتاسكي قد تعرضت للموقف نفسه، لكنها أصيبت في مرة ولم تمت، وفي أثناء إنقاذها تم نقل دماء شخص آخر إليها فضاعت الخاصية منها، ومن هنا جاء عنوان الرواية اليابانية "كل الذي تريده هو القتل"، وهو التعبير الذي استخدمته فراتاسكي مع كيج عندما سعى لمقابلتها: احذر من أن تصاب وتبقى عاجزا بحاجة للعلاج.. كل ما تريده هو أن تُقتل؛ لأنه يمكنك العودة من جديد، حتى لا يحدث لك ما حدث لي.

وهكذا عاش كيج يوما واحدا، لكنه تعلم التدريب بمعرفة ومشاركة فراتاسكي وفريقها. صار التكرار في هذه الحالة فرصة للتطور واكتساب خبرات جديدة نتيجة الوقوف بالقرب من المستقبل عند حافة الغد، لذلك تحول كيج من ضابط جبان يتخفى وراء ستار التسويق والدعاية الكاذبة على الطريقة الأمريكية، وأصبح مقاتلا يتميز برؤية المستقبل واستثمار معلوماته في تحقيق النصر والتقدم خطوة خطوة. ففي كل مرة يموت يعود بعدها إلى لحظة النوم وصيحة الرقيب: استيقظ أيها الحشرة، لكنه كان يصل بعد كل قتل إلى نقطة أبعد على الطريق، تقربه من قائد الغزو وإمكانية التخلص منه.

وبدون إطالة أكثر، يصاب كيج ويفقد خاصية العودة في الزمن، لكنه تعلم الكثير من فوائد التدريب، كما اكتسب إرادة القتال والرغبة في النصر، وهو ما يتحقق بعد أن يتخلى عن السترة المعدنية ويعود لإنسانيته ويحارب مع ريتا وزملائه القلائل في الفرقة.

وهكذا ظهرت الفكرة التي لخصتها لكم في شعار جدوى التكرار بين الحمار والشطّار، لذلك عندما يستيقظ كيج بعد النصر فهو لا يستيقظ في الثكنة حيث يركله الشاويش قائلا: استيقظ يا حشرة، بل يبدأ المشهد من لحظة استقباله في مقر جيش الدفاع الموحد، حيث ترحب به سكرتيرة الجنرال: مرحبا بك في لندن أيها الرائد.

فإذا كان "كيج الجبان" قد تعلم وتطور واستيقظ من قفصه، فمتى تستيقظ الأمم النائمة في قفص الماضي؟!

(قفا نبكِ)

العبرة أن الركود العقلي الذي نعيش فيه، جعل من حياتنا مجرد يوم واحد نكرر فيه قول امرئ القيس "قفا نبكِ"، ونكرر فيه متلازمة النهضة والسقوط، ونكرر فيه لعبة الطغاة مع الشعوب المخدوعة والمستضعفة، ونراهن (في كل مرة تسنح فيها فرصة التقدم) على أوهام كاذبة، بزعم أنها قد تسفر عن جديد، لكن الجديد لن يتحقق إلا بكسر الدائرة والتعلم من دروس الزمن، والتفكير بالمستقبل وليس بالماضي..

وفي المقال المقبل نواصل الحكايات.

tamahi@hotmail.com


لست قطاراً.. (أكفر بكم ـ 1)





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق