خلافة فى المنفى
Dr MohamadAbbas
المفكر الإسلامي الدكتور محمد عباس
خلافة فى المنفى "1"..
يؤدي الدكتور محمد عباس فريضة الحج، لذا تعذر عليه كتابة مقاله الأسبوعي، وحرصا منا على تواصله مع قراء الشعب فإننا نعيد نشر بعض مقالاته السابقة، وبرغم أن بعض هذه المقالات قد نشر منذ خمسة أعوام إلا أنها ما تزال صالحة لأن تكتب اليوم، ففساد الحكام وعجزهم وخيبتهم كما كان، وتدهور الأحوال ما يزال..
الشعب
خلافة فى المنفى "1"..
الفكرة المهجورة
كان ذلك منذ أكثر من ربع قرن ..
وعلى الرغم من كل هذا الزمن فما زالت تفاصيل ما حدث تكوى قلبى ومرارة ملح دموعه فى حلقى ..
كنا فى موسم الحج .. وكنت قد انتدبت للعمل طبيبا فى مستشفى عرفات.. وكنت أحج..
كانت العادة أن تغلق المستشفى أبوابها مع النفرة.. وأن يُحوّل من فيها من المرضى إلى مكة.. لكن اكتشاف انتشار وباءى الالتهاب السحائى والكوليرا بين الحجاج فى ذلك العام غيّر من ذلك النظام فصدرت الأوامر ببقائنا فى المستشفى لرعاية المرضى..
واستفتينا شيخ الحرم فأفتى لنا بأنه ينطبق علينا ما ينطبق على السقاة والرعاة وألا نبيت فى منى بل نؤدى المناسك ثم نعود لنبيت فى عرفات.. على أن نحتفظ بإحرامنا حتى طواف الإفاضة..
لم تكن الخدمات فى المشاعر تكاد تقارن بمستواها الآن.. وكنت أؤدى مناسك الحج للمرة الأولى وكنت أتخبط فى ملابس الإحرام..
كنت أجيش بالمشاعر بعد المزدلفة ومنى ورمى جمرة العقبة الكبرى ..
وكنت مجهدا من عمل متواصل طيلة الأيام السابقة ..
كان المستشفى مكدسا بالمرضى وكان الموت يتجول بيننا حتى كدنا أن نراه..
كان الأمر هائلا وغريبا وبدا أنه لا ينتمى لحياتنا الدنيا .. ربما ينتمى إلى دنيا الأحلام والرؤى.. أو بدا أنه مشهد من مشاهد الآخرة.. كان الموت حاضرا .. وكان مسيطرا .. الموت الذى نقابله فى حياتنا العادية مرة أو مرتين فى العام.. وربما كأطباء نراه مرة فى الشهر أو حتى فى الأسبوع .. هذا الموت نقابله الآن فى الساعة الواحدة مرات ومرات بل وأحيانا يتكرر فى الدقيقة الواحدة.. استطعنا بجهد جهيد التعامل مع الوضع الطارئ وسط أحزان فاجعة لموت العشرات من الحجاج .. ذلك الحزن الثقيل الخانق الذى لا يتيح لك أى وقت تتأمله فيه.. لم أكن أحسب أن الموت يمكن أن يأتى بمثل هذه السهولة.. بمثل هذه التكرارية .. أحسست بجبروت الله فملأ الرعب قلبى..
كنا قد قضينا 24 ساعة دون نوم .. أديت مناسك الحج ثم عدت إلى المستشفى قبل فجر النحر بساعات فذهب معظم زملائى وبقيت مسئولا عن استقبال المرضى وحدى.. أعالج المرضى وأغمض عيون الموتى و أتلو الشهادتين و أحرر شهادات الوفاة ..
هل يعرف ذووهم أنهم يموتون الآن؟؟..
ولم يكن هناك أى وقت للإجابة على السؤال أو التأمل فيه..
كنت جائعا عطشانا نصف عار أكاد أسقط من الإعياء والإرهاق مترقبا وصول زملائى حتى أركن لبعض راحة..
لم يأت الزملاء .. ساعات وساعات ولم يحضروا.. بل حضر فى المساء سرب من سيارات الإسعاف يحمل المصابين فى حوادث الطرق..
أدركت على الفور أننى يجب أن أتعامل مع هذا الوضع كما يتعامل الأطباء فى ميدان المعركة .. فأجريت حصرا سريعا للمصابين .. كانوا أربعة عشر مصابا يلبسون جميعا ملابس الإحرام.. وزعهم رجال الإسعاف على حجرات الاستقبال.. وضعوا المصاب الأول – كيفما اتفق - وحده فى غرفة .. كانت الغرفة صغيرة جدا بحيث لا تكاد تتسع لكلينا.. لم أعرف أبدا طيلة الأيام السابقة لماذا صمموا هذه الغرفة بهذا الصغر.. كانت مهجورة ولم تستعمل ولم أر من يدخلها من قبل أبدا .. بل إننى فوجئت بوجودها.. فحصت المريض.. كان شابا .. ربما كان فى الخامسة والعشرين من عمره.. لم تكن به إصابات ظاهرة.. حاولت بالعربية والإنجليزية التفاهم معه وسؤاله مم يشكو .. كان مكتمل الوعى لكنه لم يفهم لغتى.. كنت أحاول التفاهم معه.. كنت أتحدث إليه.. لم يقدم على مجرد المحاولة كما كان الآخرون يفعلون عادة حين كانوا يحاولون فيفشلون فيهتفون بعربية صحيحة: الله أكبر.. محمد رسول الله .. ثم يصمتون وكأنهم قد قدموا أوراقهم وهويتهم ودليل قرابتهم .. قدّموا الأهم أما الباقى فتفاصيل مكررة متشابهة لا معنى لها ولا قيمة .. لم يفعل هذا المريض ذلك.. فحصت الضغط والنبض.. كانا فى حدود الطبيعى.. فحصت باقى الأعضاء.. لم يكن هناك سوى بقايا دم متجلط إثر رعاف.. كانت حالته جيدة وكان غيره أحوج لى .. فحصت الباقين و أنا ألقى تعليمات حاسمة وسريعة لهيئة التمريض تتضمن الإسعافات السريعة والعلاج والدم والبلازما والأكسيجين وطلب سيارات إسعاف لتحويل من يحتاج لمستشفيات متخصصة.. طلبت من هيئة التمريض متابعة النبض والضغط ولإبلاغى على الفور بما يستجد .. أكملت الفحص الأولى للمرضى .. حاولت مواجهة ما يتهدد الحياة بصورة عاجلة كنزيف حاد أو اختناق .. وضعت الجبائر للكسور وحقنت المسكنات و أعطيت التعليمات اللازمة لحالات النزيف الداخلى.. وصلت أخيرا إلى مصاب حالته خطيرة.. كانت ضلوعه مهشمة.. كل ضلوعه تقريبا بدرجة أذهلتنى كيف وقع الحادث وما هو كنهه.. كان ضغط الدم صفرا والنبض لا يحس لكنه كان مكتمل الوعى.. وكان الدم يفور كالزبد من فمه.. كنت أضخ المحاليل والدم فى عروقه و أشفط السوائل من فمه.. كنت منفعلا تماما ومستغرقا بدرجة لا يمكن وصفها.. وكان هو يحدثنى بضعف فى صفاء واستسلام الرضى لا استسلام اليأس: لا تتعب نفسك يا دكتور فإننى أحس بالموت .. أشعر بروحى تطلع الآن.. أحس بها تطلع فعلا.. لن أمكث طويلا .. رحت أشجعه.. أكذب عليه و أشجعه.. قال فى استسلام كامل: أعول ثلاثة عشر منهم أبى وأمى.. ليس لهم سواى .. حملق .. بدا أنه ينظر إلى مالا أراه وهمس: لهم الله .. لهم الله .. همس .. أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .. ودون حتى رجفة أسلم الروح .. مات.. لم يكن لدى أى متسع من الوقت كى أمارس فيه رفاهية التفريج عن الألم أو التعبير عنه .. انطلقت إلى سواه .. حاجز اللغة سكين يذبح التواصل..أرتب الحالات طبقا لخطورتها .. لكن هل أنا مصيب فى تقديرى لدرجة الخطورة.. أى خطأ أو سوء فى التقدير لا عاقبة له سوى الموت .. ولم يكن هناك أى وقت للإجابة عن السؤال.. كل آن و آخر كان أحد الممرضين يأتى ليطلب نجدتى لمريض من مرضى الكوليرا أو الالتهاب السحائى.. وكنت أترك المصابين وأجرى.. أصف العلاج .. ويأتى المسعف بعد قليل ليخبرنى: هذا تحسن وذاك مات .. كنت أسمعه بأذن أما الأذن الأخرى فمع المصاب الذى أتابعه .. أحدق فى عيون الأحياء كى أقدر حالتهم وفى حدقات الموتى كى أتيقن من موتهم.. كانت العيون الميتة تبدو بلا غور.. امتزجت باللانهاية.. لم تكن العيون الميتة ميتة.. بدت تحمل إنذارا رهيبا وتحذيرا مروعا.. بدا لى أنها تحسد الأحياء جميعا فما تزال أمامهم فرص لاستدراك ما فاتهم واستدبار أمرهم..فرص للتوبة بينما هى قد عبرت الفرصة الأخيرة..بدا أنها رأت ما لا عين رأت .. وأنها تريد – لولا الموت – أن تطلق صيحة تحذير هائلة .. عرفنا الحقيقة.. تبا لكم عرفنا الحقيقة.. ذلك ما كنا عنه نحيد .. كنت أحملق في الأحداق .. كانت واسعة جدا .. وكانت تشبه فوهة بئر بلا قرار يكاد يجذبنى بقوة جاذبية الأفلاك فأوشك أن أسقط فيه..لو أن بصرى أحد لرأيت ما رأت .. ماذا رأيت أيتها العيون الميتة عند العتبة الفاصلة بين الحياة والموت.. وهذا الانطفاء فى اللمعة هل يعنى كشف غطائك وأن بصرك الآن حديد.. لا يبدو فى الأجساد الميتة أى تغير فلماذا لا تنهض واقفة؟! .. لماذا لا تنهض واقفة يا معشر الماديين والعلمانيين ولم ينقص من مادتها أى شئ.. كل ما تعترفون به لم ينقص منه شئ فماذا حدث إذن.. وهل غير المحسوس الذى ذهب أهم أم الملموس الذى بقى؟!..
أجيبوا .. قولوا…
لم تتطور أجسادكم من القرود لكنكم أضل ..
اعترفوا بأن الروح من أمر ربى…
بعد ستة ساعات كان الوضع قد استقر قليلا ..
كان الصباح الجديد يشقشق وكان الشاهد الأبيض فوق جبل الرحمة يخطف القلب ويلوح فى الأفق تهب منه نسمات تهفو لها الروح ..
أمكن إنقاذ عشرة من المصابين ومات ثلاثة.. كدت أتجه إلى مقعد استجابة لعظام تئن ومفاصل تتفكك وعضلات ترتجف .. لكننى تذكرت على الفور فاستدركت حائرا: لكنهم كانوا أربعة عشر.. انسدل غشاء من الغباء علىّ فلم أجد تفسيرا لذلك اللّغز الغريب لبضع ثوان لكننى سرعان ما هتفت فى لوعة وارتياع: مريض الغرفة المهجورة.. لم أتذكره ولم يذكرنى به أحد ..
جريت إليه ..
وكان راقدا بالحالة التى تركته عليها ..
لكنه كان ميتا ..
غام الأفق بل انفجر فانهرت تماما ورحت أجهش بالبكاء ..
****
لعلك تتساءل أيها القارئ لماذا أنزف هذه الذكريات و أكتبها لك ..
أقول لك ..
***
انظر إلى التاريخ نظرة شاملة تضرب بها آباط الأمور وتصيب كبد الحقيقة..افهم أن مصر لابد مرصودة فى مخططات الغرب بعد تركيا.. فهى القادرة على لمّ الشتات الذى تمزق .. لقد استمرت الدولة الإسلامية منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حتى عام 1924.. عام نهاية الخلافة الإسلامية فى تركيا .. استمرت الدولة الإسلامية طيلة هذه القرون وكانت أغلب الحكومات غير إسلامية لكن الأمة كانت مسلمة والحضارة كانت مسلمة والتوجه كان إسلاميا وكان الإيمان بالله يعمر قلوب الناس فما لا يزعه القرآن يزعه السلطان حتى وإن كان هو نفسه فاجرا .. فقد كان يعلم أنه يحكم أمة مسلمة والإسلام هو سند شرعيته الوحيد ..كنا ننتصر وننهزم.. وكنا حضارة نواجه حضارة.. انتهت الخلافة فانتهى هذا كله ولم تعد لنا إلا الهزائم والنكبات والتشرذم.. ولا أحد أبدا يجرؤ على تجاوز الخطوط الحمراء حمرة جهنم.. لا يجرؤ أحد على تجاوزها لينادى بعودة الخلافة من جديد..
ولماذا تظل هذه الفكرة وحدها - دون الأفكار جميعا - هى الفكرة المهجورة؟!..
***
خلافة فى المنفى "2"..
كثيرا ما تواجهنا وجوه العلمانيين المتغربين الحداثيين الكالحة بسؤال يتصورونه معجزا: ما هو الحل..
أتضنيك الإجابة عن هذا السؤال يا أمة؟..
المأساة أن الحل أمامك طيلة الوقت لكن عميت بصائرنا..
الحل لن تجود به قريحة كاتب.. ولا عبقرية مفكر.. الحل موجود.. كان موجودا دائما وسيظل موجودا أبدا .. حل لو اتبعناه لن نضل أبدا ..
كتاب الله وسنة رسوله..
الحل موجود .. ونحن الغائبون..
الحل أن نفهم أننا لا نختار الإسلام لأنه يحل لنا مشاكل الدنيا، بل إننا نتجاوز شعار: "الإسلام هو الحل" لكى نقول : بل حتى لو لم يكن الإسلام هو الحل لمشاكل الدنيا فلا اختيار لنا سـواه..
نعم .. ليس ثمة اختيار إلا الإسلام..و أن سياستنا وحياتنا واقتصادنا وعلمنا وعملنا وحربنا وسلمنا يجب أن تسير فى اتجاهه..وكذلك ثقافتنا.. ثقافتنا التى تقدس ربنا فلا رب لنا سواه.. ولا منتهى لنا إلا عنده.. ثقافتنا المؤمنة.. ثقافتنا التى لا تبجل كتابا فى الدنيا كما تبجل كتاب الله.. ثقافتنا التى تحترم ديننا ونبينا وأسلافنا الصالحين .. وتعتز بهـم .. وتتيه فخارا على العالمـين..
الحل أن نتقدم.. لا لكى نحمى الإسلام.. بل أن نلوذ به ليحمينا..
الحل أن نتقدم لمواجهة مستقبلنا مسلحين بذخيرة ماضينا..
***
يقول الشيخ صفى الرحمن المباركفورى فى ( الرحيق المختوم ) لما تكاملت الدعوة وسيطر الإسلام أخذت طلائع التوديع للحياة والأحياء تطلع من مشاعره صلى الله " وسلم، وتتضح بعباراته وأفعاله .
فاعتكف فى رمضان من السنة العاشرة عشرين يوما، بينما كان لا يعتكف إلا عشرة أيام فحسب ، وتدارسه جبريل القران مرتين .
وقال فى حجة الوداع : إنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبدا.. وفى أوائل صفر من السنة الحادية عشرة خرج صلى الله عليه وسلم إلى أحد.. لف على الشهداء كالمودع للأحياء والأموات ، ثم انصرف إلى المنبر، فقال :(إنى فرطكم ، وإنى شهيد عليكم ، وإنى والله لأنظر إلى حوضى الآن ، وإنى أعطيت مفاتيح خزائن الأرض ، أو مفاتيح الأرض ، وإنى والله ما أخاف أن تشركوا بعدى ، ولكنى أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها).. وعرض صلى الله عليه وسلم نفسه للقصاص قائلا : من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهرى فليتسقد، ومن كنت شتمت له عرضا، فهدا عرضى فليستقد منه .. ثم قال : ( إن عبدا خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده ، فاختار ما عنده .)
قال أبو سعيد الخدرى : فبكى أبو بكر رضى الله عنه وقال فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له..
تنافسنا بعدك يا رسول الله ..
خلقنا الله شعوبا لنتعارف لا لنتعارك لكننا تعاركنا ..
بل وأشرك الكثيرون منا ..
فهل تؤمنين حقا يا أمة ..
هل تؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره؟..
هل ما زلت تؤمنين بأن الله أقوى من كلينتون؟!..
وبأن وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم ما زالت أجدر بالاتباع من وصايا النظام العالمى الجديد..
منذ زمان طويل لم تعودى ترين الله يا أمة .. فهل ما زلت تؤمنين أنه يراك؟!..
أريحى قلبى يا أمةً شرار الناس فيها في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً.. أريحى قلبى فأجيبى: كيف يمكن أن تؤمنى بالبعث ثم تعزلين الحياة الدنيا عن الآخرة..
أم أن ما أنزل به خاتم النبيين ليس إلا أساطير الأولين..
هل تؤمنين يا أمة بالصور..؟
ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض ..
حين ينفرد الحي القيوم الذي كان أولاً، وهو الباقي آخراً بالديمومة والبقاء، ويقول:
لمن الملك اليوم؟..
لمن الملك اليوم؟..
لمن الملك اليوم؟..
ثم يجيب نفسه بنفسه فيقول:
للّه الواحد القهار..
هل ما زلت تؤمنين يا أمة بأنه : فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة؟..
هل تؤمنين بأنه : ثم ينفخ أخرى فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال: أيها الناس هلموا إلى ربكم {وقفوهم إنهم مسؤولون}: {ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذ أنتم تخرجون}.
هل تؤمنين يا أمة أنه فى ذلك اليوم ذى الأياويم يقال : أخرجوا بعث النار، فيقال: كم؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون..
هل تؤمنين بالبعث حقا يا أمة؟!..
حين يتجلى الله علينا ..
وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون..
ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون..
فهل تؤمنين يا أمة بلغها رسولها الأمانة وأدى الرسالة..
رسول خُيّرَ بين أن يكون رسولا ملكا أم رسولا عبدا فاختار العبودية للربوبية.. رسول تذكر فى سكرات الموت أن عنده سبعة دنانير، فراح يأمرهم بالصدقة بها، ثم يغمى عليه ، فينشغلون بوجعه ، فدعا بها، فوضعها فى كفه وقال :
(ما ظن محمد بربه لو لقى الله وعنده هذه ) ثم تصدق بها كلها.
يا خلفاء محمد والأمناء على دينه ما بالكم بسبعة ملايين.. بسبعمائة مليون.. بسبعمائة مليار .. بثمانمائة مليار نهبتموها من أمتكم يا كلاب النار يا حطب جهنم وأودعتموها عند أعداء الله يستقوون بها علينا ..
فى سكرات الموت ثقلت عليه سبعة دنانير وأنتم فى غمرات الحياة لا تأبهون لا بالمليارات ولا بأمتكم..
كيف نسيت تاريخ نبيك يا أمة..
ثمانمائة مليار دولار حجم الودائع العربية فى بنوك الغرب و أهلنا فى فلسطين والشيشان والفليبين وكشمير والصومال و.. و.. و.. يتضورون جوعا..
كيف نسيتم فحوى ورمز ما قالته أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها ..ففى سكرات الموت ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أصلى الناس ؟ فقالت : لا ، هم ينتظرونك يا رسول الله . فقال : ضعوا لى ماء فى المخضب (وهو إجانة تغسل فيها الثياب ) . ففعلوا ، فاغتسل ، ثم ذهب لينوء (ينهض) فأغمى عليه ، ثم أفاق ، فقال : أصلى الناس ؟ فقالوا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله . قالت : والناس عكوف فى المسجد ينتظرون رسول الله لصلاة العشاء فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبى بكر أن يصلى بالناس .. حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف ، فكشف النبى صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة ينظر إليهم وهو قائم كان وجهه ورقة مصحف ثم تبسم يضحك فهموا أن يفتتنوا من الفرح برؤيته فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف وظن أن النبى صلى الله عليه وسلم خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا النبى صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم وأرخى الستر ودخل فجعل يدخل يده فى إناء به ماء فيمسح بها وجهه وبقول لا إله إلا الله إن للموت لسكرات ثم نصب يده فجعل يقول فى الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده صلى الله مليه وسلم ..
هكذا كان اهتمام رسولنا صلى الله عليه وسلم بالصلاة عماد الدين وهو فى سكرات الموت..
أحد علوجنا صرخ عندما نودى للصلاة فى مجلس مزور .. صرخ يمنع الصلاة.. صرخ الأتاتوركى المسلم قائلا أن العمل صلاة.. و أن اجتماع المجلس صلاة.. اجتماع المجلس بمن فيه من المزورين اللصوص تجار المخدرات صلاة.. وصرخ الأتاتوركى يقول لا دين فى السياسة ولا سياسة فى الدين فكيف خضعت إن كنت تؤمنين يا أمة؟!..
عندما قبض الرسول افتتن الناس قائلين: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم عمر، وخرس عثمان، واستخفى علي، واضطرب الأمر فكشفه الصديق ..تصف أم المؤمنين عائشة ما حدث.. إذ لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الناس يقولون: لم يمت النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو بعض ما كان يأخذه عند الوحي. فجاء أبو بكر فكشف عن وجهه وقبل بين عينيه وقال: أنت أكرم على الله من أن يميتك مرتين. قد والله مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر في ناحية المسجد يقول: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يموت حتى يقطع أيدي أناس من المنافقين كثير وأرجلهم. فقام أبو بكر فصعد المنبر فقال: من كان يعبد الله فإن الله حي لم يمت، ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين". قال عمر: "فلكأني لم أقرأها إلا يومئذ". ورجع عن مقالته التي قالها ..
لماذا انقلبت على أعقابك يا أمة..
لماذا عبدت طواغيت الأرض..
لماذا استسلمت لهم ..؟
هل نسيت أم أنسيت..؟
هل ضللت أم أضللت؟..
"كل نفس ذائقة الموت" يا أمة..
"إنك ميت وإنهم ميتون" يا أمة..
وخرج الناس يوم قبض الرسول صلى الله عليه وسلم يتلونها في سكك المدينة، كأنها لم تنزل قط إلا ذلك اليوم.
فلماذا لا تتلينها الآن يا أمة؟!..
لماذا نسيت واستسلمت لطغاتك ..
لماذا تركتيهم يشوهون تاريخك الوضىء المضىء الباهر..
لماذا نسيت آخر ما كتبه الصديق رضى الله عنه:
بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر فى آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلا فيها حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب إنى أستخلف بعدى عمر بن الخطاب ، فاسمعوا وأطيعوا فإنى لم آل الله ورسوله ودينه ونفسى إياكم خيرا، فإن عدل فذلك الظن به ، وعلمى فيه ، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب ، والخير أردت ، ولا علم لى بالغيب وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
وفى سكرات الموت دخلوا على أبى بكر ، فقالوا : يا خليفة رسول الله ألا ندعو لك طبيبا ينظر إليك ؟ قال : قد نظر إلى . فقالوا ؟ ما قال لك ؟
قال : قال إنى فعال لما أريد. ثم سأل أى يوم هذا؟ قالوا : يوم الاثنين . قال : فان مت من ليلتى فلا تنتظروا بى لغد فان أحب الأيام والليالى إلى أقربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم..
كان صديقا لله وللرسول لا للغرب والشيطان..
***
خلافة فى المنفى "3"..
آهٍ يا أمة عميت بصائرها واستخف بها الطواغيت فأطاعتهم..
لماذا لم تتأملى يا أمة – فى وصية أبى بكر رضى الله عنه - أنه حتى عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان مرهونا بعمله..
لماذا تركت حكامك وطغاتك وجلاديك وملوكك ورؤساءك يرزحون على صدرك يخنقون دينك دون أى برنامج يعدون حتى به ولا ينفذوه..
لماذا لم يذهب شيوخنا وفقهاؤنا ومفكرونا وزعماء التنوير فينا ليقولوا لأى حاكم ما قاله أبو بكر لعمر رضى الله عنهما وهو فى سكرات الموت:
اتق الله يا عمر ، واعلم أن لله عملا بالنهار، لا يقبله بالليل ، وعملا بالليل لا يقبله بالنهار، وأنه لا يقبل نافلة حنى نؤدى فريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق فى دار الدنيا وثقله عليهم ، وحق لميزان لا يكون فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا، وإنما خفت موازين من خفت موازينه باتباعهم الباطل ، وحق لميزان لا يكون فيه إلا الباطل أن يكون خفيفا.
فلماذا خفت موازينك يا أمة؟..
لماذا لم تواجهى شيوخك الذين ضلوا وأضلوا بهدى الحاخامات لا بهدى الله .. لماذا لم تذكريهم بذلك الذى ذهب إلى ابن الخطاب رضى الله عنه وهو يعالج سكرات الموت يقول:
أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم فى الإسلام ما قد علمت ، ثم وليت فعدلت ، ثم شهادة .
فيرد عليه أمير المؤمنين :
وددت أن ذلك كفاف لا علىّ ولا لى .
قال عثمان بن عفان : أنا آخركم عهدا بعمر، دخلت عليه و رأسه فى حجر ابنه عبد الله ، فقال له : ضع خدى بالأرض . قال عبد الله : فهل فخذى والأرض إلا سواء؟ قال عمر : ضع خدى بالأرض عسى الله أن ينظر إلى فيرحمنى. قال عثمان : وسمعته يقول : ويلى وويل أمى إن لم تغفر لى حتى فاضت نفسه .
عمر..
عمر رضى الله عنه ينشد رحمة وغفرانا من الله لم ينشدها من ملوكنا ملك ولا من رؤسائنا رئيس ولا من أمرائنا أمير..
لماذا لم تذكّرى – يا أمة- فقهاء قانونك ووضاع دستورك وقضاتك وشرطتك بأن احتمال خطر قد يلحق بحاكم لا يسوغ ترويع الرعية وقتلهم أو اعتقالهم وحبسهم وترويعهم.. لماذا لم تذكريهم بما حدث عندما اشتد الحصار على الخليفة ذى النورين أمير المؤمنين حاكم نصف العالم المعمور عثمان بن عفان رضى الله عنه فتوجه إليه على بن أبى معتما بعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم متقلدا سيفه أمامه الحسن وعبد الله بن عمر فى نفر من المهاجرين والأنصار، ولم يستطيعوا الدخول حتى حملوا على الثوار وفرقوهم .
ثم دخلوا على عثمان فقال له علىّ رضى الله عنه :
- السلام عليك يا أمير المؤمنين ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلحق هذا الأمر حتى ضرب بالمقبل المدبر وإنى - والله – لا أرى القوم إلا قاتلوك ، فمرنا فلنقاتل.
فقال عثمان :
- أنشد الله رجلا رأى الله حقا، وأقر أن لى عليه حقا أن يريق فى سبيلى ملء محجمة من دم، أويهريق دمه فىّ .
فلينحن التاريخ إكبارا ولتتنحوا يا حطب جهنم..
فلينحن التاريخ إجلالا ولتخسئوا يا من اتهمتم ماضينا وشوهتم تاريخنا ولوثتم حاضرنا ..
فلينحن التاريخ إكبارا يا صغار..
خليفة الأرض محاصر وأعوانه وأتباعه وأصحابه قادرون على القتال لفك الحصار عنه لكنه يأمرهم ويناشدهم الله ألا يريق ملء جفنة من دم .. تساوت أمامه دماء المسلمين ..فهو يرفض أن يكون الدم المهراق دم عدو أو صديق..
اشهد يا ذا النورين واشهد يا على.. واشهد يا محمد صلى الله عليك وسلم أن جفنة الدماء تلك تبذل اليوم لكتابة وثيقة مبايعة..
اشهدوا ودعونى أصرخ : أين إيمانك بالله يا أمة؟..
أين عقيدة التوحيد..
يا أمة حولت المطلق إلى نسبى والنسبى إلى مطلق..
ويلح على رضى الله عنه فى الرجاء ويعيد على الخليفة أمير المؤمنين ملك الأرض.. فيجيبه بمثل ما أجابه ..
كم مائة ألف معتقل اعتقل منك يا أمة اتقاء لاحتمال خطر- معظمه هواجس الشيطان فى أضابير رجال الأمن- على الملك الرئيس الأمير..
كم ألف شهيد قتلوا يا أمة باتهامات زور ستر زورها القضاء بأحكامه ..
وكم ألف شهيد قتلوا دون أحكام قضاء..
وكم عشرة آلاف عذبوا وروعوا وسفكت دماؤهم واغتصبت أعراضهم..
كم وكم وكم.. قُدِّموا قرابين إلى الشيطان القابع فى واشنطن بعد أن أصبح المسوغ الوحيد لاستقرار بعض الحاكم فى مقاعدهم أن يبرهنوا للحضارة الصليبية اليهودية أنهم يحمونها من خطر الإسلاميين.. والمسلمين.. حكام عادوا بنا القهقرى إلى عصور الجاهلية فباتوا كحكام الغساسنة وأهل الحيرة.. يتواطئون مع أعداء العرب على العرب..
كم ألفا وكم عشرة آلاف وكم مائة ألف لم يحاصروا بيت الرئيس الملك الأمير ولم يمنعوا عنه الماء كما فعلوا مع الخليفة ذى النورين ملك الأرض.. فلا يملك إلا أن يستجد بعلى رضى الله عنه الذى يناضل لإدخال ثلاث قرب إلى الخليفة العطشان..
ودخل أبو قتادة ورجل آخر على عثمان وهو محصور، فاستاذناه فى الحج ، فأذن لهما، فقالا له: إن غلب هؤلاء القوم فمع من نكون ؟
قال : عليكم بالجماعة .
قالا: فإن كانت الجماعة هى التى تغلب عليك ، فمع من نكون ؟
قال : فالجماعة حيث كانت .
انحن يا تاريخ أمام العظمة الإنسانية ..
هذا عبد أواب لله لا عبد خوار للغرب والشيطان..
إن الرجل لا يهمه إلا وحدة المسلمين حتى لو كانوا الثوار المنشقين عليه..
فخرجنا، فاستقبلنا الحسن بن على عند باب الدار داخلا على عثمان ، فرجعنا معه لنسمع ما يقول ، فسلم على عثمان ثم قال :
- يا أمير المؤمنين مرنى بما شئت .
فقال عثمان :
- يا ابن أخى ارجع واجلس حتى يأتى الله بأمره .
فخرج وخرجنا عنه ، فاستقبلنا ابن عمر داخلا إلى عثمان ، فرجعنا معه نسمع ما يقول ، فسلم على عثمان ثم قال :
- يا أمير المؤمنين صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعت وأطعت ثم صحبت أبا بكر فسمعت وأطعت ، ثم صحبت عمر فسمعت وأطعت ، ورأيت له حق الوالد وحق الخلافة، وها أنا طوع يديك يا أمير المؤمنين فمرنى بما شئت .
فقال عثمان :
- جزاكم الله يا آل عمر خيرا مرتين ، لا حاجة لى فى إراقة الدم ، لا حاجة لى فى إراقة الدم.
ثم دخل أبو هريرة متقلدا سيفه فقال: الآن طاب الضراب .
فقال عثمان :
عزمت عليك يا أبا هريرة لما ألقيت سيفك..
ولم يكن أمام الصحابة إلا الامتثال لأمر الخليفة ولكن عليا رضى الله عنه احتاط للأمر وقال للحسن، والحسين : اذهبا بسيفيكما حتى تقوما على باب عثمان فلا تدعا أحدا يصل إليه وبعث الزبير ابنه ، وبعث طلحة ابنه، وبعث عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم يمنعون الثوار أن يدخلوا على عثمان ، فلما رأى ذلك الثوار رموا باب عثمان بالسهام حتى خضب الحسن بن على بالدماء على بابه وأصاب مروان سهم وهو فى الدار وخضب محمد بن طلحة وشج قنبرمولى على فخشى الثوار أن يغضب بنو هاشم لحال الحسن والحسين فيثيرونها فتنة فقالوا : إن جاءت بنو هاشم فرأوا الدماء على وجه الحسن كشف الناس عن عثمان وبطل ما نريد ولكن اذهبوا بنا حتى نتسور عليه الدار فنقتله من غير أن يعلم به أحد فتسوروا البيت وقتلوه ، وبلغ الخبر عليا وطلحة والزبير وسعدا ومن كان بالمدينة فخرجوا وقد ذهبت عقولهم للخبر الذى أتاهم حتى دخلوا على عثمان فوجدوه مقتولا، فاسترجعوا وقال على لابنيه كيف قتل أمير المزمنين وأنتما على الباب ؟ ورفع يده فلطم الحسين وضرب صدر الحسن غاضبا..
فليتضاءل نور الشمس والنجوم أمام النور المنبعث من العظمة الإنسانية فى أسمى معانيها..
لم يستدع مباحث أمن الخلافة..
ولا روع الناس ..
بل رفض إراقة جفنة دم من قاتليه..
لم يفرض حكم الطوارئ عشرين عاما ..
لم يغير شرعا ..
ولم ينشئ دستورا جديدا ..
فكيف ضللت وكان فيك مثل هذا يا أمة..
كيف يا أمة..
لماذا غفلت عن تاريخك..
لماذا نسيت الله فأنساك نفسك..
لماذا لم تذكريهم بعلى بن أبى طالب رضى الله عنه لما ضربه ابن ملجم فأوصى إلى الحسن والحسين وصية طويلة، وفى آخرها:
- يا بنى عبد المطلب لا تخوضوا دماء المسلمين خوضا، تقولون قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلن بى إلا قاتلى . انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة، ولا تمثلوا به ، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إياكم و المثلة ولو بالكلب العقور ) .
يا إلهى..
إنه ينهى عن المثلة بقاتله..
بل وينهى عن المثلة ولو بكلب عقور..
فكيف استنمت حتى مثلت بك الكلاب العقورة يا أمة..
ثم أنهم يتوسلون إليه أن يستخلف عليهم فيأبى قائلا:
- لا، أكلكم إلى من وكلكم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
كان عبدا لله .. كان إنسانا .. لا مسخا للغرب ومطية للشيطان مثل روادك يا أمة..
لم تكن الدنيا مطلبهم بل الآخرة.. ومع ذلك .. بل على الأحرى بسبب ذلك سادوا الدنيا أيضا..
***
هل رأيت قبسا من تاريخك يا أمه؟..
قبسا من التاريخ الذى شوهوه حتى ليكاد جل العلمانيين ونخب الثقافة فى هذه الأمة أن يعتذروا عن إسلامهم الذى ولدوا به فلا حيلة لهم فيه.. ويكاد الإنسان العادى أن يردف اعترافه بأنه مسلم بكلمة اعتذار.. كــ:أنا ولا مؤاخذة مسلم.. أو أنا مسلم لكننى غير إرهابى!!.. أو أنا مسلم لكننى متفتح العقل!!.. أو أنا مسلم لكننى مثقف!!.. أو أنا مسلم لكننى غير ظلامى..
هل رأيت قبسا من تاريخك يا أمه؟..
وهل تدركين الآن أن الحل هو فى استعادة هذا التاريخ لا بشكله ومبناه بل بمعناه وفحواه..
أجل.. هذا هو الحل الذى منذ بدأت الكتابة أمهدكم له يا قراء..
دولة محورية تحكم المسلمين تحت راية الخلافة.. حتى ولو كانت:
خلافة فى المنفى..
***
خلافة فى المنفى "4"..
نعم.. خلافة .. حتى ولو كانت فى المنفى..
لأن ما وصل بك الحال إلى ما وصل إليه يا أمة يفسره .. ما قاله إبراهيم بن أدهم حين سئل: ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا؟ قال: لأنكم عرفتم اللّه فلم تطيعوه، وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنته، وعرفتم القرآن فلم تعملوا به، وأكلتم نعم اللّه فلم تؤدوا شكرها، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها، وعرفتم النار فلم تهربوا منها، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس..
إن المستكبرين الضالين المضلين لم يعترفوا قط بأنهم أخطئوا أو حتى بإمكانية احتمال أن يخطئوا..
لم يعتبروا أبدا بتاريخنا وديننا وسلفنا الصالح..
لم يعتبروا بالإمام مالك بن أنس-رضى الله عنه حين بكى ندما ملى ما كان أفتى يه برأيه . قال القعنبى : دخلت على مالك بن انس فى مرضه الذى مات فيه ، فسلمت عليه ، ثم جلست فرأيته يبكى، فقلت :
يا أبا عبد الله ما الذى يبكيك ؟..
فقال لى :
وما لى لا أبكى ؟ ومن أحق بالبكاء منى؟ والله لوددت أنى ضربت لكل مسألة أفتيت فيها برأى بسوط سوط ، وقد كانت لى السعة فيما قد سبقت إليه ، وليتنى لم أفت بالرأى..
الآن يفتى بالرأى فى القرآن من لم يقرأ من القرآن آية.. ويحاصر الحفاظ..
ويفتى فى الشريعة والفقه من لم يسجد لله ركعة.. ويعتقل الركع السجد..
الآن تفتينا الشفاة المخمورة كيف نفيق من الغيبوبة..
والآن تشير الأصابع النجسة إلى طريق يوهمونا بأنه طريق الخلاص..
وطريق الخلاص لن تهدينا إليه سوى الأيدى المتوضئة..
كالخنازير التى تبحث أول ما تبحث عن صناديق القمامة راحوا يتقممون من مزابل التاريخ كى يدينوا عصور الخلافة..
شوهوا التاريخ.. وكانت أكثر فترة شوهوها هى فترة الخلافة العثمانية..
ولقد سلطوا عليها حقدهم لأسباب عديدة.. وكان منها أنها دولة لا ينتمى خلفاؤها إلى العرب.. أرادوا أن يبعدوا الزمن الذى نتذكر فيه الخلافة ستة قرون.. كى لا نعود إلى تذكرها مرة أخرى..
ولم تكن الخلافة العثمانية كما قالوا..
فلتنظروا إلى وصايا حكامنا ووصاياهم..
فلتتذكروا محاولة كمال أتاتورك أن يوصى بالسفير الإنجليزى ليخلفه فى حكم تركيا التى كانت عاصمة الخلافة.. ولتدركوا أنه كثيرين من حكامنا يسرون أو حتى يجاهرون بأنه مثلهم الأعلى.. ولتقارنوهم بحكام الدولة الإسلامية التى ألقوا الروث عليها..
قال السلطان محمد الفاتح - رحمه الله - في وصيته لابنه :
" ها أنذا أموت ، ولكني غير آسف لأنى تارك خلفا مثلك . كن عادلا صالحا رحيما ، وابسط على الرعية حمايتك بدون تمييز ، وأعمل على نشر الدين الإسلامى ، فإن هذا هو واجب الملوك على الأرض . قدم الاهتمام بأمر الدين على كل شيء ، ولا تفتر في المواظبة عليه ، ولا تستخدم الأشخاص الذين لا يهتمون بأمر الدين ، وجانب البدع المفسدة وباعد الذين يحرضونك عليها .. وسع رقعة البلاد بالجهاد ، واحرس أموال بيت المال من أن تتبدد.إياك أن تمد يدك إلى مال أحد من رعيتك إلا بحق الإسلام ، واضمن للمعوزين قوتهم ، وابذل إكرامك للمستحقين .وبما أن العلماء هم بمثابة القوة المبثوثة في جسم الدولة ، فعظم جانبهم وشجعهم ، وإذا سمعت بأحد منهم في بلد آخر فاستقدمه إليك، وأكرمه بالمال . حذار حذار لا يغرنك المال ولا الجند ، وإياك أن تبعد أهل الشريعة عن بابك ، وإياك أن تميل إلى أى عمل يخالف أحكام الشريعة ، فإن الدين غايتنا ، والهدية منهجنا ، وبذلك انتصرنا "..
وينقل المؤرخ التركي المعاصر عبد القادر زاده أوغلو في كتابه " التاريخ العثمانى المصور ، عبارات أخرى من وصية عثمان مؤسس الدولة تقول :
" وصيتي الأولى لأبنائى ، ولجميع الأعزاء علي ، أن لا يتركوا الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله ، ونشر دين الإسلام الجليل ، ورفع راية محمد صلى الله عليه وسلم عاليا . وليكن كل وقتكم لخدمة الإسلام ، ونشر كلمة التوحيد في ربوع العالمين ، وإنني أقول لكم : إننى أدعو الله عز وجل أن يحرم من شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ، كل واحد فيكم يبتعد عن طريق الإسلام ، ويظلم الناس ، ويترك الجهاد ".
أما عن نصوص الواجبات التي أناطها دستور الدولة العثمانية بسلاطين الدولة ، أنقلها من كتاب الدكتور عمر عبد العزيز عمر (" محاضرات في تاريخ الشعوب الإسلامية " ، هذه الواجبات هي :
أولا : أن يخضع السلطان لأحكام الشريعة الإسلامية خضوعا كاملا .
ثانيا : أن يبجل الشريعة الإسلامية ويبجل علماءها .
ثالثا : أن يحمي مقدسات المسلمين ، وينظم شؤون الحج بعناية .
رابعا : أن يدافع عن تخوم المسلمين ضد أعدائهم .
لقد كان عثمان ابن أرطغرل شديد التدين ، وكان يؤمن أن نشر الإسلام واجب مقدس بالنسبة إليه .
وقد نص القانون الذي وضعه السلطان سليمان القانوني ، والذي حدد بموجبه الشروط التي ينبغي أن تتوفر في كل شخص يتولى منصب الصدارة العظمى ( رئاسة الوزراء ) ، أو منصب الوزارة ، على أن يكون ذلك الشخص مواظبا على أداء الصلاة في أوقاتها .
****
هاتوا اليوم من يطالب الوزراء أو الحكام بالمواظبة على الصلاة..
ستعلق له المشانق.. ستطارده تهم الأصولية والإرهاب..
بل إن الأمر أبشع..
فلقد كففنا - باليأس – أن نطالب الحكام بعمل المعروف..
وكففنا أيضا عن نهيهم عن المنكر إلا الفاحش منه..
سنمتن لك يا مولاى الملك الرئيس الخليفة إن تحريت فى وزرائك أن يكون ولعهم بسفك الدماء محدودا وأن يكونوا غير شواذ ولا بأس أن يكونوا زناة لصوصا عصاة!!..
كنت أريد أن أسرد ما فعله كمال أتاتورك فى مؤامرة بيع الخلافة الإسلامية : ألغى الخلافة و أعلن الجمهورية وتنكر لكل القيم الإسلامية وحذف من الدستور أن دين الدولة هو الإسلام و أمر بلبس القبعة مكان العمامة و أباح زواج المسلمات من غير المسلمين ومنع الحج وجعل الأحد إجازة رسمية و أباح الخمر والبغاء ثم أمر واضع الدستور أن يصدره بالعبارة التالية: القرآن دستور البداوة…
سلم الكماليون مسجد أياصوفيا إلى الكنيسة فنزعت منه آيات القرآن و أعيدت صور القديسين والصلبان..
لقد كان رئيس تركيا فى مؤتمر لوزان حاخاما يهوديا... وعن طريق محكمة الاستقلال ( لاحظ عكس المعانى :( فلا هى محكمة ولا هو استقلال ) أجبر أتاتورك الشعب على لبس القبعات والفتيات بالرقص مع الفتيان وجاهر بشرب الخمر فى نهار رمضان ولما رفض الشعب التركى ذلك حكمت المحكمة على مئات المسلمين بالشنق والسجن والرمى بالرصاص...
بدل أتاتورك الحروف التركية من العربية إلى اللاتينية وأمر بالأذان بالتركية.. ثم تبلغ ذروة وقاحته وتهجمه على القرآن يوم افتتاح مجلس الشعب، ( لا حظوا أن التسمية كانت لكمال أتاتورك ثم قلده السادات ) و إعلان الجمهورية إذ يقول: " نحن الآن فى القرن العشرين، ولا نستطيع أن نسير وراء كتاب يبحث فى التين والزيتون" ..( ترى هل يختلف موقفه عن موقف حكامنا غير المعلن؟! … وهل يختلف ذلك عن سياسة تجفيف المنابع)..
كنت أريد أن أتحدث عن تدهور تركيا يوما بعد يوم …
لم تنقذها سياسة أتاتورك ولا خيانته لله والأمة..
وهى اليوم مثلنا تماما مهددة بالتقسيم والتفتت..
كنت أريد يا قراء أن أنبهكم أن غسيل المخ بلغ بنا المدى الذى أصبحنا فيه ننبهر بالخيانة …
لم نحاول أن نربط أجزاء الصورة لنفهم وندرك فطفقنا على سبيل المثال نشيد بكتاب على عبد الرازق :" الإسلام و أصول الحكم " الذى لم يكن صدوره بعد انهيار الدولة الإسلامية بعام واحد مجرد صدفة ... لا … بل كان تعضيدا للإنجليز لهدم دولة المسلمين المحورية... كان الإنجليز قبلها بنصف قرن قد أخذوا يبثون العصبيات القبلية والقومية كى تأكل نيرانها الدولة الإسلامية الواحدة … وكانوا قد وعدوا كل قومية بالاستقلال … كما وعدوا الشريف حسين بتكوين الدولة القومية العربية الكبرى كدولة محورية للمسلمين إن هو ساعدهم على هدم الدولة الإسلامية فى تركيا … وبلعنا الطعم … وجاء أوان تنفيذ وعد لم تكن بريطانيا تنوى بالذات تنفيذه … كان حنثها بكل الوعود قد جاوز كل الحدود وكانت تحتاج إلى محلل منا فتقدم الشيخ على عبد الرازق ليفتى أن الإسلام ليس دولة ولا يحق أن يكون له دولة …
لم نحاول كما لم يحاول الاتجاه القومى أن يفهم ووجدنا على سبيل المثال الكارثة من قال عن رجال ثورة يوليو52 بأنهم كانوا يستلهمون فكر كمال أتاتورك … لقد اعتذرت ذات يوم لهم بأن ثقافتهم المحدودة لم تترك لهم المجال ليفهموا … لكننى صرخت من الألم عندما وجدت حتى مصطفى النحاس ... الزعيم الوطنى العظيم والسياسى القدير يمجد ما فعله كمال أتاتورك فيقول : ".... ولست أعجب فحسب لعبقريته السياسية بل أعجب أيضا لعبقريته الخالقة وفهمه لمفهوم الدولة الحديثة التى تستطيع وحدها فى الحالة العالمية الحاضرة أن تعيش وتنمو …" فيرد عليه الإمام حسن البنا قائلا : " هل يفهم من هذا التصريح أن دولة النحاس باشا - وهو الزعيم المسلم الرشيد - يوافق على أن يكون الأخذ بعد الانتهاء من القضية السياسية ببرنامج كالبرنامج الكمالى يبدل كل الأوضاع فيها ويقصيها عن الشرق والإسلام ويسقط من يدها لواء الزعامة... لقد كان من أعز الأمانى أن يؤيدكم الله فيؤيد بكم الدين والأخلاق ..."…
يا إلهى …
إذا كان غفراننا قد اتسع لكل ذلك وإذا كان تسامحنا امتد حتى يشمل حتى كل أعدائنا فلماذا لم نسامح من نطلق عليهم الإسلاميين …
حتى الغزوة الفرنسية سامحناها بل ورحنا نحتفل بها وهى التى قتلت من شعبنا ثلاثمائة ألف عندما كان تعداده مليونين … فكأنما ضحايانا بمقاييس اليوم تقارب عشرة ملايين شهيد … ومع ذلك سامحناها بل واحتفلنا بها … سامحنا أيضا إنجلترا وفرنسا وإسرائيل التى ما تزال تحتل أرضنا وتمزقنا كل ممزق ورحنا نتحاور معها … لكن كل تسامحنا قد نضب بين حكامنا وشعوبنا.. حتى انفصمت عرى الرابط الوحيد الذى يربطنا.. ألا وهو الإسلام الذى عاد غريبا كما بدأ..
خلافة فى المنفى.."5"!!..
الدولة العثمانية
ليس ثمة حل أمام الأمة الإسلامية إلا الحل الإسلامى..
أن نبدد غربة الإسلام فينا..
من يريد الدنيا فعليه بالإسلام..
ومن يريد الآخرة فعليه بالإسلام..
ذلك أن كل محاولات جل حكامنا الاستسلام للغرب لن تجدينا … ليس لمعظمهم حد أدنى يمكن أن يقفوا عنده لكن الأمة ليست كذلك … وهكذا يصبح الحكام بين مطرقة الغرب وسندان الأمة فيصرحون – على سبيل المثال – أمام باراك وبوش بما يعلنون لأمتهم عكسه … وكنت أريد أن أقول أن صراعهم معنا صراع حضارة وأنه لن ينهيه تلك الحلول الوسط البئيسة التى يبحث عنها ولاة أمورنا.. لا الاستسلام الجزئى ولا الاستسلام السرى سينهى مشاكلنا معهم.. لن ينهيها إلا تخلينا بالكامل عن حضارتنا الإسلامية …عن لا إله إلا الله محمد رسول الله.. عن القرآن.. ربما يكون بعض الحكام مستعدين لذلك … والأمة قد تصبر طويلا حتى ترى أساسيات دينها فى خطر وعندها ستقاوم كما قاوم أهل البوسنة والهرسك وكوسوفا حتى لو استشهدوا جميعا …
لكننى يا قراء أشعر بالعجز..
ربما يقرأ هذه المقالة خمسين ألف أو حتى مائة ألف.. ماذا عن ستين مليون آخر.. ماذا عن ثلاثمائة مليون وماذا عن مليار وربع المليار..
كيف أصل إليهم لأقول أن ما يتخرصون به .. وما يعتبرونه العار هو الفخار بعينه..
أشعر بالعجز.. لأن المفهوم الذى أريد أن أنقله إليكم ليس واجب كاتب.. لا يستطعه كاتب.. إنه واجب النخبة كلها..
النخبة التى حاول الصليبيون دائما – ولا يزالون – اختراقها..
ولقد كانوا غالبا – ولا يزالون – ينجحون..
فى صدر الدولة العثمانية.. عندما كان الإسلام هو المحرك والمرجع .. لم يكن هناك أى تسامح مع الخونة الذين يتآمرون مع العدو ضد الأمة.. كان دوندار عم عثمان بن أرطغل متآمرا خائنا فلما اكتشف أمره أعدم.. وكان ساوجى ابن السلطان مراد خائنا آخر تآمر على أبيه عندما كان يواجه تحالف أوربا كلها ضده تحت رعاية وبتوجيه البابا أوربيان الخامس تحت شعار الانتقام للصليب من العثمانيين المسلمين.. فى هذا الظرف تآمر ساوجى بن السلطان مراد مع الأمير البيزنطى أندرونيقوس، الابن الثانى للإمبراطور يوانيس.. وانتقلت المؤامرة من طور التدبير إلى طور التنفيذ.. فسار الأميران على رأس جيش للقضاء على السلطان مراد الذى هزمهما شر هزيمة و ألقى القبض عليهما .. وحوكم ساوجى وحكم عليه بالموت ونفذ فيه الحكم..
هاتوا لى ملكا من ملوك العرب والعجم يحاكم ابنه .. مجرد محاكمة!!..
شقيق السلطان محمد الفاتح كان طفلا غفلت المربية عنه فى المسبح فغرق.. لكن مؤرخى مؤرخى الغرب قالوا زورا أنه قتله.. ونقل عنهم مؤرخونا المستغربون..
السلطان بايزيد الصاعقة.. لم يقتنع علماء الشرع بمبررات إعدام أخيه .. فماذا كان موقفهم؟ .. لقد قاطعوه – وهو السلطان والملك – وردوا شهادته..وعندما ذهب ليفتتح مسجد " أولو جامع " سأل الحاضرين إذا كان ينقص المسجد شئ فأجابه العالم المؤمن شمس الدين الفنارى معرضا به وساخرا منه ومحتجا على عدم التزامه الكامل بالإسلام إجابة لا يستطيع أى عالم من علماء المسلمين على أعتاب القرن الحادى والعشرين أن يوجه مثلها لحاكمه .. قال الشيخ لأقوى سلطان فى الدنيا:
- "بالنسبة لنا نحن المسلمين فإننا لا نجد أى نقص فى بناء المسجد، أما بالنسبة لك يا بايزيد، فإننى أخشى أن تكون قد نسيت أن تضع خزانة تحفظ فيها خمورك بجانب المحراب..!!"..
كان خطأ فرد لا خطأ الإسلام..
هاتوا لنا عالما يستطيع أن يقول مثل ذلك لزعيمه المهزوم .. لا المنتصر..
ولكن الخطأ الذى يأخذه الصليبيون على العثمانيين لم يكن ذلك.. لأن الجرائم التى ارتكبت فى كواليس القصور الأوروبية كانت أفظع إلى ما غير حد.. حتى أن المقارنة ستكون دائما لصالح العثمانيين..
الجريمة التى ارتكبها العثمانيون كما يعبر عنها المستشرق الألمانى فولدكه فى مجلة " دار إسلام" عام 1924 هى: " إن دخول الأتراك فى الإسلام كان أكبر نكبة فى التاريخ" .. مؤرخونا لا يذكرون ذلك.. مؤرخونا درجوا على خداعنا بأن الحروب الصليبية انتهت عام 1291..
إن ماضى الأتراك غامض قبل دخولهم الإسلام .. لكنهم بدخولهم الإسلام وإنشاء الدولة قلبوا كل مخططات الصليبيين رأسا على عقب عندما حولوا ميدان الحروب الصليبية بعيدا عن قلب الأمة.. إلى الشمال و إلى الغرب.. فى عقر دار الصليبيين .. فهل تعلمون يا قراء متى بدأ ذلك ..؟ بدأ عام 1300 ميلادية.. فتذكروا على الفور التاريخ الآخر الذى يقولون لكم أن الحروب الصليبية انتهت فيه: 1291 ميلادية..
الحقيقة أن الحروب الصليبية لم تتوقف أبدا .. يذكر زياد أبو غنيمة فى كتابه: جوانب مضيئة من تاريخ العثمانيين الأتراك : اضطر العثمانيون – بل المسلمون - لخوض غمار الحروب ضد أعدائهم بشكل متواصل ومستمر خلال الأعوام التالية : 1301 م ( وهي السنة التي أعلن فيها عثمان بن أرطغرل تأسيس الدولة العثمانية ) وحتى بداية القرن العشرين خاضت أكثر من مائة حرب كبرى.. وفى عام 1918 م أقحمت عصابة الاتحاد والترقي – وهى حكومة عميلة خائنة زرعها الصليبيون لتحكم تركيا تماما كما فعلوا فى العديد من بلادنا – أقحمت الدولة في الحرب العالمية الأولى حيث انهزمت شر هزيمة مما أدى إلى إعطاء الفرصة لأعداء الإسلام ، لتنفيذ مخططهم للقضاء نهائيا على الدولة العثمانية ، سلطنة ، و خلافة .
ستمائة عام هى عمر الدولة العثمانية المسلمة- أطول دولة إسلامية عمرت فى التاريخ – يسقطها مؤرخونا المستغربون المستنيرون كى يستطيعوا القول فى بساطة: انتهت الحروب الصليبية عام 1291..!!
لم تتوقف الحروب الصليبية أبدا .. ولا ليوم واحد..تلك هى الحقيقة..
لقد أسقطوا الإسلام كرابطة ومرجعية وقرءوا التاريخ فى إطار منهجهم الشيطانى ذاك وسكبوه فى آذننا سما ناقعا..
فى موجة الاندفاعة الصليبية لحصار الإسلام والمسلمين .. اندفع البرتغاليون لاحتلال مدينة سبتة المغربية عام 1415 م.. استهدف البرتغاليون المسلمين أنى كانوا.. وفى 1498 وصل فاسكو ديجاما إلى كاليكوت على ساحل مليبار، كانت دول المماليك فى مصر وفارس ودلهى تعانى الضعف الشديد ولم يكن لديها أسطول.. وفرض الأسطول البرتغالى سيطرته على المحيط الهندى، ولم يعد لأى سفينة أن تعبره دون أن تحمل ترخيصا يسمى ( Cartaz) : من قرطاس، مقابل دفع إتاوة، وكانت السفن التى لا تحمل هذا الترخيص، و أحيانا التى تحمله عرضة للإغراق أو المصادرة من قبل الأسطول البرتغالى إذا ما كان التجار من المسلمين.
وبرغم الضعف كان ما يزال للأوطان كرامة وللدين حرمة..
أدرك السلطان الهندى المسلم خطورة الوضع فاستغاث بسلطان مصر قنصوه الغورى الذى أرسل أسطولا بقيادة الأمير حسين التركى حيث أوقع الهزيمة بأسطول برتغالى بالقرب من ميناء شيول فى يناير 1508 إلا أن البرتغاليين استطاعوا فى العام التالى القضاء الكامل على الأسطول المصرى، ثم طوروا هجومهم ليحتلوا سواحل عدن وجزيرة هرمز وجزيرة سوقطرة فمدوا سيطرتهم إلى جميع الدول المطلة على الخليج العربى..وتدهورت الحالة الاقتصادية فى مصر بعد نجاح الحصار الاقتصادى الذى نجح البرتغاليون فى فرضه، وبادر قنصوه الغورى بالاستنجاد بالعثمانيين، فأمدوه بأربعمائة مدفع و أربعين قنطارا من البارود ومواد لصناعة السفن وعدد من الخبراء والبحارة.
انظروا يا قراء كيف كانت سائر الأعضاء تتداعى للعضو المريض ..
وانظروا إلى حالنا اليوم..
فى عام 1513 دخل الأسطول البرتغالى إلى البحر الأحمر واحتل جزيرة كران بقيادة ألفونسو دى بوكويرك، كان ينوى الاتصال بملك الحبشة المسيحى وتدمير محاولة المصريين لبناء أسطول جديد واحتلال جدة و إنشاء قاعدة بحرية للأسطول البرتغالى بها ثم الإغارة على المدينة المنورة وحمل رفات النبى صلى الله عليه وسلم، وفى عام 1516 أبحر فى البحر الأحمر آخر أسطول مصرى بقيادة تركى هو سليمان ريس يرافقه الأمير حسين الذى كان قائدا للأسطول فى معركتى شيول وديو..
تكررت المأساة التى ابتليت مصر بها دائما دون بلاد العالمين.. خطأ فادح من السلطان قنصوه الغورى، الذى شغل الأسطول بمعارك فى عدن واليمن ثم أمر بسحبه ، وتعقب الأسطول البرتغالى الأسطول المصرى الذى لجأ إلى جدة، كان العثمانيون قد أخذوا يد المبادرة وهزموا المماليك بعد تاريخ سابق خانت فيه مصر دورها التاريخى وتآمرت مع البندقية ضد القسطنطينية( ومع ذلك لم يتوان العثمانيون عن المساعدة عندما يكون الأمر أمر الإسلام والأمة) ، ضم العثمانيون مصر إلى الدولة الإسلامية الكبرى وتولوا مسئولية الدفاع عنها ضد الصليبيين، وتصدى الأمير التركى سلمان لهم فمنعهم من احتلال جدة ، وتولى العثمانيون مهمة حماية البحر الأحمر و أحبطوا محاولة البرتغاليين إقامة قاعدة لهم فى سواكن بل واحتلوها..وبعد استيلاء العثمانيين على العراق أصبح فى إمكانهم مواجهة البرتغاليين فى البحر الأحمر والخليج بل وفى المحيط الهندى، وفى عام 1541 تحالف البرتغاليون مع ملك الحبشة ضد الزعيم الصومالى أحمد الغازى، فأمدوه بحامية على رأسها ابن فاسكو ديجاما، وبادر العثمانيون بالتدخل فأبادوا الحامية البرتغالية وهزموا ملك الحبشة.
يقول أمين توفيق الطيبى فى دراسة منشورة بمجلة الاجتهاد: بفضل قوة العثمانيين البحرية فى البحر الأحمر سلمت المنطقة من أخطار البرتغاليين و أطماعهم، وكانت تتمثل فى تهديدهم للبقاع الإسلامية المقدسة فى الحجاز، وسعيهم فى التحالف مع ملك الحبشة ضد المسلمين، والعمل على تعطيل تجارة المسلمين مع الشرق(..) وبدا واضحا فى منتصف القرن السادس عشر بأنه لم تكن لدى البرتغاليين القدرة الكافية للتحكم بتجارة المحيط الهندى(..) وفى عام 1564 كانت كمية التوابل التى وصلت إلى الإسكندرية أكثر من تلك التى وصلت إلى لشبونة.
إننى أذكركم يا قراء بأنه لولا الدولة العثمانية الإسلامية لكان بقايا المسلمين فى العالم العربى اليوم كبقاياهم فى الفليبين وبورما والأندلس..
***
خلافة فى المنفى.."6"!!..
كمال أتاتورك
نعم.. لم تتوقف الحرب الصليبية يوما واحدا..
لم تتوقف روما أبدا عن مواجة مكة.. تغيرت الأسماء والبلدان لكن لم تتوقف أبدا.. الآن روما هى واشنجتن.. أما بديل مكة فشظايا خشب ومزق أعلام..
و لو قرأنا التاريخ كذلك لكان أى تحالف مع واشنجتن هو حلف ضد الإسلام وضد الله.. ولكانت أى قاعدة لواشنجتن فى أى بلد من بلادنا هى حرب على الله ورسوله والمؤمنين.. ولكانت كل كلمة مديح وتقدير وإطراء لحاكم من حكامنا تأتى من واشنجتن ليست إلا اتهاما بالخيانة العظمى.. ليست خيانة الأمة والأوطان فقط.. بل خيانة الله ورسوله والمؤمنين..
كنت أريد أن أسرد ما فعله كمال أتاتورك فى مؤامرة بيع الخلافة الإسلامية : ألغى الخلافة و أعلن الجمهورية وتنكر لكل القيم الإسلامية وحذف من الدستور أن دين الدولة هو الإسلام و أمر بلبس القبعة مكان العمامة و أباح زواج المسلمات من غير المسلمين ومنع الحج وجعل الأحد إجازة رسمية و أباح الخمر والبغاء ثم أمر واضع الدستور أن يصدره بالعبارة التالية: القرآن دستور البداوة…
سلم الكماليون مسجد أياصوفيا إلى الكنيسة فنزعت منه آيات القرآن و أعيدت صور القديسين والصلبان..
لقد كان رئيس وفد تركيا فى مؤتمر لوزان حاخاما يهوديا... وعن طريق محكمة الاستقلال أجبر أتاتورك الشعب على لبس القبعات والفتيات بالرقص مع الفتيان وجاهر بشرب الخمر فى نهار رمضان ولما رفض الشعب التركى ذلك حكمت المحكمة على مئات المسلمين بالشنق والسجن والرمى بالرصاص...
بدل أتاتورك الحروف التركية من العربية إلى اللاتينية وأمر بالأذان بالتركية.. ثم تبلغ ذروة وقاحته وتهجمه على القرآن يوم افتتاح مجلس الشعب، و إعلان الجمهورية إذ يقول: " نحن الآن فى القرن العشرين، ولا نستطيع أن نسير وراء كتاب يبحث فى التين والزيتون" ..( ترى هل يختلف موقفه عن موقف جل حكامنا غير المعلن؟! … وهل يختلف ذلك عن سياسة تجفيف المنابع)..
ولو سألتنى أيها القارئ عن فرد واحد فى هذا العالم أساء للإسلام أكثر مما أساء له أى واحد آخر لما تجاوزت إجابتى لك : كمال أتاتورك .. أكثر حتى من عبد الله بن سبأ .. كان يرجع فى أصوله إلى يهود الدونمة.. أولئك الذين فروا من محاكم التفتيش فى الأندلس بعد هزيمة المسلمين هناك .. كان الملك الأسبانى فيليب قد قرر استرقاق المسلمين الباقين فى الأندلس للعمل كعبيد فى الكنائس والبيوت الأسبانية وليقوموا بدور الحيوانات فى المزارع والجبال .. كانوا ستمائة ألف مسلم بقوا بعد القتل والتهجير والتنصير .. وتدخل السلطان العثمانى أحمد رحمه الله .. و أدرك الملك فييليب أن السلطان قد يفكر فى تجميد الجهاد فى شرق أوروبا لينقله إلى غربها .. وخوفا من ذلك تراجع عن قراره .. وأطلق الستمائة ألف فاصطحبوا معهم اليهود الذين كانوا يتعرضون لنفس المصير ..
ساح المسلمون فى أنحاء الدولة العثمانية أما اليهود فلم يجدوا فى العالم مكانا يأويهم ويحميهم إلا تركيا .. عاثوا فى البلاد فسادا وادعى أحدهم النبوة .. استثاروا المشاعر الإسلامية وعندما أحسوا أن أمرهم كاد يكتشف ادعوا دخول الإسلام فدخلوه جملة .. وكلمة الدونمة كلمة تركية تعنى المرتدين أى الذين غيروا دينهم من اليهودية إلى الإسلام تمييزا لهم عن مسلمى الأتراك أصلا..
من نسلهم كان كمال أتاتورك ..
كانت أمه غانية .. أما أبوه – فى شهادة الميلاد – فقد كان ضابطا تركيا انتحر كما يقول المؤلف التركى المجهول لكتاب: " الرجل الصنم".. وكان من أسباب انتحاره معرفته بأن كمال أتاتورك ليس ابنه بل ابن سفاح لجندى صربى..
هذا اليهودى ابن السفاح هو الذى قضى على الدولة الإسلامية..
دبر اليهود والغرب مؤامرتهم الكبرى.. ووصلوا إلى بغيتهم فى ابنهم كمال أتاتورك .. كان فاسقا عربيدا لا يكف عن السكر .. وكان قاتلا سفاحا .. لكنه غطى على كل ذلك .. وفى إطار عملية الخداع عين فقيهين مالكيين لتعليمه الدين ثم أعدمهما عندما استتب له الأمر..
ويذكر كتاب "الرجل الصنم " وهو من أهم الكتب التى تكشف سر كمال أتاتورك: "…الذى يتمعن في حركة مصطفى كمال يرى العجب في المدى الذى وصل إليه في تقليد الغرب : غير حتى الأعياد الدينية ، وجعل يوم الأحد هو يوم العطلة الرسمية بدلا من يوم الجمعة ، ومنع الحج .. وأباح تزويج المسلمة لغير مسلم.."
ويذكر مصطفى كمال نفسه فى كتابه " الخطابة " كيف تمكن من هدم الدولة الإسلامية وإلغاء الخلافة مسجلا فى شماتة لحظاتها الأخيرة :
( إنني أرى أن من المستحسن أن يوافق المجتمعون هنا وأعضاء المجلس وكل واحد على اعتبار هذه قضية طبيعية ، ولكن إذا حدث العكس فان هذا الأمر سينفذ أيضا وفى إطار المجرى الطبيعي ، ولكن من المحتمل أن بعض الرؤوس ستقطع .. ويجمد الجميع لدى سماعهم الجملة الأخيرة ..(..).. هيئت لائحة القانون بسرعة ، و في الجلسة الثانية للمجلس في نفس اليوم وعندما اقترح وضع اللائحة للتصويت عليها مع بيان الأسماء وقفت على المنصة معترضا وقائلا :
" لا أرى حاجة لذلك ، ذلك لأنني أعتقد بأن المجلس الموقر سيوافق بالإجماع على الأسس التي سوف تحفظ إلى الأبد استقلال الأمة والوطن " . . ارتفعت الأصوات قائلة " التصويت " ! . . . و أخيرا وضع الرئيس اللائحة للتصويت ثم قال : " قبلت اللائحة بالإجماع".. ولكن سمع صوت نشاز " إنني أعارض " ولكن هذا الصوت اختفى بين الأصوات القائلة " لا يسمح بأي كلام ! " .
وهكذا أيها القراء جرت آخر صفحة من صفحات هدم الدولة الإسلامية الواحدة .. الدولة الإسلامية التى سبقت إلى الاتحاد قبل أوروبا بقرون.. وقد تمر قرون قبل استعادتها مرة أخرى..
اقرءوا معى يا قراء ما نشرته صحيفة الأهرام نقلا عن وثائق بريطانية.. تحت عنوان :
(كمال أتاتورك رشح سفير بريطانيا ليخلفه فى رئاسة الجمهورية التركية.)
في نوفمبر 1938 كان كمال أتاتورك رئيس تركيا يرقد على فراش الموت (..) كان يخشى ألا يجد شخصا يخلفه قادرا على استمرار هذا العمل الذي بدأه فاستدعى السفير " بيرسي لورين " السفير البريطاني إلى قصر الرئاسة في استنبول . أما ما دار بينهما فقد ظل سرا أكثر من ثلاثين عاما (..) يروي لورين تفاصيل مقابلته غير المألوفة مع الدكتاتور المحتضر : " … بدأ فخامته يتحدث ببطىء ولكن بعناية شديدة وقالى لي انه أرسل في طلبي لأنه يريد أن يطلب مني طلبا عاجلا راجيا أن أعطيه جوابي عليه بطريقة قاطعة. و لقد كانت صداقتي ونصيحتى هي الوحيدة التي كان يحافظ عليها ويقدرها أكثر من أية نصيحة أخرى لأنها كانت ثابتة لا تتغير وكان هذا هو السبب الذي جعله يستشيرنى في مناسبات متعددة ..بحرية تامة كما لو كنت وزيرا فى مجلس الوزراء التركي .
وقد كان من سلطاته كرئيس للجمهورية أن يختار خليفة له قبل وفاته . وقد كانت أخلص رغبه له هو أن أخلفه في منصب الرئيس ومن ثم فقد كان يريد أن يعرف رد فعلي لهذا الاقتراح . وبعد بضع دقائق من التفكير الصامت قلت لفخامته أن جوابى هو أنني عاجز تماما عن أن أجد الكلمات التي تعبر عن مشاعرى بصدق أو بما فيه الكفاية (…) " ... وعلى ذلك فإننى لا أجد سوى أن أعتذر آسفا ، ولكن يحزم .
وعندما انتهيت من حديثي ظهرت على الرئيس علامات التأثر الشديد (…) كان رقيقا كعادته عندما أضاف انه بالرغم من خيبة أمله الشديدة فقد كان هذا هو الجواب الذي ينتظره مني ولهذا فقد قرر أن يعين عصمت إينونو بدلا مني .
****
هذا هو الرجل – بل الشيطان - الذى ادعى فى البداية أنه يتقدم لينقذ الخلافة..
نجح العالم الغربى بعد أربعة عشر قرنا وانتهت دولة المسلمين المحورية وعاد الإسلام غريبا كما بدأ..
العالم الغربى.. عالم رئيس أقوى دولة فيه داعر أما الدولة الثانية فرئيسها سكير..
عالم يقترف كل الرذائل ويرتكب كل الموبقات ولا يترك من الجرائم جريمة ثم لا يتورع ولا يتورع كلابه وأذنابه عن إسقاط كل جرائمه على تاريخنا الإسلامى..
ابحثوا يا قراء معى عن كمال أتاتورك ولتدركوا أنه لم يكن شخصا بل كان منهجا ..
ابحثوا عنه كامنا ومستترا فى وجه ملك خان ورئيس باع وأمير استغرب ومسئول نافق ورئيس تحرير كذب وكاتب ضلل وهو يعرف أنه مضلل..
ابحثوا عنه فى وجه السفهاء الكفرة الذين أضمروا الكفر وتظاهروا بالإسلام ليخربوه من الداخل ولينكلوا برموزه ..
وابحثوا عنه فى زمان أتي على الناس هم فيه ذئاب فمن لم يكن ذئبا أكلته الذئاب..
****
أبحث عن كمال أتاتورك بين أولئك العلمانيين الذين لا يمنعهم عن إدانة الكفر سوى أن البديل الوحيد هو الإيمان بالله..
يقول السير آرثر كيث:
" إن نظرية النشوء والارتقاء غير ثابتة علميا، ولا سبيل إلى إثباتها بالبرهان، ونحن لا نؤمن بها إلا لأن الخيار الوحيد بعد ذلك هو الإيمان بالخلق المباشر، وهذا ما لا يمكن حتى التفكير فيه.. "!!..
تستطيع أيها القارئ أن تستبدل الماركسية أو النازية أو النظام العالمى الجديد بـ: "نظرية النشوء والارتقاء" ..
إن موقفهم ليس مع.. بل ضد .. وضد الإسلام تحديدا.. وهم فى سبيل ذلك لا يتركون مجالا لتزييف الوعى واستنزاف الذاكرة إلا سلكوه..
****
ابحث معى أيها القارئ عن أمثال كمال أتاتورك بين ولاة أمورنا.. فجهدى قاصر..
ابحث عنه حيث لا تتوقعه أبدا ..
لقد علمتنى الغرفة المهجورة أن الحريص – حين يؤتى – يؤتى من مأمن..
وعلمنى كمال أتاتورك أن الحية الرقطاء -حين تلدغ- تخرج من مكمن..
وتعلمت أن الخطر حين يأتى لا يأتى مواجهة ولا فجأة.. بل يتسلل وئيدا وئيدا حتى تكون لحظة الإدراك نفسها هى لحظة الغرق.. وأن الشيطان حين يدعونا لايأتينا بقرونه بل يتقلد عمامة أو يلبس قبعة أو يتشح بوشاح رجل قانون أو يلبس عباءة ملك أو يمسك بقلم رئيس تحرير .. وأنه فقط فى اللحظات الأخيرة.. حين نكون قد فقدنا كل فرصة للفهم أو للمواجهة يسفر عن قرونه وحافره المشقوق.. لتكون صورته تلك .. هى التى تتسع لها أحداقنا من الهول عند الموت!!..
**
خلافة فى المنفى.."7"!!..
أضعنا كنزا.. وأخذنا وباء!!
الحدود فى الإسلام
هذا هو التاريخ الصحيح يا قراء ..
ولكن .. لا بد أن يشوه مثلث الإعلام والتعليم والتغريب التاريخ خدمة لسادتهم ولسادة سادتهم..
لأننا لو قرأنا التاريخ قراءة صحيحة لانقلبت الأمور جميعا..
ولسعينا إلى استعادة الوحدة التى ضيعناها يوم ضيعنا الخلافة..
كان يمكننا إصلاحها لا تمزيقها..
واليوم..
نرى جل مفكرينا الذين تسمح لهم سلطات بلادنا بالكتابة يسخرون من الخلافة ويفخرون بالتغريب..
يتحدث على عزت بيجوفيتش فى كتابه الهام : الإعلان الإسلامى فيقول :
"..أما أولئك الذين يدعون بالتقدميين أو العصريين أو المستغربين إلى غير ذلك مما يسمون به أنفسهم . . فانهم يمثلون فى الحقيقة سوء حظ هذه الأمة المسلمة . إنهم كثرة كثيرة . . ذات نفوذ وتأثير . إنهم يهيمنون بشكل ملحوظ على الحكومات وعلى التعليم والحياة العامة . وهم يرون فى فئة المحافظين تشخيصا للإسلام . . ويدعون الآخرين إلى أن ينظروا نفس النظرة . . وهكذا استطاع دعاة الحداثة أن ينشئوا جبهة ضد كل ما تمثله الفكرة الإسلامية . ونستطيع التعرف على هؤلاء الذين أقاموا اليوم من أنفسهم مصلحين فى البلاد المسلمة من خلال فخرهم بما أن يجب أن يخجلوا منه ، وخجلهم مما كان يجب أن يفخروا به . . إنهم "أبناء آبائهم" فقد تعلموا فى أوربا ثم عادوا من هناك بشعور عميق بالدونية تجاه العالم الغربى المتقدم الغنى ، وشعور الاستعلاء على مجتمعاتهم التى جاءوا منها وقد أحاط بها الفقر والتخلف . لقد حرموا من التربية الإسلامية الصحيحة وفقدوا كل صلة روحية أو أخلاقية بشعوبهم ومن ثم فقدوا معاييرهم الأولى وأصبحوا يتخيلون أنهم بتخريب الأفكار المحلية والتقاليد والمعتقدات وبتقديم أفكار غريبة سيقيمون أمريكا- التى يكنون لها إعجابا مبالغا فيه - على أرض بلادهم فى يوم وليلة . إنهم بدلا من العمل على تطوير إمكانات بلادهم الخاصة ذهبوا ينفخون فى شهوات الناس ويضخمون رغباتهم المادية ، فأفسحوا بذلك الطريق أمام الفساد والفوضى الأخلاقية ، إنهم لم يستطيعوا أن يفهموا أن قوة العالم الغربى لا تكمن فى طريقته فى الحياة . وإنما فى طريقته فى العمل . . وأن قوته ليست فى الموضة و الإلحاد وأوكار الليل وتمرد الشباب على التقاليد، وإنما تكمن فى الكدح الذى لا مثيل له، وفى المثابرة و العلم والشعور بالمسئولية التى تتميز بها شعوبهم . المشكلة إذن ليست فى أن مستغربينا قد استخدموا أساليب أجنبية ، وإنما فى أنهم لم يعرفوا كيف يستخدمونها أو يضعونها فى موضعها الصحيح . . وأنهم لم يفلحوا فى تطوير حس قوى يكفى للتمييز بين ما هو صحيح وما هو غير صحيح ، ومن ثم أخفقوا فى اختيار المنتج الحضارى المفيد واستعاروا لمجتمعاتهم بدلا منه عرضا مرضيا من أعراض هذه الحضارة فكان منتجا ضارا بل قاتلا .."
كان على عزت بيجوفيتش يتحدث عن الكنز الذى فقدناه والوباء الذى أخذناه ..
***
لكم شعرت بالحزن، عندما كنت أتحدث مع بعض كبار شيوخنا عن مقالة فادحة نشرتها صحيفة الأهرام ، ينادى فيها كاتبها - وهو واحد ممن وصفهم على عزت بيجوفيتش - بتنقية الدين الإسلامى من تخاريف البخارى والنسائى!!..
ويلتمس الأعذار للمستشرقين بسبب الوارد فى أعمدة كتبنا..
ويصف " البخارى ومسلم" بالفجاجة والهزل والتجاوز فى المعنى واللفظ..
ثم يواصل هجومه على الترمذى وابن حنبل و أبى داود وابن ماجة والطبرى والبيهقى وابن حزم والذهبى..
ويخشى أن يكون قد نسى أحدا من شوامخنا فيضيف: " وغيرهم"..
ثم يكتب بالحرف:
" إذا كان المستشرقون يقولون أن الإسلام انتشر بحد السيف فإن لكلامهم أصلا باطلا فى الصحيحين فقد ورد أن النبى صلى الله عليه وسلم أمره الله أن يقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا فقد عصموا دماءهم و أموالهم..ومن المعلوم يقينا أن آيات الكتاب تكذب ذلك فقد قال الله تعالى لا إكراه فى الدين…"..
كنت أستحث شيوخنا للتصدى لمثل هذا الكاتب، لكنهم أجابونى بأنه حين تنشب معركة من هذا النوع فسوف تتلقف كل وسائل الإعلام - فى بلادنا الإسلامية !!- ما يكتب المستغربون وستمتنع عن النشر للعلماء.. مما يجعل نتيجة الحوار وبالا..
ولكم ِعرت بالحزن.. فقد كانوا على حق فيما يقولون..
وتذكرت ما قاله شيخنا الجليل محمد الغزالى رضى الله عنه أن هناك بعض الناس كالخنازير إذا دخلت بيتا كان أول ما تتوجه إليه سلة القمامة فى هذا البيت.
هؤلاء التنويريون، الذين يتهمون كل من ينادون بعودة الخلافة بأنهم سفهاء.. ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون..
ولقد جعلوا من الحدود فى الإسلام عقبة كئودا يفزعون بها الناس من الإسلام..
والحدود فى الإسلام من المباحث الهامة التى لا نتناولها إلا لماما، وكأنه عورة نخجل منها، حينما نعرضها على المستغربين فى بلادنا، ونادرا ما تتوفر لنا الشجاعة والقدرة لنصرخ فيهم أنها مكمن فخارنا لا وصمة عارنا.. فإذا وجد من أوتى الشجاعة.. لم يجد من ينشر له.. فإذا وجد فوجئ بأن المطبوعة التى ينشر فيها محاصرة بالتعتيم والتجاهل.. بينما تتصدى وسائل الإعلام الكبرى لنشر أفكار المستغربين..
***
من أكثر المباحث التى تعرضت للتشويه فى الإسلام من المستشرقين ومن أمثال كاتب الأهرام ذاك مباحث فقه الحدود..
ولقد كنت أرتعب دائما من أن أورط نفسى فيما ليس لى به علم ..
لكن ما حيلتى إذا بدت بلاد المسلمين كبناية نشب فيها حريق ..
هل من حق سكانها ألا يشاركوا فى الإنقاذ والإطفاء لأنهم غير متخصصين فى إطفاء الحريق..؟!
ما حيلتى إن أنذرت الشواهد أن جنود الإطفاء لن يأتوا أبدا وانتشرت الشائعات أنهم بعض من أشعل الحريق؟!..
وعندما وجدت أن وسائل إعلامنا وصحفنا الكبرى تستدعى المستغربين كى يكونوا مراجعنا الدينية، وتجعل من أمثال: ( فرج فودة – الذى اتهم سيدنا أبى بكر رضى الله عنه – بأنه وضاع للأحاديث، ومن نصر حامد أبو زيد – الذى ادعى بشرية النص فى القرآن وأنه كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وليس كلام الله مما يبيح لنا أن نتلوه بمعناه لا بنصه- ، ومن ذلك الذى يطالبنا بتنقية الدين من تخاريف البخارى - وبالمناسبة هو باحث بمركز ابن خلدون - ) .. تجعل من أمثال هؤلاء مراجعنا الدينية قلت لنفسى:
- آن لأبى حنيفة أن يمد رجله وللغرب أن يمد لسانه كما أنه قد آن لى أن أتحدث فى غير تخصصى..
****
إننى أدرك أن الإسلام قد عاد غريبا كما بدأ وأنا أبا لهب لم يعد كبير بطن من بطون قريش بل وكيلا للغرب فى كافة أرجاء عالمنا الإسلامى .. أما أبو جهل فهو رئيس جل وزراء الثقافة والإعلام والتعليم ..
أولئك الذين يدعونا للخجل مما كان يجب أن نفخر به وللفخر مما كان يجب أن نخجل منه..
وفى جو هذا الهواء المسموم تحولت قضية الحدود فى نظر البعض إلى عورة أو عار مع أنها والله أوسمة فخار ..
ولقد ساعدهم فى ذلك – للحزن والأسى - تناول بعض إخواننا فى الله لتلك القضية..
إننى أنبه القارئ منذ البداية أننى غير متخصص.. ولست بفقيه.. وأناشد القارئ ألا يستخرج مما أكتب حُكْمًا وأن يعود بنفسه إلى المصادر أو إلى شيوخ غير مشغولين بمبايعة أو بلقاء حاخام .. وأن يضع فى اعتباره دائما أن أكون قد أخطأت فى الحفظ أو فى النقل أو فى الاستدلال.. لكننى فى ذات الوقت أؤكد للقارئ أننى لم أجرؤ على دفع هذا المبحث للمطبعة إلا بعد مراجعة من كبار شيوخنا..
***
كنت أقول لنفسى أن الأمر فى هذه القضية كما فى كل قضايا الإيمان الأخرى يلخصها ما قاله أبو بكر رضى الله عنه : " إن كان قالها فقد صدق" .. كنت أقول لنفسى أن الفيصل فى أى قضية ليس موافقتها لعقلنا وهوانا أو عدم موافقتها فالعقل والهوى متغيران .. لكن الفيصل هل وردت فى القرآن وصحيح الحديث أم لم ترد .. فهما ثوابت إيماننا .. ذلك أن جوهر الإيمان تسليم العقل البشرى بمحدوديته وأنه يرى جزءا ضئيلا جدا من الصورة وأننا وجدنا قبل الميلاد وسنوجد بعد الممات .. إنه يدرك أنه جزء من منظومة وعبد فى الكون لا سيد الكون .. ولذلك فإن عليه ألا يعمل رأيه فيما فيه نص.. لنا أن نجتهد فى تفسير النص كما شئنا .. فى التفسير لا فى التكسير..فى مزيد من الفهم لا فى مزيد من الجهل..
إن القضية يمكن تلخيصها فى إيجاز مخيف : إن مرتكب الكبائر التى تستوجب الحدود ليس بكافر .. لكن الكافر هو من يرفض أو ينكر وجوب تطبيق الحدود..
***
خلافة فى المنفى.."8"!!..
الحدود فى الإسلام
****
فى قضية الحدود بالذات يبدو الالتباس فظيعا ونزيف الوعى هائلا وفقدان الذاكرة مروعا ..
إن المسلم الذى انصرف عن التفقه فى دينه عموما فى إطار نزيف الوعى هو بالطبيعة أكثر انصرافا عن فقه الحدود .. فالذين يرتكبون ما يستوجب الحدود هم أبعد الناس عن الفقه أصلا .. أما سواد المجتمع بعد ذلك فقد اكتفى بالحد الأدنى الذى يعتبر النزول دونه خللا جسيما فى الدين.. وهذا الحد يكتفى من الفقه بما يقيم صلب حياته اليومية وأساسيات ممارساته الدينية.. إنه يقرأ القليل جدا عن الصلاة والصوم ويسأل الآخرين فيما يتعدى ذلك كالزواج والطلاق والحج .. ترتب على هذا أن الجانبين ابتعدا عن قراءة هذا الفقه والتعمق فيه .. الذين يرتكبون ما يستوجب الحد والذين لا يرتكبون .. فأصبح مصدر معلوماتنا الوحيد عن الحدود هو أقوال المهاجمين لنا والمعادين لديننا من علوج الغرب وخنازير العلمانيين .. وكان الجو أمامهم خاليا فباضوا وصفروا..!!
اندفعوا وهم يدركون ضعفنا وحصارنا وهواننا على العالم ليكذبوا بمنتهى الفجور وليجلدونا بمنتهى القسوة..
اختزلوا الإسلام فى الحدود وتجاهلوا أن الحدود فى الإسلام كحلقة فى فلاة..
وراحوا يعلنون الهجوم على الحدود مضمرين على الإسلام هجومهم..
الحدود همجية ووحشية وتخلف ..
يا حطب جهنم أنتم الهمج الهامج وأنتم المتوحشون وأنتم المتخلفون وأنتم السفهاء ولكن لا تعلمون ..
فى الجانب الآخر ابتلع بعض إخوتنا الطعم .. غفلوا عن أن كلاب جهنم يحاولون اختزال الإسلام فى الحدود .. فراحوا يدافعون والأوقع أن يهاجموا .. حاصروا أنفسهم فيما قدمه الخنازير من شرح للحدود وغفلوا عن واجب فضح عبيد الشيطان كلاب جهنم بتقديم الوضع الحقيقى للحدود فى الإسلام..
تقدم الأفاقون والنصابون أتباعهم من صبية زويمر وتلاميذ دنلوب وجنود كرومر.. فعلوا ما يفعله أى نصاب .. أفرغوا حقيبتنا من محتواها ودسوا فيها سمومهم ومخدراتهم الممنوعة ثم أشهدوا العالم علينا.. وعندما سألنا العالم: أليست هذه حقيبتكم ؟.. أجبنا دون أن نفطن للحيلة: بلى..
لمثل هذا المنزلق استدرج بعض إخوتنا فى دفاعهم عن الحدود وهم يتبنون وجهة نظر أعداء الإسلام فيها !!
****
والآن .. سوف أعرض لكم نموذجا باهرا فى الرحمة.. شامخا فى العدل سامقا فى الإحسان مذهلا فى كيفية احترام البشر ونصوص القانون..
سوف أعرض لكم الوجه الآخر الذى لم يعرضه المنافقون علينا حين راحوا يهاجموننا .. مصورين الأمر كما لو كان الإسلام متعطشا لإقامة الحدود ويترصد الناس فى الطرقات.. ولقد ساعدهم على ذلك للحزن والأسى نماذج معاصرة اختزلت الإسلام فى تطبيق الحدود جاهلة أو متجاهلة أن الحدود كانت تطبق فى الجاهلية .. وأنها ما تزال ..!!
إن حد الزنا مثلا مشهور.. ومشهور أكثر الصعوبات الهائلة التى تكتنف إثبات الجريمة بالشهود.. ذلك أن الشرع يشترط تواجد أربعة شهود ( يشترط تواجدهم بالصدفة) ورؤيتهم للفعل الفاضح كاملا دون أى شك واتفاق شهاداتهم حرفيا فإذا تناقضت شهادة أى واحد منهم أقيم عليهم حد القذف وبرئ الزانى.. وللقارئ أن يتخيل أننا لو حاولنا تسجيل الفعل الداعر بالصوت وبالصورة فإن كاميرات التصوير الأربعة ستختلف فى زاوية الرؤية( الشهادة)..!! لذلك ذُكر أن هذه الجريمة لم تثبت فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بالإقرار.. والإقرار أربع مرات فى أربع جلسات مختلفة لو رجع فى أى واحد منها سقط عليه الحد.. وعلى القاضى أن يبدى كراهيته للسماع.. بل وأكثر من ذلك عليه أن يلقن المعترف الإنكار..فإذا اعترف الزانى أربع مرات فإنه يمكن أن ينكر فى أى لحظة.. بل إن بعض الفقهاء يعتبرون أن محاولة الهرب أثناء لإقامة الحد رجوع عن الإقرار توجب إسقاط الحد..
أما حد السرقة فلا يقام على مفهوم السرقة الذى يتبادر لأذهان السامعين..
يعرف الإسلام السرقة بأنها : " أخذ الشيء في خفية " ولقد شدد العقوبة عليها. والحكمة في تشديد العقوبة في السرقة أنها تهدد كل فرد فى المجتمع، ولا يمكن إقامة الدليل عليها بسهولة وأنه لا يمكن درؤها بولى الأمر الصالح، كما أن اللص بطبيعته مستعد لارتكاب كل الكبائر الأخرى – كالقتل مثلا – إذا ما عاقه عن ارتكاب جريمته .. إلا أن الإسلام إذ يشدد العقوبة يضع لها محاذير هائلة تتعلق باللص وبالمال المسروق وبالمكان الذى كان فيه المال وبالضحية فإذا لم تنطبق هذه الشروط يسقط الحد ..
لابد للسرقة من صاحب مال ومال ومكان يحفظ فيه المال ..
لابد للجريمة أن تحدث خفية.. ولابد للمال أن يكون مملوكا لأحد وأن يكون صاحب المال قد اجتهد قدر فى يستطيع فى وضعه فى مكان أمين: " الحرز " ..
وربما يلخص هذا الأمر فى جلاء مثل بسيط : فإذا دخل اللص مسجدا ووجد رجلا احترز بقدر استطاعته ووضع متاعه تحت رأسه فسرقه اللص.. فإنه إذا كان الرجل نائما كانت تلك سرقة يقام فيها الحد..فإن كان مستيقظا عد اللص منتهبا ولا يقام عليه الحد بل يعزر..
ويشترط الإسلام شروطا لإثبات السرقة ويضع محاذير لإقامة الحد تجعل الإنسان فى مرحلة من مراحل عبور قناطر الشك إلى بحر اليقين يهتف بنفسه : لقد تواطأ الفقهاء كى لا يتم إقامة الحد على اللصوص والزناة (أستغفر الله العظيم)..!!..
وحتى فى هذا المفهوم الضيق للسرقة فيرى الفقهاء ألا يكون للسارق في الشيء المسروق شبهة ، فإن كانت له فيه شبهة ، فإنه لا يقام عليه الحد ، ولهذا لا يقام الحد على الأب ولا الأم بسرقة مال ابنهما، وكذلك لا يقام على الابن بسرقة مالهما ، أو مال أحدهما لأن الابن يتبسط في مال أبيه وأمه عادة ، والجد لا يقام عليه الحد ؛ لأنه أب ؛ سواء أكان من قبل الأب أم الأم ، ولا يقام الحد على أحد من الآباء والأجداد – والأبناء ، وأبناء الأبناء وأما ذوو الأرحام ، فقد قال أبو حنيفة ، والثوري : لا قطع على أحد من ذوي الرحم المحرم مثل العمة والخالة والأخت والعم والخال والأخ لأن القطع يفضى إلى قطيعة الرحم التى أمر الله بها أن توصل، ولأن لهم الحق فى دخول المنزل وهو ما يختل الحرز به.
ولا قطع على أحد الزوجين ، إذا سرق أحدهما الأخر ..
ولا يقام عليه الحد الخادم الذي يخدم سيده بنفسه ..
والضيف لا يقام عليه الحد إذا سرق لأن صاحب البيت هو الذى أذن له بالدخول فاختل الحرز ولم يعد كاملا ..بل ووصل الأمر أن بعض الفقهاء قال أنه إذا جاء اللص فى ليلة فثقب الجدار أو كسر النافذة .. ثم جاء فى الليلة التالية ودخل وسرق فلا يقام عليه الحد لأنه حين دخل فى المرة الثانية دخل مكانا مختل الحرز..
ولا يقام الحد على من سرق من بيت المال .. لأن له فيه نصيبا وذلك يورث شبهة تمنع إقامة الحد .. كذلك لو سرق من مال لشركة له فيها نصيب..
ولا يقام الحد على من سرق من المدين المماطل في السداد ، أو الجاحد للدين لأن ذلك استرداد لدينه ..
ولا قطع في سرقة العارية من يد المستعير؛ لان يد المستعير يد أمانة وليست يد مالك.
ومن غصب مالا وسرقه ، وأحرزه ، فسرقه منه سارق ؛ فقال الشافعي ، وأحمد : لا يقام عليه الحد ؟ لأنه حرز لم يرضه مالكه ..
وإذا وقعت أزمة بالناس ، وسرق أحد الأفراد طعاما لا يقام عليه الحد وقد قال عمر – رضي الله عنه - : لا قطع في عام المجاعة..
واختلفوا في الطرار (النشال)..
ويرى الشافعى أن من سرق قناديل المسجد وحصرها لا يقام عليه الحد ؛ لأن ذلك جعل لمنفعة المسلمين وللسارق فيها حق.. فهل اكتفى الإسلام بكل هذا كى يدرأ الحدود بالشبهات ..
لا .. فإن مطالبة صاحب المال بالمسروق شرط في القطع فلو وهب اللصَّ ما سرقه أو باعه قبل رفعه إلى الحاكم سقط الحد ..
فهل اكتفى الإسلام بذلك لدفع إقامة الحد؟!..
اتفق الفقهاء على أن الدار لا تكون حرزا ، إلا إذا كان بابها مغلق، واختلفوا فيما إذا اشترك اثنان في نقب دار ، فدخل أحدهما، فاخذ المتاع، وناوله الآخر وهو خارج الحرز، وهكذا إذا رمى به إليه ، فأخذه ؟ قال أبو حنيفة : لا يحد منهما أحد .
واختلفوا فيما إذا قرب الداخل المتاع إلى النقب ، وتركه ، فأدخل الخارج يده ، فأخرجه من الحرز ويرى الشافعى و أبو حنيفة أنه لا حد عليهما.
وذهب أبو حنيفة ، ومحمد ، والأوزاعي ، والثوري إلى أن عقوبة التعزير هى العقوبة الواجبة على النباش الذي يسرق أكفان الموتى لأنه ليس سارقا ، فلا يأخذ حكم السارق ، ولأنه أخذ مالا غير مملوك لأحد ؛
فالميت لا يملك ، والقبر ليس حرزا ( مكانا أمينا)..
كما أن المسلم يقام عليه الحد ، إذا سرق من الذمي ..
أما المعاهد والمستأمن ، فإنهما لا يقام عليهما الحد لو سرقا . في أصح قولي الشافعية، وعند أبي حنيفة اللذان يريان أيضا أن سارق الطفل حتى ولو سرق ما عليه من حلى لا يقام عليه الحد بل يعزر(والتعزير يبدأ بالغرامة وقد يصل بالحكم إلى الإعدام).
ويرى أبو حنيفة أنه لا حد على من سرق المصحف لأنه ليس بمال وليس ملك أحد..
ثم إن إقامة الحد لا تتم إلا بشاهدين عدلين أو بالإقرار مرتين( هذا فى السرقة أما فى الزنا فأربعة شهود أو الإقرار أربع مرات)..
وتصل العقوبة بالشاهدين إذا ثبت أنهما ( لفقا القضية) للمتهم إلى قطع أيديهما ..
ويندب للقاضي أن يلقن السارق ما يسقط الحد.
فيقول : أسرقت ؟ قل : لا.
وعن أبى بكر وعمر. الله عنهما – عن أبى الدرداء ، أن أبابكر أتى بجارية سرقت،..فقال لها : أسرقت ؟ قولي : لا . فقالت : لا. فخلى سبيلها . وعن عمر، أنه أتي برجل سرق فسأله : أسرقت ؟ قل : لا . فقال : لا. فتركه..
فهل اكتفى الإسلام بكل هذا ..
لا..
فبعد هذا كله .. إذا ادعى اللص أن ما أخذه من الحرز ملكه ، بعد قيام البينة عليه فقد أفتى أبو حنيفة والشافعى أن لا يقام عليه الحد . وسماه الشافعي : السارق الظريف!! .
***
خلافة فى المنفى.."9"!!..
أضعنا كنزا .. وأخذنا وباءً..
هل أنت مندهش أيها القارئ من مدى سماحة الإسلام وعظمته ورحمته وبهائه..
إنه يتسع حتى للمنافقين بل وللفجار ما لم يجاهروا بفجرهم..
فمهمة الحدود ليست عقابا للفرد بل حماية للمجتمع..
وهى حماية حاسمة حازمة رقيقة يستطيع أن يفلت منها معظم المجرمين..
نطمئن اللصوص إذن أن سرقة الفنادق والبنوك والقطاع العام والأموال الحكومية لا يقام عليها الحد، ولا كذلك الاستيلاء على الأراضى والعقارات والأوقاف..
****
ثم أقدم لك أيها القارئ درسا باهرا فى احترام النصوص وعدم الخروج عليها .. درس أطمع أن يدرسه ذات يوم عباد الغرب فى عالمنا الإسلامى .. بل أطمع أن يدرسه العالم..
إذ لا يؤخذ الأخرس بحد الزنا ولا بشيء من الحدود، وإن أقر به بإشارة أو كتابة أو شهدت به عليه شهود، فالكتابة قائمة مقام العبارة، والحد لا يقام بمثله، وكذلك إن شهدت الشهود عليه بذلك، لأنه لو كان ناطقاً ربما يدعي شبهة تدرأ الحد، وليس كل ما يكون في نفسه يقدر على إظهاره بالإشارة، فلو أقمنا عليه كان إقامة الحد مع تمكن الشبهة..
اقرأ أيها القارئ ولتته على العالمين فخارا بدينك ..
اقرأ أيضا أنه بعد كل هذه المحاذير فإن الزانى إن قال زنيت في حال جنوني لم يحد..
اقرأ أيضا درسا نبيلا باهرا فى احترام الرأى المخالف..
إن جمهور الفقهاء يعتبر زواج المتعة زنا .. ولكن نفس هذا الجمهور – الذى لا يقره – اعتبره شبهة تمنع إقامة الحد.. والجمهور يرى وجوب الوكيل والشهود فى الزواج .. لكن بعض الفقهاء لم يشترط ذلك .. فاعتبر عدم وجود الشهود والوكيل شبهة تسقط الحد ..!! حتى يصل الأمر ببعض الفقهاء إلى القول : " إذا وجد رجل مع امرأة لا زوج لها فإن له أن يدعي أنه تزوجها، وذلك شبهة تدرأ الحد في بعض المذاهب"..
وإذا أقر الرجل أربع مرات أنه زنى بفلانة، وقالت كذب ما زنى بي، ولا أعرفه لم يحد الرجل في قول أبي حنيفة..
****
وقد يتبادر للذهن أن الإسلام قد حاصر الزناة واللصوص وشاربى الخمر بأن أوجب عليهم الاعتراف وإلا خرجوا من الملة.. أو أنه هدد الشهود إذا نكصوا عن الشهادة ..
لكن ذلك لم يحدث ..
حدث العكس..!!
فالإسلام قد أوجب على المسلم إذا وقع في ذنب من هذه الكبائر، أن يقلع عن الذنب ويتوب إلى الله تعالى، ويستر على نفسه، ولا يفضحها بالتحدث بالذنب أمام الناس، والتجاهر بالمعصية. وقد روي عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، من أصاب شيئاً من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله تعالى..
أما الشاهد فلم يوجب عليه الشرع التقدم بشهادته بل خيّره : فهو مخير في أداء الشهادة حسبة لله تعالى وغيرة على حدوده، أو ترك الشهادة رغبة في الستر على أخيه المؤمن وعدم إشاعة الفاحشة ..
****
ولقد اتفقت كلمة العلماء على أن الجريمة التي لم يصل خبرها إلى الحاكم، لا يقام من أجلها حد، وأن الجريمة التي علم بها الحاكم، ولم تثبت لديه بالإقرار، أو بشهادة الشهود لا يقام الحد عليها فإذا رأى الحاكم الجريمة بعينيه فليس له أن يقيم الحد عليها إلا باكتمال شروط إقامة الحد وليس له أن يعتمد على ما رأى ..
واتفقت كلمة الأئمة على أن من أقر بحد من الحدود أمام الحاكم، ولم يفسره فلا يطالب بتفسيره وبيانه ولا يقام عليه الحد..
إن الحربي المستأمن في دارنا إذا أقر بالزنا أربع مرات لا يقام عليه الحد.. وإن المسلم إذا سرق الذمى أقيم عليه الحد ..
فأى عظمة وأى بهاء..
****
ولقد قال الفقهاء: أن صاحب العسس إذا شاهد فاسقا يحمل تحت ثوبه قارورة - مثلا- لم يجز له أن يكشف عنه ما لم يظهر ما تحت ثوبه بعلامة، فان فسقه لا يدل على أن الذي معه خمر إذ الفاسق محتاج إلى غير الخمر - أيضا - مما يوضع في القوارير، ولا يجوز أيضا أن يستدل بإخفائه على حرمته لأن أغراض الإخفاء لا تقتصر على الحرمة فقط..!!
فأى عظمة وأى بهاء..
****
لا ينبغي للقاضي أن يلقن الشهود ما تتم به شهادتهم في الحدود لأنه مأمور بالاحتيال لدرء الحد لا لإقامته وفي هذا احتيال لإقامة الحد فلا يكون للقاضي أن يشتغل به..
ثم إن موت الشهود أو موت أحدهم مسقط للحد.. فربما كان يرجع فى شهادته إن امتد به العمر..!!
فأى عظمة وأى بهاء..
****
عن خليد أن رجلا أتى عليا فقال: إني أصبت حدا فقال علي: سلوه ما هو؟ فلم يخبرهم، فقال علي: اضربوه حتى ينهاكم.
فأى عظمة و أى بهاء و أى تكريم للإنسان أكثر من أن يجعله الله قاضيا على نفسه فإن شاء أقر و إن شاء أنكر و إن شاء رجع عن إقراره، فإذا اعترف بما يوجب إقامة الحد لم يجز للحاكم سؤاله عن التفاصيل ووجب على القاضى أن يظهر كراهيته لسماع اعترافه بل ووجب عليه أن يلقنه إنكار ما اقترفه كى لا يقيم عليه الحد..
أى تكريم و أى عظمة وأى بهاء..
عندما رأى الفاروق عمر رضى الله عنه الرسول صلى الله عليه وسلم يصلى على زانية بعد حدها سأله فى دهشة : تصلي عليها؟ يا نبي الله وقد زنت. فقال : لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم. وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى؟..
أى تكريم وأى عظمة وأى بهاء..وأى رحمة..
فى هذا الإطار ينبثق نور الرحمة الذى يحاول المنافقون والمشركون أن يطفئوه..
فالعظمة الهائلة التى تدفع بشرا فتحت أمامه كل وسائل الهروب لكن ضميره وخوفه من الله يجعلانه يصر فى نقاء ليس له مثيل على أن يجود لله بنفسه هى قمة فى السلوك الإنسانى ندر أن يوجد لها مثيل..
ثم أن الإسلام لم يقصد الفرد بالحد .. بل لقد حاول أن يجنبه الحد بكل الوسائل .. وما حرص عليه الإسلام هو حماية المجتمع من المجاهرة بالفحشاء ..
حق لك أيها القارئ أن تتيه فخارا بدينك ..
****
هذا عرض سريع أرجو ألا يكون مخلا بقضية الحدود .. الحدود التى يعيرنا بها الصامتون عن تكسير عظام آلاف الأطفال الفلسطينيين..
الحدود التى يعيرنا بها المعجبون بحضارة من استأصلوا من الوجود شعوب وقبائل عن بكرة أبيها..
الحدود التى يعيرنا بها المستغربون الذين لا يستنكرون أبدا إجرام الحضارة الغربية التى وصفها واحد من أكبر مؤرخيهم" إرنولد توينبى" بأنها أكثر الحضارات إجراما فى التاريخ..
الحدود التى يعيرنا بها الصامتون عن التعذيب الذى يأمر به ولاة أمورنا..
ودعونى يا قراء أنقل لكم بعضا من نماذج التعذيب التى يصمت عنها أولئك الشياطين الخرس:
نعم .. أنقل لكم بعض أنماط التعذيب التى تمارس فى مصر حتى القرن الحادى والعشرين، ومذكرا إياكم أن مصر ليست هى أسوأ الدول العربية ولا الإسلامية فى مجال حقوق الإنسان، أنقل إليكم بعض - نعم: فقط بعض- نماذج التعذيب، دون شهادة شهود ودون إقرار، وفى أغلب الأحيان دون محاكمة أصلا ، ولو أن ضمائر البشر لها آذان تسمع وعيون ترى و أنوف تشم لسمعتم الآن صراخ الضحايا ولذابت أصواتكم وحياتكم فى دمائهم ودموعهم ، ولهالكم منظر المجزرة البشرية
أعرض عليكم أيها القراء نماذج التعذيب كما توردها مصادر عديدة منها تقارير المنظمة المصرية لحقوق الإنسان والصحف ، وكتب كثيرة منها كتاب قيم للصحفى النابه أيمن نور، وهو الآن عضو مجلس الشعب عن حزب الوفد.
إليكم أنماظ التعذيب يامن تتأففون من وحشية الحدود!!:
- عصب العينين والتجريد من الملابس .
- التعليق من الأيدى والتعليق فى فلكة .
- الضرب بالعصى والأسلاك الكهربائية .
- الجلد بالسياط والعصى المفتولة من الجلد .
- إجبار الضحية على الوقوف عاريا لفترات طويلة.
- سكب الماء البارد على رأس الضحية .
- إطفاء السجائر المشتعلة فى الجسم .
- الصعق بالتيار الكهربائى .
- الركل بالأقدام والضرب بقبضة اليد .
- إطلاق الكلاب المسعورة على السجناء.
- إجبار الضحية على الجلوس فوق خازوق .
- الحرمان من الغذاء والدواء.
- الإلقاء فى بيارة دورة المياه .
- التهديد باغتصاب الضحية أو ذويه.
- إسماع الضحية صراخ وعويل الضحايا الآخرين أثناء تعذيبهم لإرهابه .
-تقييد الأيدى والأرجل من الخلف وتحويل جسم الضحية إلى شكل دائرى .
-نزع الأظافر والسحل .
- النوم على البلاط دون أغطية وإغراق الزنازين والضحايا فيها بمياه المجارى .
- استخدام وسائل حادة مثل المطواة وقطع الزجاج فى إحداث الإصابة بالمتهمين .
- الكى بالنار .
- إرهاب الضحية بالثعابين الحية وإرغامهم على تقبيل عضو الذكورة للضابط القائم بالتعذيب .
- القتل العشوائى ( كما حدث فى الانتخابات السابقة) والقتل المنظم عندما يصطحب الجنود ضحاياهم إلى مزارع القصب ويطلقون عليهم الرصاص ثم يلقون بعض البنادق إلى جوارهم ويدعون أنهم إرهابيون وقد قتلوا أثناء تبادل لإطلاق الرصاص!!..
هذه هى وسائل العقاب التى لا يجرؤ على إدانتها من دعاة التنوير أحد..
أما آلات التعذيب الجهنمية فإن 99% منها يستورد من أمريكا.. زعيمة العالم الحر.. وقبلة المستنيرين..
الذين يطالعوننا على صفحات الصحف وشاشات التليفزيون يغمزون ويلمزون الإسلام والخلافة والحدود .. فيكفى دليلا على دنسهم أنهم وهم يعترضون على شرع الله فى ادعاء داعر للرحمة لم يجرءوا أبد على الاعتراض على التعذيب فى المعتقلات ولا على المئات الذين تحكم المحاكم العسكرية بإعدامهم.. قربانا للحكام.. وكلاء الغرب.. وبتهمة الإسلام..!!..
أرأيتم يا قراء: أى كنز أضعنا.. و أى وباء أخذنا..
خلافة فى المنفى.."10"!!..
التيه..!!
عندما سردت فى الحلقة الماضية بعض النماذج المروعة الرهيبة للتعذيب فى وطنى لم أفعل ذلك فضحا لقومى ولا تشهيرا ببلادى، وإنما سردته لأننا إزاء قضية أخطر بكثير.. و أهم بكثير..
أخطر من أى بلد حتى ولو كانت مصر..
وأهم من أى قوم حتى ولو كانوا العرب..
لقد سردت تلك النماذج الوحشية فى التعذيب بعد أن طرحت قضية الحدود.. ولكى أقول لكم ياقراء، أن عبيد السلاطين وعباد الشياطين وكلاب جهنم الذين لا يكفون أبدا عن الطعن فى ديننا، وعن لمز شريعتنا وفقهنا، لا يفتح الله عليهم بكلمة واحدة لإدانة وحشية التعذيب.. فعندهم.. الوحشية فيما يتعلق بالإسلام فقط..
لقد ذكرت هذه النماذج للتعذيب فى مصر.. ولكى تزداد قتامة الصورة فلابد أن نقرر أنها بين الدول العربية ليست الأسوأ فى عالم التعذيب.. هناك ما هو أسوأ.. وبكثير.. ولقد ذكرت ذلك كى ألزم عباد الشيطان والمستغربين الحجة.. فلو أن الإيذاء البدنى هو ما يعترضون عليه مطلقا لقلنا أنهم لم يفهموا مدى سمو الحدود فى الإسلام .. ولكنهم لا يعترضون على كل صنوف الإيذاء عندما تكون تطبيقا لشريعة الطواغيت.. يعترضون عليها فقط عندما تكون تطبيقا لشرع الله.. ليس الإيذاء إذن هو المرفوض بل الإسلام نفسه.. لقد بلغت أجهزة الدولة العربية العلمانية العصرية الحد الأقصى فى التعذيب.. حدا لم تبلغه الدولة العثمانية على سبيل المثال ومع ذلك فإن حكم الخلافة - وليس حكم الطواغيت - هو الذى يتلقى الاتهام والإدانة.
ثم أن أمريكا هى أكبر دولة فى العالم فى تصنيع أجهزة التعذيب، والمستورد الأول لها هو عالمنا العربى العلمانى، ومع ذلك فإن تهم الإرهاب لا تسقط إلا على رؤوس المسلمين - لا أسميهم الإسلاميين فالإسلام واحد-.
ليست سيئات الخلافة إذن ما يعترضون عليه بل إسلام الخلافة!!..
ولقد لجئوا فى ذلك إلى كل أنواع الكذب والتشهير والتشويه والادعاء والاختلاق..
لقد جندهم الغرب أو غزاهم، والأمة فى غيبوبة أو تيه..
نعم..
فالتيه لم يكن مقصورا على بنى إسرائيل..
منذ مائتى عام على الأقل وأمة لا إله إلا الله محمد رسول الله تخوض بحار التيه.. يتحرك الزمان .. لكننا ندور وندور لنعود إلى نفس النقطة فى المكان.. بعد كل مرة .. نخسر فيها كل شئ .. لنبدأ من جديد.. لنخسر كل شئ من جديد.. فقد نسينا الله فأنسانا أنفسنا وحاقت بنا الفتنة التى لا تصيب الذين ظلموا خاصة..
وفى ظلمات التيه لا ينقذنا من نخبة أبى لهب سوى نخبة أبى جهل ولا ننتقل من نخبة أبى جهل إلا لنخبة أبى لهب..
يحدثنا عن هذا التيه العلامة محمد قطب فى كتابه القيم : " هلمّ نخرج من هذا التيه!- دار الشروق- القاهرة-1994" فيقول: " كان حجم التيه هائلا جدا . . أكبر بكثير مما يتصور أكثر الناس.. ويكاد لا يوجد جانب واحد من حياة الأمة لم يتأثر بالتيه . . كأنما انقلبت فى نصف قرن أو يزيد ، أمة أخرى غير التى كانت من قبل ! انقلبت فى كل شىء . . فى تصوراتها وأفكارها ومشاعرها وأنماط سلوكها .. فى السياسة والاقتصاد والاجتماع والأخلاق والفكر والأدب والفن " . . فى كل شىء ! وكانت الأمة - ولاشك -تشعر بالانقلاب . . فقد كانت المفارقة حادة بين ما كانت عليه وماصارت إليه فى تلك الفترة القصيرة من الزمن . . ولكن الكارثة أنها-وهى فى التيه -كانت تظن أنها تنقلب إلى الأفضل ! وتنظر إلى نفسها وهى تنسلخ من دينها وتقاليدها وموروثاتها وتصوراتها ، على أنها قد بدأت - الآن - تخطو أولى خطواتها على الطريق المستقيم !."
يعود بنا العلامة محمد قطب إلى بداية الانهيار.. فهى بذاتها بداية الانبهار بالغرب.. ثم يلاحظ ملاحظة هامة.. وهى أن سبب انبهارنا بالغرب لم يكن الفارق الحضارى بيننا وبينه .. فقد كان الفارق هائلا جدا لصالح الأعداء حين التقى المسلمون مع الفرس ومع الرومان ، وهم صفر اليدين من أسباب الحضارة المادية أو يكادون . . ولكن ذلك الفارق الهائل لم يستوقفهم لحظة واحدة ليفكروا فيه ، ولا كان له فى حسهم وزن . . أى وزن !
لأول مرة فى تاريخ المسلمين ينظرون إلى أعدائهم على أنهم أعلى منهم . . لا فى مجالات العمل و " التكنولوجيا " وآلات الحرب ، فذلك ظاهر . . وسن فى الأفكار . . والنش . والعقائد.. وأنماط السلوك . . . لم يكن السبب هو الهزيمة العسكرية ، ولا فارق الحضارة المادية . .
إنما كان الخلل فى الإيمان . . فى موطن العزة والاستعلاء . .
كان السبب هو الخواء العقدى الذى وقعت فيه الأمة عدة قرون .
لذلك أدت الهزيمة العسكرية إلى الانبهار. .
وحين بدأ الانبهار . . دخلت الأمة فى التيه . .
وربما أسمح لنفسى ببعض الاختلاف مع أستاذنا الكبير العلامة محمد قطب .. وهو اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد.. اختلاف فى بعض التفاصيل لا يؤثر على المقدمات ولا على النتائج لكنه قد يكون بالغ الأثر على وسائل العلاج.. إذ أننى فقط أريد أن أقول أن الإصابة أول ما فقد ألمت بالنخبة.. النخبة السياسية والاقتصادية والثقافية والصناعية.. النخبة التى تمثل الحادى بالنسبة لأى مجتمع فهو يسير خلفها بأعين نصف مغمضة .. لا يتخيل أن تأتيه من قبلها الخيانة ولا أن تورده موارد الهلاك.. ثم أن ما يشين هذه النخبة ويدينها.. أن خطأها لم يكن خطأ من اجتهد فأخطأ.. بل من تآمر وأصر على الوصول للخطأ فنجح فى الوصول إليه.. عن طريق الخسة لا عن طريق الجهل.. فقد كان لهذا الإصرار ثمن.. نعم.. كان هذا الإصرار هو ثمن الوصول إلى مستوى النخبة الحاكمة المتحكمة أو الاستمرار فيها.. نعم.. أعترف أن المرض قد تسرب بعد ذلك إلى الأمة.. لكنه ليس أبدا بنفس درجة إصابة النخبة به.. وكانت إصابة الأمة إصابة جهل لا إصابة خسة.. نعم.. الأمة على عينها غشاوة.. ولكن ما أسهل أن تنزع هذه الغشاوة .. وذلك مكمن رعب النخبة.. وذلك سر تكريسها لكل وسائل الإعلام والإعلان والتعليم وتسليطها لكل قوى البطش لكى تحارب الإسلام ولكى تجفف منابعه.. ولنأخذ من فكرة الخلافة مجرد مثل على ذلك.. لقد حاربوا وسفهوا وسخروا من فكرة الخلافة رغم أنها فكرة رئيسية وجوهرية ومحورية فى الإسلام.. وانظروا إلى المنهج الشيطانى الذى يتبعونه: بداية فإن كتب التاريخ فى المدارس تقوم بالدور الأول فى تشويه الفكرة فى وجدان النشء ، ثم تتكفل وسائل الإعلام بعد ذلك لترسيخ التشويه والتنويع عليه.. ثم تتوالى الإصدارات الثقافية لتؤكد هذا التشويه.. إصدارات ثقافية يقوم بها مستغربون تلقوا تعليمهم فى الغرب -خاصة أمريكا - وتم غسيل أمخاخهم هناك .. فإذا ما أفلت أحد من هذا التيه الذى تدفعنا النخب إليه تكفلت به أجهزة الأمن.. ليعذبه ضباط بوليس تلقوا تدريباتهم على التعذيب فى الغرب - وخاصة أمريكا!- مستخدمين فى التعذيب آلات تعذيب مستوردة من الغرب - خاصة من أمريكا!!- فإذا أضفنا إلى هذا كله أن معظم الحكام تلقوا تدريبهم بصورة أو بأخرى فى الغرب - خاصة فى أمريكا !!!- اكتملت الدائرة واكتمل الانهيار ووضح سبب الانبهار.. إنه انبهار مصنوع.. انبهار مزيف ..
نعم .. النتيجة واحدة..
هزمت روح الأمة قبل أن تهزم جيوشها.. ثم اشتدت الهزيمة بعد أن هزمت الجيوش..
وعندما جلا الاستعمار عن بلادنا فقد جلا بثمن فادح.. سلم الحكم إلى نخب اصطنعها هو.. خمسة أو ستة آلاف فى كل دولة.. وكان يدرك أنهم سيقاتلون فى معارك حياة أو موت للاحتفاظ بتركيبة النخبة كما هى.. يتغير حاكم .. لا يهم.. تتغير وزارة.. لا يهم.. يقوم انقلاب.. أيضا لا يهم.. فاللعبة كلعبة الكراسى الموسيقية محصورة فى نفس الأشخاص والأمة مهمشة تتفرج.. ما ينطبق على الحكم ينطبق على الاقتصاد والثقافة والعسكر.. وربما بعض الشيوخ الرسميين.
هزمت أرواحنا ..
انكسرنا..
وما لم ينجح فيه الاستعمار ولا جحافل الصليبيين نجحت فيه أجهزة حكمنا الوطنية..
هزمنا من داخلنا..
وتضافرت هزائم الداخل مع هزائم الخارج فابتعدنا كثيرا عن منابعنا - التى لم ولن تجف أبدا وإن شُبّه لهم - فنسينا الولاء والبراء..
نسينا أن ولاءنا يجب أن يكون لله لا لوطن ولا لقوم ولا لملك ولا لرئيس ..
ونسينا أن براءتنا يجب أن تكون من أعداء الله..
وا لينا أعداء الله.. ولم نكن ممن وصفهم الله بأنهم أعزة على الكافرين رحماء بينهم.. بل كنا أذلة عند الكافرين أما بيننا فجبابرة..
انقسمنا شيعا وأحزابا ودولا .. وتقسم ولاؤنا بين الشرق والغرب وبين هذا وذاك..
وبرئنا من بعضنا ومن إخوتنا..
مصر أولا.. العراق أولا.. الكويت أولا.. الشام أولا..
وفى نفق التيه المظلم لم نتنبه أننا جميعنا نحتل الصف الأخير .. بينما كانت أمريكا أولا وإسرائيل أولا والغرب أولا..
ولم نتنبه.. إلى أن تلك النخبة المثقفة المنحرفة التى دستها السلطة بين صفوف الأمة متظاهرة أحيانا بالمعارضة تزلزل ديننا وعقيدتنا وهى تتظاهر بالمطالبة بحرية الفكر وما كانت تقصد سوى حرية الكفر.. وبحرية الاعتقاد وما كانت تقصد إلا حرية الإلحاد.. وراحوا يكفرون وبالله ويؤمنون بالغرب كما شاء لهم الشيطان.. إلا أنهم أدركوا أنهم رغم كل محاولاتهم لم يغيروا فى الأمة سوى قشرة لن تصمد لأى محاولة للكشف.. لذلك سنوا قانونا صارما ما أنزل الله به من سلطان.. إذ أنهم وهم يطالبون بحرية الاعتقاد.. الذى لا يقصدون به فى أمة مسلمة إلا حرية الخروج على الإسلام.. سنوا ذلك القانون الذى يحرم على المسلمين اتهام الخارجين على الإسلام بالكفر.. وفى نفس الوقت تكفلوا بالعطاء لأولئك الخارجين..
تماما كما تحرم أمريكا علينا اتهام عملائها بأنهم عملاء.. وتماما كما تجزل لهم العطاء..
أصبح الخروج على الإسلام مباحا..
و أصبح التكفير ممنوعا بإطلاق..
رغم أن كتاب الله.. القرآن الكريم.. هو أكثر كتاب فى الدنيا يتحدث عن التكفير..!!
ومن هنا كنا ندلف إلى بحور التيه..
خلافة فى المنفى.."11"!!..
الولاء و البراء
هل كان علىّ أن أوقف هذه السلسلة من المقالات مرة أخرى، كى أكتب لكم ، واليراع يرتجف بين أناملى، عما سمعته على الفور عبر الهاتف من صديق، جاءنى صوته الحزين مثقلا بالنذر:
- عندى لك خبر سيئ..!!
ورغم أن كل الأخبار التى نسمعها الآن سيئة، فيما عدا أخبار مغموسة بالدم والدموع والألم تأتى من فلسطين، رغم ذلك فقد وجف القلب، وجف القلب، وجف القلب..
وواصل الصديق حديثه:
- عادل حسين.. أصيب بنزيف فى المخ..
اكتنف القلب ذلك الإحساس المبهظ، الذى لا تعرف هل هو الألم المجرد لحادث جلل أصاب مفكرا إسلاميا عملاقا، عاش الفكر فى حياته اليومية، ومثلت حياته الفكرية سعيا دؤوبا لم يتوقف أبدا للبحث عن الحقيقة والحق والعدل والخير، ومنذ قادته الرحلة الطويلة المضنية إلى بحور الإسلام منذ أكثر من عشرين عاما وهو لم يهدأ لحظة واحدة فى سبيل نصرة الإسلام و إعلاء كلمة الله..
هل كانت تلك النار التى اشتعلت فى القلب ألما مجردا، أم كانت أيضا نار الغضب على من حاصروه الحصار تلو الحصار، لأنه يقول ربى الله. أم كانت أيضا نار المرارة وأنا أتمتم:
- هنيئا لمن باعوا كل شىء.. حتى أنفسهم.. هنيئا لأنصار أمريكا وإسرائيل.. هنيئا لأنصار سحق العراق اليوم ومصر غدا.. هنيئا لأنصار الشيطان.. هنيئا ذلك النصر البائس لمن يمارسون الخنق بدلا من الذبح.. هنيئا للطواغيت والقتلة..
وبدا لى أن مرض عادل حسين، هو موقف فكرى أكثر من كونه عارضا مرضيا..إذ كيف يجوز للمفكر، بل للإنسان فى عمومه، ألا يصاب بنزيف فى المخ إزاء كل ما يحيط بنا من نوازل هائلة وهوائل نازلة و أوطان تباع وشعوب تمتهن وتيه يدفعوننا إليه، قالبين كل الحقائق، مزورين، كى نندفع فى بحور ذلك التيه، كقطيع يتجه إلى المجزرة وهو فرح بها نشوان.
***
هل كان علىّ أن أوقف تلك السلسلة من المقالات : " خلافة فى المنفى" كى أحدثكم عن المنظومة الفكرية لعادل حسين.. أم أنه هو بذاته، وبفكره ، وبنضاله يشكل علامة رئيسية فى ذات الطريق.. طريق السعى للدفاع عن الإسلام وتوحيد المسلمين.. كما أنه يمثل نموذجا معاصرا فذا للولاء والبراء حين اكتشف بعد تيه أن الولاء يكون لله وحده و أن البراء يكون مما يبغضه الله حتى لو مالت أهواؤنا إليه.. ولست أنسى حديثه لى ذات يوم أن طريقه كان داميا.. و أن الانتقال من منهج فكرى إلى منهج آخر أقسى من السلخ..
ما كان علىّ أن أوقف سلسلة المقالات إذن .. فبداية المقال بالحديث عن عادل حسين إنما هى فى صلب الموضوع..
***
نعم..
الولاء والبراء..
الولاء لله.. والبراءة من كل ما يغضب الله..
ذلك أساس لا يمكن بدونه تحقيق وحدة أو قوة أو خلافة أو انتصار..
الولاء والبراء اللذان لا ينعقدان إلا أساس القرآن والسنة فقط..
ليس للنظام العالمى الجديد دخل فى ذلك ولا لقرارات الأمم المتحدة!!..
بالولاء والبراء نتخلص من أصنام الفكر.. والتحزب والتشيع والتفرق.. فمن كان مؤمنا وجبت موالاته من أى أرض أو جنس أو لغة كان.. ومن كان كافرا وجبت معاداته من أى صنف كان.. وليس لمؤمن أن يعلق الولاء والبراء على أسماء مبتدعة سموْها ما أنزل الله بها من سلطان.. لا الأحزاب ولا المذاهب ولا النظم ولا الأفكار ولا الفلسفات بل فقط.. الولاء لما يحبه الله ورسوله والبراء مما يبغضه الله ورسوله..
قال تعالى:
" لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله فى شىء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه و إلى الله المصير". آل عمران 28
وقال عز من قائل:
" لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم".. المجادلة 22.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسيره لتلك الآية :
(أخبر الله أنك لا تجد مؤمنا يواد المحادين لله ورسوله ، فإن نفس الإيمان ينافي موادته كما ينفي أحد الضدين الآخر، فإذا وجد الإيمان انتفى ضده وهو موالاة أعداء الله . فإذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه كان ذلك دليلا على أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب )..
ولقد حرص أعداء الإسلام على إضعاف مفهوم الولاء والبراء في حياة إلأمة الإسلامية ، وبعث قيم جديدة يعقد على أساسها الولاء والبراء لتكون بديلا عن الإسلام فظهرت دعوات القومية والوطنية والإنسانية والاشتراكية والشيوعية والرأسمالية و .. و .. و.. حتى يتذبذب المسلم بين ولائه لدينه وبين ولائه لهذه المفاهيم الجديدة ويذهب تميزه بإسلامه واستعلائه بعقيدته ليسقط فريسة الغزو الفكري والحضارى والعسكرى فلا يبقى منه إلا مسخ مشوه لا يصلح فى حراسة الدين ولا في سياسة الدنيا.
ولم يكن غريبا أن تؤتي هذه الدعوات الخبيثة أكلها في تمزيق دولة الخلافة، فتنشأ حركة التتريك في تركيا والقومية العربية والبلقانية والفرعونية والبربر و .. و .. وهي حركات تنقل الولاء والبراء من مستواها الإلهى إلى مستوى بشرى أو شيطانى.
نعم .. فى بحور التيه هُزمت أرواحنا قبل أن تهزم جيوشنا..
لم يكن لأرواحنا أن تهزم أبدا لو كنا نفعل كما فعل أسلافنا الصالحون..
لو لم نتخل عن الولاء لله..
يورد الدكتور صلاح الصاوى فى كتابه : " تحكيم الشريعة وصلته بأصل الدين- دار الإعلام الدولى القاهرة - 1994- نماذج رائعة من أسلافنا الذين زخرت حياتهم بالصحائف المشرفة والمواقف الخالدة التي علمت البشرية كيف ينتصر الولاء للإسلام على كل ما حفلت به الدنيا من الجواذب والمغريات .
فهذا هو الصحابى الجليل كعب بن مالك وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا يهجره النبي صلى الله عليه وسلم، ويأمر بهجره ، ويعيش بين المسلمين على الحال التي وصفها الله في القرآن ( حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ). ثم يأتيه في غمرة هذه المحنة كتاب من ملك غسان يدعو فيه إلى أن يلحق به ليواسيه ويرفع عنه ما يكابده من هوان وضيعة، فما كان من الصحابي الجليل إلا أن أحرق هذه الرسالة في التنور، وقال : وهذه أيضا من البلاء! !..
وهذا الصحابى الجليل أبو عبيدة - رضي الله عنه - يقتل أباه يوم بدر لما استحب الكفر على الإيمان ، ولم تمنعه صلة الأبوة من أن ينتصر منه لله ولرسوله وللمؤمنين ..
وهذا هو الصحابى الجليل مصعب بن عمير يمر يوم بدر على نفر من الصحابة يأسرون أخاه عزيربن عمير فيقول لهم شدوا وثاقه جيدا فإن أمه غنية، ويبادره أخوه متعجبا : "أهذه وصاتك بي " فيقول : إنهم إخوتي دونك ! !
وهذا هو الصحابي الجليل زيد بن الدثنة بعد أسره في حادثة الرجيع يشتريه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف ، ويقدم هذا الصحابي الجليل إلى القتل صابرا محتسبا، فيبادره أبو سفيان بن حرب بهذا السؤال : أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدا عندنا الآن في مكانك تضرب عنقه وأنك في أهلك . قان زيد : (والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي).
وهذا هو الصحابى الجليل عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول يأتي إذ يأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد قال أبوه قولته الفاجرة : "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز الأذل " . ويعرض على النبي صلى الله عليه وسلم ، أن يأمره فيأتيه برأس أبيه إن كان مزمعا قتله ! ويقف على باب المدينة شاهرا سيفه ليمنع أباه من دخول المدينة حتى يعلم من هو الأعز ومن هو الأذل، ولم يمكنه من الدخول حتى جاء إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
***
يواجهنا العلمانيون فى بلادنا - وهم مجوس هذه الأمة - بعقل تالف وصبر نافد وذاكرة تنزف وضمير زُيِّف.. فإذا ما تحدثنا عن الولاء والبراء وعن الحل الإسلامى أو عن ضرورة عودة الخلافة ولو فى المنفى أو عن قداسة اسم الله سبحانه وتعالى وجلال قرآنه وتنزه رسوله e عن عبثهم، تعالت أصواتهم بالاستنكار كسرت لنا الأقلام ونزعت منا الصحف ..
نعم.. صك المستغربون لنا مصطلحات وأعطوها قيمة مطلقة، فمن حقك مثلا تناول الدين والمقدسات بموضوعية، والموضوعية هنا تعنى نزع أى رؤى سابقة، ولكنك إذا حاولت أن تتناول مصطلح "الموضوعية" نفسه بموضوعية تجابه على الفور بأقسى وأقصى هجوم، فالمصطلح فى منظورهم كتلة صواب مطلق لا تقبل التجزئة، لقد رفضوا أن يحتل الدين هذه المرتبة التى منحوها لمصطلحهم، حتى أننى أعرِّف -أحيانا- الموضوعية بسخرية قائلا: الموضوعية هى تناول أى موضوع دون استشهاد بآية من القرآن الكريم أو حديث نبوى شريف!!.
المصطلح ككل ما هو دنيوى يحتاج إلى مواجهة. فهو إن كان يصلح فى العلوم الطبيعية والفيزياء لا يصلح على الإطلاق فى النظرة الشاملة الكلية، وحتى فى الفيزياء، فإن القوانين الفيزيائية التى تنطبق على الأجرام الصغرى - كالذرات - لا تنطبق على الأجرام الكبرى - كالمجرات- . لكن المستغربين والعلمانيين يريدون أن تكون الموضوعية صنما مقدسا لا يمس، وهو يعنى بالضرورة استبعاد كل ما لا يمكن تجربته، وبهذا يكون الغيب كله مقصيا ومستبعدا من أى حساب. الجزء الأكبر والأهم من الوجود يستبعد فهل فى ذلك أى موضوعية؟!.
تستلزم الموضوعية أيضا الحياد، والحياد أسطورة لا يمكن تحققها إلا بقد ما يمكن أن تتشابه بصمات إصبعين!!.. الإنسان موقف.. والموقف انحياز.. والحياد -مثلا- بين الخير والشر وبين الخطأ والصواب وبين الإيمان والكفر وبين الله والشيطان.. وتمييع موقف الولاء والبراء حتى التلاشى .. كل ذلك ليس موقفا موضوعيا ولا صحيحا.. ليس بمصطلحاتنا سوى نفاق..!!..
***
لا أملك فى إلا أن أدعوكم للدعاء معى لعادل حسين بالشفاء..
ذلك الذى عرف معنى الولاء والبراء فصدق الله نيته وعزمه..
وهاهو ذا.. يوشك أن يكون شهيدا لأعظم معركة خاضها فى حياته..
معركة الدفاع عن قداسة لا إله إلا الله.. وعن القرآن والرسول e والتى سموها زورا معركة الوليمة..
تلك المعركة التى حاولوا من حينها قتله بالخنق.. قصفوا قلمه و أغلقوا صحيفته وجمدوا حزبه وحاصروا فكره وزيفوا عنه الأقاويل.. حولوه إلى المدعى العام الاشتراكى و إلى النيابة وعشرات المحاكم و إلى لجان خلف لجان .. ظلمات خلفها ظلمات.. وارتفع ضغط الدم فانفجر فى المخ النزيف..
وهاهم أولئك يوشكون على النجاح..
لكن إلى حين .. فموعدنا قريب..
خلافة فى المنفى 12
هل الشيطان مؤمن..؟!
يا قراء .. يا أمة..
إن الواحد منكم يحرص أشد الحرص كى لا يأخذ من السوق عملة ورقية مزيفة مغشوشة.. حتى لو كانت قيمتها عشرة دولارات..فإن كانت مائة فإن الحرص يزداد.. فإن كانت مليونا تحول الحرص إ لى حرص كامل ومطلق..
تضاعف هذا الحرص إن كنت تأخذ هذا المال لتسافر به إلى بلاد غريبة ليس لك فيها أهل ولا أصحاب ولا ينفعك فيها سوى ما فى جيبك من مال..
ثم إن كل كنوز الدنيا لن تنفعكم سوى بضعة عشرات من الأعوام بعدها لن يأخذ أحد منكم دولارا إلي قبره.
أفلا يستحق إيمانكم بعض هذا الحرص كى لا يكون مزيفا مغشوشا منقوصا؟..
إيمانكم.. العملة الوحيدة التى تنفعكم ليس لعشرة أعوام أو مائة عام أو حتى ألف عام..
بل هو الخلد أبد الآبدين.. فإما جنة أبدا و إما نار أبدا..
***
أليس من العجيب أنهم فى الغرب يمارسون نوعا من الولاء والبراء الذى غفلنا عنه وضللنا؟! ولاؤهم لبعضهم حتى ولو كانوا على باطل وبراءتهم من أعدائهم حتى ولو كانوا على حق.
أرأيتم إلى كلينتون وهو يزور اليونان فيقابلونه بالمظاهرات الصاخبة الغاضبة ويقذفونه بالبيض الفاسد؟ فلماذا؟؟ لأنهم اعتبروه مسئولا عن الغارات التى شنها الناتو على صربيا التى لا يجمعها باليونان سوى الإرثوزكسية.
أرأيتم لى اليهود وولاءهم لبعضهم ونصرهم لكل يهودى فى العالم أينما كان وبراءتهم بل عداوتهم لكل من يسئ إلى يهودى فى العالم أينما كان وأيما كان..
من للمسلم الآن حتى داخل وطنه؟..
لمن ولاؤه ومن يحمل له الولاء؟..
فى كتاب الولاء والبراء فى الإسلام: محمد بن سعيد القحطانى دار الرشاد يقول المؤلف: " قرر العلماء أنه ليس فى كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من الولاء والبراء بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده".
بمثل هذا اليقين انتصر أسلافنا..
***
فى موقعة اليرموك حين كان المسلمون أربعين ألفا يواجهون مائة وأربعين ألف من الروم … وهجمت جحافل الجيش الجرار على المسلمين فزلزلوا زلزالا شديدا وارتدوا عن مواقعهم …
وهنا تقدم عكرمة بن أبى جهل وصرخ مناديا قومه : "من يبايع على الموت" … فبايعه أربعمائة جاهدوا فى الله حق الجهاد فانقلبت بدايات الهزيمة إلى نصر حاسم أبيدت فيه الغالبية العظمى من جند الفرنجة وفقد المسلمون ثلاثة آلاف شهيد منهم عكرمة، وانسحب هرقل الروم قائلا قولة سجلها التاريخ : " عليك يا سوريا السلام ، سلاما لا لقاء بعده "…
بمثل هذا الإيمان واليقين والتوحيد كانوا ينتصرون ويسودون الدنيا..
كانوا بشرا مثلنا…لهم الطموح والخطايا والنبل والحقد والغيرة والفروسية والضعف لكنهم بشر وليسوا شياطين خرس.. ففى سنة 55 هجرية كان عقبة بن نافع قد أسس مدينة القيروان وبدأ يعد العدة للخروج إلى الغزو الواسع الكبير ليدين المغرب كله للراية العربية الإسلامية. لكن معاوية عزله وولى مكانه المهاجر بن أبى دينار وهو أحد موالى والى مصر حينذاك، والذى كان قد أمره أن يهين عقبة حتى أنه حبسه قيده بالحديد. وواصل المهاجر بن دينار فتوحاته فى أفريقيا بنجاح واستطاع استمالة أعداد هائلة من البربر حيث أسلم أميرهم كسيلة الذى أصبح من المقربين من المهاجر بن أبى دينار وأسلم معظم قومه وشاركوا المسلمين فى حرب الروم. وفى سنة 60 هجرية أعيد عقبة بن نافع إلى موقعة بعد عزلوا غريمه و أوعزوا له أن يقتص مما فعله أبو المهاجر به، و أسرف عقبة فى الانتقام حيث أمر بتكبيل أبى المهاجر بالحديد و أن يكون برفقته على الدوام. وهنا تتبدى العظمة السابغة، فإن المكبل بالحديد أخذ ينصح عقبة بن نافع فيما فيه صالح الإسلام والمسلمين، أخذ ينصحه بأن يتألف قلب كسيلة حرصا على تحالفه، لكن عقبة لم يسمع له و أخذ يسىء معاملة كسيلة، ونسى أبو المهاجر ما هو فيه، ونسى صداقته لكسيلة، تذكر فقط صالح الإسلام والمسلمين، فتوسل إلى عقبة أن يحبس صديقه كسيلة لأنه يرى نيته على الغدر بعد أن أسيئت معاملته، ومرة أخرى لم يسمع عقبة، وصدقت ظنون أبى المهاجر فهرب كسيلة وارتد عن الإسلام، وواصل عقبة بن نافع انتصاراته الباهرة حتى وصل إلى شاطئ المحيط ووقف بعد أن خاض فرسه فى الماء قائلا: يا رب، لولا هذا البحر لمضيت فى البلاد مجاهدا فى سبيلك، وفى أثناء عودته، أمر أصحابه أن يسبقوه بمعظم الجيش ثقة منه بما نال من العدو و أنه لم يبق أحد يخشاه.وفى الطريق، وكان معه خمسة آلاف من بقية جنده، وكان أبو المهاجر ما يزال فى صحبته موثقا بالحديد، وقع الجميع فى كمين من كسيلة وقومه حيث جمع لهم جيشا من خمسين ألف مقاتل .و طلب أبو المهاجر فك وثاقه كى يقاتل دفاعا عن الإسلام والمسلمين، و أمر عقبة بفك وثاقه، وهنا دارت أغرب مجادلة يمكن أن تحدث خلال التاريخ كله، فقد راح العدوان اللدودان يتنافسان لا على من ينجو بل على من يستشهد، أمره عقبة أن يلحق بالجيش و أن يتولى قيادته و أن يتركه هو ليواجه كسيلة وقومه حتى يغتنم الشهادة، لكن المهاجر أبى، قال له أنه هو القائد وأن الجيش بدونه يمكن أن يتفتت، طلب منه هو أن يلحق بالجيش على أن يبقى هو فى فريق من الجند يبايعون على الاستشهاد كى يعطلوا كسيلة عن تعقب عقبة بن نافع، أصر على أن يستشهد هو دونه، ورفض عقبة مكررا أنه منذ خرج فى سبيل الله كان يطلب الشهادة وقد حان أوانها، و أصر كل من الرجلين على موقفه، ارصدوا هنا النبل حتى أقصاه، لقد أصر كل من الرجلين على موقفه، وفى النهاية قررا خوض المعركة جنبا إلى جنب، وخاضاها مع من معهما من الجيش فاستشهدا واستشهد الجيش كله.. لم ينج إلا واحد …!!
كانت كل الخلافات تقف عندما يتعلق الأمر بالإسلام والمسلمين.
هكذا كان الإيمان والتوحيد والولاء والبراء وبمثله كانوا ينتصرون..
***
نعم.. إن الولاء والبراء من لوازم كلمة التوحيد، و إن الشرك والكفر والردة والنفاق من نواقض الإسلام.
إن لا إله إلا الله ولاء وبراء ، نفى و إثبات، ولاء لله ولدينه وكتابه وسنة نبيه وعباده الصالحين، وبراءة من كل طاغوت عبد من دون الله.
وفى كتاب الإيمان: الدكتور محمد نعيم ياسين- دار الفرقان للنشر والتوزيع يصف المؤلف التوحيد بأنه أول الدين و آخره، وباطنه وظاهره، ومن أجله خلقت الخليقة.
والإيمان بالله يتضمن توحيده فى ثلاثة: ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته..
الإيمان بالربوبية هى الإيمان بأن الله هو خالق كل شئ ، أما الإيمان بالألوهية فهو يعنى أن الإله هو المألوه ( أى المعبود ) ولا أحد سواه، والعبادة فى اللغة هى كمال الحب مع كمال الخضوع.
ان المشركين يؤمنون أن الله هو خالق السماء والأرض ولكنهم يعبدون غيره..
فهل كانوا مؤمنين؟!
إن الشهادة بأن: لا إله إلا الله تعنى كل معانى التوحيد من الإيمان بالربوبية والإيمان بالألوهية والإيمان بالأسماء والصفات.
ومن هنا ندرك أن الإيمان بالربوبية ( الخالق) دون الإيمان بالألوهية ( المعبود وحده ) لا يعنى سوى الشرك بالله سبحانه وتعالى
إن عدم فهم المدلول الحقيقى لمعنى التوحيد هو الذى يوقعنا فى هذه المشكلة، حتى صار من يقر بالربوبية دون الألوهية مؤمنا عند كثير من الناس، ولو صح هذا الكلام- لا صح -لكان الشيطان نفسه ولظل من أوائل المؤمنين، ولكان المشركون أيضا مؤمنين، فأولئك جميعا يؤمنون بربوبية خالق السماوات والأرض لكنهم لا يؤمنون بألوهيته : بمعنى ضرورة عبادته.
أما كون لا إله إلا الله ولاء وبراء، توحيد ألوهية وربوبية وعبادة، فهذه معان لا تخطر على بال الكثيرين، وتوقعهم بين براثن الكفر وهم لا يشعرون.
أليست كارثة أن عامة الناس - بل وخاصتهم - تزن إيمانها الآن بموازين الغرب وطابوره الخامس فينا من شيوعيين وعلمانيين وصليبيين؟..
هم الذين يحددون لنا معنى إيماننا، ما هو المسموح به وما هو غير المسموح؟ ما هو الجهاد وما هو الإرهاب.. و.. و.. و..
وبالرغم من شذوذ إجاباتهم فما زالت تخدع الكثيرين منا.. ومن هذه الإجابات أن شهداء فلسطين إرهابيين و أن إجرام وفجور اليهود دفاع مباح عن النفس.
لماذا ابتعدنا عن مرافئنا..
فهم الإيمان على حقيقته كان كفيلا بإنقاذنا من التيه الذى ما نزال فيه..
فهم الإيمان والتوحيد بعناصره الثلاثة كان كفيلا بأن يجعلنا ندرك أن الإنسان لا يمكن أن يكوم مسلما وعلمانيا فغى نفس الوقت.
قال تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ( النساء 65).
يقول ابن كثير فى تفسيرها: " يقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم فى جميع الأمور فما حكم به فهو الحق الذى يجب الانقياد له وباطنا وظاهرا (..) وينقادون له فى الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة كما ورد فى الحديث : " والذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به".
***
والآن.. آن لنا أن نعود إلى البداية.. إلى بداية هذه المقالات " خلافة فى المنفى"..
وهنا يجب أن أعاتب نفسى و أن أعاتبكم يا قراء.. وأن أعاتب كل المثقفين و أن أدين أجهزة إعلامنا وتعليمنا وثقافتنا..
ذلك أننى لجأت إلى هذه المقدمة الطويلة التى استغرقت ثلاثة شهور كى أمهّدكم لما أريد قوله..
كى لا تزورّوا عنى..
احتجت أن أقول لكم أن مفهومنا القاصر عن الإيمان قد يعنى أن الشيطان مؤمن!!
استعرضت أمامكم التاريخ وقارنت الوباء الذى أخذناه والكنز الذى أضعناه كى أستطيع الآن أن أقول لكم أن الخلافة هى أرقى أنواع الحكم..
كان يجب أن تكون تلك بديهية عند أى مسلم وعند كل مسلم..
لكن الغزو الفكرىّ لذى دنس عقولنا جعل الغالبية العظمى منا تقابل مثل هذه الحقيقة البديهية باستنكار واستهجان..
احتجت لأن أتوسل إليكم بكل المقالات السابقة كى لا ترفضوا مقالاتى اللاحقة والتى أتحدث فيها عن ضرورة عودة الخلافة..
فليس من منجاة لنا من التيه سواها..
..
خلافة فى المنفى13
مالَنا وفلسطين..!!
***
من المؤكد أننى لم أمت قبل ذلك أبدا.. فما هى إلا ميتة واحدة نبعث بعدها فلا نموت أبدا.. لم أمت .. وبالرغم من ذلك فيخيل إلىّ أن وقع تلك العبارة التى سمعتها لا يقل قسوة عن الموت..
من المؤكد أننى لم أصب قبل الآن بنزيف فى المخ.. ولا اخترقت حشايا فؤادى شظية مزقته.. وبالرغم من ذلك فيخيل إلىّ أن ما عانيته من ألم تلك العبارة ليس أقل..
كالطعنة الغادرة جاءت العبارة:
" ووجه بيريز حديثه إلى الفلسطينيين معلقا على قرارات مؤتمر القمة قائلا: انفضوا أيديكم من العرب.. واعلموا أن الإسرائيليين أقرب إليكم منهم"..
***
لا أريد أن أعلق الآن يا قراء على أحداث مؤتمر القمة.. يكفينى صحيفة أغلقوها عندما جهرت بالحق الخالص.. لكننى أقول لكم أن العار الذى يجللنى – ويجللكم أنتم أيضا يا قراء- قد منعنى من الصراخ عندما سمعت عبارة ذلك الشيطان لأقول له : أنت كاذب..
هل يجرؤ منكم أنتم أحد يا قراء أن يقولها له؟..
نكئوا الجرح الذى لم يندمل.. وانصب ذوب الرصاص المنصهر على القلب مع اهتياج الذكرى.. كان ذلك بعد هزيمة 67 .. كانوا فى غزة.. كان أعداء الله اليهود – ولا أقول الصهاينة – (فهكذا سماهم القرآن) قد انفردوا بإخوتنا الفلسطينيين.. وراحوا يسومونهم سوء العذاب ولا أحد فى عالمنا العربى مترامى الأطراف يتحرك.. وانطلقت مظاهرة حاشدة تهتف بهتاف واحد:
- يا وحدنا..
آآآآآآآآآآآآه..
الآن أيضا: يا وحدكم..!!
***
وكالسيل.. عندما يجد مجراه مسدودا بالعوائق فإنه يهدر كالطوفان فى أماكن أخرى.. أماكن شاذة لم يكن له أن يصل إليها وليصبح سر الحياة سبب فنائها..
وهكذا.. عندما منعتنى العوائق من التعليق على مؤتمر القمة وجدت الطوفان يفور كنزيف فى القلب:
- ما لنا وفلسطين.. ما لنا وفلسطين.. ما لنا وفلسطين؟!..
***
لا .. لم أجن بعد يا قراء و إن كان كل ما حولنا يدفع للجنون..
لكن.. لماذا ندين مؤتمر القمة؟.. لماذا نغضب منه كل هذا الغضب وتصيبنا قراراته بكل هذه الحسرات وخيبات الأمل؟!..
لماذا نكلف الأشياء ضد طباعها ولماذا نتطلب فى الماء جذوة نار..؟!..
ولماذا نزرع الشوك ونحزن عندما لا يثمر فاكهة وأبا؟!..
***
ما هى المرجعية التى نحاسب عليها مؤتمر القمة لنحدد إن كان قد أخطأ أم أصاب؟..
ما هو نموذج الإجابات الصحيحة التى نراجع عليها قراراته لنعلم إن كان قد نجح أم رسب؟..
هل هى مرجعية الدولة القطرية؟ أم مرجعية القومية العربية ؟ أم مرجعية الإسلام والخلافة؟؟..
فإن كانت مرجعيتنا هى الدولة القطرية فما لنا وفلسطين؟!
نعم .. إن كانت مرجعيتنا هى الدولة القطرية فإن الوشائج التى تربطنا بالفلسطينيين لا تتجاوز تلك التى ربطتنا ذات يوم بالهنود الحمر.
(دعونا الآن من أن مرجعيتنا دون الدولة القطرية بكثير..)
و إن كانت مرجعيتنا هى القومية العربية فلماذا نندهش عندما تسقط دعاوانا ودعاوى القومية فى الدنيا كلها تسقط أو سقطت تحت معاول محو التمايز وطمس الهوية إضافة إلى القصور الكامن فى الفكرة..
لماذا لا نصدق طه حسين وسلامة موسى و أحمد لطفى السيد وعلى عبد الرازق وموجات الحداثة التى تلطمنا لنقتنع أن ما يربط مصر – على سبيل المثال بالغرب أكثر مما يربطها بالشرق؟!..
لماذا نتعسف فنلبس الدول القطرية ثوب القومية الذى بلى وضاق. لماذا نرغم هذه الدولة أو تلك على اعتناق رؤانا.. ولماذا لا نتركها على اقتناعها بأن مصلحتها فى العلاقة مع أمريكا ولو ضد العرب؟!..
***
فى كتاب: أخطاء يجب أن تصحح فى التاريخ : الدكتور جمال عبد الهادى و آخرين – دار الوفاء- المنصورة-مصر يقول المؤلفون:
لقد عقد اليهود مؤتمرهم فى عام 1897 فى مدينة بال بسويسرا بناء على طلب تيودور هرتزل النمساوى اليهودى . وكانت القرارات ومنها إنشاء دولة يهودية فى فلسطين تجمع شتات اليهود من أنحاء العالم .. وقد عرض هرتزل على السلطان عبد الحميد الثانى أن يصدر فرمانا بالسماح لليهود الأجانب بالهجرة إلى فلسطين ، والتوطن فيها، وأن يدفع ، اليهود عند صدور الفرمان مبلغا كبيرا من المال ، ثم يقومون بعد ذلك بدفع جزية سنوية للدولة. وجاء الرد على لسان السلطان عبد الحميد: انصحوا هرتزل بألا يتخذ خطوات جدية فى هذا الموضوع، إنى لا أستطيع أن تخلى عن شبر واحد من فلسطين فهى ليست ملك يمينى بل ملك شعبى. لقد ناضل شعبى فى سبيل هذه الأرض ، ورواها بدمه ، فليحتفظ اليهود بملايينهم . وإذا مزقت إمبراطوريتى يوما فإنهم يستطيعون أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن . أما وأنا حى فإن عمل المبضع فى بدنى لأهون على من أن أرى فلسطين قد بترت من إمبراطوريتى . وهذا أمر لا يكون . إننى لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة). وجاء اليوم الذى يتخذ فيه الخونة قرارا بعزل السلطان عبد الحميد الثانى عن العرش وقد حمل إليه قرار العزل وفد من ثلاثة أعضاء كان أحدهم يهوديا اسمه (قره صو) أفندى الذى يكن العداوة والبغضاء للسلطان ، لأن الأخير كان قد طرده من قصره حين حاول التأثير عليه لقبول تهجير اليهود إلى فلسين وتوطينهم فيها.
نعم.. خلع سلطان الدولة العثمانية وخليفة المسلمين أحد أبناء اليهود الذين حرم عليهم فلسطين.
***
إننى أدرك أن الدولة العثمانية لم تكن فى معظم أحوالها – وليس كلها – إلا صورة مشوهة للخلافة.. ومع ذلك فإن هذه الصورة المشوهة استطاعت الحفاظ على فلسطين ليضيعها بعد ذلك صناديد القومية العربية بصورتها الأصيلة.. وبلا ثمن!!
***
فى الكتاب القيم: مفهوم الدولة: عبد الله العروى: المركز الثقافى العربى- الدار البيضاء يقول المؤلف:
" تعاقبت على الرقعة الجغرافية التي تكون اليوم الوطن العربي دول متعددة ، تختلف الواحدة عن الأخرى إما بالانتماء المذهبى أو القبلي أو العرقي . فنقول الدولة العربية ، الدولة الفاطمية ، دولة الخوارج ، دولة الملثمين . . . الخ . تعني الكلمة هنا الجماعة المستقلة بالسلطة المستأثرة بالخيرات وتعني في نفس الوقت الامتداد الزمني لتلك الاستفادة. لنرتفع إلى مستوى التجريد ، فنتكلم عن الدولة إطلاقا ، أى عن الشكل العام لتنظيم السلطة العليا في جميع الدول المذكورة . تنتفي الصفات العرضية ، المذهبية والقبلية والجنسية، باستثناء صفة واحدة هي الصفة الإسلامية ".
***
ألا ترون يا قراء أننا فى أقطارنا الآن قد استبعدنا الأصيل واستبقينا العارض؟..
فلماذا نلوم على مؤتمر القمة إذن.. ومالنا وفلسطين..؟!..
***
فى إيجاز معجز وإعجاز مذهل يتحدث ابن خلدون عن ثلاثة أنماط من الحكم:
- النوع الأول: الملك الطبيعي وهو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة .
- النوع الثانى: الملك السياسي وهو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار. ثم يعود ابن خلدون ليقسم هذا النوع من الحكم إلى قسمين: نوع يهدف إلى مراعاة الصالح على العموم ونوع ثان يهدف إلى مصلحة السلطان فقط.
- النوع الثالث: الخلافة وهي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به.
***
النوع الأول الذى ذكره ابن خلدون هو السائد فى جل العالم الإسلامى، حكم القهر والتسلط والجبروت والهوى، فما أضيعنا إذن إذا حكمنا بمرجعية هذا الحكم على قرارات مؤتمر القمة، وما أضيعنا إذا طلبنا ممن كانت مرجعيته تلك أن يناصر فلسطين أو العراق أو السودان أو الشيشان !! هذا الصنف لن يناصر إلا نفسه، ومواجهته بالمنطق تسفيه للمنطق لأن الهوى لا المنطق مبدؤه ومنتهاه.
النوع الثانى بقسميه: الذى يهدف إلى مصلحة الدولة والذى يهدف إلى مصلحة الحاكم فقط، وهو أيضا لا يصلح لإدانة قرارات مؤتمر القمة، إن قريشا أدرى بشعابها، وكذلك مصر والعراق والمغرب والكويت، وليس ثمة مرجعية مجردة يمكن أن نقيس عليها، ولا أن ندين هذه الدولة أو تلك إن اختارت مصالحها مع أمريكا و إسرائيل ضد العرب والمسلمين.
النوع الثالث: هو المهجور، هو الذى لا يكف ولاة أمورنا عن إقناعنا أنه هو الإرهاب والظلامية والتحجر والجمود والقرون الوسطى ومحاكم التفتيش. وليس صدفة بالطبع، أن هذا النوع من الحكم هو الذى يمكننا من أن نحاسب ولاة أمورنا، وهو الذى لا نستطيع معه أبدا أن نقول : ما لنا وفلسطين، ففلسطين الأرض ليست وطنا، ولا مصر ولا السودان ولا الشيشان ولا الكويت ولا العراق، الإسلام هو الوطن، وعلى كل مسلم أن يدافع عنه، بنفس المسئولية ونفس الحمية ونفس الإثم إن لم يفعل.
***
يوضح محمد عبد الله العروى أن ما يفصل الملك عن الخلافة ليس تطبيق الشرع بل الهدف المتوخى من ذلك التطبيق . قد يجدد حاكم ما معالم الشرع لأسباب سياسية عقلية ، ليحفظ الأمن ويشجع على العمل والإنتاج ، وبالتالي ليزيد في عمر دولته ، في حين أن الخلافة هى تطبيق الشرع لتحقيق مقاصده وليست تلك المقاصد إلا مكارم الأخلاق . لا يكفى أن نقول : هدف الشرع هو المصلحة ، حتى لو فهمنا منها مصلحة العموم ، أى زيادة الخيرات وتقدم العلوم واستدامة السلم والأمن . يقول ابن رشد ، الفقيه المالكى: إن الشرع اعلى من الناموس العقلي ، ويصرح ابن خلدون : " وما كان منه بمقتضى السياسة وأحكامها فمذموم أيضا لأنه نظر بغير نور الله . . لان الشارع أعلم بمصالح الكافة فيما هو مغيب عنهم من أمور آخرتهم . ) يعني هذا الكلام وهو كلام الفقهاء جميعا أن الدولة السلطانية التي تطبق الشرع حرفيا ليست خلافة لأنها تهدف من وراء ذلك التطبيق إلى الراحة والاستقرار ، أى إلى غاية دنيوية . أما الخلافة فهى الحكم الذي يهدف من وراء المصلحة الدنيوية المحققة إلى مقصد الشريعة . إلى ما يسميه الفقهاء وغيرهم مكارم الأخلاق. لا يكون الحكم خلافة إلا إذا نظر إلى ذاته كأداة في خدمة هدف أعلى ، لا تكون الدولة خلافة إلا إذا جاوزت أهدافها الذاتية . عندئذ قد يكون الجهاد علامة على ذلك التجاوز وقد لا يكون . إذا كان الهدف منه هو التوسع فهو داخل في سياسة الدولة لا اكثر ولا اقل و إذا كان الهدف منه هو إعلاء كلمة الله فقد يدل على إحياء الخلافة ، بشرط أن تكون كلمة الله هي العليا في الداخل قبل التوجه إلى الخارج .
***
بمثل هذا الحكم نستطيع أن نقوم اعوجاج ولاة أمورنا بأقلامنا وبسيوفنا إن لزم الأمر.. بمثل هذا الحكم نستطيع أن نرد على بيريز قولته.. وبمثله ليس لنا أبدا أن نقول: ما لنا وفلسطين؟!!
***
ولقد صدقت يا سيدى ومولاى وحبيبى يا رسول الله صلى الله عليك وسلم.. لا يصلح آخر هذه الأمر إلا بما صلح به أوله..
خلافة فى المنفى14
اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ..
***
هب أيها القارئ – عافاك الله – أنك مرضت.. فماذا تفعل؟..
ستلجأ إلى طبيب يداويك.. وستكون حريصا على اختيار هذا الطبيب مستعينا بكل أدلتك العقلية وخبراتك وتجاربك.. ثم ستذهب بعد ذلك إلى هذا الطبيب الذى وثقت به.
تذكر الآن أن الثقة به سبقت ذهابك إليه بل هى التى دفعتك نحوه.
قبل ذهابك إليه كان إعمال كل ملكات عقلك ضرورة لا غنى عنها ولا بديل..
الآن وقد ذهبت.. وباشر الطبيب علاجه بأية طريقة شاء.. هل من العقل أن تواصل استعمال عقلك؟!!
هل ستناقش الطبيب فى كل خطوة يخطوها؟ فى كل قرص دواء يكتبه؟ هل من حقك – عقلا – أن تقول للطبيب أنك تقبل أقراص الصباح لكنك ترفض أقراص المساء
أى امتهان للعقل لو فعلنا ذلك.. أى توظيف له فى غير محله..
ثم أننى أستدرك فأقول أن هذا ليس تغييبا للعقل بل تكريما له..
ليس انسحابا منه.. ولا إقرارا بأن الطبيب لا يستطيع إقناعك بمنطقه..
لكنه إدراك عاقل بأنك لكى تستطيع محاورة الطبيب عقليا فلابد أن تحصل من العلم ما حصل.. وأن تكتسب من التجربة ما اكتسب.. وساعتها.. بعد عشرين أو ثلاثين عاما.. فالأرجح أنه سيقنعك – عقليا – بسلامة منطقه وقراراته.. وأنك بعد أن اكتسبت مثل علمه ومثل مهاراته ومثل خبرته ستقره على جميع ما قال .. هذا إذا كنت ما زلت على قيد الحياة.. !!..
إعمال العقل إذن ضرورة لا غنى عنها فى مجاله.. أما إعماله فى غير مجاله فليس سوى حماقة لا تفوقها حماقة.. ولن تعود بالضرر على أحد سواك..
***
نعم.. إهمال العقل قبل اختيار الطبيب قد يكون – ليس فى كل الأحوال - مهلكة.. وأقول ليس فى كل الأحوال لأننى أفترض أن احتمالات الإصابة تقارب احتمالات الخطأ .. هذا بالطبع فى غيبة مؤثر خارجى يدفعك إلى هلاكك، كعدو، أو كسمسار يحصل من الطبيب على عمولة، أو جاهل متعالم..
إهمال العقل إذن قد يكون مهلكا، لكن إعماله بعد الذهاب إلى الطبيب الذى اختاره نفس هذا العقل وتيقن من الثقة فيه مهلكة لا ريب فيها..
***
لقد سقنا مثالنا حتى الآن فى إطار واقى ومجسد..
فلننتقل خطوة إلى الأمام لننتقل به إلى مثال رمزى ومجرد..
ولنفترض من أجل تلك الخطوة الواسعة ما لا يحدث فى الواقع.. مثل أن تكون الثقة فى الطبيب كاملة واليقين به مطلقا .. وأن تكون ثقتك بشفائك أكثر عندك من ثقتك بمرضك..
هل سيعوقنا ساعتها عن الاستمرار فى العلاج دواء مهما بلغت مرارته.. أو عملية جراحية مهما بلغت معاناتها؟!..
ثم نعود إلى العقل.. هل يعنى حجبنا إياه عن الجدل الجاهل مع الطبيب أننا غيبناه؟..
ثم.. هل يعنى ذلك أنه فقد دوره وأهميته وقيمته..؟!
لا..
ففى حدود المثال يبقى له أن يتأمل طول الوقت براعة الطبيب وعبقريته ومعجزاته فى علاجه..
يبقى له أن يتأمل فى انبهار مدى حكمة الطبيب عندما أخفى عنه ما أخفى.. وعندما صرح بما صرح.. وعندما أصر على مواصلة العلاج حتى عندما كانت الظواهر والأعراض لا تبشر..
يبقى له أيضا أن يتأمل .. وأن يحاول أن يتعلم.. لماذا اختار الطبيب هذا الدواء ولم يختر ذاك.. لماذا اختار العملية الجراحية وليس الإشعاع.. أو العكس.. عليه أن يتأمل و أن يستنبط فى وجد لا حد لعذوبته كلما حل مسألة أو اجتاز مشكلة أو فهم معضلة..
فإن كان عقله على مستوى الإدراك الذى يجعله يفهم فبها ونعمت.. وإن غمّ عليه الأمر واحتاج إلى معونة فإن عليه أن يلجأ إلى عالم ليعلمه.. إلى عالم .. وليس إلى عدو أو سمسار أو جاهل أو إلى "حلاق صحة" !!..
قمة عقل المريض أن يدرك أنه لا من حقه ولا هو يستطيع أن يحكم على عقل الطبيب بعقله..
***
انتهى ضربنا للمثل.. وندلف على الفور إلى بيت القصيد.. فنحن نتحدث عن الخلافة الإسلامية..
لن أكتب لكم يا قراء لكى أبرهن لكم على أن الخلافة أفضل من سواها..
لا..
على الإطلاق..
لن أفعل ذلك..
لقد جرنا إلى هذه الطريقة العقيمة فى التفكير أعداؤنا .. جرنا إليها صليبى وصهيونى وشيوعى وعلمانى.. تماما كما فى مثل الطبيب عندما تصدى لنا عدو يروم هلاكنا، أو سمسار ينال عمولته علينا، أو جاهل، أو حلاق صحة..
لن أحكم عقلنا القاصر فى شرع الله..
***
طريقة النقاش التى استدرجنا السفهاء إليها خطأ وهلاك..
فليس من حقنا أن نحكّم عقلنا فيما ثبت أنه شرع الله.. لقد دفعونا إلى مناقشة الأمور بصورة مقلوبة.. والصورة الصحيحة فى هذه المسألة هى أن نسأل:
هل نحن مؤمنون؟: هل نؤمن بالله؟ أم لا نؤمن؟..
ثم هل نحن مسلمون؟ هل نؤمن بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه صدقنا فيما بلغنا به عن ربه و أن القرآن من عند الله..
فإن كانت الإجابة نفيا كما هو الحال بالنسبة للصهاينة والصليبيين والشيوعيين والعلمانيين فليس لنا ثمة سيطرة عليهم.. وليس هناك مشكلة ملحة..
وإن كانت الإجابة إيجابا فليس ثمة مشكلة أيضا.. فسوف يكون نبراس المؤمنين بل المسلمين جميعا : إن كان قالها فقد صدق..
المشكلة تأتى من أولئك الصهاينة والصليبيين والشيوعيين والعلمانيين الذين تسللوا إلينا كطابور خامس يلبسون رداءنا ويتحدثون لساننا ويدعون إيمانا كإيماننا فإن أردنا أن نحكم عليهم بإيمان يدعونه هاجوا وماجوا وأرادوا أن يكونوا الخصم والحكم.. والعدو الخائن والسمسار والجاهل وحلاق الصحة لم يعودوا يكتفوا بالجرأة على الطبيب بل إنهم يطالبون بنفيه..
نعم.. الأمر ليس أمر غزو فكرى .. إنه أشبه بالاحتلال الاستيطانى الذى يدرك أن لا بقاء له فى البلاد التى غزاها إلا بإبادة أهل البلاد الأصليين عن بكرة أبيهم..
ليست المشكلة – كما عبر الدكتور محمد عمارة فى عبارة دامية – فى قبولنا لهم بل فى قبولهم لنا..
هذا الطابور الخامس من الخونة هو الذى حول مجرد مناقشة فكرة الخلافة إلى كبيرة الكبائر التى تهون إزاءها كل الكبائر..
***
والآن لندع الجاهلين ولنعبر بمريضنا يتأمل عبقرية طبيبه ولندلف إلى مسألتنا..
يجمع الفقهاء على أن إن أهم أساس من أسس الإسلام بعد العقيدة الإسلامية هو الخلافة الإسلامية. فبدون الخلافة الإسلامية تبقى البلاد الإسلامية ممزقة، وتبقى الشعوب مفرقة.
يكفينا هذا الإجماع لكى نهتف: لقد قالها.. ولقد صدق…
لن نحتاج إلى أى دليل آخر..
وما يبقى لنا سوى أن نتأمل الحكمة والإعجاز والجلال..
لقد طرحنا فى المقال الماضى أنماط الحكم، نمط الهوى الغبى: النمط القبلى الديكتاتورى الباطش، وما أظن أى مواطن فى أرجاء العالم الإسلامى يحتاج إلى أى شرح له، والنمط الثانى هو نمط أرقى قليلا، فالحاكم يدرك أنه كلما ازداد عنفه وظلمه قصرت مدة حكمه، لذلك، فهو استهدافا لصالحه هو، يلجأ إلى بعض التنظيم والعدل، القدر الذى لا يحرمه نشواته وصبواته وسرقاته وفى نفس الوقت لا يستنفر الأمة ضده، النمط الثالث هو ما يمكن أن نطلقه على النموذج الديموقراطى الغربى، نمط يستهدف صالح الوطن وجمهور ذلك الوطن لا مصلحة الحاكم.
أما النمط الرابع، الذى يعلو هذه الأنماط جميعا فهو نمط الخلافة، إنه لا يسعى إلى مصلحة الدنيا فقط بل مصلحة الدنيا والآخرة جميعا، إنه نظام آخر، مناف للأنظمة السابقة جميعا، وفيه – كما يصفه ابن خلدون باقتدار – يكون وازع كل واحد من الأمة نابعا من داخل نفسه، ألا وهو الدين، وكانوا يؤثرونه على أمور دنياهم و إن أفضت إلى هلاكهم.. ويضع ابن خلدون كل أنواع الحكم فى القاع والخلافة فى القمة ، ويوافقه فى ذلك عبد الله العروى ويضيف أن العصبية والعقل لازمان لبناء الدولة، وقد يزيد التمسك بالشريعة من تماسك هذه الدولة واستقرارها، لكنه لا يحولها أبدا إلى خلافة، ففى مثل هذه الدول، يخدم الحاكم الشريعة ظاهرا لأنها تخدمه باطنا، فالهدف من إقامة الشرع هو دوام الملك وتوطيد النفوذ، أما الخلافة فهى شئ آخر، فالعقل فيها ضرورى لسياسة الدنيا، لكن ما يميزها عما سواها هو هدفها الأخلاقى، إن العقل قد يجسد العدل أو الحرية أو الأمانة أو الوفاء أو الإخلاص أو النقاء والطهارة – على سبيل المثال- فى معان نسبية محدودة، أما فى الخلافة فإن هذه المعانى تتحول إلى مطلق، فالشريعة كما يقول ابن قيم الجوزية هى عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه. لا تطبيق الشريعة إذن ولا حتى الجهاد ما يجعل نظام الحكم خلافة – كما يدعى المستشرقون- فنظام الحكم لا يكون خلافة إلا إذا نظر إلى ذاته كأداة فى خدمة هدف أعلى، نعم، لا تكون الخلافة خلافة إلا إذا تجاوزت أهدافها الذاتية، وتجاوزت خطوط خرائط الوطن و أعداد الناس المحصورين فيها فمهمة الخلافة ليست الوطن فقط.. بل إنها رسالة فى الأرض كلها وللبشر جميعا.. نعم.. هى ذاك.. وهذا هو سر رعب الآخرين منها.. إنهم يعتبرونها أخطر من أى سلاح دمار شامل يمكن أن نقتنيه.. لهذا يتعاملون معها برعب من يدرك خطورتها على حضارتهم إذا عادت.. ولهذا دسوا بيننا جواسيسهم من أدعياء التزوير – لا التنوير – وأدعياء الثقافة والثقافة منهم براء.. أولئك الذين غيروا مفهومنا عن الثقافة بل و أزاحوا كل التعريفات التى حفلت بها الأضابير ليتحول التعريف الواقعى للمثقف إلى : " هو الشخص الذى توافق أجهزة الأمن عليه بعد طول اختبار، فتدفع به بعد ذلك إلى السلطات لتعيينه، وإلى أجهزة الإعلام لتلميعه وفرضه على الناس..!!"..
مثل هؤلاء هم الذين يسفهون ديننا ويسخرون من أشواقنا لعودة الخلافة، لا عن اختلاف فى الفكر بل لإدراك بأن الخلافة حين تعود فإنها ستبطل مفاسدهم أول ما تبطل، ولقد حدث أننى كتبت منذ أسبوعين فى هذه الصحيفة عن كتاب الصحفى أحمد عبد الوهاب والذى يتحدث عن فساد عملاء الثقافة الرسميين، وتواكب ذلك مع ما كتبه الكاتب الكبير فهمى هويدى فى هذا الصدد عن عمالة عدد كبير من كبار الصحافيين، وعن وجود 150 صحافيا فى مؤسسة واحدة تتجاوز ثروة كل واحد منهم خمسة ملايين جنيه يؤكد فهمى هويدى – باعتباره صحفيا – أنها ثروات حرام، إننى أكتفى بمجرد الإشارة على أمل بالعودة إلى هذا الموضوع، فقد تم اختزالُ آخر للمثقفين يكاد يقصرهم على الصحافيين ونجوم الإعلام، فى حين تم عزل الصحافيين والمثقفين الشرفاء بعيدا عن آذان وعيون الأمة..
فليسخر منا الصليبى والصهيونى والشيوعى والجاهل والمثقف الأجير بنا كما شاء لهم الهوى..
وليحاول من عملاء السلطان والشيطان من لم يسجد لله سجدة ولم يقرأ من القرآن آية أن يندسوا بين صفوف الأمة مدعين الإيمان كى يضعوا لنا شروطه..
وليستهزئوا بنا حين نتحدث عن الخلافة..
فالله يستهزئ بهم..
" وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ {14} اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ {15} أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ " {16}البقرة
صدق الله العظيم
خلافة فى المنفى15
لهم دينهم.. ولنا دين..!!
***
الحجر الذى تركله بقدمك؛ هل يشعر بألمك؟!
ولو أن هذا الحجر كان قطعة من الألماس فهل يشعر بقيمته عندك؟!..
بالنسبة للحجر أنت غير موجود..
الكلب أو القطة أو الحيوان الأعجم قد تشعر ببعض مشاعرك..
وبالنسبة لتلك العجماوات فإنها لا تشعر إلا بوجودك المباشر، و أنت بالنسبة لها حتمية طبيعية لا تفهم عنها شيئا، لا تستطيع أن تستفيد منها، ولا أن تتجنب عواقب الاحتكاك بها .. إلا بافتراسك.. لإلغاء وجودك..
أنعام هى.. لا تدرى بك إلا إذا رأتك..
والأقل القليل مما يستأنسه الإنسان منها من تدرك أن عليها أن تطيعك وتنفذ ما تفهم من أوامرك..
أما ابنك فمن المؤكد أنه يشعر بك، وبحبك له..
وكلما قل أدبه و ازداد عقوقه وسوء خلقه كلما قل إحساسه بك..
لكن.. كلما ازدادت مدارك ذلك الابن رفعة ووعيه عمقا كلما ازداد إحساسه بك وفهمه لك..
كلما ازدادت أخلاقه سموا كلما ازدادت طاعته لك..
طاعة يحركها اليقين بك والثقة بصواب رأيك..
طاعة مفعمة بالحب والشكر والامتنان والعرفان والرعب من أن تغضب عليه..
ووجودك داخله يقين مسيطر مستمر سواء رآك أو لم يرك حتى لو كنت على مبعدة آلاف الفراسخ..
***
إنما أضرب لكم الأمثال يا قراء.. يا إخوانى فى الله.. وما تلك الأمثال إلا تشبيها لعلاقتنا بالله سبحانه وتعالى..
فمن الناس من هم كالحجارة أو أشد قسوة.. فأولئك الذين لا يؤمنون بالربوبية..
لم يشهد التاريخ فيما أعلم سوى فئتين كفروا بالربوبية.. و أنكروا أن لهذا الكون خالق..
أولئك كالحجر الذى لا يشعر..
هاتان الفئتان هما الدهريون قديما والشيوعيون حديثا، وهؤلاء هم شر البرية، وقد وقعوا رغم ادعائهم المنطق والمنهج فى خطيئة فكرية لا يقع فيها إلا معتوه، إذ قالوا – باختصار أرجو ألا يكون مخلا- بأن الطبيعة هى خالقة الحياة، ولم يقفوا لحظة ليتساءلوا كيف يخلق العقل ما لا عقل له..!!
كيف يعطى الشىء ما لا يتضمنه..؟!
لم يجيبوا.. ولن يجيبوا أبدا..
العلمانيون فى عمومهم يؤمنون بالربوبية لكنهم لا يؤمنون بالألوهية، أى أنهم يؤمنون بأن الله هو خالق الكون وخالقهم، لكنهم يرفضون عبادته وتنفيذ شرعه، ( هكذا كان مشركو مكة على سبيل المثال.. وهم كفار!!) .. والمؤمنون منهم يتصورون – فى عماء للبصيرة مذهل – أنه – جل جلاله – لا تأثير له عليهم، إنه موجود، لكنه غير مهيمن، لقد خلق الكون – والغابة – وخلق له سننه ثم تركه ومضى..!!..
وهى فكرة تذهلنى تفاهتها.. إذ كيف يتسنى لعاقل – بل حتى لحيوان شرس فى غابة – أن يتصور أن خالق كل هذا الكون الهائل وكل هذه الحيوات قد كف عن العناية بها.. كيف؟ .. هل تعب؟! هل أصابه السأم؟!.. هل هو مشغول بأشياء أخرى؟.. هل بسبب ضيق الوقت؟!.. أستغفر الله مما يصفون.
حتى بالمنطق المنحرف، فإن خالق مثل هذا الكون لابد أن تكون قدرته مطلقة، فكيف تتوافق القدرة المطلقة مع التعب أو السأم أو الانشغال أو ضيق الوقت أو الانصراف.
***
تصوروا يا قراء أن يتحكم الحجر فى حيوانات الغابة، أو أن تفرض حيوانات الغابة رؤيتها على الحيوانات المستأنسة ( وهى فى الغالب الأكثر ذكاء) ، أو أن تسوس الحيوانات المستأنسة البشر!.
إننى لا أغرق فى الخيال يا قراء، ولم أبحر فى بحر بلا شواطئ..
بل إننى أعود على الفور إلى موضوعنا الرئيسى، لأقول أن من لا يفهم الفلسفة الكلية لهذا الكون، هو كمن يختصر الكرة الأرضية فى ذرة، أو المجموعة الشمسية فى الأرض، أو المجرة فى الشمس، أو الكون فى مجرة، وهو ينظر إلى الدنيا كبداية ونهاية، وأن حركة التاريخ البشرى كله محكومة بإطارها. فليس هناك غاية من وجود الإنسان إلا ذاته، فإذا ارتقى ضم لذاته ذوات الآخرين.
كارل ماركس على سبيل المثال بعد أن فرغ من تحويل المطلق إلى نسبى يحاول أن يملأ الفراغ الناجم بتحويل النسبى إلى مطلق ، وهو إذ يؤكد على دور الإنسان في التاريخ ( ما قيمة إنسان ماركس وتاريخه إزاء صاعقة واحدة كانت كفيلة بتدمير هذا الإنسان عن بكرة أبيه و إلغاء تاريخه) ، يرى فى رؤية متعسفة أن الوعي الطبقي سيدفع بالبروليتاريا إلى تغيير التاريخ، الخطأ المنهجى الفادح الذى وقع فيه ماركس هو تجاهله للجزء الروحى فى الإنسان، فلا يمكن لحتمية ماركس أن تتحقق إلا إذا كان الإنسان ذائباً في المجتمع وفي التاريخ وفى الكون، لتنطبق عليه قوانين الفيزياء. وبلغتنا نحن، لا يمكن لفكر ماركس وحتمياته أن تكون صحيحة إلا إذا كان الإنسان مجبرا بلا اختيار، وبلا أمانة يحملها بظلم وبجهل.
هيجل يختلف عن ماركس فى أنه يرى تجسد الله – ( سبحانه وتعالى عما يأفكون ) فى التاريخ، لكنه مثله يعتمد فى تفسيره لحركة التاريخ والإنسان على حتمية مطلقة وقاهرة، لا تدع للإنسان فكاكا من نظرياتهما..
يترتب على فلسفة هيجل أن المجتمعات والشعوب والأشخاص مجرّد لعبة في فى يد التاريخ الذى تجسد فيه إلهه. فهم يقومون بأدوار في التاريخ ولكنهم لا يشعرون بأدوارهم هذه، إنهم مسيَّرون من طرف العقل الكوني.
سبحان الله..
الله خلق الإنسان وحمله الأمانة وكرمه بمسئولية الاختيار..
لكن ماركس الذى أذاب الإنسان فى المجتمع وهيجل الذى أذاب الإنسان فى التاريخ يريدان إخضاع التاريخ والإنسان لحتمياتهما المهترئة التى لا تقوم على أى أساس.
إننى ألمس هذه الفلسفات بإيجاز شديد كى أوضح للقارئ أن الأفكار الخاطئة التى يروجونها بيننا الآن هى بنات سفاح لتلك الفلسفات، فالإنسان المحكوم بالحتمية، كالإنسان الليبرالى (والذى هو استمرار ولو بالردة عن إنسان ماركس وهيجل) جميعا يتحركون فى أفق محدود تحركه الحتميات أو الإرادات النسبية فى أفق محدود ليصل فى نقطة ما إلى نهاية التاريخ.
إن الإنسان فى فلسفتهما يجرى فى حيز مغلق، ولا بد لهذا الحيز مهما اتسع من نهاية..
هذه الفلسفات تنبع الأسس المطروحة نظريا والمطبقة عمليا لأنماط الحكم فى العالم الغربى.
***
فى الإسلام، الأمر يختلف، فالإنسان المسلم الذى يملك فلسفة أشمل لوجوده، والذى يدرك مسئوليته واختياره، هذا الإنسان يتجاوز ذاته وذوات الآخرين، ليكدح سعيا إلى إله يعلم علم اليقين أنه سوف يلاقيه، وهذا التطلع هو الذي يجعل التقدم ممكناً بل يجعل الرؤية الإسلامية إلى التقدم رؤية نوعية تتجاوز كلّ الرؤى الأخرى، التي تجعل أهدافاً نسبية أو مثلا «عليا» مزيفة أمام الإنسانية كالمجتمع اللاطبقي عند ماركس أو الديمقراطية الليبرالية في المذهب الرأسمالي. المفهوم الإسلامى المتميز يحمل الإنسان مسئولية خلافة الإنسان لله في الأرض وبذلك لا ينفي ذاتية الفرد، ولا ينفي مسؤولية الإنسان فرداً وشعوباً واُمماً، بل إن الخلافة والمسؤولية فكرتان متلازمتان.
نعم.. الفكر الغربى يخضع الإنسان لحتميات غبية ويرفض الغيب..
أما الفكر الإسلامى فإنه يضيف إلى عالم الشهادة عالم الغيب..
ومن هنا تكون النظرة الإسلامية متفوقة بما لا يقاس فى عالم الشهادة ( الدنيا) أما تفوقها فى عالم الغيب فلا منافس لها فيه.
هذه المسئولية الهائلة التى يحملها الإنسان المسلم هى التى ينبغى أن تمنع التاريخ من الانحراف ومن الظلم..
فموقف الإنسان من التاريخ والدنيا أنه يؤثر ويتأثر..
و أنه مسئول بعد إيمانه بالربوبية ثم بالألوهية ثم بأسماء الله وصفاته أن يسعى لمكارم الأخلاق ولتحقيق الصفات كالعدل والرحمة والانتقام من الظالمين فى سباق لا ينتهى أبدا لأنه يتجه نحو المطلق..
سباق لا ينتهى إلا بيوم القيامة.. وهى وحدها إذا استعرنا التعبيرات الخاطئة هى التى تمثل نهاية التاريخ!!.. نهاية تاريخ عالم الشهادة لا عالم الغيب!!..
لكن تحقيق أمر الله الذى ينبغى على المسلم أن يجاهد فى سبيله لا يمكن أن تقوم به دولة قطرية أو قومية أو عرقية أو مقتصرة على مصالح البشر.. هذا لا يمكن أن تتحقق عبادة المسلم المثلى لله إلا تحت نظام الخلافة..
خلافة فى المنفى "16"
لا أحب الآفلين..!!
حاصل جمع ثلاثة على سبعة يساوى عشرة !!
نعم: 3 + 7 = 10!!.
فلو أن أكبر عالم فى أكبر معاهد الدنيا فى الرياضيات جاء إلينا ليقول أنه اكتشف أن حاصل الجمع ليس كذلك، فإن يقيننا بصواب مسألتنا لن يهتز، سنقول له : أنت عالم كبير جدا، لكن 3+7=10!!..
ولو أن آباءنا و أمهاتنا أو أبناءنا وعترتنا وعشيرتنا الأقربين جاءوا ليقولوا: نحن أقرب الناس إليكم وسوف نصدقكم الخبر، فحاصل الجمع ليس عشرة، فإننا سنقول لهم: نحن نحبكم جدا، ونثق بكم جدا، لكن 3+7= 10!!..
و إن جاءنا ساحر حول الحبل إلى ثعبان عظيم ثم راح يصعد إلى السماء بسلم، أو يقطع الطير ويناديها فتسعى إليه حية، وراح حتى يبرئ منا الأكمه والأبرص، ويكتشف علاجات للإيدز والسرطان، لو فعل كل هذا أمامنا، ثم قال لنا: بعد أن أثبتُّ لكم قدرتى فإننى أصارحكم القول: فإن 3+7 لا تساوى عشرة، فإننا سنقول له: ما فعلته عجيب جدا، لكن 3+7 =10!!..
***
3+7 =10 هنا يا قراء هى رمز و نموذج للعلم اليقينى، كانت كذلك، وستظل كذلك أبد الآبدين.. لن يغير منها شىء أبدا، وهى حقيقة ثابتة.. حقيقة يقين.. وكل حقيقة لا تكون على نفس هذه الدرجة من اليقين الذى لا يتغير هى حقيقة جزئية، متغيرة، ستزيحها من على عرشها ذات يوم حقيقة أخرى، وستأفل، لذلك لا يجوز الإيمان المطلق بها والركون الكامل إليها، و إن جاز – بل وجب – التعامل معها فى حدود إمكانياتها النسبية. فإذا حولنا النسبى إلى مطلق تحول فى نفس اللحظة إلى صنم..
نعم يا قراء..
الآيات التى تتحدث عن الأصنام فى القرآن موجودة.. ولم تنسخ.. ولا هى تتحدث عن ماض دال و أثر زال بل تتحدث عن ماض وحاضر ومستقبل..
***
انظروا إلى الرمز والإعجاز المبهر فى سورة الأنعام ، وسيدنا إبراهيم عليه السلام وهو يكد بحثا عن الحقيقة المطلقة والعلة خلف كل علة، فكلما بان له مظهر من مظاهر الوجود قال:
" …قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ {76} الأنعام
***
وهنا يا قراء نصل إلى نقطة فارقة فى الفرق بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية..
نقطة تتعلق بأصل المعرفة فى الحضارتين.. (وهو أمر وثيق الصلة بنظام الحكم فى الإسلام: الخلافة)..
ففى الحضارة الغربية يمثل الوجود الموجود كل أصول المعرفة، فهى كامنة فى هذا الوجود حتى لو تأخر اكتشافنا لها، موجودة، وقد اكتشفت، وتكتشف ، أو يمكن اكتشافها ذات يوم، و فهم العلاقات بينها وحل رموزها. وبالنسبة لهم، فكل معرفة سوى ذلك إن هى إلا خرافات وأساطير الأولين..
ولنلاحظ هنا يا قراء أن " خرافات وأساطير الأولين" هذه التى يعتبرونها قمة تقدم ونضج وحداثة تطورهم الفكرى إنما هى قديمة فى الوجود الإنسانى قدم الكفر..!! و أنها ليست اكتشافهم الذى يتباهون علينا به، ويعيروننا، و يدعونا إليه، و إلا كنا ظلاميين متخلفين رجعيين متأسلمين. ولكن لندع ذلك الآن ولننتقل إلى أصل المعرفة فى الحضارة الإسلامية..
حيث يمثل الوجود الموجود الأصل الثانى من أصول المعرفة، أما الأصل الأول فهو الوحى بشقيه: القرآن والسنة، حيث يشكل الإيمان بالغيب ثابتا رئيسيا من ثوابت المعرفة.
***
نحن – المسلمين – على يقين من أننا نفهم اليهودية والمسيحية خيرا مما يفهمها معتنقوها الآن.. ذلك أننا ننظر إليهما كجزء من منظومة شاملة مع الوعى بما حدث فى أصلهما من تحريف..
ونفس الشىء ينطبق على موقفنا من الوجود كأصل وحيد للمعرفة.. أو على ما اصطلحوا بتسميته : العقل.
نحن نفهم العقل كجزء من منظومة..
نضعه فى مكانه الحقيقى، لذلك فإن فهمنا له أكمل و أشمل..
***
سبحان الله..
قد نقبل تجاوزا وجدلا أن العقل يصلح لفهم الوجود الموجود كله ( وذلك غير صحيح)، فكيف نفهم ما قبل هذا الوجود وما بعده.
سبحان الله.. لو قلنا – جدلا – أن العقل يصلح لفهم و إدارة وتوجيه كل ما يتعلق بالجسد الإنسانى.. فماذا عن الروح؟!..
سبحان الله.. لو قلنا جدلا أن حياة الإنسان من بعيْد الميلاد حتى قبيْل الموت يمكن فهمها فى إطار العقل، فماذا عن الميلاد ذاته وماذا عن الموت نفسه؟!..
تبقى نقاط كثيرة منها على سبيل المثال فلسفة الجمال وفلسفة الأخلاق وكيف تمثل عقبات كئودا تقف الحضارة الغربية أمامها عاجزة.. لكن المجال – فى المقال - لا يتسع لذلك الآن..
***
فكر حضارتنا أرقى بما لا يقاس لكنهم خدعونا.. وانخدعنا ..
وفى سبيلهم لخداعنا سلكوا سبلا لم تخطر لنا على بال..
فى كتاب بالغ الأهمية والخطورة للدكتور محمد محمد حسين عنوانه" حصوننا مهددة من داخلها" يقول المؤلف:" أصبح كثير منهم فى مناصب تمكنهم من أن يدسوا برامجهم وخططهم على المسئولين من رؤسائهم وينفذوها فى صمت، ودون أن يثيروا ضجة تلفت إليهم المعارضين، ولهؤلاء المفسدين عصابة تشد أزرهم وتشيد بهم وتنوه بذكرهم وتحميهم من خصومهم، وتمنع كل ما ينبه الناس إلى شرهم من كل وسائل النشر، فلا يصل إلى آذان الناس وعيونهم شىء منه، و أنا حين أزعم أن هؤلاء الناس ينتمون إلى عصابة ذات خطر إنما أعنى بالعصابة كل مدلولها وكل حرف من حروفها وكل مفهوم من مفاهيمها."..
انتهى – مؤقتا- الاستشهاد بكتاب الدكتور محمد محمد حسين.. لكننى أنبه القارئ إلى وجه من أوجه إبداعات تلك العصابة، فالنسخة التى أنقل عنها من هذا الكتاب هى الطبعة الثانية عشرة، ولا طبعة واحدة منها طبعت فى مصر.. بلد الكاتب.. فانظروا كم بلغ إتقان العصابة لمهمتها!!
فلنتناول الآن وجها آخر من أوجه هيمنة تلك العصابة على حياتنا الثقافية الفاسدة، إذ لا يكاد يوجد مثقف فى العالم العربى بطوله وعرضه لم يسمع عن سلامة موسى وعلى عبد الرازق والإسلام و أصول الحكم، وفرج فودة ونصر حامد أبو زيد و.. و .. و .. وبلغ الإلحاح على ذكر هؤلاء أن استقر فى وعى الأمة الجمعى أن هؤلاء الكتاب وهذه الكتب هم رموز ثقافته، فأعيدت طباعتها مرات ومرات،ونوقشت فى عشرات المحافل ومئات الندوات ونشرت عنها مئات المقالات. لن نناقش هذه الكتب وهؤلاء الكتاب فى هذا المقال، سوف نناقشها فى مقالات أخرى، لكننا نثبت هنا أن هذه الكتب وهؤلاء الكتاب مثلت – ومثلوا – خروجا على ثوابت الأمة، فانظروا كيف وكم احتفلوا بها.
فلنقارن على الفور ذلك الاحتفال بالتعتيم الهائل الذى تعرض له كتاب من أهم الكتب التى صدرت فى القرن العشرين لكاتب هو واحد من أهم الكتاب وأساطين القانون فى القرن العشرين.. والكتاب هو كتاب (فقه الخلافة وتطورها) ، وهو بحث تقدم به الكاتب للحصول على درجة الدكتوراه الثانية من جامعة السوربون، والكاتب هو الدكتور المستشار عبد الرازق السنهورى
والدكتور السنهورى واحد من فطاحل القرن العشرين، شارك فى وضع الدستور المصرى، وأنشأ فى العراق كلية للحقوق، وتولى عمادتها فى مصر، ورأس وفد مصر في المؤتمر الدولي للقانون المقارن بلاهاي، و عضو بمجمع اللغة العربية في مصر، ورئيس مجلس الدولة ،كما كان هو الذى تولى صياغة مشروع القانون المدني الجديد لمصر، والعراق وسوريا و ليبيا ، كما تولى وزارة المعارف العمومية في أكثر من وزارة ، وأسس جامعتي فاروق (الإسكندرية الآن) وجامعة محمد علي. كما قام بوضع المقدمات الدستورية والقانونية لكل من مصر وليبيا والسودان والكويت والإمارات العربية المتحدة ، ووضع أيضا دستور دولة الكويت والسودان والإمارات العربية المتحدة.
والكتاب الذى نتحدث عنه هو واحد من أهم الكتب التى تناولت الخلافة فى الإسلام.. حيث انبرى الدكتور السنهوري للدفاع عن الخلافة وإثبات أهميتها في حفظ كيان الأمة الإسلامية ، والكتاب كتب في الأصل بالفرنسية ..
مثل هذا الكتاب.. لمثل هذا الكاتب.. لم تتصد لترجمته دولة..ولا وزارة ثقافة..ولا هيئة.. ولا مؤسسة.. ولا.. ولا.. ولا.. ولم يحتفل به ولم ينشر عنه إلا أقل القليل..
تم التعتيم عليه ..
و تأخرت ترجمة هذا الكتاب المهم أكثر من ستين عاماً إلى أن قيّض الله له ابنة المؤلف (د.نادية السنهوري) وزوجها (د.توفيق الشاوي) لترجمته وتقديمه إلى القارئ العربي .
فانظروا كيف تتقن العصابة عملها.. العصابة القادرة على تحويل السفهاء إلى نجوم .. وسربلة النجوم بالظلام..
***
خلافة فى المنفى "17"
كيف يمكن أن يرفضها مسلم؟!..
عندما يضيق حذاؤك عليك فإنك تخلعه..
كذلك تفعل فى الملابس فتتخلص منها إذا ضاقت أو بليت..
بل إنك تفعل نفس الشىء مع ضرسك إن حار فيه الطبيب.. فتخلعه إن غلبك وجعه..
لكن..
إذا أوجعتك عينك .. هل تخلعها؟!..
أم تحتفظ بها حتى ولو كلّ منها البصر.. حتى ولو كانت عينا ناقصة..
إذا مرض قلبك.. هل تذهب إلى الطبيب ليستأصله؟!..
أم أن هناك ما تستحيل الحياة أو تصور الحياة دونه، لذلك فإننا – مهما أصابه من مرض - لا نتخلى عنه أبدا بل نحاول قصارى جهدنا علاجه.. مدركين أن فشلنا فى العلاج لا يعنى سوى الموت..
***
نفس الأمر ينطبق على الخلافة..
إننى أدرك أن بعض القراء – أرجو أن يكونوا قلة - سيفتح شدقيه ليصب اللعنات على هذا الكاتب المتخلف الرجعى الذى يريد أن يعيده القهقرى إلى جبروت وظلمات حكم الخلافة..
توقف يا مسكين..
توقف..
فلقد سمموا عقلك وزيفوا وعيك وغسلوا مخك ووضعوا لك ذاكرة مزيفة مغشوشة..
توقف فإنك مسموم.. وأنت تخرف.. فإن لم تكن تخرف فإنك تجدف..
توقف يا مسكين.. فليس ما بك شحم بل ورم.. وليس ما تظنه حيوية الحركة حركات بل تشنجات.. فتوقف واقرأ..
***
فى مقالات سابقة قلنا أن أحد المحظورات فى الفكر الإسلامى أن نحكّم عقلنا فى شرع الله.. فكيف يحكم الناقص على كامل والجزئى على كلى؟!..
قلنا أيضا أن الشريعة ثابتة والفقه متغير..
والآن.. هل الخلافة – أو الإمامة فالكلمتان تستعملان بذات المعنى – فقه أم شرع؟؟..
لقد ذهب جمهور علماء الأمة الإسلامية إلى أن إقامة الإمامة أو الخلافة الشرعية فرض أساسي من فروض الدين ، بل هو (الفرض الأعظم) الذي يتوقف عليه تنفيذ سائر الفروض ؛ لأنه - كما يقول الجرجاني - : (من أتم مصالح المسلمين وأعظم مقاصد الدين) .
بل بلغ الأمر أن دراسة الخلافة تأتى فى أبواب العقيدة والتوحيد لا فى أبواب الفقه..
***
حتى الحرب العالمية الأولى لم يكن هناك بين المسلمين فى شتى أرجاء العالم مسلم يشك فى وضع الخلافة فى الإسلام كإمامة عظمى ( مقارنة بالإمامة الصغرى فى الصلاة)..
كانوا يدركون أن الأمور تختل، وأنها يجب أن تعود إلى النموذج المرسوم، وكانوا يعلمون أنها منذ قرون وهى خلافة ناقصة، وكان الأمل أن تعود وتكتمل.. لا أن تلغى وتهدم..
وكما يقول أنور الجندى فى كتابه أصالة الفكر الإسلامى فى مواجهة التغريب والعلمانية والتنوير الغربى- دار الفضيلة:
" كان إسقاط الخلافة الإسلامية من أكبر أهداف النفوذ الأجنبى الزاحف على العالم الإسلامى وكان المخطط يرمى إلى تفكيك وحدة المسلمين وتمزيق المجتمع الإسلامى إلى وحدات متفرقة وقد عملت بريطانيا التى كانت تقود الحرب ضد الإسلام والأمة الإسلامية على رسم خطوات هذه المؤامرة التى بدأت بعزل السلطان عبد الحميد وتولى الحكم فى الدولة العثمانية أعدى أعداء الإسلام : الاتحاديون الذين رسموا الخطة بقيادة مصطفى كمال أتاتورك الذى لم يكن فى أغلب كتابات المؤرخين المنصفين مسلما ، بل كان من الدونمة ، ووقفت بريطانيا وراء الخطة وعندما تحرك مسلمو الهند كلفت المستشرق " مرجليوث " كتابة دراسة يدعى فيها أن الخلافة ليست من الإسلام، ولما ذهب الشيخ على عبد الرازق ليدرس فى بريطانيا أهداه هذا الكتاب الذى أصدره باسمه تحت عنوان ( الإسلام وأصول الحكم ) . كان هدف الكتاب ضرب الإسلام فى عقيدة من أكبر عقائده وفريضة من أعظم فرائضه وهو أنه دين ودولة ونظام ومجتمع ومن ثم فقد عبر الكتاب عن وجهة نظر الاستشراق اليهودى التلمودى الهدام وقد واجه الكتاب ومؤلفه حربا شديدة وكشف عن الزيف الذى ذهب إليه على عبد الرازق ، حين ادعى أن الإسلام ليس دين شريعة ونظام مجتمع وحكم ولكنه منهج عبادى شأنه شأن المسيحية وغيرها ، ولقد كذب علماء الإسلام دعوى على عبد الرازق وتكشف من بعد أن هذا الكتاب لم يكن إلا ترجمة لكتاب مرجليوث ، ولقد واجهت حركة اليقظة الإسلامية كتاب على عبد الرازق المنحول وفندت فساد وجهته وأخطاءه ولكن قوى التغريب ما تزال تعيد نشره وطبعه مع مقدمات إضافية يكتبها مضللون شعوبيون يخدعون الناس بألقابهم وأسمائهم ".
وكان ممن انبروا للرد على كتاب مرجليوت المنسوب إلى على عبد الرازق الدكتور السنهورى الذى قدم فى رسالة للدكتوراه مشروعا يرمى إلى تطوير الخلافة كما عرضها الفقهاء. وكان من رأيه إزاء فداحة الانهيار أنه: إذا كان هناك استحالة في إقامة نظام خلافة راشدة أو كاملة فلا مناص من إقامة حكومة إسلامية غير كاملة على أساس حالة الضرورة للظروف التي يمر بها العالم الإسلامي حالياً "عام 1925م" . وأن هذا النظام الناقص يجب اعتباره نظاماً مؤقتاً لحين التمكن من إقامة النظام الراشد مع العلم بأن الشريعة لا تفرض شكلاً معيناً لنظام الحكم.
***
على أننى قبل أن أستطرد فإن علىّ أن أنوه بردود كثيرة جاءتنى بالبريد الإليكترونى، والحقيقة أننى دهشت لأن معظمها يعتب علىّ فى الاستشهاد والإشادة بالدكتور السنهورى، فهو من وجهة نظرهم الذى وضع الدساتير العلمانية على حساب الشرع..
ولست أحب لنفسى ولا لكم يا قراء أن نستهلك جهدنا فى جدل فرعى لن يسهم فى حال صحته بتقريبنا من الحقيقة أبدا، أما فى حال بطلانه فلن يسفر إلا عن صرفنا عن هذه الحقيقة.
وبرغم أننى أحترم الدكتور السنهورى إلا أننى أومن بأن الرجال يعرفون بالحق ولا يعرف الحق بالرجال، و أن كل الناس عدا سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يؤخذ منه ويرد عليه. ثم أننى أضيف أن ما آخذه من الدكتور السنهورى هو موقفه من الخلافة، وهو موقف صحيح. ولنا جميعا الحق فى أن نرده فيما نحسب أنه أخطأ فيه. لكننى إحقاقا للحق أضيف أن الرجل كان ذا باع طويل فى الدفاع عن الشريعة، وله مؤلفات عديدة فى ذلك يسدل الطواغيت ستائر التعتيم عليها، وربما كان عدم الاطلاع على هذه الأعمال سببا فى تشوه صورة بعض القراء عنه. كما أنه فيما وضع من دساتير حاول قدر ما استطاع أن يعيد الشريعة إلى تبوء عرشها القديم، لكنهم أخذوا منه ما يتفق مع أهوائهم وتركوا ما يتفق وشرع الله، وقرءوا ما كتب قراءة من يقرأ : " ويل للمصلين " ثم يصمت..!!..
***
منهج سيادة الشريعة كان منهجا أصليا فى فكر السنهورى، ولقد كان رد فعله سريعا وعمليا على سقوط الخلافة(1924) وعلى كتاب الإسلام وأصول الحكم، حيث كان فى فرنسا، وكان قد حصل بالفعل على شهادة الدكتوراه، لكنه تقدم برسالة أخرى إلى جامعة السربون عن ضرورة إعادة الخلافة.. وحصل عليها بالفعل عام 1926 ، ولقد كتب هذه الرسالة بوازع دينى رغم عدم تكليفه بها وتحذير أساتذته من صعوبتها والمناخ الأوروبي السياسي والفكري المعادي لفكرتها!.
وواصل جهوده وجهاده فتقدم برسالة إلى مؤتمر "لاهاي" للقانون الدولي سنة 1932م
أثبت بها لأساطين القانون أن الشريعة الإسلامية هي الأرقى -حتى بمقاييس العصر الحاضر-، وهي الأنفع والأوفى، إذا ما قورنت بالمنظومات القانونية الأخرى، وقد بلغ من تأثير هذه الرسالة على هذا المؤتمر الدولى أنها لفتت أنظار فقهاء القانون الغربي، إلى تميز-بل وامتياز- الشريعة الإسلامية، الأمر الذي انعكس في اعتمادهم الشريعة الإسلامية منظومة قانونية عالمية متميزة.
أحب أن أنبه القراء أيضا أن السنهورى قد اتخذ ذلك الموقف والعالم الإسلامى كله فى قمة الانهيار أمام الغرب والانكسار أمام جيوشه والانبهار بحضارته.. لم تكن الصحوة الإسلامية قد أدت بنا إلى ما وصلنا إليه الآن من إدارك للزيف والعفن فى تلك الحضارة..
***
فى دراسة للدكتور محمد عمارة يوجز الأمر بقوله : "أراد السنهوري وكتب وعمل للنهضة العامة للشرق الإسلامي، ولقد قاده القانون إلى ضرورة تأسيس هذه النهضة الشرقية العامة على الشريعة الإسلامية، فكانت مخططاته ودراساته وآراؤه حول ضرورة بعث الشريعة الإسلامية بالاجتهاد الجديد والدراسات المقارنة والحديثة، لتتخطى هذه الشريعة الغراء أعناق القرون، فتعود -ثانية- المرجعية الحاكمة، لا في القضاء والقانون والتشريع وإنما المرجعية الحاكمة في كل ميادين الثقافة والفكر والعلم والقيم والحياة.
"فالرابطة الإسلامية-كما يقول السنهوري- يجب أن تفهم بمعنى المدنية الإسلامية، وأساس هذه المدنية الشريعة الإسلامية …". فالشريعة الإسلامية هي أساس المدنية الإسلامية، التي هي الصيغة الحضارية للنهضة الشرقية.
ولذلك جعل السنهوري من بعث الشريعة الإسلامية بفتح باب الاجتهاد الجديد فيها مشروع حياته، بل وحلمه في هذه الحياة.
وكتاب الدكتور السنهوري (فقه الخلافة وتطورها) كتبه منذ عام 1926، ولم يتصد لترجمته لنشره على قراء العربية سوى ابنته ( وزارات ثقافاتنا وأجهزتنا الإعلامية وصحفنا الكبرى مشغولة بقضايا أهم من الخلافة.. كقصص الجنس ومسارح العرى وروايات الكفر و..و..و.. ألا شاهت الوجوه)..
يقع الكتاب فيما يقارب الأربعمائة صفحة ، وفى دراسة لمحمد سيد بركة يوجز فيها اتجاه الكتاب حيث يرى الدكتور السنهورى أن الخلافة هي الحكومة الإسلامية الكاملة وأن خصائص الخلافة تتميز عن الحكومات الأخرى بالخصائص الثلاث الآتية:
1- أن اختصاصات الحكومة "الخلافة" عامة ، أي تقوم على التكامل بين الشؤون الدنيوية والدينية .
2- أن حكومة الخلافة ملزمة بتنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية .
3- أن الخلافة تقوم على وَحدة العالم الإسلامي .
ومتى اجتمعت هذه الخصائص في الحكومة الإسلامية أصبحت حكومة شرعية مهما يكن شكلها واستحقت أن توصف بأنها حكومة الخلافة .
***
والآن.. فلنقف وقفة قصيرة لنواجه صنفين من الناس يرفضون الخلافة ممن يحملون أسماء كأسمائنا وألسنة تنطق كألسنتنا ويدعون دينا هو ديننا.. الصنف الأول هو الغالب، وهو يتشكل من جمّ غفير وجمع كبير من ضحايا وسائل إعلام يتنافس فيها إعلام الحكام مع وسوسة الشيطان، هم الذين زيفوا وعيهم وغسلوا مخهم، فأصبح مفهوم الخلافة عندهم يعنى الظلم والظلمات، وهذا صنف ما أن يعرف الحقيقة حتى يتبعها (وهذا ما يخيف الغرب ووكلائه وعملائه أشد الخوف). أما الصنف الثانى فهم الأقلون الأخسرون لكنهم الأشد خطورة.. إنهم على وعى كامل بالحقيقة، لكنهم يبدلونها تبديلا فى سبيل هدم الإسلام كله، ومن هؤلاء من يساهم فى تشويه تاريخنا كله بالكذب البواح كى يصل إلى مبتغاه.
لنواجه هؤلاء وأولئك بمفهوم لخلافة.. والذى ينحصر فى أمرين جوهريين تندرج تحتهما التفاصيل الأخرى.. :
- تطبيق الشريعة الإسلامية..
- - ووحدة العالم الإسلامى..
***
ذلك هو مفهوم الخلافة.. فإن جاز أن يرفضه الشيطان و أعوانه والغرب وعملاؤه .. فكيف يمكن أن يرفضه مسلم..؟!..
خلافة فى المنفى "18"
هل لكم الخيرة من أمركم؟!..
سامحنى يا مولاى.. يا سيدى .. يا من لا مهرب منك إلا إليك ..
سامحنى..
فما أشد خجلى منك.. وما أفدح ذنبى وما أعظم إثمى..
لكننى وحق جلالك خجل منك.. خجل .. خجل .. خجل.. خجل من نفسى ومن موقفى أمامك..
ومرعوب مرعوب مرعوب من يوم آت لا ريب فيه تسألنى فلا تغادر كبيرة ولا صغيرة..
أنوء بخطيئتى .. و أبوء بذنبى .. فلا تنسنى ولا تحشرنى يوم القيامة أعمى ..
كيف أدافع عن نفسى فى ذلك الموقف الذى حدث منذ خمسة وثلاثين عاما.. وكنت مذبوحا يا رب بهزيمتنا نحن عبادك الخطائين فى كارثة 67، وقال لى صاحبى وهو يحاورنى أنه لا أمل لنا فى الانتصار إلا تحت راية خلافة لابد أن تعود.. فإنهم يقاتلوننا كافة ولن ننتصر عليهم إلا إذا قاتلناهم كافة..
نظرت إليه مشدوها يا رب.. نظرة بصير يحشر يوم القيامة أعمى..
نعم.. أعترف. . نظرت إليه مستغربا ما يقول وكأنما يداوينى بالتى كانت هى الداء ، وكأنما كان يجيرنى من الرمضاء بنار..
كانوا قد غسلوا مخى يا رب، وزيفوا وعيى، وخدعونى فانخدعت..
كنت مسلما ولم يدخل الإيمان بعد قلبى..
لم أكن وحدى.. كنا أمة.. بل كنا الأمة..
وكانوا قد صوروا لى ولنا، أن الخلافة كانت داءنا وهلاكا وتخلفنا.. ولم يكن مسموحا لصوت آخر أن يقول لنا الحقيقة..
وصدقناهم يا رب..
لم أكن أتصور أنهم يمكن أن يشاركوا عدونا فى الكذب علينا..
ولم أكن قد أدركت بعد أن العلمانية كالاشتراكية كالرأسمالية كالصهيونية كالعولمة كالنظام العالمى الجديد كلها أوجه متعددة لعملة واحدة.. عملة الشيطان..
ولا كنت قد أدركت أن ولاة أمورنا وجهابذة مفكرينا لا يرفضون الخلافة كمبدأ، بل إنهم يمارسونها فعلا ، بشرط أن يكون الخليفة فى موسكو أو واشنطن.. و أن ما يرفضونه فقط.. هو أن تكون الخلافة إسلامية..
لم أكن بعد قد أدركت ذلك..
أعلم يا ربى أن هذه الحجة ليست بمنقذتى.. فقد فتحت أذنىّ و أغلقت عينىّ ولم أرَ حينها آياتك فى الآفاق..
خدعونى فانخدعت.. كما انخدع كثير من القراء الذين يقرءون الآن ما أكتب فيدهشون ويذهلون من دعوتى لعودة الخلافة.. ويعترضون كما اعترضت ذات يوم.. وربما أيضا يسخرون..
لم أسأل نفسى يومها، ولا يسألون هم أنفسهم اليوم : ماذا تعنى الخلافة؟!..
لم أفطن إلى أنها لا تعنى سوى أمرين: أولهما :وحدة الأمة الإسلامية كلها فى دولة واحدة.. وثانيهما تطبيق الشريعة على هذه الأمة..
فكيف عنّ لى - أنا الهالك إن لم تدركنى رحمتك – ذات يوم أن أرفض ذلك.. وكيف يعنّ لبعضكم يا قراء أن يقعوا فى مثل خطئى القديم؟..
كيف انخدعنا؟؟.. وكيف تنخدعون الآن..
كيف كنا نفكر..؟؟.. وكيف تفكرون الآن..
كنا نتحرق شوقا إلى نصر على أعداء الله.. فكيف كنا نتصور أن يفعل الشهيد فى معاركنا فى لحيظاته الأخيرة فى هذه الدنيا؟ .. ماذا كنا نتخيل أن يتلو؟ فقرات من الميثاق أو الكتاب الأخضر أو مواثيق الأمم المتحدة؟؟!!..
لا والله يا رب.. لا أقولها لكى أبرر جرمى.. ولا لأخفف إثمى و لا لأهرب من جريرة ما وقعت فيه.. لكننى أقولها كى ألزم القراء -عبادك يا رب –الحجة.. إذ أننا فى جيلنا لم نجد من يكشف الحقيقة لنا و أقعدنا الوهن فلم نسع إليها سعيها.. الآن يختلف الأمر .. ففى ظل صحوة إسلامية تتعاظم تحت شلالات الدم ووهج النار وأكداس الغبار وقصف الأكاذيب تجد الأجيال المعاصرة من يكشف خبيئة الأمر لهم..
نعم ..
فى جيلنا حيل بيننا وبين الشهيد عبد القادر عودة ومن سار على دربه..
قال الحقيقة فقتلوه.. وفرضوا ستارا من النسيان على ذكراه وعلى كتبه..
قتلوه..
كفى بثورة 23 يوليو عارا أن قتلت مثل هذا الرجل.. قتلته قتل المنهج وليس مجرد قتل فرد.. ولقد استجاب الله دعوته فجعل وزر دمه فى أعناقهم.. وجعل الآخر فيهم ينقض ما غزله الأول.. ولننتهى الآن وقد أنجزت الثورة عكس مبادئها الستة الضبط.. ويكفى أن أولهم قتل عبد القادر عودة.. لأنه كان رجعيا يعوق مسيرتهم الكبرى للنضال الثورى والانتصار على العدو الصهيونى فى حربنا المقدسة.. بينما آخرهم يقتل أبناء عبد القادر عوده.. لأنهم إرهابيون يعوقون مسيرتهم الكبرى للسلام المقدس ( بل المدنس ) ويسيئون إلى العلاقات مع دولة صديقة .. هى إسرائيل..!! ..
فى الأعمال الكاملة للشهيد عبد القادر عودة والتى نشرتها دار الاعتصام يتحدث الشهيد عن الخلافة فيقول:
إقامة الخلافة فريضة من فروض الكفايات ، كالجهاد والقضاء، فإذا قام بها من هو أهل لها سقطت الفريضة عن الكافة، و إذا لم يقم بها أحد أثم كافة المسلمين حتى يقوم بأمر الخلافة من هو أهل لها..
هل قرت ذلك أيها القارئ وهل وعيته، وهل أدركت أنك مشارك فى الإثم؟!.. وسوف تُسأل.. فبم تجيب..؟!..
يؤكد الشهيد ضلوع الأمة فى هذا الإثم قائلا: والحق أن الإثم يلحق الكافة لأن المسلمين جميعا مخاطبون بالشرع وعليهم إقامته ، ومن أول واجباتهم أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر وليس أحدهم مأمورا بأن ينظر فقط إلى نفسه وما فى يده من الأمر ، وإنما عليه أن يعمل على إقامة الدين على نفسه وعلى غيره ، وعلى ما فى يده وعلى ما فى يد غيره ، وإذا كان الاختيار متروكا لفئة من الناس ، فان من واجب الأمة كلها أن تحمل هذه الفئة على أداء واجبها، و إلا شاركتها الإثم، بل من واجب الأمة أن تنحى هذه الفئة إذا لم تقم بواجبها، وأن تقدم غيرها، لأن الأمة اختارتها و ألقت إليها بأمرها لتمثل الجماعة الإسلامية فان لم تؤد واجبها سقطت عنها صفتها بما ارتكبت من إثم وزالت عنها صفة النيابة عن الأمة وكان على الأمة أن تختار فئة أخرى تنوب عنها وتمثلها فى اختيار الخليفة .
يؤكد الشهيد أيضا أن هناك إجماع من لأمة على وجوب الخلافة كفرض، ولقد أجمع على ذلك جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج ، و اتفقوا أيضا على أن إقامة إمام عادل فى الأمة يقيم فيها أمر الله ويسوسها لأحكام الشريعة إنما هو من أوجب الواجبات على الأمة، ولم يشذ عن هذا الرأى من الأمة الإسلامية كلها إلا الأصم من المعتزلة وفريق النجدات من الخوارج وهى فرق بادت ولم يبق منها أحد .
سبحانك يا رب..
بعض الخوارج هم الذين ناوءوا فكرة الخلافة فى الأمس البعيد..
ويأتى جاهليو اليوم، عبدة النظام العامى الجديد، ليتهمون من ينادى بوحدة الأمة وسيادة الشريعة- أى بالخلافة – بأنهم خوارج..
ألا إنهم هم الخوارج.. أولئك بعض قومنا وجل ولاة أمورنا.. بل إن الخوارج كانوا أقواما طلبوا الحق فأخطئوه. بينما أولئك قوام طلبوا لباطل فأصابوه..
يرى الشهيد عبد القادر عودة بعين الشريعة لا بعينه، وبرؤية العقل والنقل جميعا أن المصدر الأول لفريضة الخلافة هو المشرع ، فالخلافة أو الإمامة ( يستعملان بنفس المعنى) فريضة شرعية يوجبها الشرع على كل مسلم ومسلمة ويخاطب الجميع بها وعليهم أن يعملوا حتى تؤدى هذه الفريضة فإذا أديت سقطت عنهم حتى تتجدد بعزل الخليفة أو موته..
ويورد الشهيد عشرات النصوص على وجوب الخلافة كفريضة:
"وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله " (النساء:64).. وقوله "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" (الحشر: 7) .. "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم " .. والمقصود بأولى الأمر أئمة الدولة الذين يتولون الأمر فيها واحدا بعد الآخر والذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم : " من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية" وقال "من خلع يدا من طاعة لقى الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس فى عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" وقال "إن من طاعة الله أن تطيعونى وان من طاعتى أن تطيعوا أئمتكم"..
ويؤخذ من هذه النصوص مجتمعة أن على المسلمين أن يختاروا إماما لهم أو خليفة عليهم فإن المسلم الذى يموت وليس له إمام يموت ميتة جاهلية ..
نعم.. ذلك أن الله جل شأنه جعل المسلمين أمة واحدة على اختلاف لغاتهم وأجناسهم وشعوبهم "إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون " (المؤمنون : 52)، "إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون " (الأنبياء: 92) ، وواجب على المسلمين أن يتحدوا ويلتفوا حول راية القرآن: "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " آل عمران : 103، وحرم عليهم التفرق والاختلاف والتنازع : "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا " (آل عمران :105)، .. "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم " (الأنفال : 6)..
هل تدركون الآن يا قراء لماذا فشلنا؟!..
وهل تفهمين ليوم يا أمة لم ذهبت ريحك ؟!..
فمقتضى هذه النصوص التى نعرض عنها يا أمة لا إله لا اله محمد رسول لله أن تكونى أمة واحدة ووحدة سياسية واحدة، وأن يكون لك دولة واحدة .
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنه: "لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمّروا عليهم أحدهم " ويقول: " إذا خرج ثلاثة فى سفر فليؤمروا عليهم أحدهم" ..
ما أرأفك بنا يا حبيبنا.. يا من بلغت الرسالة وأديت الأمانة.
كنت تدرك –يا حبيبى – أن هذه الإمارة ( الخلافة- الإمامة ) هى التى ستمنع الفرقة والاختلاف بين أجزاء الأمة.
جاهليو اليوم ينافقون فيدعون - حينما نحاصرهم – أنه لا مانع لديهم من الوحدة لكن عندما يقضون على الخلافات والتباينات بين الشعوب. .. لكننا نقول لهم أنه لن يقضى على تلك الاختلافات سوى الوحدة.. وتطبيق الشريعة..أى الخلافة.
يعكسون المسار كى لا تتحرك العربة أبدا ولكى ينفذوا مخطط الشيطان لا أوامر الرحمن..
فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد شرع هذا لثلاثة فى فلاة من الأرض أو مسافرين أفلا تكون شرعيته أولى لمليار وربع المليار؟!..
أنى تؤفكون..!!..
شرع الله لنا القوة فاخترنا الضعف..
وشرع الوحدة فاخترنا الفرقة..
ذلك أن الله وقد جعل المسلمين أمة واحدة وألزمهم أن يكونوا من أنفسهم دولة واحدة قد جعل أمر الحكم شورى بينهم، وإذا كان المسلمون مقيدين بأن يكونوا أمة واحدة وان تكون لهم دولة واحدة وان يختار الناس من يلى الحكم منهم ، فانه يتعين عليهم ألا يختاروا لرئاسة الدولة إلا إماما كلما خلا هذا المنصب ، وليس لهم باعتبارهم : أمة واحدة و: دولة واحدة أن يختاروا إلا إماما واحدا .
بالعقل والمصلحة لم يكن لنا سوى هذا الاختيار..
وحتى لو غابت المصلحة عن أعيننا فقد كان قمينا بقلوبنا أن ترى ما لا تراه الأعين.. لولا أننا جلنا أسلمنا ولما يدخل الإيمان قلوبنا..
هل ثمة اختيار غير هذا لك يا أمة..
ولكم يا قراء..
انطقوا.. أجيبوا .. ردوا..
أى طريق علينا أن نسلك..
طريق الله..؟!!..
أم طريق ا لجاهلية الأولى ، حيث يعود أبو جهل يقودنا فيها متخفيا فى ثياب عصرية، ويرطن بالإنجليزية أو الفرنسية ويخطب على منبر الأمم المتحدة ويُستقبل فى البيت الأبيض استقبال العمال على الأمصار بل الخدم، بعد أن جعل من سيد ذلك البيت الأبيض فى الدنيا والأسود فى الآخرة خليفته، وبعد أن استأمر علينا صنيعته "أبا لهب"، الذى تنكر هو الآخر فى ثياب آمر للشرطة وراح يسومنا سوء العذاب لأننا نقول:
" وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم " (الأحزاب : 36) .
خلافة فى المنفى "19"
كلُّ شىء مباح.. إلا الإسلام..!!
يصيبنى الذهول يا قراء عندما أستعرض موقف أولئك الأشرار الرافضين للخلافة الإسلامية برغم علمهم أن هناك إجماع بين فقهاء الإسلام على إن أهم أساس من أسس الإسلام بعد العقيدة هو الخلافة الإسلامية.
يصيبنى الذهول..
ليس لديهم بديل غيرها يطرحونه، ولا نظام آخر اتفقوا عليه.. وهم.. من شيوعيين إلى قوميين إلى علمانيين إلى مستغربين إلى حداثيين إلى العرب الصهاينة إلى العرب الأمريكان إلى بقايا العرب الروس إلى عبدة الشيطان لا يكاد يجمعهم شىء سوى رفض الخلافة كمظهر من أقوى و أهم مظاهر الإسلام، ليس ولاء لشىء غير الإسلام فلا ولاء لهم.. وقد تنقلوا بين الشرق والغرب والشمال تنقل جوارٍ بين أسياد.. فكلما ملكهن سيد جديد منحنه كل ولائهن.. فالولاء لمن دفع الثمن..
نعم.. لا يتخذون هذا الموقف لأن لديهم ما يقدمونه بل عداء للإسلام والمسلمين..
وهم على شذوذهم، على مستوى الواقع كما فى عبدة الشيطان، وعلى مستوى لا يقل بشاعة عن الواقع فى الفئات الأخرى، يحملون قدرا مذهلا من الكراهية لكل ما هو إسلامى، كراهية وثنية أو صليبية أو يهودية ، ككراهية الشيطان للمؤمنين. كراهية تجعل هدفهم النهائى استئصال شأفة كل ما هو إسلامى كما استأصل الغزاة البيض شأفة الهنود الحمر. كراهية تنفجر من أفواههم وأقلامهم ضد كل مسلم و ظاهرة إسلامية، إذا كانت هذه الظاهرة مبحث الخلافة استحالت هذه الكراهية إلى جنون غاضب وغضب مجنون.
الغريب أنهم يتفاخرون ويتطاولون عندما يحكمون علينا بفسادهم وبشذوذهم، أما نحن فلست أدرى ما يمنعنا من الحكم عليهم بديننا، حتى ليصدق فينا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح عن حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قبض الأمانة : " حتى يُقال للرجل : ما أجلدَه ! ما أظرفَه ! ما أعقلَه! وما في قلبه مثقال حبةٍ من خردل من إيمان " (البخاري.)
الدكتور فؤاد زكريا ، واحد من غلاة العلمانيين الذين يرفضون ويسخرون من فكرة الخلافة، ( ما أجلده ما أعقله !!)..وكان قد أصيب بضربة قاصمة زلزلت قيادته الفكرية للعلمانيين بعد هزيمته هزيمة ساحقة فى مناظرة مع سلطان العلماء لا عالم السلاطين فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوى الذى أورد تفاصيلها فى كتاب من أخطر و أهم كتبه هو كتاب " العلمانية"، وسوف نعود إلى هذا الكتاب إن شاء الله فى مقال آخر.
الدكتور فؤاد زكريا هذا يعترف ويقول:
( أنها- يعني الأحزاب العلمانية في الوطن العربي - لا تكون مشروعا للنهضة وإنما تشترك في رفض المشروع الذي تقدمه الحركة الإسلامية المعاصرة ، والفرق بين التيار الإسلامي المعاصر والاتجاه العلماني الذي يتصدى له ليس تضادا بين مشروعين وإنما هناك مشروع إسلامي من ناحية ومحاولات دفاعية لنقد هذا المشروع وبيان نقاط الضعف فيه من ناحية أخرى ، وهو ليس تضادا بين أيديولوجيتين ، لأن هناك من جهة أيديولوجية إسلامية وتختلف تياراتها في بعض التفاصيل ولكن الاتجاه العام والاستراتيجية البعيدة متقاربة ، وهناك من جهة أخرى مجموعة من الأيديولوجيات الشديدة التباين التي لا يجمع بينها سوى رفض الحل السياسي الذي يقترحه التيار الإسلامي ) .
هؤلاء العلمانيون الرافضون لحكم الإسلام لا يملكون إذن وجهة نظر مغايرة.. ولم يجتمعوا إلا على رفض منهج الحكم الإسلامى.. وفى سبيلهم لذلك تورطوا فى تأييد أشد أنظمة الحكم سوءا وبطشا وفسادا.. بل وانقلبوا حتى على ما ينادى معظمهم به من الأخذ بديموقراطية الغرب كمنهج، عندما أسفرت الانتخابات عن فوز المسلمين بالأغلبية الساحقة كما حدث فى الجزائر، وسقط مئات الآلاف من الضحايا دون أن يحرك ذلك فيهم شعرة أو ينتفض فيهم ضمير كذلك الذى انتفض زورا وغشا وخداعا أمام صورة مزورة لطائر بحرى جلبوه من مياه بحر الشمال وألقوه فى الخليج كى يتهموا العراق بقتله..!!..
انتفضوا لواقعة الطير المزورة ولم ينتفضوا لمصرع مئات لآلاف..
ولم يرتفع من أصواتهم الجهورية صوت يندد بتزوير الانتخابات ضد المسلمين فى بلاد أخرى.. ولا بإهدار حقوقهم .. واعتقالهم وتعذيبهم .. وقارنوا يا قراء بين موقفهم من عبدة الشيطان ( حيث كل الرحمة والحفاظ على حقوق الإنسان والتماس المعاذير وعدم نشر الأسماء تجنبا للفضيحة ) وبين موقفهم من ضحايا المسلمين.. الذين يعبدون الله لا يشركون به شيئا.. قارنوا بين موقفهم من نصر حامد أبو زيد (ثلاثة تقارير من الأزهر و أحكام نهائية متعددة توجها حكم محكمة النقض تقضى جميعها بإنكاره ما هو معلوم من الدين بالضرورة) .. وموقفهم من الشهيد سيد قطب أو من الأسير عمر عبد الرحمن..
هؤلاء العلمانيون يزايدون حتى على أسيادهم فى الغرب فى كراهية الإسلام وحكمه، حتى أن علمانية الغرب تسمح للمسلمين فيه بحقوق تتجاوز بكثير تلك المسموح بها فى بلاد المسلمين!!.
فى مثل هؤلاء العلمانيين الأشرار يقول فضيلة الشيخ محمد الغزالى رضى الله عنه فى كتابه " ظلام من الغرب":
" هناك مستشرقون مصريون ولدوا فى بلادنا هذه ، ولكن عقولهم وقلوبهم تربت فى الغرب ونمت أعوادهم مائلة إليه ، فهم أبدا تبع لما جاء به..!
إنهم من جلدتنا ، ويتكلمون بألسنتنا بيد أنهم خطر على كياننا.. لأنهم كفار بالعروبة والإسلام ، أعوان - عن اقتناع أو مصلحة - للحرب الباردة التى يشنها الاستعمار علينا ، بعد الحرب التى مزق بها أمتنا الكبيرة خلال قرن مضى . . .
وهم سفراء فوق العادة لإنجلترا ، وفرنسا ، وأمريكا أو دول التصريح الثلاثى الذى خلق إسرائيل وحماها .والفرق بينهم وبين السفراء الرسميين أن هؤلاء لهم تقاليد تفرض عليهم الصمت ، وتصبغ حركاتهم بالأدب .أما أولئك المستشرقون السفراء فوظيفتهم الأولى أن يثرثروا فى الصحف وفى المجالس ، وأن يختلقوا كل يوم مشكلة موهومة ليسقطوا من بناء الإسلام لبنة، وليذهبوا بجزء من مهابته فى النفوس . . .وبذلك يحققون الغاية الكبرى من الزحف المشترك الذى تكاتفت فيه : الشيوعية و الصهيونية و الصليبية فى العصر الحديث..!
التحرير الكامل أن نجلى هذا الصنف من المستشرقين عن الحياة العامة كما أجلينا عن ضفاف القناة جيوش إنجلترا ، وكما سنجلى عصابات اليهود عن أرض فلسطين - بعون الحق - جل شانه ...! "إن هذا النفر من حملة الأقلام الملوثة أخطر على مستقبلنا من الأعداء السافرين ، فإن النفاق الذى برعوا فيه يخدع الأغرار بالأخذ عنهم . .وقد يقولون كلمات من الحق تمهيدا لألف كلمة من الباطل تجىء عقيبها . فلنحذر هذا العدو المقنع ولنؤمن طريق نهضتنا بتجلية هذا الظلام الوافد من الغرب "
***
ولو أن الأمر قد اقتصر على هؤلاء لهان.. لكن الكارثة التى تدفع بنا للهاوية هو ذلك الحلف غير المقدس بين السلطة الباطشة وهذا النوع من أعداء الله، خاصة وأن الأمة قد مكثت فترة طويلة جدا قبل أن يكتشف بعضها طبيعة هذا التحالف الذى لم يجعهم فيه إلا كراهية الإسلام وأهله. . تحالف خفىّ كتحالف العملاء والجواسيس مع عدو.. إن السياسة بأدواتها الغليظة المباشرة سرعان ما تكشف نفسها.. ولقد قام هؤلاء حتى وهم يمثلون زورا وخداعا أدوار المعارضة بدور أساسى فى التعمية على الأمة..
إن الصحوة الإسلامية التى يحاول الغرب إجهاضها بكل قوة لإدراكه خطورتها عليه، هى فى الواقع أشد خطرا على هؤلاء و أولئك من خطورتها على الغرب.
يقول الشهيد عبد القادر عودة فى حديثه عن الخلافة:
" وهكذا تضافر الحكام المسلمون وبعض الفقهاء المسلمين - وكلا الفريقين أمين على مصالح الأمة - تضافروا جميعا على خيانة الأمة الإسلامية ، وسلبها حقوقها التى فرضها الإسلام ، فالإسلام يعطى للامة حق اختيار حكامها وعزلهم ، وجعلهم بمثابة النواب عنها ، ولكن الحكام وبعض الفقهاء تآمروا على الأمة الإسلامية فسلبوها كل حقوقها ، وجعلوا من أفرادها عبيدا ومن الحكام سادة يأمرون فلا يرد لهم أمر ويتصرفون فى حقوق الأمة ومستقبلها وأرواح أبنائها دون حسيب ولا رقيب . وقد شارك فى هذه الخيانة جماهير المسلمين بسكوتهم على الباطل ، ولرضاء بعضهم به ، وبعدم ثورتهم عليه ، فتمت بذلك المؤامرة الكبرى التى أوشكت أن تقضى على الإسلام ، والتى عطلت سيره وأوقفت اندفاعه من مئات السنين ، وخان المسلمون جميعهم - عن جهل أو عمد- الأمانة التى عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وتعرض لحملها الإنسان على ما فيه من جهل وظلم (..) خان المسلمون أمانة خلافة الله فى الأرض وكفروا بأنعمه عليهم فلم يقيموا أمر الله فيما بينهم ولم يهتدوا بهديه ولم ينتهوا عن نهيه (..) وخانوا أمانة الاستخلاف فى الحكم بعد أن مكن الله لهم ، فلم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة ولم يأمروا بمعروف ولم ينهوا عن منكر(..) وارتكب المسلمون حكاما ومحكومين هذه الخيانات وقد نهاهم الله عن خيانة الأمانات وحذرهم منها(..).. فجزاهم الله المهانة فى الأرض ، وسلط عليهم أعداءهم يملكون بلادهم ، ويتقاسمون أوطانهم ، ويحولون بينهم وبين نعيم الحياة ونعمة الكرامة والحرية . ولقد انتهى هذا كله إلى أسوأ النهايات ، فقد فسدت أداة الحكم فى الدولة الإسلامية وتحولت عن غايتها التى رسمها الإسلام ، وأصبحت مهمة الحكام أن يحكموا فى حدود الهوى والمنفعة ، وابتغاء الاستعلاء والسيطرة أو ابتغاء رضا المستعمرين ، بعد أن كان واجبهم الأول أن يحكموا فى حدود الإسلام ابتغاء مصلحة الجماعة وابتغاء وجه الله . وحينما انفلت الحكام من حدود الدين انقلبت الموازين فى أيديهم واختلطت الأوضاع عليهم ، فهم لا يميزون الطيب من الخبيث ولا يعرفون الحق من الباطل ولا يفرقون بين الضار والنافع ، لأنهم يتبعون أهواءهم ، ويتخذون منها آلهة (..) وترتب على فساد الحكم وخروج الحكام على حدود الدين أن ابتعد الناس عن الدين ، وفسدت الأخلاق ، وشاعت الفاحشة ، وضعف المسلمون ، وتصدعت وحدتهم ، وتعددت أحزابهم واتجاهاتهم ، بما اتبعوا من أهوائهم ، حتى أصبحت الفوضى شعارهم ، والتفرق الذي نهوا عنه يميزهم عن غيرهم ، وحتى انتهوا إلى ما هم فيه من الاستعباد والذلة ، يستعبدهم المستذلون ويغلبهم على أمرهم المشردون المغلولون . "
***
خان المثقفون وفقهاء السلطان دورهم..
وأصبحت المشكلة أصعب..
فبدلا من أن ترسم الثقافة للسياسة المعايير والقيم والمثل الأعلى، راحت السياسة، ويا ليتها سياسة سوية، ترسم للثقافة معاييرها ومثلها وقيمها الدنيا .
ولعل دستويفسكى كان يصف أمثالهم حين قال "إذا لم يكن الله موجودا . . . فكل شىء مباح"..
نعم.. هؤلاء الذين كفروا بالله كفر ربوبية أو كفر ألوهية أو كفر أسماء وصفات.. كل شىء عندهم مباح .. إلا الإسلام..!!
أدلف إلى الموضوع مباشرة..
أعلن عودة الخلافة يا دكتور يوسف القرضاوى..
أعلنها تبرئ ذمتك وذمتنا أمام الله فهى كما اتفق الفقهاء فرض كفاية إن لم يقم به أحد أثم المسلمون جميعا..
أعلنها.. عسانا أن نكون قوما يحبهم الله ويحبونه فننال شرف البداية..
أنت تعلم أنها آتية لا ريب فيها.. فالحديث النبوى الشريف يقول:
تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبريا، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت،( رواه أحمد) وصدق رسول الله وكذب العلمانيون والمستغربون بمراكزهم الاستراتيجية..
أعلنها يا سيدى..
فبدونها تبقى البلاد الإسلامية ممزقة، وتبقى الشعوب مفرقة، ويظل كل مجهود نبذله هباء تذروه الرياح أو كمن يحرث فى البحر..
و بدونها تبقى دول الطواغيت تتحكم في رقابنا، وتنهب خيراتنا، وتوقع بيننا الشقاق، وتنصب علينا وكلاءها حكاما علينا..
وبدونها ستبقى الشعوب الإسلامية فى كل أرجاء الأرض تقتل وتشرد وتهدم معابدها وتدنس أعراضها، وليس من منقذ، فللمسيحية دولها المحورية التى تقلب الدنيا من أجل مسيحى، ولليهود دولتهم المحورية التى غزت لبنان من أجل جرح يهودى، حتى البوذيين لهم دولتهم المحورية.. إلا الإسلام..
وبدون الخلافة ينحرف التاريخ عندما نتوقف عن الكينونة أمة وسطا شهداء على الناس..
وبدونها يبقى المسلمون غير العاملين بجد لإقامتها في الإثم وفي غضب الله، وإن صاموا وصلّوْا وحجّوا وزكّوْا.
فالعمل لإقامة الخلافة هو الآن فرض عين، في أقصى طاقة وأقصى سرعة.
فرض عين يا سيدى.. فإن لم تتصد له أنت فمن سواك..
أقسمت عليك بالذى تحبه ونحبه.. لا تتركنا نموت ميتة جاهلية وليست فى أعناقنا بيعة..
إننى أخشى يا سيدى أن يقبضك الله قبل أن تسدى إلى أمتك الإسلامية هذا المعروف.. لأننا فى الزمان الذى بقبض الله فيه العلم من الأرض بقبض العلماء..
إننى أعلم أنك لا تحبذ فكرة المؤامرة .. وتلك نقطة أرجو أن تسمح لى بالاختلاف معك فيها.. لكنه خلاف نظرى لا يغير الآن من الواقع شيئا.. فما نعيشه الآن أسوأ من المؤامرة و أخطر.. لأن المؤامرة مهما بلغ استخفاؤها وخطرها يمكن أن تكتشف ذات يوم.. و أن تقاوَم.. لكن الأخطر من حالة المؤامرة هى حالة فقدان الرغبة - ولا أقول القدرة - على مقاومة المؤامرة.. والأخطر من هذا وذاك هو حالة التدهور العام فى كل شئوننا.. تدهور قد تكون فكرة المؤامرة قد لعبت دورا فيه.. لكن الأخطر أنه اكتسب قوة الدفع الذاتية التى تمكنه من تدمير الأمة والوطن والدولة والشعب والحكومة والمعارضة بقواه الكامنة دون أى حاجة لمؤامرات جديدة..
إطار مخيف..
إطار فقدان العلاقة بين القول والفعل..
إطار استحلال الحرام وتحريم الحلال..
إطار الخجل مما ينبغى علينا أن نفخر به والفخر مما ينبغى علينا أن نخجل منه ..
إطار تجاوز الجهر بالفحشاء والمنكر إلى الفخر بالفحشاء والمنكر وإدانة من لا يرتكبهما..
إطار تحولت فيه صلاة الجماعة فى بعض بلادنا الإسلامية إلى مسوغ للفصل من العمل.. وفى بلاد أخرى إلى الاعتقال المفتوح والتعذيب حتى الموت..
إطار يحاول الناس فيه - بعض الناس- أن يعضوا بالنواجذ على دينهم و أن يقبضوا عليه قبض القابض على الجمر، فيقتلهم ولاة أمورهم أو ينكلون بهم.. لأنهم يقولون ربنا الله..
إطار فقدان المرجعية..
ثم فقدان المنطق..
إطار تنحى مفهوم الدولة وتغوّل مفهوم الحكومة التى راحت تدوس القانون بدلا من أن تطبقه معلية قيم البلطجة والاستهتار.. إطار انهيار مفهوم سيادة القانون..
حتى القانون الوضعى الذى أتوا به لم يعد هناك من يلتزم به أو يحترمه..
وإزاء تلاشى مفهوم الدولة.. وتغول حكومة عاجزة.. وانهيار سيادة القانون.. وسيادة مفهوم أن لا أحد يحاسب أحدا.. والإحباط العام .. فإننا نتدهور بسرعة إلى شرائع الغاب.. حيث يأكل القوى الضعيف..
ولو أننا سرنا يا سيدنا وشيخنا حتى فى إطار الديموقراطية الغربية لانتصر الإسلام.. وليجرِ من لا يصدقنى استفتاء غير مزور فى أى بلد إسلامى ولير نتيجته..
انظر يا سيدى ما حدث فى الجزائر..
وما حدث فى الجزائر كان ينبغى أن ينبهنا إلى أشياء غفلنا عنها ما كان ينبغى لنا أن نغفل عنها أبدا.. لكننا غفلنا..
من هذه الأشياء أن الإسلام هو رابط هذه الأمة ومنبع عزتها فإذا تخلت عنه انفرطت وذلت.. انفرطت كما انفرطنا من مسلمين لا فرق بين أحدنا وبين أخيه إلا بالتقوى: إلى مسلمين عرب ومسلمين عجم.. ثم إلى عرب مصريين وشوام وعراقيين وحجازيين ..و ..و .. ثم أخذ الوطن الواحد ينفرط.. مسلمون جزائريون عرب ومسلمون جزائريون بربر.. أما تلك الطغمة الفاسدة التى تسعى لاستمرار هذا الوضع المثالى لأعدائنا فتذكى النار وكأنها نذرت ألا تدع على وجه البسيطة من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله فلا يهمها شىء.. تضعف الأمة بسياساتهم الخرقاء لا يهم.. يضعف الوطن.. لا يهم.. يتفتت الوطن.. لا يهم.. لكن هدفهم الذى يعيشون فى سبيله ويموتون دونه هو القضاء على الإسلام حتى لو أدى ذلك إلى تلاشى أوطانهم.
أعلنها يا سيدى..
قد تقول أن الوقت غير مناسب.. و أن الصحوة الإسلامية فى نموها ستفرض الأمر بعد عقود أو قرون..
ولست أتفق مع هذا الرأى يا سيدى..
نعم.. هناك صحوة إسلامية.. لكنها حين تتقدم بسرعة السيارة يتقدم أعداؤها بسرعة طائرة.. أعداؤها الذين تجمعوا كما لم يتجمعوا عبر التاريخ قط.. اليهود والصليبيون والعلمانيون ونخبنا المثقفة وجل ولاة أمورنا..
فى العالم غير الإسلامى لم تكن مشكلة الغرب فى فرض حضارته صعبة.. لأن هذا العالم لم يكن يمتلك حضارة كاملة راسخة كحضارتنا..
بالنسبة لنا.. ليس الأمر مجرد غزو فكرى.. بل هو فكر استيطانى يستأصل حضارتنا وفكرنا ليحل محله..
لقد قرروا ألا يواجهوا الإسلام مباشرة بل أن يخربوه جزءا فجزء.. لقد عجزوا عن سحقه فى قلوبنا .. فقرروا أن يسرقوه إذن منها .. يسرقونه بالتسلل إلى بنوده وأركانه وتدميرها فلا يبقى فى قلوبنا إلا هيكل بلا محتوى وشكل بلا مضمون .. وعندما يصلون إلى ذلك سيكون من اليسير عليهم اقتلاع بقاياه..إنهم يسوقوننا سوقا إلى إسلام آخر غير الذى نزل الأمين به على محمد صلى الله عليه وسلم .. إسلام لا نسلم أمرنا فيه إلى الله بل إليهم .. إسلام يتجرد من عقيدة الإسلام.. ولأنهم يدركون أن هذه الأمة لا تستطيع الحياة بلا دين فقد قرروا تقديم إسلام مزور إليهم .. إسلام كشف محمد جلال كشك عن تفاصيله حين أطلقوا عليه فى أضابيرهم فى مؤتمر انعقد فى الولايات المتحدة الأمريكية اسم : "الإسلام العيسوى".. إسلام بلا جهاد.. إسلام يتراجع فيه المسلمون عن عقد بيعهم لأنفسهم مع الله بأن لهم الجنة .. إسلام لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يقوم اعوجاج السلاطين بالسيف ولا حتى باللسان .. إسلام لا يتدخل فى السياسة ولا فى نظام الحكم ولا فى الاقتصاد ولا فى مكافحة الظلم.. إسلام لا رأى له فى تزوير الانتخابات ولا فى التعذيب..إسلام لا دخل له بالكفر ولا دخل له بالإسلام أيضا .. ولقد سموا هذا الإسلام الذى يخططون لنشره بالإسلام العيسوى .. إسلام يعطى الدنيا بما فيها لقيصر وبوش ولا مانع لديهم من تركنا نتخيل آخرة – لا يؤمنون بها- كما نشاء ما دمنا لا نحول بينهم وبين الدنيا .. إسلام منكفئ على نفسه .. قد يمنون علينا بألا يفعلوا بنا ما فعله أجدادهم بأجدادنا فى محاكم التفتيش بشرط أن نحصر إيماننا فى نطاق لا يؤثر ولا يتأثر .. إسلام كأساطير الأولين لا دور لها إلا فى تسلية السادة وإلهاء الأمة..
يا إلهى..
فى العالم العربى كله لا يسمح بحرية تكوين حزب إسلامى..
فى العالم العربى جله فإن الإسلام إما محاصر وإما سجين ..
فى العالم العربى جله وقف الجيش والشرطة مع العدو ضد الأمة.. مع الشيطان ضد الله.. مع الصليبيين واليهود ضد محمد صلى الله عليه وسلم ..
يقول الشيخ مصطفى صبرى: شيخ الإسلام للدولة العثمانية سابقا فى كتابه : موقف العقل والعلم و العالم من رب العالمين وعبادة المرسلين: دار إحياء التراث العربى- بيروت- لبنان:
" أضعنا الدنيا و أضعنا الفرصة فأصبحنا ألعوبة فى يد الدول الكبرى .."
ثم يواصل :
وكان ظنى عند مغادرة تركيا مهاجرا إلى بلاد العرب التى جاء نور الإسلام إلينا منهم، أنى أستريح من مجاهدة الملاحدة ، لكنى وجدت الجو الثقافى بمصر أيضا مسموما من تيار الغرب، فشقّ هذا على نفسى أكثر مما شقّ علىّ موقف تركيا الجديدة من ذلك التيار، كما شقّ وقوفى على أن إخوانى العرب يفضلون تركيا هذه على تركيا القديمة المسلمة، فرأيتهم توغلوا فى تقليد الغرب وسابقوا الترك فى الافتتان به ..والانقلاب الثائر فى تركيا حصل عندهم فى شكل هادئ"..
أعلنها يا سيدى..
يا سلطان العلماء لا عالم السلاطين..
وفى فيض علمك ودعاء الأمة لك سوف نتجنب – إن شاء الله- الفتنة والاختلاف ..
حتى من يختلفون معك.. ومن يختلفون عليك.. لا أحسبهم يقفون من إعلان الخلافة إلا موقف التجمع والتأييد..
الخلافة جوهر وشكل..
الجوهر إلهى وهو الإسلام كله .. و هو أن يكون المسلمون أمة واحدة تطبق شرع الله..
أما الشكل فبشرى ومتروك لنا.. لذلك ليست هناك صيغة واحدة نقترحها.. هذا كله اجتهاد علينا أن نسعى للحصول على أجر فيه إن لم نفلح فى الحصول على الأجرين.. فيمكن أن يكون الخليفة فردا.. ويمكن أن يكون مؤسسة.. ويمكن أن يكون مؤسسة يرأسها فرد..
هذه المؤسسة لا بد لها أن تبدأ على الفور.. كى تنقذ الأمة من الوضع المأساوى الذى تجد نفسها فيه فى مواجهة أعدائها – ومنهم حكامها – دون زعامة ولا قيادة..
فى كل بلاد الدنيا تتسق مصالح الحكام مع مصالح بلادهم، حتى ولو كان هؤلاء الحكام مجرمين ( إجرام شارون مثلا يصب فى مصلحة إسرائيل، و إجرام هتلر كان يصب فى مصلحة ألمانيا.. كذلك ستالين ونابليون.. و .. و.. )..
فى العالم الإسلامى ليس الوضع كذلك..
فثمة عدو قاهر باطش قوى هو الغرب.. وهو الذى يضمن لجل حكامنا استمرارهم فى مناصبهم ( انظر معايرة فريدمان الأخيرة للرئيس مبارك)..وثمة أمة ترفض أن تستسلم كما استسلمت الأمم الأخرى.. والحكام يقبعون بين سندان قوة غربية غاصبة وبين مطرقة أمة عاجزة غاضبة.. ولقد اكتشفوا أنهم لا يستطيعون خداع الغرب فقرروا خداع أممهم.. فمن لم يقبل بالخديعة غيبته المشانق والسجون..
لقد بلغ الحكام شأوا بعيدا فى إخصاء الأمة من تكوين أى قيادة يمكن أن تحركها..
انظر إلى دول العالم الإسلامى كله وقد تم تشويه ووأد أى قيادة محتملة ولو على المدى البعيد..
انظر إلى دول العالم الإسلامى كله وسوف تجد الرجل الأول فقط.. ولا يوجد رجل ثان..!!..
والأمة دون قيادة - كجسد بلا رأس - عاجزة عن الحركة والفعل..
إن الأمور تتفاقم فأعلنها يا سيدى..
أعلنها .. حتى لو كانت خلافة بلا سلطة فسوف تأتيها السلطة ولو بعد مائة عام..
أعلنها .. لكى تمثل مؤسسة الخلافة رابطا يجمع مئات الهيئات والمؤسسات الإسلامية المحاصرة يكاد لا يسمع عنها أحد..
إن لم تحركنا المجزرة فى فلسطين فماذا سوف يحركنا بعد؟!..
فأعلنها توازن بها بعضا من طغيان طواغيتنا.. فإنها حين تبدأ ستكون المرجع النهائى فى تحريك المسلمين.. وفى الحكم على الحكام..
لقد كانت أوصال بريطانيا ترتعد عندما يهدد السلطان عبد الحميد بإعلان الحرب المقدسة..
فأعلنها.. نبدأ بها خوض حربنا المقدسة..
أعلنها.. و إن ضاقت بك جل بلاد المسلمين فأعلنها ولو على جزيرة من جزر المسلمين أو إمارة من الإمارات ..
أعلنها .. حتى ولو كانت فى المنفى..
وامدد يدك نبايعك..
أو امدد يدك وبايع من تراه أحق بها.. نبايعه خلفك..
كنا فى موسم الحج .. وكنت قد انتدبت للعمل طبيبا فى مستشفى عرفات.. وكنت أحج..
كانت العادة أن تغلق المستشفى أبوابها مع النفرة.. وأن يُحوّل من فيها من المرضى إلى مكة.. لكن اكتشاف انتشار وباءى الالتهاب السحائى والكوليرا بين الحجاج فى ذلك العام غيّر من ذلك النظام فصدرت الأوامر ببقائنا فى المستشفى لرعاية المرضى..
واستفتينا شيخ الحرم فأفتى لنا بأنه ينطبق علينا ما ينطبق على السقاة والرعاة وألا نبيت فى منى بل نؤدى المناسك ثم نعود لنبيت فى عرفات.. على أن نحتفظ بإحرامنا حتى طواف الإفاضة..
لم تكن الخدمات فى المشاعر تكاد تقارن بمستواها الآن.. وكنت أؤدى مناسك الحج للمرة الأولى وكنت أتخبط فى ملابس الإحرام..
كنت أجيش بالمشاعر بعد المزدلفة ومنى ورمى جمرة العقبة الكبرى ..
وكنت مجهدا من عمل متواصل طيلة الأيام السابقة ..
كان المستشفى مكدسا بالمرضى وكان الموت يتجول بيننا حتى كدنا أن نراه..
كان الأمر هائلا وغريبا وبدا أنه لا ينتمى لحياتنا الدنيا .. ربما ينتمى إلى دنيا الأحلام والرؤى.. أو بدا أنه مشهد من مشاهد الآخرة.. كان الموت حاضرا .. وكان مسيطرا .. الموت الذى نقابله فى حياتنا العادية مرة أو مرتين فى العام.. وربما كأطباء نراه مرة فى الشهر أو حتى فى الأسبوع .. هذا الموت نقابله الآن فى الساعة الواحدة مرات ومرات بل وأحيانا يتكرر فى الدقيقة الواحدة.. استطعنا بجهد جهيد التعامل مع الوضع الطارئ وسط أحزان فاجعة لموت العشرات من الحجاج .. ذلك الحزن الثقيل الخانق الذى لا يتيح لك أى وقت تتأمله فيه.. لم أكن أحسب أن الموت يمكن أن يأتى بمثل هذه السهولة.. بمثل هذه التكرارية .. أحسست بجبروت الله فملأ الرعب قلبى..
كنا قد قضينا 24 ساعة دون نوم .. أديت مناسك الحج ثم عدت إلى المستشفى قبل فجر النحر بساعات فذهب معظم زملائى وبقيت مسئولا عن استقبال المرضى وحدى.. أعالج المرضى وأغمض عيون الموتى و أتلو الشهادتين و أحرر شهادات الوفاة ..
هل يعرف ذووهم أنهم يموتون الآن؟؟..
ولم يكن هناك أى وقت للإجابة على السؤال أو التأمل فيه..
كنت جائعا عطشانا نصف عار أكاد أسقط من الإعياء والإرهاق مترقبا وصول زملائى حتى أركن لبعض راحة..
لم يأت الزملاء .. ساعات وساعات ولم يحضروا.. بل حضر فى المساء سرب من سيارات الإسعاف يحمل المصابين فى حوادث الطرق..
أدركت على الفور أننى يجب أن أتعامل مع هذا الوضع كما يتعامل الأطباء فى ميدان المعركة .. فأجريت حصرا سريعا للمصابين .. كانوا أربعة عشر مصابا يلبسون جميعا ملابس الإحرام.. وزعهم رجال الإسعاف على حجرات الاستقبال.. وضعوا المصاب الأول – كيفما اتفق - وحده فى غرفة .. كانت الغرفة صغيرة جدا بحيث لا تكاد تتسع لكلينا.. لم أعرف أبدا طيلة الأيام السابقة لماذا صمموا هذه الغرفة بهذا الصغر.. كانت مهجورة ولم تستعمل ولم أر من يدخلها من قبل أبدا .. بل إننى فوجئت بوجودها.. فحصت المريض.. كان شابا .. ربما كان فى الخامسة والعشرين من عمره.. لم تكن به إصابات ظاهرة.. حاولت بالعربية والإنجليزية التفاهم معه وسؤاله مم يشكو .. كان مكتمل الوعى لكنه لم يفهم لغتى.. كنت أحاول التفاهم معه.. كنت أتحدث إليه.. لم يقدم على مجرد المحاولة كما كان الآخرون يفعلون عادة حين كانوا يحاولون فيفشلون فيهتفون بعربية صحيحة: الله أكبر.. محمد رسول الله .. ثم يصمتون وكأنهم قد قدموا أوراقهم وهويتهم ودليل قرابتهم .. قدّموا الأهم أما الباقى فتفاصيل مكررة متشابهة لا معنى لها ولا قيمة .. لم يفعل هذا المريض ذلك.. فحصت الضغط والنبض.. كانا فى حدود الطبيعى.. فحصت باقى الأعضاء.. لم يكن هناك سوى بقايا دم متجلط إثر رعاف.. كانت حالته جيدة وكان غيره أحوج لى .. فحصت الباقين و أنا ألقى تعليمات حاسمة وسريعة لهيئة التمريض تتضمن الإسعافات السريعة والعلاج والدم والبلازما والأكسيجين وطلب سيارات إسعاف لتحويل من يحتاج لمستشفيات متخصصة.. طلبت من هيئة التمريض متابعة النبض والضغط ولإبلاغى على الفور بما يستجد .. أكملت الفحص الأولى للمرضى .. حاولت مواجهة ما يتهدد الحياة بصورة عاجلة كنزيف حاد أو اختناق .. وضعت الجبائر للكسور وحقنت المسكنات و أعطيت التعليمات اللازمة لحالات النزيف الداخلى.. وصلت أخيرا إلى مصاب حالته خطيرة.. كانت ضلوعه مهشمة.. كل ضلوعه تقريبا بدرجة أذهلتنى كيف وقع الحادث وما هو كنهه.. كان ضغط الدم صفرا والنبض لا يحس لكنه كان مكتمل الوعى.. وكان الدم يفور كالزبد من فمه.. كنت أضخ المحاليل والدم فى عروقه و أشفط السوائل من فمه.. كنت منفعلا تماما ومستغرقا بدرجة لا يمكن وصفها.. وكان هو يحدثنى بضعف فى صفاء واستسلام الرضى لا استسلام اليأس: لا تتعب نفسك يا دكتور فإننى أحس بالموت .. أشعر بروحى تطلع الآن.. أحس بها تطلع فعلا.. لن أمكث طويلا .. رحت أشجعه.. أكذب عليه و أشجعه.. قال فى استسلام كامل: أعول ثلاثة عشر منهم أبى وأمى.. ليس لهم سواى .. حملق .. بدا أنه ينظر إلى مالا أراه وهمس: لهم الله .. لهم الله .. همس .. أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .. ودون حتى رجفة أسلم الروح .. مات.. لم يكن لدى أى متسع من الوقت كى أمارس فيه رفاهية التفريج عن الألم أو التعبير عنه .. انطلقت إلى سواه .. حاجز اللغة سكين يذبح التواصل..أرتب الحالات طبقا لخطورتها .. لكن هل أنا مصيب فى تقديرى لدرجة الخطورة.. أى خطأ أو سوء فى التقدير لا عاقبة له سوى الموت .. ولم يكن هناك أى وقت للإجابة عن السؤال.. كل آن و آخر كان أحد الممرضين يأتى ليطلب نجدتى لمريض من مرضى الكوليرا أو الالتهاب السحائى.. وكنت أترك المصابين وأجرى.. أصف العلاج .. ويأتى المسعف بعد قليل ليخبرنى: هذا تحسن وذاك مات .. كنت أسمعه بأذن أما الأذن الأخرى فمع المصاب الذى أتابعه .. أحدق فى عيون الأحياء كى أقدر حالتهم وفى حدقات الموتى كى أتيقن من موتهم.. كانت العيون الميتة تبدو بلا غور.. امتزجت باللانهاية.. لم تكن العيون الميتة ميتة.. بدت تحمل إنذارا رهيبا وتحذيرا مروعا.. بدا لى أنها تحسد الأحياء جميعا فما تزال أمامهم فرص لاستدراك ما فاتهم واستدبار أمرهم..فرص للتوبة بينما هى قد عبرت الفرصة الأخيرة..بدا أنها رأت ما لا عين رأت .. وأنها تريد – لولا الموت – أن تطلق صيحة تحذير هائلة .. عرفنا الحقيقة.. تبا لكم عرفنا الحقيقة.. ذلك ما كنا عنه نحيد .. كنت أحملق في الأحداق .. كانت واسعة جدا .. وكانت تشبه فوهة بئر بلا قرار يكاد يجذبنى بقوة جاذبية الأفلاك فأوشك أن أسقط فيه..لو أن بصرى أحد لرأيت ما رأت .. ماذا رأيت أيتها العيون الميتة عند العتبة الفاصلة بين الحياة والموت.. وهذا الانطفاء فى اللمعة هل يعنى كشف غطائك وأن بصرك الآن حديد.. لا يبدو فى الأجساد الميتة أى تغير فلماذا لا تنهض واقفة؟! .. لماذا لا تنهض واقفة يا معشر الماديين والعلمانيين ولم ينقص من مادتها أى شئ.. كل ما تعترفون به لم ينقص منه شئ فماذا حدث إذن.. وهل غير المحسوس الذى ذهب أهم أم الملموس الذى بقى؟!..
أجيبوا .. قولوا…
لم تتطور أجسادكم من القرود لكنكم أضل ..
اعترفوا بأن الروح من أمر ربى…
****
بعد ستة ساعات كان الوضع قد استقر قليلا ..
كان الصباح الجديد يشقشق وكان الشاهد الأبيض فوق جبل الرحمة يخطف القلب ويلوح فى الأفق تهب منه نسمات تهفو لها الروح ..
أمكن إنقاذ عشرة من المصابين ومات ثلاثة.. كدت أتجه إلى مقعد استجابة لعظام تئن ومفاصل تتفكك وعضلات ترتجف .. لكننى تذكرت على الفور فاستدركت حائرا: لكنهم كانوا أربعة عشر.. انسدل غشاء من الغباء علىّ فلم أجد تفسيرا لذلك اللّغز الغريب لبضع ثوان لكننى سرعان ما هتفت فى لوعة وارتياع: مريض الغرفة المهجورة.. لم أتذكره ولم يذكرنى به أحد ..
جريت إليه ..
وكان راقدا بالحالة التى تركته عليها ..
لكنه كان ميتا ..
غام الأفق بل انفجر فانهرت تماما ورحت أجهش بالبكاء ..
****
لعلك تتساءل أيها القارئ لماذا أنزف هذه الذكريات و أكتبها لك ..
أقول لك ..
ذلك أن شعورى إذ أكتب هذه المقالات شبيه بشعورى فى ذلك اليوم الذى مر عليه أكثر من ربع قرن فى عرفات .. إننى أتناول فى هذه المقالات من القضايا ما أظن أنه الأخطر.. ما أعتقد أنه لم يعد يحتمل الانتظار.. لذلك تجدنى أحدثك فى اتجاه منتويا الاستمرار فيه لكننى سرعان ما أخلف ما انتويته لأنطلق إلى قضية أخرى .. أما تتابع الأحداث فتجلدنى بسياط من نار.. كيف يطاوعك قلبك أن تتوقف عن الكتابة عن فلسطين والانتفاضة والشهداء ؟.. كيف مهما كانت أهمية الموضوعات الأخرى؟.. لكن هل نسيت كشمير والشيشان و بورما و الفليبين .. وهل نسيت أن كوسوفا ما تزال فى المأساة -لأن الأطلنطى لم يذهب لنجدة المسلمين بل لترويضهم-..هل نسيت البوسنة؟ .. ثم لماذا تذهب بعيدا؟.. لماذا كففت عن الكتابة عن العراق؟.. ألن تتصدى للكتابة عن السودان إلا بعد تقسيمها..,..و..و.. ثم متى تتناول الكتابة عن الطواغيت ووكلاء الغرب المتسلطين على جل أرجاء عالمنا الإسلامى.. ثم يصرخ صوت يغطى على جميع ما سبقه : لا تنس مصر.. لا تجعلها كمصاب الغرفة المهجورة..
***
انظر إلى التاريخ نظرة شاملة تضرب بها آباط الأمور وتصيب كبد الحقيقة..افهم أن مصر لابد مرصودة فى مخططات الغرب بعد تركيا.. فهى القادرة على لمّ الشتات الذى تمزق .. لقد استمرت الدولة الإسلامية منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حتى عام 1924.. عام نهاية الخلافة الإسلامية فى تركيا .. استمرت الدولة الإسلامية طيلة هذه القرون وكانت أغلب الحكومات غير إسلامية لكن الأمة كانت مسلمة والحضارة كانت مسلمة والتوجه كان إسلاميا وكان الإيمان بالله يعمر قلوب الناس فما لا يزعه القرآن يزعه السلطان حتى وإن كان هو نفسه فاجرا .. فقد كان يعلم أنه يحكم أمة مسلمة والإسلام هو سند شرعيته الوحيد ..كنا ننتصر وننهزم.. وكنا حضارة نواجه حضارة.. انتهت الخلافة فانتهى هذا كله ولم تعد لنا إلا الهزائم والنكبات والتشرذم.. ولا أحد أبدا يجرؤ على تجاوز الخطوط الحمراء حمرة جهنم.. لا يجرؤ أحد على تجاوزها لينادى بعودة الخلافة من جديد..
ولماذا تظل هذه الفكرة وحدها - دون الأفكار جميعا - هى الفكرة المهجورة؟!..
***
خلافة فى المنفى "2"..
كثيرا ما تواجهنا وجوه العلمانيين المتغربين الحداثيين الكالحة بسؤال يتصورونه معجزا: ما هو الحل..
أتضنيك الإجابة عن هذا السؤال يا أمة؟..
المأساة أن الحل أمامك طيلة الوقت لكن عميت بصائرنا..
الحل لن تجود به قريحة كاتب.. ولا عبقرية مفكر.. الحل موجود.. كان موجودا دائما وسيظل موجودا أبدا .. حل لو اتبعناه لن نضل أبدا ..
كتاب الله وسنة رسوله..
الحل موجود .. ونحن الغائبون..
الحل أن نفهم أننا لا نختار الإسلام لأنه يحل لنا مشاكل الدنيا، بل إننا نتجاوز شعار: "الإسلام هو الحل" لكى نقول : بل حتى لو لم يكن الإسلام هو الحل لمشاكل الدنيا فلا اختيار لنا سـواه..
نعم .. ليس ثمة اختيار إلا الإسلام..و أن سياستنا وحياتنا واقتصادنا وعلمنا وعملنا وحربنا وسلمنا يجب أن تسير فى اتجاهه..وكذلك ثقافتنا.. ثقافتنا التى تقدس ربنا فلا رب لنا سواه.. ولا منتهى لنا إلا عنده.. ثقافتنا المؤمنة.. ثقافتنا التى لا تبجل كتابا فى الدنيا كما تبجل كتاب الله.. ثقافتنا التى تحترم ديننا ونبينا وأسلافنا الصالحين .. وتعتز بهـم .. وتتيه فخارا على العالمـين..
الحل أن نتقدم.. لا لكى نحمى الإسلام.. بل أن نلوذ به ليحمينا..
الحل أن نتقدم لمواجهة مستقبلنا مسلحين بذخيرة ماضينا..
***
يقول الشيخ صفى الرحمن المباركفورى فى ( الرحيق المختوم ) لما تكاملت الدعوة وسيطر الإسلام أخذت طلائع التوديع للحياة والأحياء تطلع من مشاعره صلى الله " وسلم، وتتضح بعباراته وأفعاله .
فاعتكف فى رمضان من السنة العاشرة عشرين يوما، بينما كان لا يعتكف إلا عشرة أيام فحسب ، وتدارسه جبريل القران مرتين .
وقال فى حجة الوداع : إنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبدا.. وفى أوائل صفر من السنة الحادية عشرة خرج صلى الله عليه وسلم إلى أحد.. لف على الشهداء كالمودع للأحياء والأموات ، ثم انصرف إلى المنبر، فقال :(إنى فرطكم ، وإنى شهيد عليكم ، وإنى والله لأنظر إلى حوضى الآن ، وإنى أعطيت مفاتيح خزائن الأرض ، أو مفاتيح الأرض ، وإنى والله ما أخاف أن تشركوا بعدى ، ولكنى أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها).. وعرض صلى الله عليه وسلم نفسه للقصاص قائلا : من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهرى فليتسقد، ومن كنت شتمت له عرضا، فهدا عرضى فليستقد منه .. ثم قال : ( إن عبدا خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده ، فاختار ما عنده .)
قال أبو سعيد الخدرى : فبكى أبو بكر رضى الله عنه وقال فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له..
تنافسنا بعدك يا رسول الله ..
خلقنا الله شعوبا لنتعارف لا لنتعارك لكننا تعاركنا ..
بل وأشرك الكثيرون منا ..
فهل تؤمنين حقا يا أمة ..
هل تؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره؟..
هل ما زلت تؤمنين بأن الله أقوى من كلينتون؟!..
وبأن وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم ما زالت أجدر بالاتباع من وصايا النظام العالمى الجديد..
منذ زمان طويل لم تعودى ترين الله يا أمة .. فهل ما زلت تؤمنين أنه يراك؟!..
أريحى قلبى يا أمةً شرار الناس فيها في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً.. أريحى قلبى فأجيبى: كيف يمكن أن تؤمنى بالبعث ثم تعزلين الحياة الدنيا عن الآخرة..
أم أن ما أنزل به خاتم النبيين ليس إلا أساطير الأولين..
هل تؤمنين يا أمة بالصور..؟
ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض ..
حين ينفرد الحي القيوم الذي كان أولاً، وهو الباقي آخراً بالديمومة والبقاء، ويقول:
لمن الملك اليوم؟..
لمن الملك اليوم؟..
لمن الملك اليوم؟..
ثم يجيب نفسه بنفسه فيقول:
للّه الواحد القهار..
هل ما زلت تؤمنين يا أمة بأنه : فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة؟..
هل تؤمنين بأنه : ثم ينفخ أخرى فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال: أيها الناس هلموا إلى ربكم {وقفوهم إنهم مسؤولون}: {ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذ أنتم تخرجون}.
هل تؤمنين يا أمة أنه فى ذلك اليوم ذى الأياويم يقال : أخرجوا بعث النار، فيقال: كم؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون..
هل تؤمنين بالبعث حقا يا أمة؟!..
حين يتجلى الله علينا ..
وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون..
ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون..
فهل تؤمنين يا أمة بلغها رسولها الأمانة وأدى الرسالة..
رسول خُيّرَ بين أن يكون رسولا ملكا أم رسولا عبدا فاختار العبودية للربوبية.. رسول تذكر فى سكرات الموت أن عنده سبعة دنانير، فراح يأمرهم بالصدقة بها، ثم يغمى عليه ، فينشغلون بوجعه ، فدعا بها، فوضعها فى كفه وقال :
(ما ظن محمد بربه لو لقى الله وعنده هذه ) ثم تصدق بها كلها.
يا خلفاء محمد والأمناء على دينه ما بالكم بسبعة ملايين.. بسبعمائة مليون.. بسبعمائة مليار .. بثمانمائة مليار نهبتموها من أمتكم يا كلاب النار يا حطب جهنم وأودعتموها عند أعداء الله يستقوون بها علينا ..
فى سكرات الموت ثقلت عليه سبعة دنانير وأنتم فى غمرات الحياة لا تأبهون لا بالمليارات ولا بأمتكم..
كيف نسيت تاريخ نبيك يا أمة..
ثمانمائة مليار دولار حجم الودائع العربية فى بنوك الغرب و أهلنا فى فلسطين والشيشان والفليبين وكشمير والصومال و.. و.. و.. يتضورون جوعا..
كيف نسيتم فحوى ورمز ما قالته أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها ..ففى سكرات الموت ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أصلى الناس ؟ فقالت : لا ، هم ينتظرونك يا رسول الله . فقال : ضعوا لى ماء فى المخضب (وهو إجانة تغسل فيها الثياب ) . ففعلوا ، فاغتسل ، ثم ذهب لينوء (ينهض) فأغمى عليه ، ثم أفاق ، فقال : أصلى الناس ؟ فقالوا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله . قالت : والناس عكوف فى المسجد ينتظرون رسول الله لصلاة العشاء فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبى بكر أن يصلى بالناس .. حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف ، فكشف النبى صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة ينظر إليهم وهو قائم كان وجهه ورقة مصحف ثم تبسم يضحك فهموا أن يفتتنوا من الفرح برؤيته فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف وظن أن النبى صلى الله عليه وسلم خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا النبى صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم وأرخى الستر ودخل فجعل يدخل يده فى إناء به ماء فيمسح بها وجهه وبقول لا إله إلا الله إن للموت لسكرات ثم نصب يده فجعل يقول فى الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده صلى الله مليه وسلم ..
هكذا كان اهتمام رسولنا صلى الله عليه وسلم بالصلاة عماد الدين وهو فى سكرات الموت..
أحد علوجنا صرخ عندما نودى للصلاة فى مجلس مزور .. صرخ يمنع الصلاة.. صرخ الأتاتوركى المسلم قائلا أن العمل صلاة.. و أن اجتماع المجلس صلاة.. اجتماع المجلس بمن فيه من المزورين اللصوص تجار المخدرات صلاة.. وصرخ الأتاتوركى يقول لا دين فى السياسة ولا سياسة فى الدين فكيف خضعت إن كنت تؤمنين يا أمة؟!..
عندما قبض الرسول افتتن الناس قائلين: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم عمر، وخرس عثمان، واستخفى علي، واضطرب الأمر فكشفه الصديق ..تصف أم المؤمنين عائشة ما حدث.. إذ لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الناس يقولون: لم يمت النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو بعض ما كان يأخذه عند الوحي. فجاء أبو بكر فكشف عن وجهه وقبل بين عينيه وقال: أنت أكرم على الله من أن يميتك مرتين. قد والله مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر في ناحية المسجد يقول: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يموت حتى يقطع أيدي أناس من المنافقين كثير وأرجلهم. فقام أبو بكر فصعد المنبر فقال: من كان يعبد الله فإن الله حي لم يمت، ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين". قال عمر: "فلكأني لم أقرأها إلا يومئذ". ورجع عن مقالته التي قالها ..
لماذا انقلبت على أعقابك يا أمة..
لماذا عبدت طواغيت الأرض..
لماذا استسلمت لهم ..؟
هل نسيت أم أنسيت..؟
هل ضللت أم أضللت؟..
"كل نفس ذائقة الموت" يا أمة..
"إنك ميت وإنهم ميتون" يا أمة..
وخرج الناس يوم قبض الرسول صلى الله عليه وسلم يتلونها في سكك المدينة، كأنها لم تنزل قط إلا ذلك اليوم.
فلماذا لا تتلينها الآن يا أمة؟!..
لماذا نسيت واستسلمت لطغاتك ..
لماذا تركتيهم يشوهون تاريخك الوضىء المضىء الباهر..
لماذا نسيت آخر ما كتبه الصديق رضى الله عنه:
بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر فى آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلا فيها حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب إنى أستخلف بعدى عمر بن الخطاب ، فاسمعوا وأطيعوا فإنى لم آل الله ورسوله ودينه ونفسى إياكم خيرا، فإن عدل فذلك الظن به ، وعلمى فيه ، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب ، والخير أردت ، ولا علم لى بالغيب وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
وفى سكرات الموت دخلوا على أبى بكر ، فقالوا : يا خليفة رسول الله ألا ندعو لك طبيبا ينظر إليك ؟ قال : قد نظر إلى . فقالوا ؟ ما قال لك ؟
قال : قال إنى فعال لما أريد. ثم سأل أى يوم هذا؟ قالوا : يوم الاثنين . قال : فان مت من ليلتى فلا تنتظروا بى لغد فان أحب الأيام والليالى إلى أقربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم..
كان صديقا لله وللرسول لا للغرب والشيطان..
***
خلافة فى المنفى "3"..
آهٍ يا أمة عميت بصائرها واستخف بها الطواغيت فأطاعتهم..
لماذا لم تتأملى يا أمة – فى وصية أبى بكر رضى الله عنه - أنه حتى عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان مرهونا بعمله..
لماذا تركت حكامك وطغاتك وجلاديك وملوكك ورؤساءك يرزحون على صدرك يخنقون دينك دون أى برنامج يعدون حتى به ولا ينفذوه..
لماذا لم يذهب شيوخنا وفقهاؤنا ومفكرونا وزعماء التنوير فينا ليقولوا لأى حاكم ما قاله أبو بكر لعمر رضى الله عنهما وهو فى سكرات الموت:
اتق الله يا عمر ، واعلم أن لله عملا بالنهار، لا يقبله بالليل ، وعملا بالليل لا يقبله بالنهار، وأنه لا يقبل نافلة حنى نؤدى فريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق فى دار الدنيا وثقله عليهم ، وحق لميزان لا يكون فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا، وإنما خفت موازين من خفت موازينه باتباعهم الباطل ، وحق لميزان لا يكون فيه إلا الباطل أن يكون خفيفا.
فلماذا خفت موازينك يا أمة؟..
لماذا لم تواجهى شيوخك الذين ضلوا وأضلوا بهدى الحاخامات لا بهدى الله .. لماذا لم تذكريهم بذلك الذى ذهب إلى ابن الخطاب رضى الله عنه وهو يعالج سكرات الموت يقول:
أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم فى الإسلام ما قد علمت ، ثم وليت فعدلت ، ثم شهادة .
فيرد عليه أمير المؤمنين :
وددت أن ذلك كفاف لا علىّ ولا لى .
قال عثمان بن عفان : أنا آخركم عهدا بعمر، دخلت عليه و رأسه فى حجر ابنه عبد الله ، فقال له : ضع خدى بالأرض . قال عبد الله : فهل فخذى والأرض إلا سواء؟ قال عمر : ضع خدى بالأرض عسى الله أن ينظر إلى فيرحمنى. قال عثمان : وسمعته يقول : ويلى وويل أمى إن لم تغفر لى حتى فاضت نفسه .
عمر..
عمر رضى الله عنه ينشد رحمة وغفرانا من الله لم ينشدها من ملوكنا ملك ولا من رؤسائنا رئيس ولا من أمرائنا أمير..
لماذا لم تذكّرى – يا أمة- فقهاء قانونك ووضاع دستورك وقضاتك وشرطتك بأن احتمال خطر قد يلحق بحاكم لا يسوغ ترويع الرعية وقتلهم أو اعتقالهم وحبسهم وترويعهم.. لماذا لم تذكريهم بما حدث عندما اشتد الحصار على الخليفة ذى النورين أمير المؤمنين حاكم نصف العالم المعمور عثمان بن عفان رضى الله عنه فتوجه إليه على بن أبى معتما بعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم متقلدا سيفه أمامه الحسن وعبد الله بن عمر فى نفر من المهاجرين والأنصار، ولم يستطيعوا الدخول حتى حملوا على الثوار وفرقوهم .
ثم دخلوا على عثمان فقال له علىّ رضى الله عنه :
- السلام عليك يا أمير المؤمنين ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلحق هذا الأمر حتى ضرب بالمقبل المدبر وإنى - والله – لا أرى القوم إلا قاتلوك ، فمرنا فلنقاتل.
فقال عثمان :
- أنشد الله رجلا رأى الله حقا، وأقر أن لى عليه حقا أن يريق فى سبيلى ملء محجمة من دم، أويهريق دمه فىّ .
فلينحن التاريخ إكبارا ولتتنحوا يا حطب جهنم..
فلينحن التاريخ إجلالا ولتخسئوا يا من اتهمتم ماضينا وشوهتم تاريخنا ولوثتم حاضرنا ..
فلينحن التاريخ إكبارا يا صغار..
خليفة الأرض محاصر وأعوانه وأتباعه وأصحابه قادرون على القتال لفك الحصار عنه لكنه يأمرهم ويناشدهم الله ألا يريق ملء جفنة من دم .. تساوت أمامه دماء المسلمين ..فهو يرفض أن يكون الدم المهراق دم عدو أو صديق..
اشهد يا ذا النورين واشهد يا على.. واشهد يا محمد صلى الله عليك وسلم أن جفنة الدماء تلك تبذل اليوم لكتابة وثيقة مبايعة..
اشهدوا ودعونى أصرخ : أين إيمانك بالله يا أمة؟..
أين عقيدة التوحيد..
يا أمة حولت المطلق إلى نسبى والنسبى إلى مطلق..
ويلح على رضى الله عنه فى الرجاء ويعيد على الخليفة أمير المؤمنين ملك الأرض.. فيجيبه بمثل ما أجابه ..
كم مائة ألف معتقل اعتقل منك يا أمة اتقاء لاحتمال خطر- معظمه هواجس الشيطان فى أضابير رجال الأمن- على الملك الرئيس الأمير..
كم ألف شهيد قتلوا يا أمة باتهامات زور ستر زورها القضاء بأحكامه ..
وكم ألف شهيد قتلوا دون أحكام قضاء..
وكم عشرة آلاف عذبوا وروعوا وسفكت دماؤهم واغتصبت أعراضهم..
كم وكم وكم.. قُدِّموا قرابين إلى الشيطان القابع فى واشنطن بعد أن أصبح المسوغ الوحيد لاستقرار بعض الحاكم فى مقاعدهم أن يبرهنوا للحضارة الصليبية اليهودية أنهم يحمونها من خطر الإسلاميين.. والمسلمين.. حكام عادوا بنا القهقرى إلى عصور الجاهلية فباتوا كحكام الغساسنة وأهل الحيرة.. يتواطئون مع أعداء العرب على العرب..
كم ألفا وكم عشرة آلاف وكم مائة ألف لم يحاصروا بيت الرئيس الملك الأمير ولم يمنعوا عنه الماء كما فعلوا مع الخليفة ذى النورين ملك الأرض.. فلا يملك إلا أن يستجد بعلى رضى الله عنه الذى يناضل لإدخال ثلاث قرب إلى الخليفة العطشان..
ودخل أبو قتادة ورجل آخر على عثمان وهو محصور، فاستاذناه فى الحج ، فأذن لهما، فقالا له: إن غلب هؤلاء القوم فمع من نكون ؟
قال : عليكم بالجماعة .
قالا: فإن كانت الجماعة هى التى تغلب عليك ، فمع من نكون ؟
قال : فالجماعة حيث كانت .
انحن يا تاريخ أمام العظمة الإنسانية ..
هذا عبد أواب لله لا عبد خوار للغرب والشيطان..
إن الرجل لا يهمه إلا وحدة المسلمين حتى لو كانوا الثوار المنشقين عليه..
فخرجنا، فاستقبلنا الحسن بن على عند باب الدار داخلا على عثمان ، فرجعنا معه لنسمع ما يقول ، فسلم على عثمان ثم قال :
- يا أمير المؤمنين مرنى بما شئت .
فقال عثمان :
- يا ابن أخى ارجع واجلس حتى يأتى الله بأمره .
فخرج وخرجنا عنه ، فاستقبلنا ابن عمر داخلا إلى عثمان ، فرجعنا معه نسمع ما يقول ، فسلم على عثمان ثم قال :
- يا أمير المؤمنين صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعت وأطعت ثم صحبت أبا بكر فسمعت وأطعت ، ثم صحبت عمر فسمعت وأطعت ، ورأيت له حق الوالد وحق الخلافة، وها أنا طوع يديك يا أمير المؤمنين فمرنى بما شئت .
فقال عثمان :
- جزاكم الله يا آل عمر خيرا مرتين ، لا حاجة لى فى إراقة الدم ، لا حاجة لى فى إراقة الدم.
ثم دخل أبو هريرة متقلدا سيفه فقال: الآن طاب الضراب .
فقال عثمان :
عزمت عليك يا أبا هريرة لما ألقيت سيفك..
ولم يكن أمام الصحابة إلا الامتثال لأمر الخليفة ولكن عليا رضى الله عنه احتاط للأمر وقال للحسن، والحسين : اذهبا بسيفيكما حتى تقوما على باب عثمان فلا تدعا أحدا يصل إليه وبعث الزبير ابنه ، وبعث طلحة ابنه، وبعث عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم يمنعون الثوار أن يدخلوا على عثمان ، فلما رأى ذلك الثوار رموا باب عثمان بالسهام حتى خضب الحسن بن على بالدماء على بابه وأصاب مروان سهم وهو فى الدار وخضب محمد بن طلحة وشج قنبرمولى على فخشى الثوار أن يغضب بنو هاشم لحال الحسن والحسين فيثيرونها فتنة فقالوا : إن جاءت بنو هاشم فرأوا الدماء على وجه الحسن كشف الناس عن عثمان وبطل ما نريد ولكن اذهبوا بنا حتى نتسور عليه الدار فنقتله من غير أن يعلم به أحد فتسوروا البيت وقتلوه ، وبلغ الخبر عليا وطلحة والزبير وسعدا ومن كان بالمدينة فخرجوا وقد ذهبت عقولهم للخبر الذى أتاهم حتى دخلوا على عثمان فوجدوه مقتولا، فاسترجعوا وقال على لابنيه كيف قتل أمير المزمنين وأنتما على الباب ؟ ورفع يده فلطم الحسين وضرب صدر الحسن غاضبا..
فليتضاءل نور الشمس والنجوم أمام النور المنبعث من العظمة الإنسانية فى أسمى معانيها..
لم يستدع مباحث أمن الخلافة..
ولا روع الناس ..
بل رفض إراقة جفنة دم من قاتليه..
لم يفرض حكم الطوارئ عشرين عاما ..
لم يغير شرعا ..
ولم ينشئ دستورا جديدا ..
فكيف ضللت وكان فيك مثل هذا يا أمة..
كيف يا أمة..
لماذا غفلت عن تاريخك..
لماذا نسيت الله فأنساك نفسك..
لماذا لم تذكريهم بعلى بن أبى طالب رضى الله عنه لما ضربه ابن ملجم فأوصى إلى الحسن والحسين وصية طويلة، وفى آخرها:
- يا بنى عبد المطلب لا تخوضوا دماء المسلمين خوضا، تقولون قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلن بى إلا قاتلى . انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة، ولا تمثلوا به ، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إياكم و المثلة ولو بالكلب العقور ) .
يا إلهى..
إنه ينهى عن المثلة بقاتله..
بل وينهى عن المثلة ولو بكلب عقور..
فكيف استنمت حتى مثلت بك الكلاب العقورة يا أمة..
ثم أنهم يتوسلون إليه أن يستخلف عليهم فيأبى قائلا:
- لا، أكلكم إلى من وكلكم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
كان عبدا لله .. كان إنسانا .. لا مسخا للغرب ومطية للشيطان مثل روادك يا أمة..
لم تكن الدنيا مطلبهم بل الآخرة.. ومع ذلك .. بل على الأحرى بسبب ذلك سادوا الدنيا أيضا..
***
هل رأيت قبسا من تاريخك يا أمه؟..
قبسا من التاريخ الذى شوهوه حتى ليكاد جل العلمانيين ونخب الثقافة فى هذه الأمة أن يعتذروا عن إسلامهم الذى ولدوا به فلا حيلة لهم فيه.. ويكاد الإنسان العادى أن يردف اعترافه بأنه مسلم بكلمة اعتذار.. كــ:أنا ولا مؤاخذة مسلم.. أو أنا مسلم لكننى غير إرهابى!!.. أو أنا مسلم لكننى متفتح العقل!!.. أو أنا مسلم لكننى مثقف!!.. أو أنا مسلم لكننى غير ظلامى..
هل رأيت قبسا من تاريخك يا أمه؟..
وهل تدركين الآن أن الحل هو فى استعادة هذا التاريخ لا بشكله ومبناه بل بمعناه وفحواه..
أجل.. هذا هو الحل الذى منذ بدأت الكتابة أمهدكم له يا قراء..
دولة محورية تحكم المسلمين تحت راية الخلافة.. حتى ولو كانت:
خلافة فى المنفى..
***
خلافة فى المنفى "4"..
نعم.. خلافة .. حتى ولو كانت فى المنفى..
لأن ما وصل بك الحال إلى ما وصل إليه يا أمة يفسره .. ما قاله إبراهيم بن أدهم حين سئل: ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا؟ قال: لأنكم عرفتم اللّه فلم تطيعوه، وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنته، وعرفتم القرآن فلم تعملوا به، وأكلتم نعم اللّه فلم تؤدوا شكرها، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها، وعرفتم النار فلم تهربوا منها، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس..
إن المستكبرين الضالين المضلين لم يعترفوا قط بأنهم أخطئوا أو حتى بإمكانية احتمال أن يخطئوا..
لم يعتبروا أبدا بتاريخنا وديننا وسلفنا الصالح..
لم يعتبروا بالإمام مالك بن أنس-رضى الله عنه حين بكى ندما ملى ما كان أفتى يه برأيه . قال القعنبى : دخلت على مالك بن انس فى مرضه الذى مات فيه ، فسلمت عليه ، ثم جلست فرأيته يبكى، فقلت :
يا أبا عبد الله ما الذى يبكيك ؟..
فقال لى :
وما لى لا أبكى ؟ ومن أحق بالبكاء منى؟ والله لوددت أنى ضربت لكل مسألة أفتيت فيها برأى بسوط سوط ، وقد كانت لى السعة فيما قد سبقت إليه ، وليتنى لم أفت بالرأى..
الآن يفتى بالرأى فى القرآن من لم يقرأ من القرآن آية.. ويحاصر الحفاظ..
ويفتى فى الشريعة والفقه من لم يسجد لله ركعة.. ويعتقل الركع السجد..
الآن تفتينا الشفاة المخمورة كيف نفيق من الغيبوبة..
والآن تشير الأصابع النجسة إلى طريق يوهمونا بأنه طريق الخلاص..
وطريق الخلاص لن تهدينا إليه سوى الأيدى المتوضئة..
كالخنازير التى تبحث أول ما تبحث عن صناديق القمامة راحوا يتقممون من مزابل التاريخ كى يدينوا عصور الخلافة..
شوهوا التاريخ.. وكانت أكثر فترة شوهوها هى فترة الخلافة العثمانية..
ولقد سلطوا عليها حقدهم لأسباب عديدة.. وكان منها أنها دولة لا ينتمى خلفاؤها إلى العرب.. أرادوا أن يبعدوا الزمن الذى نتذكر فيه الخلافة ستة قرون.. كى لا نعود إلى تذكرها مرة أخرى..
ولم تكن الخلافة العثمانية كما قالوا..
فلتنظروا إلى وصايا حكامنا ووصاياهم..
فلتتذكروا محاولة كمال أتاتورك أن يوصى بالسفير الإنجليزى ليخلفه فى حكم تركيا التى كانت عاصمة الخلافة.. ولتدركوا أنه كثيرين من حكامنا يسرون أو حتى يجاهرون بأنه مثلهم الأعلى.. ولتقارنوهم بحكام الدولة الإسلامية التى ألقوا الروث عليها..
قال السلطان محمد الفاتح - رحمه الله - في وصيته لابنه :
" ها أنذا أموت ، ولكني غير آسف لأنى تارك خلفا مثلك . كن عادلا صالحا رحيما ، وابسط على الرعية حمايتك بدون تمييز ، وأعمل على نشر الدين الإسلامى ، فإن هذا هو واجب الملوك على الأرض . قدم الاهتمام بأمر الدين على كل شيء ، ولا تفتر في المواظبة عليه ، ولا تستخدم الأشخاص الذين لا يهتمون بأمر الدين ، وجانب البدع المفسدة وباعد الذين يحرضونك عليها .. وسع رقعة البلاد بالجهاد ، واحرس أموال بيت المال من أن تتبدد.إياك أن تمد يدك إلى مال أحد من رعيتك إلا بحق الإسلام ، واضمن للمعوزين قوتهم ، وابذل إكرامك للمستحقين .وبما أن العلماء هم بمثابة القوة المبثوثة في جسم الدولة ، فعظم جانبهم وشجعهم ، وإذا سمعت بأحد منهم في بلد آخر فاستقدمه إليك، وأكرمه بالمال . حذار حذار لا يغرنك المال ولا الجند ، وإياك أن تبعد أهل الشريعة عن بابك ، وإياك أن تميل إلى أى عمل يخالف أحكام الشريعة ، فإن الدين غايتنا ، والهدية منهجنا ، وبذلك انتصرنا "..
وينقل المؤرخ التركي المعاصر عبد القادر زاده أوغلو في كتابه " التاريخ العثمانى المصور ، عبارات أخرى من وصية عثمان مؤسس الدولة تقول :
" وصيتي الأولى لأبنائى ، ولجميع الأعزاء علي ، أن لا يتركوا الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله ، ونشر دين الإسلام الجليل ، ورفع راية محمد صلى الله عليه وسلم عاليا . وليكن كل وقتكم لخدمة الإسلام ، ونشر كلمة التوحيد في ربوع العالمين ، وإنني أقول لكم : إننى أدعو الله عز وجل أن يحرم من شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ، كل واحد فيكم يبتعد عن طريق الإسلام ، ويظلم الناس ، ويترك الجهاد ".
أما عن نصوص الواجبات التي أناطها دستور الدولة العثمانية بسلاطين الدولة ، أنقلها من كتاب الدكتور عمر عبد العزيز عمر (" محاضرات في تاريخ الشعوب الإسلامية " ، هذه الواجبات هي :
أولا : أن يخضع السلطان لأحكام الشريعة الإسلامية خضوعا كاملا .
ثانيا : أن يبجل الشريعة الإسلامية ويبجل علماءها .
ثالثا : أن يحمي مقدسات المسلمين ، وينظم شؤون الحج بعناية .
رابعا : أن يدافع عن تخوم المسلمين ضد أعدائهم .
لقد كان عثمان ابن أرطغرل شديد التدين ، وكان يؤمن أن نشر الإسلام واجب مقدس بالنسبة إليه .
وقد نص القانون الذي وضعه السلطان سليمان القانوني ، والذي حدد بموجبه الشروط التي ينبغي أن تتوفر في كل شخص يتولى منصب الصدارة العظمى ( رئاسة الوزراء ) ، أو منصب الوزارة ، على أن يكون ذلك الشخص مواظبا على أداء الصلاة في أوقاتها .
****
هاتوا اليوم من يطالب الوزراء أو الحكام بالمواظبة على الصلاة..
ستعلق له المشانق.. ستطارده تهم الأصولية والإرهاب..
بل إن الأمر أبشع..
فلقد كففنا - باليأس – أن نطالب الحكام بعمل المعروف..
وكففنا أيضا عن نهيهم عن المنكر إلا الفاحش منه..
سنمتن لك يا مولاى الملك الرئيس الخليفة إن تحريت فى وزرائك أن يكون ولعهم بسفك الدماء محدودا وأن يكونوا غير شواذ ولا بأس أن يكونوا زناة لصوصا عصاة!!..
كنت أريد أن أسرد ما فعله كمال أتاتورك فى مؤامرة بيع الخلافة الإسلامية : ألغى الخلافة و أعلن الجمهورية وتنكر لكل القيم الإسلامية وحذف من الدستور أن دين الدولة هو الإسلام و أمر بلبس القبعة مكان العمامة و أباح زواج المسلمات من غير المسلمين ومنع الحج وجعل الأحد إجازة رسمية و أباح الخمر والبغاء ثم أمر واضع الدستور أن يصدره بالعبارة التالية: القرآن دستور البداوة…
سلم الكماليون مسجد أياصوفيا إلى الكنيسة فنزعت منه آيات القرآن و أعيدت صور القديسين والصلبان..
لقد كان رئيس تركيا فى مؤتمر لوزان حاخاما يهوديا... وعن طريق محكمة الاستقلال ( لاحظ عكس المعانى :( فلا هى محكمة ولا هو استقلال ) أجبر أتاتورك الشعب على لبس القبعات والفتيات بالرقص مع الفتيان وجاهر بشرب الخمر فى نهار رمضان ولما رفض الشعب التركى ذلك حكمت المحكمة على مئات المسلمين بالشنق والسجن والرمى بالرصاص...
بدل أتاتورك الحروف التركية من العربية إلى اللاتينية وأمر بالأذان بالتركية.. ثم تبلغ ذروة وقاحته وتهجمه على القرآن يوم افتتاح مجلس الشعب، ( لا حظوا أن التسمية كانت لكمال أتاتورك ثم قلده السادات ) و إعلان الجمهورية إذ يقول: " نحن الآن فى القرن العشرين، ولا نستطيع أن نسير وراء كتاب يبحث فى التين والزيتون" ..( ترى هل يختلف موقفه عن موقف حكامنا غير المعلن؟! … وهل يختلف ذلك عن سياسة تجفيف المنابع)..
كنت أريد أن أتحدث عن تدهور تركيا يوما بعد يوم …
لم تنقذها سياسة أتاتورك ولا خيانته لله والأمة..
وهى اليوم مثلنا تماما مهددة بالتقسيم والتفتت..
كنت أريد يا قراء أن أنبهكم أن غسيل المخ بلغ بنا المدى الذى أصبحنا فيه ننبهر بالخيانة …
لم نحاول أن نربط أجزاء الصورة لنفهم وندرك فطفقنا على سبيل المثال نشيد بكتاب على عبد الرازق :" الإسلام و أصول الحكم " الذى لم يكن صدوره بعد انهيار الدولة الإسلامية بعام واحد مجرد صدفة ... لا … بل كان تعضيدا للإنجليز لهدم دولة المسلمين المحورية... كان الإنجليز قبلها بنصف قرن قد أخذوا يبثون العصبيات القبلية والقومية كى تأكل نيرانها الدولة الإسلامية الواحدة … وكانوا قد وعدوا كل قومية بالاستقلال … كما وعدوا الشريف حسين بتكوين الدولة القومية العربية الكبرى كدولة محورية للمسلمين إن هو ساعدهم على هدم الدولة الإسلامية فى تركيا … وبلعنا الطعم … وجاء أوان تنفيذ وعد لم تكن بريطانيا تنوى بالذات تنفيذه … كان حنثها بكل الوعود قد جاوز كل الحدود وكانت تحتاج إلى محلل منا فتقدم الشيخ على عبد الرازق ليفتى أن الإسلام ليس دولة ولا يحق أن يكون له دولة …
لم نحاول كما لم يحاول الاتجاه القومى أن يفهم ووجدنا على سبيل المثال الكارثة من قال عن رجال ثورة يوليو52 بأنهم كانوا يستلهمون فكر كمال أتاتورك … لقد اعتذرت ذات يوم لهم بأن ثقافتهم المحدودة لم تترك لهم المجال ليفهموا … لكننى صرخت من الألم عندما وجدت حتى مصطفى النحاس ... الزعيم الوطنى العظيم والسياسى القدير يمجد ما فعله كمال أتاتورك فيقول : ".... ولست أعجب فحسب لعبقريته السياسية بل أعجب أيضا لعبقريته الخالقة وفهمه لمفهوم الدولة الحديثة التى تستطيع وحدها فى الحالة العالمية الحاضرة أن تعيش وتنمو …" فيرد عليه الإمام حسن البنا قائلا : " هل يفهم من هذا التصريح أن دولة النحاس باشا - وهو الزعيم المسلم الرشيد - يوافق على أن يكون الأخذ بعد الانتهاء من القضية السياسية ببرنامج كالبرنامج الكمالى يبدل كل الأوضاع فيها ويقصيها عن الشرق والإسلام ويسقط من يدها لواء الزعامة... لقد كان من أعز الأمانى أن يؤيدكم الله فيؤيد بكم الدين والأخلاق ..."…
يا إلهى …
إذا كان غفراننا قد اتسع لكل ذلك وإذا كان تسامحنا امتد حتى يشمل حتى كل أعدائنا فلماذا لم نسامح من نطلق عليهم الإسلاميين …
حتى الغزوة الفرنسية سامحناها بل ورحنا نحتفل بها وهى التى قتلت من شعبنا ثلاثمائة ألف عندما كان تعداده مليونين … فكأنما ضحايانا بمقاييس اليوم تقارب عشرة ملايين شهيد … ومع ذلك سامحناها بل واحتفلنا بها … سامحنا أيضا إنجلترا وفرنسا وإسرائيل التى ما تزال تحتل أرضنا وتمزقنا كل ممزق ورحنا نتحاور معها … لكن كل تسامحنا قد نضب بين حكامنا وشعوبنا.. حتى انفصمت عرى الرابط الوحيد الذى يربطنا.. ألا وهو الإسلام الذى عاد غريبا كما بدأ..
خلافة فى المنفى.."5"!!..
الدولة العثمانية
ليس ثمة حل أمام الأمة الإسلامية إلا الحل الإسلامى..
أن نبدد غربة الإسلام فينا..
من يريد الدنيا فعليه بالإسلام..
ومن يريد الآخرة فعليه بالإسلام..
ذلك أن كل محاولات جل حكامنا الاستسلام للغرب لن تجدينا … ليس لمعظمهم حد أدنى يمكن أن يقفوا عنده لكن الأمة ليست كذلك … وهكذا يصبح الحكام بين مطرقة الغرب وسندان الأمة فيصرحون – على سبيل المثال – أمام باراك وبوش بما يعلنون لأمتهم عكسه … وكنت أريد أن أقول أن صراعهم معنا صراع حضارة وأنه لن ينهيه تلك الحلول الوسط البئيسة التى يبحث عنها ولاة أمورنا.. لا الاستسلام الجزئى ولا الاستسلام السرى سينهى مشاكلنا معهم.. لن ينهيها إلا تخلينا بالكامل عن حضارتنا الإسلامية …عن لا إله إلا الله محمد رسول الله.. عن القرآن.. ربما يكون بعض الحكام مستعدين لذلك … والأمة قد تصبر طويلا حتى ترى أساسيات دينها فى خطر وعندها ستقاوم كما قاوم أهل البوسنة والهرسك وكوسوفا حتى لو استشهدوا جميعا …
لكننى يا قراء أشعر بالعجز..
ربما يقرأ هذه المقالة خمسين ألف أو حتى مائة ألف.. ماذا عن ستين مليون آخر.. ماذا عن ثلاثمائة مليون وماذا عن مليار وربع المليار..
كيف أصل إليهم لأقول أن ما يتخرصون به .. وما يعتبرونه العار هو الفخار بعينه..
أشعر بالعجز.. لأن المفهوم الذى أريد أن أنقله إليكم ليس واجب كاتب.. لا يستطعه كاتب.. إنه واجب النخبة كلها..
النخبة التى حاول الصليبيون دائما – ولا يزالون – اختراقها..
ولقد كانوا غالبا – ولا يزالون – ينجحون..
فى صدر الدولة العثمانية.. عندما كان الإسلام هو المحرك والمرجع .. لم يكن هناك أى تسامح مع الخونة الذين يتآمرون مع العدو ضد الأمة.. كان دوندار عم عثمان بن أرطغل متآمرا خائنا فلما اكتشف أمره أعدم.. وكان ساوجى ابن السلطان مراد خائنا آخر تآمر على أبيه عندما كان يواجه تحالف أوربا كلها ضده تحت رعاية وبتوجيه البابا أوربيان الخامس تحت شعار الانتقام للصليب من العثمانيين المسلمين.. فى هذا الظرف تآمر ساوجى بن السلطان مراد مع الأمير البيزنطى أندرونيقوس، الابن الثانى للإمبراطور يوانيس.. وانتقلت المؤامرة من طور التدبير إلى طور التنفيذ.. فسار الأميران على رأس جيش للقضاء على السلطان مراد الذى هزمهما شر هزيمة و ألقى القبض عليهما .. وحوكم ساوجى وحكم عليه بالموت ونفذ فيه الحكم..
هاتوا لى ملكا من ملوك العرب والعجم يحاكم ابنه .. مجرد محاكمة!!..
شقيق السلطان محمد الفاتح كان طفلا غفلت المربية عنه فى المسبح فغرق.. لكن مؤرخى مؤرخى الغرب قالوا زورا أنه قتله.. ونقل عنهم مؤرخونا المستغربون..
السلطان بايزيد الصاعقة.. لم يقتنع علماء الشرع بمبررات إعدام أخيه .. فماذا كان موقفهم؟ .. لقد قاطعوه – وهو السلطان والملك – وردوا شهادته..وعندما ذهب ليفتتح مسجد " أولو جامع " سأل الحاضرين إذا كان ينقص المسجد شئ فأجابه العالم المؤمن شمس الدين الفنارى معرضا به وساخرا منه ومحتجا على عدم التزامه الكامل بالإسلام إجابة لا يستطيع أى عالم من علماء المسلمين على أعتاب القرن الحادى والعشرين أن يوجه مثلها لحاكمه .. قال الشيخ لأقوى سلطان فى الدنيا:
- "بالنسبة لنا نحن المسلمين فإننا لا نجد أى نقص فى بناء المسجد، أما بالنسبة لك يا بايزيد، فإننى أخشى أن تكون قد نسيت أن تضع خزانة تحفظ فيها خمورك بجانب المحراب..!!"..
كان خطأ فرد لا خطأ الإسلام..
هاتوا لنا عالما يستطيع أن يقول مثل ذلك لزعيمه المهزوم .. لا المنتصر..
ولكن الخطأ الذى يأخذه الصليبيون على العثمانيين لم يكن ذلك.. لأن الجرائم التى ارتكبت فى كواليس القصور الأوروبية كانت أفظع إلى ما غير حد.. حتى أن المقارنة ستكون دائما لصالح العثمانيين..
الجريمة التى ارتكبها العثمانيون كما يعبر عنها المستشرق الألمانى فولدكه فى مجلة " دار إسلام" عام 1924 هى: " إن دخول الأتراك فى الإسلام كان أكبر نكبة فى التاريخ" .. مؤرخونا لا يذكرون ذلك.. مؤرخونا درجوا على خداعنا بأن الحروب الصليبية انتهت عام 1291..
إن ماضى الأتراك غامض قبل دخولهم الإسلام .. لكنهم بدخولهم الإسلام وإنشاء الدولة قلبوا كل مخططات الصليبيين رأسا على عقب عندما حولوا ميدان الحروب الصليبية بعيدا عن قلب الأمة.. إلى الشمال و إلى الغرب.. فى عقر دار الصليبيين .. فهل تعلمون يا قراء متى بدأ ذلك ..؟ بدأ عام 1300 ميلادية.. فتذكروا على الفور التاريخ الآخر الذى يقولون لكم أن الحروب الصليبية انتهت فيه: 1291 ميلادية..
الحقيقة أن الحروب الصليبية لم تتوقف أبدا .. يذكر زياد أبو غنيمة فى كتابه: جوانب مضيئة من تاريخ العثمانيين الأتراك : اضطر العثمانيون – بل المسلمون - لخوض غمار الحروب ضد أعدائهم بشكل متواصل ومستمر خلال الأعوام التالية : 1301 م ( وهي السنة التي أعلن فيها عثمان بن أرطغرل تأسيس الدولة العثمانية ) وحتى بداية القرن العشرين خاضت أكثر من مائة حرب كبرى.. وفى عام 1918 م أقحمت عصابة الاتحاد والترقي – وهى حكومة عميلة خائنة زرعها الصليبيون لتحكم تركيا تماما كما فعلوا فى العديد من بلادنا – أقحمت الدولة في الحرب العالمية الأولى حيث انهزمت شر هزيمة مما أدى إلى إعطاء الفرصة لأعداء الإسلام ، لتنفيذ مخططهم للقضاء نهائيا على الدولة العثمانية ، سلطنة ، و خلافة .
ستمائة عام هى عمر الدولة العثمانية المسلمة- أطول دولة إسلامية عمرت فى التاريخ – يسقطها مؤرخونا المستغربون المستنيرون كى يستطيعوا القول فى بساطة: انتهت الحروب الصليبية عام 1291..!!
لم تتوقف الحروب الصليبية أبدا .. ولا ليوم واحد..تلك هى الحقيقة..
ما يحدث الآن فى فلسطين وفى الشيشان وفى كشمير وفى البلقان جزء منها..
والذين يقولون بغير ذلك هم ما بين جاهل غبى وضال حائر و مضلل جائر وخائن سافر..
لقد أسقطوا الإسلام كرابطة ومرجعية وقرءوا التاريخ فى إطار منهجهم الشيطانى ذاك وسكبوه فى آذننا سما ناقعا..
فى موجة الاندفاعة الصليبية لحصار الإسلام والمسلمين .. اندفع البرتغاليون لاحتلال مدينة سبتة المغربية عام 1415 م.. استهدف البرتغاليون المسلمين أنى كانوا.. وفى 1498 وصل فاسكو ديجاما إلى كاليكوت على ساحل مليبار، كانت دول المماليك فى مصر وفارس ودلهى تعانى الضعف الشديد ولم يكن لديها أسطول.. وفرض الأسطول البرتغالى سيطرته على المحيط الهندى، ولم يعد لأى سفينة أن تعبره دون أن تحمل ترخيصا يسمى ( Cartaz) : من قرطاس، مقابل دفع إتاوة، وكانت السفن التى لا تحمل هذا الترخيص، و أحيانا التى تحمله عرضة للإغراق أو المصادرة من قبل الأسطول البرتغالى إذا ما كان التجار من المسلمين.
وبرغم الضعف كان ما يزال للأوطان كرامة وللدين حرمة..
أدرك السلطان الهندى المسلم خطورة الوضع فاستغاث بسلطان مصر قنصوه الغورى الذى أرسل أسطولا بقيادة الأمير حسين التركى حيث أوقع الهزيمة بأسطول برتغالى بالقرب من ميناء شيول فى يناير 1508 إلا أن البرتغاليين استطاعوا فى العام التالى القضاء الكامل على الأسطول المصرى، ثم طوروا هجومهم ليحتلوا سواحل عدن وجزيرة هرمز وجزيرة سوقطرة فمدوا سيطرتهم إلى جميع الدول المطلة على الخليج العربى..وتدهورت الحالة الاقتصادية فى مصر بعد نجاح الحصار الاقتصادى الذى نجح البرتغاليون فى فرضه، وبادر قنصوه الغورى بالاستنجاد بالعثمانيين، فأمدوه بأربعمائة مدفع و أربعين قنطارا من البارود ومواد لصناعة السفن وعدد من الخبراء والبحارة.
انظروا يا قراء كيف كانت سائر الأعضاء تتداعى للعضو المريض ..
وانظروا إلى حالنا اليوم..
فى عام 1513 دخل الأسطول البرتغالى إلى البحر الأحمر واحتل جزيرة كران بقيادة ألفونسو دى بوكويرك، كان ينوى الاتصال بملك الحبشة المسيحى وتدمير محاولة المصريين لبناء أسطول جديد واحتلال جدة و إنشاء قاعدة بحرية للأسطول البرتغالى بها ثم الإغارة على المدينة المنورة وحمل رفات النبى صلى الله عليه وسلم، وفى عام 1516 أبحر فى البحر الأحمر آخر أسطول مصرى بقيادة تركى هو سليمان ريس يرافقه الأمير حسين الذى كان قائدا للأسطول فى معركتى شيول وديو..
تكررت المأساة التى ابتليت مصر بها دائما دون بلاد العالمين.. خطأ فادح من السلطان قنصوه الغورى، الذى شغل الأسطول بمعارك فى عدن واليمن ثم أمر بسحبه ، وتعقب الأسطول البرتغالى الأسطول المصرى الذى لجأ إلى جدة، كان العثمانيون قد أخذوا يد المبادرة وهزموا المماليك بعد تاريخ سابق خانت فيه مصر دورها التاريخى وتآمرت مع البندقية ضد القسطنطينية( ومع ذلك لم يتوان العثمانيون عن المساعدة عندما يكون الأمر أمر الإسلام والأمة) ، ضم العثمانيون مصر إلى الدولة الإسلامية الكبرى وتولوا مسئولية الدفاع عنها ضد الصليبيين، وتصدى الأمير التركى سلمان لهم فمنعهم من احتلال جدة ، وتولى العثمانيون مهمة حماية البحر الأحمر و أحبطوا محاولة البرتغاليين إقامة قاعدة لهم فى سواكن بل واحتلوها..وبعد استيلاء العثمانيين على العراق أصبح فى إمكانهم مواجهة البرتغاليين فى البحر الأحمر والخليج بل وفى المحيط الهندى، وفى عام 1541 تحالف البرتغاليون مع ملك الحبشة ضد الزعيم الصومالى أحمد الغازى، فأمدوه بحامية على رأسها ابن فاسكو ديجاما، وبادر العثمانيون بالتدخل فأبادوا الحامية البرتغالية وهزموا ملك الحبشة.
يقول أمين توفيق الطيبى فى دراسة منشورة بمجلة الاجتهاد: بفضل قوة العثمانيين البحرية فى البحر الأحمر سلمت المنطقة من أخطار البرتغاليين و أطماعهم، وكانت تتمثل فى تهديدهم للبقاع الإسلامية المقدسة فى الحجاز، وسعيهم فى التحالف مع ملك الحبشة ضد المسلمين، والعمل على تعطيل تجارة المسلمين مع الشرق(..) وبدا واضحا فى منتصف القرن السادس عشر بأنه لم تكن لدى البرتغاليين القدرة الكافية للتحكم بتجارة المحيط الهندى(..) وفى عام 1564 كانت كمية التوابل التى وصلت إلى الإسكندرية أكثر من تلك التى وصلت إلى لشبونة.
إننى أذكركم يا قراء بأنه لولا الدولة العثمانية الإسلامية لكان بقايا المسلمين فى العالم العربى اليوم كبقاياهم فى الفليبين وبورما والأندلس..
***
خلافة فى المنفى.."6"!!..
كمال أتاتورك
نعم.. لم تتوقف الحرب الصليبية يوما واحدا..
لم تتوقف روما أبدا عن مواجة مكة.. تغيرت الأسماء والبلدان لكن لم تتوقف أبدا.. الآن روما هى واشنجتن.. أما بديل مكة فشظايا خشب ومزق أعلام..
و لو قرأنا التاريخ كذلك لكان أى تحالف مع واشنجتن هو حلف ضد الإسلام وضد الله.. ولكانت أى قاعدة لواشنجتن فى أى بلد من بلادنا هى حرب على الله ورسوله والمؤمنين.. ولكانت كل كلمة مديح وتقدير وإطراء لحاكم من حكامنا تأتى من واشنجتن ليست إلا اتهاما بالخيانة العظمى.. ليست خيانة الأمة والأوطان فقط.. بل خيانة الله ورسوله والمؤمنين..
كنت أريد أن أسرد ما فعله كمال أتاتورك فى مؤامرة بيع الخلافة الإسلامية : ألغى الخلافة و أعلن الجمهورية وتنكر لكل القيم الإسلامية وحذف من الدستور أن دين الدولة هو الإسلام و أمر بلبس القبعة مكان العمامة و أباح زواج المسلمات من غير المسلمين ومنع الحج وجعل الأحد إجازة رسمية و أباح الخمر والبغاء ثم أمر واضع الدستور أن يصدره بالعبارة التالية: القرآن دستور البداوة…
سلم الكماليون مسجد أياصوفيا إلى الكنيسة فنزعت منه آيات القرآن و أعيدت صور القديسين والصلبان..
لقد كان رئيس وفد تركيا فى مؤتمر لوزان حاخاما يهوديا... وعن طريق محكمة الاستقلال أجبر أتاتورك الشعب على لبس القبعات والفتيات بالرقص مع الفتيان وجاهر بشرب الخمر فى نهار رمضان ولما رفض الشعب التركى ذلك حكمت المحكمة على مئات المسلمين بالشنق والسجن والرمى بالرصاص...
بدل أتاتورك الحروف التركية من العربية إلى اللاتينية وأمر بالأذان بالتركية.. ثم تبلغ ذروة وقاحته وتهجمه على القرآن يوم افتتاح مجلس الشعب، و إعلان الجمهورية إذ يقول: " نحن الآن فى القرن العشرين، ولا نستطيع أن نسير وراء كتاب يبحث فى التين والزيتون" ..( ترى هل يختلف موقفه عن موقف جل حكامنا غير المعلن؟! … وهل يختلف ذلك عن سياسة تجفيف المنابع)..
ولو سألتنى أيها القارئ عن فرد واحد فى هذا العالم أساء للإسلام أكثر مما أساء له أى واحد آخر لما تجاوزت إجابتى لك : كمال أتاتورك .. أكثر حتى من عبد الله بن سبأ .. كان يرجع فى أصوله إلى يهود الدونمة.. أولئك الذين فروا من محاكم التفتيش فى الأندلس بعد هزيمة المسلمين هناك .. كان الملك الأسبانى فيليب قد قرر استرقاق المسلمين الباقين فى الأندلس للعمل كعبيد فى الكنائس والبيوت الأسبانية وليقوموا بدور الحيوانات فى المزارع والجبال .. كانوا ستمائة ألف مسلم بقوا بعد القتل والتهجير والتنصير .. وتدخل السلطان العثمانى أحمد رحمه الله .. و أدرك الملك فييليب أن السلطان قد يفكر فى تجميد الجهاد فى شرق أوروبا لينقله إلى غربها .. وخوفا من ذلك تراجع عن قراره .. وأطلق الستمائة ألف فاصطحبوا معهم اليهود الذين كانوا يتعرضون لنفس المصير ..
ساح المسلمون فى أنحاء الدولة العثمانية أما اليهود فلم يجدوا فى العالم مكانا يأويهم ويحميهم إلا تركيا .. عاثوا فى البلاد فسادا وادعى أحدهم النبوة .. استثاروا المشاعر الإسلامية وعندما أحسوا أن أمرهم كاد يكتشف ادعوا دخول الإسلام فدخلوه جملة .. وكلمة الدونمة كلمة تركية تعنى المرتدين أى الذين غيروا دينهم من اليهودية إلى الإسلام تمييزا لهم عن مسلمى الأتراك أصلا..
من نسلهم كان كمال أتاتورك ..
كانت أمه غانية .. أما أبوه – فى شهادة الميلاد – فقد كان ضابطا تركيا انتحر كما يقول المؤلف التركى المجهول لكتاب: " الرجل الصنم".. وكان من أسباب انتحاره معرفته بأن كمال أتاتورك ليس ابنه بل ابن سفاح لجندى صربى..
هذا اليهودى ابن السفاح هو الذى قضى على الدولة الإسلامية..
دبر اليهود والغرب مؤامرتهم الكبرى.. ووصلوا إلى بغيتهم فى ابنهم كمال أتاتورك .. كان فاسقا عربيدا لا يكف عن السكر .. وكان قاتلا سفاحا .. لكنه غطى على كل ذلك .. وفى إطار عملية الخداع عين فقيهين مالكيين لتعليمه الدين ثم أعدمهما عندما استتب له الأمر..
ويذكر كتاب "الرجل الصنم " وهو من أهم الكتب التى تكشف سر كمال أتاتورك: "…الذى يتمعن في حركة مصطفى كمال يرى العجب في المدى الذى وصل إليه في تقليد الغرب : غير حتى الأعياد الدينية ، وجعل يوم الأحد هو يوم العطلة الرسمية بدلا من يوم الجمعة ، ومنع الحج .. وأباح تزويج المسلمة لغير مسلم.."
ويذكر مصطفى كمال نفسه فى كتابه " الخطابة " كيف تمكن من هدم الدولة الإسلامية وإلغاء الخلافة مسجلا فى شماتة لحظاتها الأخيرة :
( إنني أرى أن من المستحسن أن يوافق المجتمعون هنا وأعضاء المجلس وكل واحد على اعتبار هذه قضية طبيعية ، ولكن إذا حدث العكس فان هذا الأمر سينفذ أيضا وفى إطار المجرى الطبيعي ، ولكن من المحتمل أن بعض الرؤوس ستقطع .. ويجمد الجميع لدى سماعهم الجملة الأخيرة ..(..).. هيئت لائحة القانون بسرعة ، و في الجلسة الثانية للمجلس في نفس اليوم وعندما اقترح وضع اللائحة للتصويت عليها مع بيان الأسماء وقفت على المنصة معترضا وقائلا :
" لا أرى حاجة لذلك ، ذلك لأنني أعتقد بأن المجلس الموقر سيوافق بالإجماع على الأسس التي سوف تحفظ إلى الأبد استقلال الأمة والوطن " . . ارتفعت الأصوات قائلة " التصويت " ! . . . و أخيرا وضع الرئيس اللائحة للتصويت ثم قال : " قبلت اللائحة بالإجماع".. ولكن سمع صوت نشاز " إنني أعارض " ولكن هذا الصوت اختفى بين الأصوات القائلة " لا يسمح بأي كلام ! " .
وهكذا أيها القراء جرت آخر صفحة من صفحات هدم الدولة الإسلامية الواحدة .. الدولة الإسلامية التى سبقت إلى الاتحاد قبل أوروبا بقرون.. وقد تمر قرون قبل استعادتها مرة أخرى..
اقرءوا معى يا قراء ما نشرته صحيفة الأهرام نقلا عن وثائق بريطانية.. تحت عنوان :
(كمال أتاتورك رشح سفير بريطانيا ليخلفه فى رئاسة الجمهورية التركية.)
في نوفمبر 1938 كان كمال أتاتورك رئيس تركيا يرقد على فراش الموت (..) كان يخشى ألا يجد شخصا يخلفه قادرا على استمرار هذا العمل الذي بدأه فاستدعى السفير " بيرسي لورين " السفير البريطاني إلى قصر الرئاسة في استنبول . أما ما دار بينهما فقد ظل سرا أكثر من ثلاثين عاما (..) يروي لورين تفاصيل مقابلته غير المألوفة مع الدكتاتور المحتضر : " … بدأ فخامته يتحدث ببطىء ولكن بعناية شديدة وقالى لي انه أرسل في طلبي لأنه يريد أن يطلب مني طلبا عاجلا راجيا أن أعطيه جوابي عليه بطريقة قاطعة. و لقد كانت صداقتي ونصيحتى هي الوحيدة التي كان يحافظ عليها ويقدرها أكثر من أية نصيحة أخرى لأنها كانت ثابتة لا تتغير وكان هذا هو السبب الذي جعله يستشيرنى في مناسبات متعددة ..بحرية تامة كما لو كنت وزيرا فى مجلس الوزراء التركي .
وقد كان من سلطاته كرئيس للجمهورية أن يختار خليفة له قبل وفاته . وقد كانت أخلص رغبه له هو أن أخلفه في منصب الرئيس ومن ثم فقد كان يريد أن يعرف رد فعلي لهذا الاقتراح . وبعد بضع دقائق من التفكير الصامت قلت لفخامته أن جوابى هو أنني عاجز تماما عن أن أجد الكلمات التي تعبر عن مشاعرى بصدق أو بما فيه الكفاية (…) " ... وعلى ذلك فإننى لا أجد سوى أن أعتذر آسفا ، ولكن يحزم .
وعندما انتهيت من حديثي ظهرت على الرئيس علامات التأثر الشديد (…) كان رقيقا كعادته عندما أضاف انه بالرغم من خيبة أمله الشديدة فقد كان هذا هو الجواب الذي ينتظره مني ولهذا فقد قرر أن يعين عصمت إينونو بدلا مني .
****
هذا هو الرجل – بل الشيطان - الذى ادعى فى البداية أنه يتقدم لينقذ الخلافة..
نجح العالم الغربى بعد أربعة عشر قرنا وانتهت دولة المسلمين المحورية وعاد الإسلام غريبا كما بدأ..
العالم الغربى.. عالم رئيس أقوى دولة فيه داعر أما الدولة الثانية فرئيسها سكير..
عالم يقترف كل الرذائل ويرتكب كل الموبقات ولا يترك من الجرائم جريمة ثم لا يتورع ولا يتورع كلابه وأذنابه عن إسقاط كل جرائمه على تاريخنا الإسلامى..
ابحثوا يا قراء معى عن كمال أتاتورك ولتدركوا أنه لم يكن شخصا بل كان منهجا ..
ابحثوا عنه كامنا ومستترا فى وجه ملك خان ورئيس باع وأمير استغرب ومسئول نافق ورئيس تحرير كذب وكاتب ضلل وهو يعرف أنه مضلل..
ابحثوا عنه فى وجه السفهاء الكفرة الذين أضمروا الكفر وتظاهروا بالإسلام ليخربوه من الداخل ولينكلوا برموزه ..
وابحثوا عنه فى زمان أتي على الناس هم فيه ذئاب فمن لم يكن ذئبا أكلته الذئاب..
****
أبحث عن كمال أتاتورك بين أولئك العلمانيين الذين لا يمنعهم عن إدانة الكفر سوى أن البديل الوحيد هو الإيمان بالله..
يقول السير آرثر كيث:
" إن نظرية النشوء والارتقاء غير ثابتة علميا، ولا سبيل إلى إثباتها بالبرهان، ونحن لا نؤمن بها إلا لأن الخيار الوحيد بعد ذلك هو الإيمان بالخلق المباشر، وهذا ما لا يمكن حتى التفكير فيه.. "!!..
تستطيع أيها القارئ أن تستبدل الماركسية أو النازية أو النظام العالمى الجديد بـ: "نظرية النشوء والارتقاء" ..
إن موقفهم ليس مع.. بل ضد .. وضد الإسلام تحديدا.. وهم فى سبيل ذلك لا يتركون مجالا لتزييف الوعى واستنزاف الذاكرة إلا سلكوه..
****
ابحث معى أيها القارئ عن أمثال كمال أتاتورك بين ولاة أمورنا.. فجهدى قاصر..
ابحث عنه حيث لا تتوقعه أبدا ..
لقد علمتنى الغرفة المهجورة أن الحريص – حين يؤتى – يؤتى من مأمن..
وعلمنى كمال أتاتورك أن الحية الرقطاء -حين تلدغ- تخرج من مكمن..
وتعلمت أن الخطر حين يأتى لا يأتى مواجهة ولا فجأة.. بل يتسلل وئيدا وئيدا حتى تكون لحظة الإدراك نفسها هى لحظة الغرق.. وأن الشيطان حين يدعونا لايأتينا بقرونه بل يتقلد عمامة أو يلبس قبعة أو يتشح بوشاح رجل قانون أو يلبس عباءة ملك أو يمسك بقلم رئيس تحرير .. وأنه فقط فى اللحظات الأخيرة.. حين نكون قد فقدنا كل فرصة للفهم أو للمواجهة يسفر عن قرونه وحافره المشقوق.. لتكون صورته تلك .. هى التى تتسع لها أحداقنا من الهول عند الموت!!..
**
خلافة فى المنفى.."7"!!..
أضعنا كنزا.. وأخذنا وباء!!
الحدود فى الإسلام
هذا هو التاريخ الصحيح يا قراء ..
ولكن .. لا بد أن يشوه مثلث الإعلام والتعليم والتغريب التاريخ خدمة لسادتهم ولسادة سادتهم..
لأننا لو قرأنا التاريخ قراءة صحيحة لانقلبت الأمور جميعا..
ولسعينا إلى استعادة الوحدة التى ضيعناها يوم ضيعنا الخلافة..
كان يمكننا إصلاحها لا تمزيقها..
واليوم..
نرى جل مفكرينا الذين تسمح لهم سلطات بلادنا بالكتابة يسخرون من الخلافة ويفخرون بالتغريب..
يتحدث على عزت بيجوفيتش فى كتابه الهام : الإعلان الإسلامى فيقول :
"..أما أولئك الذين يدعون بالتقدميين أو العصريين أو المستغربين إلى غير ذلك مما يسمون به أنفسهم . . فانهم يمثلون فى الحقيقة سوء حظ هذه الأمة المسلمة . إنهم كثرة كثيرة . . ذات نفوذ وتأثير . إنهم يهيمنون بشكل ملحوظ على الحكومات وعلى التعليم والحياة العامة . وهم يرون فى فئة المحافظين تشخيصا للإسلام . . ويدعون الآخرين إلى أن ينظروا نفس النظرة . . وهكذا استطاع دعاة الحداثة أن ينشئوا جبهة ضد كل ما تمثله الفكرة الإسلامية . ونستطيع التعرف على هؤلاء الذين أقاموا اليوم من أنفسهم مصلحين فى البلاد المسلمة من خلال فخرهم بما أن يجب أن يخجلوا منه ، وخجلهم مما كان يجب أن يفخروا به . . إنهم "أبناء آبائهم" فقد تعلموا فى أوربا ثم عادوا من هناك بشعور عميق بالدونية تجاه العالم الغربى المتقدم الغنى ، وشعور الاستعلاء على مجتمعاتهم التى جاءوا منها وقد أحاط بها الفقر والتخلف . لقد حرموا من التربية الإسلامية الصحيحة وفقدوا كل صلة روحية أو أخلاقية بشعوبهم ومن ثم فقدوا معاييرهم الأولى وأصبحوا يتخيلون أنهم بتخريب الأفكار المحلية والتقاليد والمعتقدات وبتقديم أفكار غريبة سيقيمون أمريكا- التى يكنون لها إعجابا مبالغا فيه - على أرض بلادهم فى يوم وليلة . إنهم بدلا من العمل على تطوير إمكانات بلادهم الخاصة ذهبوا ينفخون فى شهوات الناس ويضخمون رغباتهم المادية ، فأفسحوا بذلك الطريق أمام الفساد والفوضى الأخلاقية ، إنهم لم يستطيعوا أن يفهموا أن قوة العالم الغربى لا تكمن فى طريقته فى الحياة . وإنما فى طريقته فى العمل . . وأن قوته ليست فى الموضة و الإلحاد وأوكار الليل وتمرد الشباب على التقاليد، وإنما تكمن فى الكدح الذى لا مثيل له، وفى المثابرة و العلم والشعور بالمسئولية التى تتميز بها شعوبهم . المشكلة إذن ليست فى أن مستغربينا قد استخدموا أساليب أجنبية ، وإنما فى أنهم لم يعرفوا كيف يستخدمونها أو يضعونها فى موضعها الصحيح . . وأنهم لم يفلحوا فى تطوير حس قوى يكفى للتمييز بين ما هو صحيح وما هو غير صحيح ، ومن ثم أخفقوا فى اختيار المنتج الحضارى المفيد واستعاروا لمجتمعاتهم بدلا منه عرضا مرضيا من أعراض هذه الحضارة فكان منتجا ضارا بل قاتلا .."
كان على عزت بيجوفيتش يتحدث عن الكنز الذى فقدناه والوباء الذى أخذناه ..
***
لكم شعرت بالحزن، عندما كنت أتحدث مع بعض كبار شيوخنا عن مقالة فادحة نشرتها صحيفة الأهرام ، ينادى فيها كاتبها - وهو واحد ممن وصفهم على عزت بيجوفيتش - بتنقية الدين الإسلامى من تخاريف البخارى والنسائى!!..
ويلتمس الأعذار للمستشرقين بسبب الوارد فى أعمدة كتبنا..
ويصف " البخارى ومسلم" بالفجاجة والهزل والتجاوز فى المعنى واللفظ..
ثم يواصل هجومه على الترمذى وابن حنبل و أبى داود وابن ماجة والطبرى والبيهقى وابن حزم والذهبى..
ويخشى أن يكون قد نسى أحدا من شوامخنا فيضيف: " وغيرهم"..
ثم يكتب بالحرف:
" إذا كان المستشرقون يقولون أن الإسلام انتشر بحد السيف فإن لكلامهم أصلا باطلا فى الصحيحين فقد ورد أن النبى صلى الله عليه وسلم أمره الله أن يقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا فقد عصموا دماءهم و أموالهم..ومن المعلوم يقينا أن آيات الكتاب تكذب ذلك فقد قال الله تعالى لا إكراه فى الدين…"..
كنت أستحث شيوخنا للتصدى لمثل هذا الكاتب، لكنهم أجابونى بأنه حين تنشب معركة من هذا النوع فسوف تتلقف كل وسائل الإعلام - فى بلادنا الإسلامية !!- ما يكتب المستغربون وستمتنع عن النشر للعلماء.. مما يجعل نتيجة الحوار وبالا..
ولكم ِعرت بالحزن.. فقد كانوا على حق فيما يقولون..
وتذكرت ما قاله شيخنا الجليل محمد الغزالى رضى الله عنه أن هناك بعض الناس كالخنازير إذا دخلت بيتا كان أول ما تتوجه إليه سلة القمامة فى هذا البيت.
هؤلاء التنويريون، الذين يتهمون كل من ينادون بعودة الخلافة بأنهم سفهاء.. ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون..
ولقد جعلوا من الحدود فى الإسلام عقبة كئودا يفزعون بها الناس من الإسلام..
والحدود فى الإسلام من المباحث الهامة التى لا نتناولها إلا لماما، وكأنه عورة نخجل منها، حينما نعرضها على المستغربين فى بلادنا، ونادرا ما تتوفر لنا الشجاعة والقدرة لنصرخ فيهم أنها مكمن فخارنا لا وصمة عارنا.. فإذا وجد من أوتى الشجاعة.. لم يجد من ينشر له.. فإذا وجد فوجئ بأن المطبوعة التى ينشر فيها محاصرة بالتعتيم والتجاهل.. بينما تتصدى وسائل الإعلام الكبرى لنشر أفكار المستغربين..
***
من أكثر المباحث التى تعرضت للتشويه فى الإسلام من المستشرقين ومن أمثال كاتب الأهرام ذاك مباحث فقه الحدود..
ولقد كنت أرتعب دائما من أن أورط نفسى فيما ليس لى به علم ..
لكن ما حيلتى إذا بدت بلاد المسلمين كبناية نشب فيها حريق ..
هل من حق سكانها ألا يشاركوا فى الإنقاذ والإطفاء لأنهم غير متخصصين فى إطفاء الحريق..؟!
ما حيلتى إن أنذرت الشواهد أن جنود الإطفاء لن يأتوا أبدا وانتشرت الشائعات أنهم بعض من أشعل الحريق؟!..
وعندما وجدت أن وسائل إعلامنا وصحفنا الكبرى تستدعى المستغربين كى يكونوا مراجعنا الدينية، وتجعل من أمثال: ( فرج فودة – الذى اتهم سيدنا أبى بكر رضى الله عنه – بأنه وضاع للأحاديث، ومن نصر حامد أبو زيد – الذى ادعى بشرية النص فى القرآن وأنه كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وليس كلام الله مما يبيح لنا أن نتلوه بمعناه لا بنصه- ، ومن ذلك الذى يطالبنا بتنقية الدين من تخاريف البخارى - وبالمناسبة هو باحث بمركز ابن خلدون - ) .. تجعل من أمثال هؤلاء مراجعنا الدينية قلت لنفسى:
- آن لأبى حنيفة أن يمد رجله وللغرب أن يمد لسانه كما أنه قد آن لى أن أتحدث فى غير تخصصى..
****
إننى أدرك أن الإسلام قد عاد غريبا كما بدأ وأنا أبا لهب لم يعد كبير بطن من بطون قريش بل وكيلا للغرب فى كافة أرجاء عالمنا الإسلامى .. أما أبو جهل فهو رئيس جل وزراء الثقافة والإعلام والتعليم ..
أولئك الذين يدعونا للخجل مما كان يجب أن نفخر به وللفخر مما كان يجب أن نخجل منه..
وفى جو هذا الهواء المسموم تحولت قضية الحدود فى نظر البعض إلى عورة أو عار مع أنها والله أوسمة فخار ..
ولقد ساعدهم فى ذلك – للحزن والأسى - تناول بعض إخواننا فى الله لتلك القضية..
إننى أنبه القارئ منذ البداية أننى غير متخصص.. ولست بفقيه.. وأناشد القارئ ألا يستخرج مما أكتب حُكْمًا وأن يعود بنفسه إلى المصادر أو إلى شيوخ غير مشغولين بمبايعة أو بلقاء حاخام .. وأن يضع فى اعتباره دائما أن أكون قد أخطأت فى الحفظ أو فى النقل أو فى الاستدلال.. لكننى فى ذات الوقت أؤكد للقارئ أننى لم أجرؤ على دفع هذا المبحث للمطبعة إلا بعد مراجعة من كبار شيوخنا..
***
كنت أقول لنفسى أن الأمر فى هذه القضية كما فى كل قضايا الإيمان الأخرى يلخصها ما قاله أبو بكر رضى الله عنه : " إن كان قالها فقد صدق" .. كنت أقول لنفسى أن الفيصل فى أى قضية ليس موافقتها لعقلنا وهوانا أو عدم موافقتها فالعقل والهوى متغيران .. لكن الفيصل هل وردت فى القرآن وصحيح الحديث أم لم ترد .. فهما ثوابت إيماننا .. ذلك أن جوهر الإيمان تسليم العقل البشرى بمحدوديته وأنه يرى جزءا ضئيلا جدا من الصورة وأننا وجدنا قبل الميلاد وسنوجد بعد الممات .. إنه يدرك أنه جزء من منظومة وعبد فى الكون لا سيد الكون .. ولذلك فإن عليه ألا يعمل رأيه فيما فيه نص.. لنا أن نجتهد فى تفسير النص كما شئنا .. فى التفسير لا فى التكسير..فى مزيد من الفهم لا فى مزيد من الجهل..
إن القضية يمكن تلخيصها فى إيجاز مخيف : إن مرتكب الكبائر التى تستوجب الحدود ليس بكافر .. لكن الكافر هو من يرفض أو ينكر وجوب تطبيق الحدود..
***
خلافة فى المنفى.."8"!!..
الحدود فى الإسلام
****
فى قضية الحدود بالذات يبدو الالتباس فظيعا ونزيف الوعى هائلا وفقدان الذاكرة مروعا ..
إن المسلم الذى انصرف عن التفقه فى دينه عموما فى إطار نزيف الوعى هو بالطبيعة أكثر انصرافا عن فقه الحدود .. فالذين يرتكبون ما يستوجب الحدود هم أبعد الناس عن الفقه أصلا .. أما سواد المجتمع بعد ذلك فقد اكتفى بالحد الأدنى الذى يعتبر النزول دونه خللا جسيما فى الدين.. وهذا الحد يكتفى من الفقه بما يقيم صلب حياته اليومية وأساسيات ممارساته الدينية.. إنه يقرأ القليل جدا عن الصلاة والصوم ويسأل الآخرين فيما يتعدى ذلك كالزواج والطلاق والحج .. ترتب على هذا أن الجانبين ابتعدا عن قراءة هذا الفقه والتعمق فيه .. الذين يرتكبون ما يستوجب الحد والذين لا يرتكبون .. فأصبح مصدر معلوماتنا الوحيد عن الحدود هو أقوال المهاجمين لنا والمعادين لديننا من علوج الغرب وخنازير العلمانيين .. وكان الجو أمامهم خاليا فباضوا وصفروا..!!
اندفعوا وهم يدركون ضعفنا وحصارنا وهواننا على العالم ليكذبوا بمنتهى الفجور وليجلدونا بمنتهى القسوة..
اختزلوا الإسلام فى الحدود وتجاهلوا أن الحدود فى الإسلام كحلقة فى فلاة..
وراحوا يعلنون الهجوم على الحدود مضمرين على الإسلام هجومهم..
الحدود همجية ووحشية وتخلف ..
يا حطب جهنم أنتم الهمج الهامج وأنتم المتوحشون وأنتم المتخلفون وأنتم السفهاء ولكن لا تعلمون ..
فى الجانب الآخر ابتلع بعض إخوتنا الطعم .. غفلوا عن أن كلاب جهنم يحاولون اختزال الإسلام فى الحدود .. فراحوا يدافعون والأوقع أن يهاجموا .. حاصروا أنفسهم فيما قدمه الخنازير من شرح للحدود وغفلوا عن واجب فضح عبيد الشيطان كلاب جهنم بتقديم الوضع الحقيقى للحدود فى الإسلام..
تقدم الأفاقون والنصابون أتباعهم من صبية زويمر وتلاميذ دنلوب وجنود كرومر.. فعلوا ما يفعله أى نصاب .. أفرغوا حقيبتنا من محتواها ودسوا فيها سمومهم ومخدراتهم الممنوعة ثم أشهدوا العالم علينا.. وعندما سألنا العالم: أليست هذه حقيبتكم ؟.. أجبنا دون أن نفطن للحيلة: بلى..
لمثل هذا المنزلق استدرج بعض إخوتنا فى دفاعهم عن الحدود وهم يتبنون وجهة نظر أعداء الإسلام فيها !!
****
والآن .. سوف أعرض لكم نموذجا باهرا فى الرحمة.. شامخا فى العدل سامقا فى الإحسان مذهلا فى كيفية احترام البشر ونصوص القانون..
سوف أعرض لكم الوجه الآخر الذى لم يعرضه المنافقون علينا حين راحوا يهاجموننا .. مصورين الأمر كما لو كان الإسلام متعطشا لإقامة الحدود ويترصد الناس فى الطرقات.. ولقد ساعدهم على ذلك للحزن والأسى نماذج معاصرة اختزلت الإسلام فى تطبيق الحدود جاهلة أو متجاهلة أن الحدود كانت تطبق فى الجاهلية .. وأنها ما تزال ..!!
إن حد الزنا مثلا مشهور.. ومشهور أكثر الصعوبات الهائلة التى تكتنف إثبات الجريمة بالشهود.. ذلك أن الشرع يشترط تواجد أربعة شهود ( يشترط تواجدهم بالصدفة) ورؤيتهم للفعل الفاضح كاملا دون أى شك واتفاق شهاداتهم حرفيا فإذا تناقضت شهادة أى واحد منهم أقيم عليهم حد القذف وبرئ الزانى.. وللقارئ أن يتخيل أننا لو حاولنا تسجيل الفعل الداعر بالصوت وبالصورة فإن كاميرات التصوير الأربعة ستختلف فى زاوية الرؤية( الشهادة)..!! لذلك ذُكر أن هذه الجريمة لم تثبت فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بالإقرار.. والإقرار أربع مرات فى أربع جلسات مختلفة لو رجع فى أى واحد منها سقط عليه الحد.. وعلى القاضى أن يبدى كراهيته للسماع.. بل وأكثر من ذلك عليه أن يلقن المعترف الإنكار..فإذا اعترف الزانى أربع مرات فإنه يمكن أن ينكر فى أى لحظة.. بل إن بعض الفقهاء يعتبرون أن محاولة الهرب أثناء لإقامة الحد رجوع عن الإقرار توجب إسقاط الحد..
أما حد السرقة فلا يقام على مفهوم السرقة الذى يتبادر لأذهان السامعين..
يعرف الإسلام السرقة بأنها : " أخذ الشيء في خفية " ولقد شدد العقوبة عليها. والحكمة في تشديد العقوبة في السرقة أنها تهدد كل فرد فى المجتمع، ولا يمكن إقامة الدليل عليها بسهولة وأنه لا يمكن درؤها بولى الأمر الصالح، كما أن اللص بطبيعته مستعد لارتكاب كل الكبائر الأخرى – كالقتل مثلا – إذا ما عاقه عن ارتكاب جريمته .. إلا أن الإسلام إذ يشدد العقوبة يضع لها محاذير هائلة تتعلق باللص وبالمال المسروق وبالمكان الذى كان فيه المال وبالضحية فإذا لم تنطبق هذه الشروط يسقط الحد ..
لابد للسرقة من صاحب مال ومال ومكان يحفظ فيه المال ..
لابد للجريمة أن تحدث خفية.. ولابد للمال أن يكون مملوكا لأحد وأن يكون صاحب المال قد اجتهد قدر فى يستطيع فى وضعه فى مكان أمين: " الحرز " ..
وربما يلخص هذا الأمر فى جلاء مثل بسيط : فإذا دخل اللص مسجدا ووجد رجلا احترز بقدر استطاعته ووضع متاعه تحت رأسه فسرقه اللص.. فإنه إذا كان الرجل نائما كانت تلك سرقة يقام فيها الحد..فإن كان مستيقظا عد اللص منتهبا ولا يقام عليه الحد بل يعزر..
ويشترط الإسلام شروطا لإثبات السرقة ويضع محاذير لإقامة الحد تجعل الإنسان فى مرحلة من مراحل عبور قناطر الشك إلى بحر اليقين يهتف بنفسه : لقد تواطأ الفقهاء كى لا يتم إقامة الحد على اللصوص والزناة (أستغفر الله العظيم)..!!..
وحتى فى هذا المفهوم الضيق للسرقة فيرى الفقهاء ألا يكون للسارق في الشيء المسروق شبهة ، فإن كانت له فيه شبهة ، فإنه لا يقام عليه الحد ، ولهذا لا يقام الحد على الأب ولا الأم بسرقة مال ابنهما، وكذلك لا يقام على الابن بسرقة مالهما ، أو مال أحدهما لأن الابن يتبسط في مال أبيه وأمه عادة ، والجد لا يقام عليه الحد ؛ لأنه أب ؛ سواء أكان من قبل الأب أم الأم ، ولا يقام الحد على أحد من الآباء والأجداد – والأبناء ، وأبناء الأبناء وأما ذوو الأرحام ، فقد قال أبو حنيفة ، والثوري : لا قطع على أحد من ذوي الرحم المحرم مثل العمة والخالة والأخت والعم والخال والأخ لأن القطع يفضى إلى قطيعة الرحم التى أمر الله بها أن توصل، ولأن لهم الحق فى دخول المنزل وهو ما يختل الحرز به.
ولا قطع على أحد الزوجين ، إذا سرق أحدهما الأخر ..
ولا يقام عليه الحد الخادم الذي يخدم سيده بنفسه ..
والضيف لا يقام عليه الحد إذا سرق لأن صاحب البيت هو الذى أذن له بالدخول فاختل الحرز ولم يعد كاملا ..بل ووصل الأمر أن بعض الفقهاء قال أنه إذا جاء اللص فى ليلة فثقب الجدار أو كسر النافذة .. ثم جاء فى الليلة التالية ودخل وسرق فلا يقام عليه الحد لأنه حين دخل فى المرة الثانية دخل مكانا مختل الحرز..
ولا يقام الحد على من سرق من بيت المال .. لأن له فيه نصيبا وذلك يورث شبهة تمنع إقامة الحد .. كذلك لو سرق من مال لشركة له فيها نصيب..
ولا يقام الحد على من سرق من المدين المماطل في السداد ، أو الجاحد للدين لأن ذلك استرداد لدينه ..
ولا قطع في سرقة العارية من يد المستعير؛ لان يد المستعير يد أمانة وليست يد مالك.
ومن غصب مالا وسرقه ، وأحرزه ، فسرقه منه سارق ؛ فقال الشافعي ، وأحمد : لا يقام عليه الحد ؟ لأنه حرز لم يرضه مالكه ..
وإذا وقعت أزمة بالناس ، وسرق أحد الأفراد طعاما لا يقام عليه الحد وقد قال عمر – رضي الله عنه - : لا قطع في عام المجاعة..
واختلفوا في الطرار (النشال)..
ويرى الشافعى أن من سرق قناديل المسجد وحصرها لا يقام عليه الحد ؛ لأن ذلك جعل لمنفعة المسلمين وللسارق فيها حق.. فهل اكتفى الإسلام بكل هذا كى يدرأ الحدود بالشبهات ..
لا .. فإن مطالبة صاحب المال بالمسروق شرط في القطع فلو وهب اللصَّ ما سرقه أو باعه قبل رفعه إلى الحاكم سقط الحد ..
فهل اكتفى الإسلام بذلك لدفع إقامة الحد؟!..
اتفق الفقهاء على أن الدار لا تكون حرزا ، إلا إذا كان بابها مغلق، واختلفوا فيما إذا اشترك اثنان في نقب دار ، فدخل أحدهما، فاخذ المتاع، وناوله الآخر وهو خارج الحرز، وهكذا إذا رمى به إليه ، فأخذه ؟ قال أبو حنيفة : لا يحد منهما أحد .
واختلفوا فيما إذا قرب الداخل المتاع إلى النقب ، وتركه ، فأدخل الخارج يده ، فأخرجه من الحرز ويرى الشافعى و أبو حنيفة أنه لا حد عليهما.
وذهب أبو حنيفة ، ومحمد ، والأوزاعي ، والثوري إلى أن عقوبة التعزير هى العقوبة الواجبة على النباش الذي يسرق أكفان الموتى لأنه ليس سارقا ، فلا يأخذ حكم السارق ، ولأنه أخذ مالا غير مملوك لأحد ؛
فالميت لا يملك ، والقبر ليس حرزا ( مكانا أمينا)..
كما أن المسلم يقام عليه الحد ، إذا سرق من الذمي ..
أما المعاهد والمستأمن ، فإنهما لا يقام عليهما الحد لو سرقا . في أصح قولي الشافعية، وعند أبي حنيفة اللذان يريان أيضا أن سارق الطفل حتى ولو سرق ما عليه من حلى لا يقام عليه الحد بل يعزر(والتعزير يبدأ بالغرامة وقد يصل بالحكم إلى الإعدام).
ويرى أبو حنيفة أنه لا حد على من سرق المصحف لأنه ليس بمال وليس ملك أحد..
ثم إن إقامة الحد لا تتم إلا بشاهدين عدلين أو بالإقرار مرتين( هذا فى السرقة أما فى الزنا فأربعة شهود أو الإقرار أربع مرات)..
وتصل العقوبة بالشاهدين إذا ثبت أنهما ( لفقا القضية) للمتهم إلى قطع أيديهما ..
ويندب للقاضي أن يلقن السارق ما يسقط الحد.
فيقول : أسرقت ؟ قل : لا.
وعن أبى بكر وعمر. الله عنهما – عن أبى الدرداء ، أن أبابكر أتى بجارية سرقت،..فقال لها : أسرقت ؟ قولي : لا . فقالت : لا. فخلى سبيلها . وعن عمر، أنه أتي برجل سرق فسأله : أسرقت ؟ قل : لا . فقال : لا. فتركه..
فهل اكتفى الإسلام بكل هذا ..
لا..
فبعد هذا كله .. إذا ادعى اللص أن ما أخذه من الحرز ملكه ، بعد قيام البينة عليه فقد أفتى أبو حنيفة والشافعى أن لا يقام عليه الحد . وسماه الشافعي : السارق الظريف!! .
***
خلافة فى المنفى.."9"!!..
أضعنا كنزا .. وأخذنا وباءً..
هل أنت مندهش أيها القارئ من مدى سماحة الإسلام وعظمته ورحمته وبهائه..
إنه يتسع حتى للمنافقين بل وللفجار ما لم يجاهروا بفجرهم..
فمهمة الحدود ليست عقابا للفرد بل حماية للمجتمع..
وهى حماية حاسمة حازمة رقيقة يستطيع أن يفلت منها معظم المجرمين..
نطمئن اللصوص إذن أن سرقة الفنادق والبنوك والقطاع العام والأموال الحكومية لا يقام عليها الحد، ولا كذلك الاستيلاء على الأراضى والعقارات والأوقاف..
****
ثم أقدم لك أيها القارئ درسا باهرا فى احترام النصوص وعدم الخروج عليها .. درس أطمع أن يدرسه ذات يوم عباد الغرب فى عالمنا الإسلامى .. بل أطمع أن يدرسه العالم..
إذ لا يؤخذ الأخرس بحد الزنا ولا بشيء من الحدود، وإن أقر به بإشارة أو كتابة أو شهدت به عليه شهود، فالكتابة قائمة مقام العبارة، والحد لا يقام بمثله، وكذلك إن شهدت الشهود عليه بذلك، لأنه لو كان ناطقاً ربما يدعي شبهة تدرأ الحد، وليس كل ما يكون في نفسه يقدر على إظهاره بالإشارة، فلو أقمنا عليه كان إقامة الحد مع تمكن الشبهة..
اقرأ أيها القارئ ولتته على العالمين فخارا بدينك ..
اقرأ أيضا أنه بعد كل هذه المحاذير فإن الزانى إن قال زنيت في حال جنوني لم يحد..
اقرأ أيضا درسا نبيلا باهرا فى احترام الرأى المخالف..
إن جمهور الفقهاء يعتبر زواج المتعة زنا .. ولكن نفس هذا الجمهور – الذى لا يقره – اعتبره شبهة تمنع إقامة الحد.. والجمهور يرى وجوب الوكيل والشهود فى الزواج .. لكن بعض الفقهاء لم يشترط ذلك .. فاعتبر عدم وجود الشهود والوكيل شبهة تسقط الحد ..!! حتى يصل الأمر ببعض الفقهاء إلى القول : " إذا وجد رجل مع امرأة لا زوج لها فإن له أن يدعي أنه تزوجها، وذلك شبهة تدرأ الحد في بعض المذاهب"..
وإذا أقر الرجل أربع مرات أنه زنى بفلانة، وقالت كذب ما زنى بي، ولا أعرفه لم يحد الرجل في قول أبي حنيفة..
****
وقد يتبادر للذهن أن الإسلام قد حاصر الزناة واللصوص وشاربى الخمر بأن أوجب عليهم الاعتراف وإلا خرجوا من الملة.. أو أنه هدد الشهود إذا نكصوا عن الشهادة ..
لكن ذلك لم يحدث ..
حدث العكس..!!
فالإسلام قد أوجب على المسلم إذا وقع في ذنب من هذه الكبائر، أن يقلع عن الذنب ويتوب إلى الله تعالى، ويستر على نفسه، ولا يفضحها بالتحدث بالذنب أمام الناس، والتجاهر بالمعصية. وقد روي عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، من أصاب شيئاً من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله تعالى..
أما الشاهد فلم يوجب عليه الشرع التقدم بشهادته بل خيّره : فهو مخير في أداء الشهادة حسبة لله تعالى وغيرة على حدوده، أو ترك الشهادة رغبة في الستر على أخيه المؤمن وعدم إشاعة الفاحشة ..
****
ولقد اتفقت كلمة العلماء على أن الجريمة التي لم يصل خبرها إلى الحاكم، لا يقام من أجلها حد، وأن الجريمة التي علم بها الحاكم، ولم تثبت لديه بالإقرار، أو بشهادة الشهود لا يقام الحد عليها فإذا رأى الحاكم الجريمة بعينيه فليس له أن يقيم الحد عليها إلا باكتمال شروط إقامة الحد وليس له أن يعتمد على ما رأى ..
واتفقت كلمة الأئمة على أن من أقر بحد من الحدود أمام الحاكم، ولم يفسره فلا يطالب بتفسيره وبيانه ولا يقام عليه الحد..
إن الحربي المستأمن في دارنا إذا أقر بالزنا أربع مرات لا يقام عليه الحد.. وإن المسلم إذا سرق الذمى أقيم عليه الحد ..
فأى عظمة وأى بهاء..
****
ولقد قال الفقهاء: أن صاحب العسس إذا شاهد فاسقا يحمل تحت ثوبه قارورة - مثلا- لم يجز له أن يكشف عنه ما لم يظهر ما تحت ثوبه بعلامة، فان فسقه لا يدل على أن الذي معه خمر إذ الفاسق محتاج إلى غير الخمر - أيضا - مما يوضع في القوارير، ولا يجوز أيضا أن يستدل بإخفائه على حرمته لأن أغراض الإخفاء لا تقتصر على الحرمة فقط..!!
فأى عظمة وأى بهاء..
****
لا ينبغي للقاضي أن يلقن الشهود ما تتم به شهادتهم في الحدود لأنه مأمور بالاحتيال لدرء الحد لا لإقامته وفي هذا احتيال لإقامة الحد فلا يكون للقاضي أن يشتغل به..
ثم إن موت الشهود أو موت أحدهم مسقط للحد.. فربما كان يرجع فى شهادته إن امتد به العمر..!!
فأى عظمة وأى بهاء..
****
عن خليد أن رجلا أتى عليا فقال: إني أصبت حدا فقال علي: سلوه ما هو؟ فلم يخبرهم، فقال علي: اضربوه حتى ينهاكم.
فأى عظمة و أى بهاء و أى تكريم للإنسان أكثر من أن يجعله الله قاضيا على نفسه فإن شاء أقر و إن شاء أنكر و إن شاء رجع عن إقراره، فإذا اعترف بما يوجب إقامة الحد لم يجز للحاكم سؤاله عن التفاصيل ووجب على القاضى أن يظهر كراهيته لسماع اعترافه بل ووجب عليه أن يلقنه إنكار ما اقترفه كى لا يقيم عليه الحد..
أى تكريم و أى عظمة وأى بهاء..
عندما رأى الفاروق عمر رضى الله عنه الرسول صلى الله عليه وسلم يصلى على زانية بعد حدها سأله فى دهشة : تصلي عليها؟ يا نبي الله وقد زنت. فقال : لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم. وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى؟..
أى تكريم وأى عظمة وأى بهاء..وأى رحمة..
فى هذا الإطار ينبثق نور الرحمة الذى يحاول المنافقون والمشركون أن يطفئوه..
فالعظمة الهائلة التى تدفع بشرا فتحت أمامه كل وسائل الهروب لكن ضميره وخوفه من الله يجعلانه يصر فى نقاء ليس له مثيل على أن يجود لله بنفسه هى قمة فى السلوك الإنسانى ندر أن يوجد لها مثيل..
ثم أن الإسلام لم يقصد الفرد بالحد .. بل لقد حاول أن يجنبه الحد بكل الوسائل .. وما حرص عليه الإسلام هو حماية المجتمع من المجاهرة بالفحشاء ..
حق لك أيها القارئ أن تتيه فخارا بدينك ..
****
هذا عرض سريع أرجو ألا يكون مخلا بقضية الحدود .. الحدود التى يعيرنا بها الصامتون عن تكسير عظام آلاف الأطفال الفلسطينيين..
الحدود التى يعيرنا بها المعجبون بحضارة من استأصلوا من الوجود شعوب وقبائل عن بكرة أبيها..
الحدود التى يعيرنا بها المستغربون الذين لا يستنكرون أبدا إجرام الحضارة الغربية التى وصفها واحد من أكبر مؤرخيهم" إرنولد توينبى" بأنها أكثر الحضارات إجراما فى التاريخ..
الحدود التى يعيرنا بها الصامتون عن التعذيب الذى يأمر به ولاة أمورنا..
ودعونى يا قراء أنقل لكم بعضا من نماذج التعذيب التى يصمت عنها أولئك الشياطين الخرس:
نعم .. أنقل لكم بعض أنماط التعذيب التى تمارس فى مصر حتى القرن الحادى والعشرين، ومذكرا إياكم أن مصر ليست هى أسوأ الدول العربية ولا الإسلامية فى مجال حقوق الإنسان، أنقل إليكم بعض - نعم: فقط بعض- نماذج التعذيب، دون شهادة شهود ودون إقرار، وفى أغلب الأحيان دون محاكمة أصلا ، ولو أن ضمائر البشر لها آذان تسمع وعيون ترى و أنوف تشم لسمعتم الآن صراخ الضحايا ولذابت أصواتكم وحياتكم فى دمائهم ودموعهم ، ولهالكم منظر المجزرة البشرية
أعرض عليكم أيها القراء نماذج التعذيب كما توردها مصادر عديدة منها تقارير المنظمة المصرية لحقوق الإنسان والصحف ، وكتب كثيرة منها كتاب قيم للصحفى النابه أيمن نور، وهو الآن عضو مجلس الشعب عن حزب الوفد.
إليكم أنماظ التعذيب يامن تتأففون من وحشية الحدود!!:
- عصب العينين والتجريد من الملابس .
- التعليق من الأيدى والتعليق فى فلكة .
- الضرب بالعصى والأسلاك الكهربائية .
- الجلد بالسياط والعصى المفتولة من الجلد .
- إجبار الضحية على الوقوف عاريا لفترات طويلة.
- سكب الماء البارد على رأس الضحية .
- إطفاء السجائر المشتعلة فى الجسم .
- الصعق بالتيار الكهربائى .
- الركل بالأقدام والضرب بقبضة اليد .
- إطلاق الكلاب المسعورة على السجناء.
- إجبار الضحية على الجلوس فوق خازوق .
- الحرمان من الغذاء والدواء.
- الإلقاء فى بيارة دورة المياه .
- التهديد باغتصاب الضحية أو ذويه.
- إسماع الضحية صراخ وعويل الضحايا الآخرين أثناء تعذيبهم لإرهابه .
-تقييد الأيدى والأرجل من الخلف وتحويل جسم الضحية إلى شكل دائرى .
-نزع الأظافر والسحل .
- النوم على البلاط دون أغطية وإغراق الزنازين والضحايا فيها بمياه المجارى .
- استخدام وسائل حادة مثل المطواة وقطع الزجاج فى إحداث الإصابة بالمتهمين .
- الكى بالنار .
- إرهاب الضحية بالثعابين الحية وإرغامهم على تقبيل عضو الذكورة للضابط القائم بالتعذيب .
- القتل العشوائى ( كما حدث فى الانتخابات السابقة) والقتل المنظم عندما يصطحب الجنود ضحاياهم إلى مزارع القصب ويطلقون عليهم الرصاص ثم يلقون بعض البنادق إلى جوارهم ويدعون أنهم إرهابيون وقد قتلوا أثناء تبادل لإطلاق الرصاص!!..
هذه هى وسائل العقاب التى لا يجرؤ على إدانتها من دعاة التنوير أحد..
أما آلات التعذيب الجهنمية فإن 99% منها يستورد من أمريكا.. زعيمة العالم الحر.. وقبلة المستنيرين..
الذين يطالعوننا على صفحات الصحف وشاشات التليفزيون يغمزون ويلمزون الإسلام والخلافة والحدود .. فيكفى دليلا على دنسهم أنهم وهم يعترضون على شرع الله فى ادعاء داعر للرحمة لم يجرءوا أبد على الاعتراض على التعذيب فى المعتقلات ولا على المئات الذين تحكم المحاكم العسكرية بإعدامهم.. قربانا للحكام.. وكلاء الغرب.. وبتهمة الإسلام..!!..
أرأيتم يا قراء: أى كنز أضعنا.. و أى وباء أخذنا..
خلافة فى المنفى.."10"!!..
التيه..!!
عندما سردت فى الحلقة الماضية بعض النماذج المروعة الرهيبة للتعذيب فى وطنى لم أفعل ذلك فضحا لقومى ولا تشهيرا ببلادى، وإنما سردته لأننا إزاء قضية أخطر بكثير.. و أهم بكثير..
أخطر من أى بلد حتى ولو كانت مصر..
وأهم من أى قوم حتى ولو كانوا العرب..
لقد سردت تلك النماذج الوحشية فى التعذيب بعد أن طرحت قضية الحدود.. ولكى أقول لكم ياقراء، أن عبيد السلاطين وعباد الشياطين وكلاب جهنم الذين لا يكفون أبدا عن الطعن فى ديننا، وعن لمز شريعتنا وفقهنا، لا يفتح الله عليهم بكلمة واحدة لإدانة وحشية التعذيب.. فعندهم.. الوحشية فيما يتعلق بالإسلام فقط..
لقد ذكرت هذه النماذج للتعذيب فى مصر.. ولكى تزداد قتامة الصورة فلابد أن نقرر أنها بين الدول العربية ليست الأسوأ فى عالم التعذيب.. هناك ما هو أسوأ.. وبكثير.. ولقد ذكرت ذلك كى ألزم عباد الشيطان والمستغربين الحجة.. فلو أن الإيذاء البدنى هو ما يعترضون عليه مطلقا لقلنا أنهم لم يفهموا مدى سمو الحدود فى الإسلام .. ولكنهم لا يعترضون على كل صنوف الإيذاء عندما تكون تطبيقا لشريعة الطواغيت.. يعترضون عليها فقط عندما تكون تطبيقا لشرع الله.. ليس الإيذاء إذن هو المرفوض بل الإسلام نفسه.. لقد بلغت أجهزة الدولة العربية العلمانية العصرية الحد الأقصى فى التعذيب.. حدا لم تبلغه الدولة العثمانية على سبيل المثال ومع ذلك فإن حكم الخلافة - وليس حكم الطواغيت - هو الذى يتلقى الاتهام والإدانة.
ثم أن أمريكا هى أكبر دولة فى العالم فى تصنيع أجهزة التعذيب، والمستورد الأول لها هو عالمنا العربى العلمانى، ومع ذلك فإن تهم الإرهاب لا تسقط إلا على رؤوس المسلمين - لا أسميهم الإسلاميين فالإسلام واحد-.
ليست سيئات الخلافة إذن ما يعترضون عليه بل إسلام الخلافة!!..
ولقد لجئوا فى ذلك إلى كل أنواع الكذب والتشهير والتشويه والادعاء والاختلاق..
لقد جندهم الغرب أو غزاهم، والأمة فى غيبوبة أو تيه..
نعم..
فالتيه لم يكن مقصورا على بنى إسرائيل..
منذ مائتى عام على الأقل وأمة لا إله إلا الله محمد رسول الله تخوض بحار التيه.. يتحرك الزمان .. لكننا ندور وندور لنعود إلى نفس النقطة فى المكان.. بعد كل مرة .. نخسر فيها كل شئ .. لنبدأ من جديد.. لنخسر كل شئ من جديد.. فقد نسينا الله فأنسانا أنفسنا وحاقت بنا الفتنة التى لا تصيب الذين ظلموا خاصة..
وفى ظلمات التيه لا ينقذنا من نخبة أبى لهب سوى نخبة أبى جهل ولا ننتقل من نخبة أبى جهل إلا لنخبة أبى لهب..
يحدثنا عن هذا التيه العلامة محمد قطب فى كتابه القيم : " هلمّ نخرج من هذا التيه!- دار الشروق- القاهرة-1994" فيقول: " كان حجم التيه هائلا جدا . . أكبر بكثير مما يتصور أكثر الناس.. ويكاد لا يوجد جانب واحد من حياة الأمة لم يتأثر بالتيه . . كأنما انقلبت فى نصف قرن أو يزيد ، أمة أخرى غير التى كانت من قبل ! انقلبت فى كل شىء . . فى تصوراتها وأفكارها ومشاعرها وأنماط سلوكها .. فى السياسة والاقتصاد والاجتماع والأخلاق والفكر والأدب والفن " . . فى كل شىء ! وكانت الأمة - ولاشك -تشعر بالانقلاب . . فقد كانت المفارقة حادة بين ما كانت عليه وماصارت إليه فى تلك الفترة القصيرة من الزمن . . ولكن الكارثة أنها-وهى فى التيه -كانت تظن أنها تنقلب إلى الأفضل ! وتنظر إلى نفسها وهى تنسلخ من دينها وتقاليدها وموروثاتها وتصوراتها ، على أنها قد بدأت - الآن - تخطو أولى خطواتها على الطريق المستقيم !."
يعود بنا العلامة محمد قطب إلى بداية الانهيار.. فهى بذاتها بداية الانبهار بالغرب.. ثم يلاحظ ملاحظة هامة.. وهى أن سبب انبهارنا بالغرب لم يكن الفارق الحضارى بيننا وبينه .. فقد كان الفارق هائلا جدا لصالح الأعداء حين التقى المسلمون مع الفرس ومع الرومان ، وهم صفر اليدين من أسباب الحضارة المادية أو يكادون . . ولكن ذلك الفارق الهائل لم يستوقفهم لحظة واحدة ليفكروا فيه ، ولا كان له فى حسهم وزن . . أى وزن !
لأول مرة فى تاريخ المسلمين ينظرون إلى أعدائهم على أنهم أعلى منهم . . لا فى مجالات العمل و " التكنولوجيا " وآلات الحرب ، فذلك ظاهر . . وسن فى الأفكار . . والنش . والعقائد.. وأنماط السلوك . . . لم يكن السبب هو الهزيمة العسكرية ، ولا فارق الحضارة المادية . .
إنما كان الخلل فى الإيمان . . فى موطن العزة والاستعلاء . .
كان السبب هو الخواء العقدى الذى وقعت فيه الأمة عدة قرون .
لذلك أدت الهزيمة العسكرية إلى الانبهار. .
وحين بدأ الانبهار . . دخلت الأمة فى التيه . .
وربما أسمح لنفسى ببعض الاختلاف مع أستاذنا الكبير العلامة محمد قطب .. وهو اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد.. اختلاف فى بعض التفاصيل لا يؤثر على المقدمات ولا على النتائج لكنه قد يكون بالغ الأثر على وسائل العلاج.. إذ أننى فقط أريد أن أقول أن الإصابة أول ما فقد ألمت بالنخبة.. النخبة السياسية والاقتصادية والثقافية والصناعية.. النخبة التى تمثل الحادى بالنسبة لأى مجتمع فهو يسير خلفها بأعين نصف مغمضة .. لا يتخيل أن تأتيه من قبلها الخيانة ولا أن تورده موارد الهلاك.. ثم أن ما يشين هذه النخبة ويدينها.. أن خطأها لم يكن خطأ من اجتهد فأخطأ.. بل من تآمر وأصر على الوصول للخطأ فنجح فى الوصول إليه.. عن طريق الخسة لا عن طريق الجهل.. فقد كان لهذا الإصرار ثمن.. نعم.. كان هذا الإصرار هو ثمن الوصول إلى مستوى النخبة الحاكمة المتحكمة أو الاستمرار فيها.. نعم.. أعترف أن المرض قد تسرب بعد ذلك إلى الأمة.. لكنه ليس أبدا بنفس درجة إصابة النخبة به.. وكانت إصابة الأمة إصابة جهل لا إصابة خسة.. نعم.. الأمة على عينها غشاوة.. ولكن ما أسهل أن تنزع هذه الغشاوة .. وذلك مكمن رعب النخبة.. وذلك سر تكريسها لكل وسائل الإعلام والإعلان والتعليم وتسليطها لكل قوى البطش لكى تحارب الإسلام ولكى تجفف منابعه.. ولنأخذ من فكرة الخلافة مجرد مثل على ذلك.. لقد حاربوا وسفهوا وسخروا من فكرة الخلافة رغم أنها فكرة رئيسية وجوهرية ومحورية فى الإسلام.. وانظروا إلى المنهج الشيطانى الذى يتبعونه: بداية فإن كتب التاريخ فى المدارس تقوم بالدور الأول فى تشويه الفكرة فى وجدان النشء ، ثم تتكفل وسائل الإعلام بعد ذلك لترسيخ التشويه والتنويع عليه.. ثم تتوالى الإصدارات الثقافية لتؤكد هذا التشويه.. إصدارات ثقافية يقوم بها مستغربون تلقوا تعليمهم فى الغرب -خاصة أمريكا - وتم غسيل أمخاخهم هناك .. فإذا ما أفلت أحد من هذا التيه الذى تدفعنا النخب إليه تكفلت به أجهزة الأمن.. ليعذبه ضباط بوليس تلقوا تدريباتهم على التعذيب فى الغرب - وخاصة أمريكا!- مستخدمين فى التعذيب آلات تعذيب مستوردة من الغرب - خاصة من أمريكا!!- فإذا أضفنا إلى هذا كله أن معظم الحكام تلقوا تدريبهم بصورة أو بأخرى فى الغرب - خاصة فى أمريكا !!!- اكتملت الدائرة واكتمل الانهيار ووضح سبب الانبهار.. إنه انبهار مصنوع.. انبهار مزيف ..
نعم .. النتيجة واحدة..
هزمت روح الأمة قبل أن تهزم جيوشها.. ثم اشتدت الهزيمة بعد أن هزمت الجيوش..
وعندما جلا الاستعمار عن بلادنا فقد جلا بثمن فادح.. سلم الحكم إلى نخب اصطنعها هو.. خمسة أو ستة آلاف فى كل دولة.. وكان يدرك أنهم سيقاتلون فى معارك حياة أو موت للاحتفاظ بتركيبة النخبة كما هى.. يتغير حاكم .. لا يهم.. تتغير وزارة.. لا يهم.. يقوم انقلاب.. أيضا لا يهم.. فاللعبة كلعبة الكراسى الموسيقية محصورة فى نفس الأشخاص والأمة مهمشة تتفرج.. ما ينطبق على الحكم ينطبق على الاقتصاد والثقافة والعسكر.. وربما بعض الشيوخ الرسميين.
هزمت أرواحنا ..
انكسرنا..
وما لم ينجح فيه الاستعمار ولا جحافل الصليبيين نجحت فيه أجهزة حكمنا الوطنية..
هزمنا من داخلنا..
وتضافرت هزائم الداخل مع هزائم الخارج فابتعدنا كثيرا عن منابعنا - التى لم ولن تجف أبدا وإن شُبّه لهم - فنسينا الولاء والبراء..
نسينا أن ولاءنا يجب أن يكون لله لا لوطن ولا لقوم ولا لملك ولا لرئيس ..
ونسينا أن براءتنا يجب أن تكون من أعداء الله..
وا لينا أعداء الله.. ولم نكن ممن وصفهم الله بأنهم أعزة على الكافرين رحماء بينهم.. بل كنا أذلة عند الكافرين أما بيننا فجبابرة..
انقسمنا شيعا وأحزابا ودولا .. وتقسم ولاؤنا بين الشرق والغرب وبين هذا وذاك..
وبرئنا من بعضنا ومن إخوتنا..
مصر أولا.. العراق أولا.. الكويت أولا.. الشام أولا..
وفى نفق التيه المظلم لم نتنبه أننا جميعنا نحتل الصف الأخير .. بينما كانت أمريكا أولا وإسرائيل أولا والغرب أولا..
ولم نتنبه.. إلى أن تلك النخبة المثقفة المنحرفة التى دستها السلطة بين صفوف الأمة متظاهرة أحيانا بالمعارضة تزلزل ديننا وعقيدتنا وهى تتظاهر بالمطالبة بحرية الفكر وما كانت تقصد سوى حرية الكفر.. وبحرية الاعتقاد وما كانت تقصد إلا حرية الإلحاد.. وراحوا يكفرون وبالله ويؤمنون بالغرب كما شاء لهم الشيطان.. إلا أنهم أدركوا أنهم رغم كل محاولاتهم لم يغيروا فى الأمة سوى قشرة لن تصمد لأى محاولة للكشف.. لذلك سنوا قانونا صارما ما أنزل الله به من سلطان.. إذ أنهم وهم يطالبون بحرية الاعتقاد.. الذى لا يقصدون به فى أمة مسلمة إلا حرية الخروج على الإسلام.. سنوا ذلك القانون الذى يحرم على المسلمين اتهام الخارجين على الإسلام بالكفر.. وفى نفس الوقت تكفلوا بالعطاء لأولئك الخارجين..
تماما كما تحرم أمريكا علينا اتهام عملائها بأنهم عملاء.. وتماما كما تجزل لهم العطاء..
أصبح الخروج على الإسلام مباحا..
و أصبح التكفير ممنوعا بإطلاق..
رغم أن كتاب الله.. القرآن الكريم.. هو أكثر كتاب فى الدنيا يتحدث عن التكفير..!!
ومن هنا كنا ندلف إلى بحور التيه..
خلافة فى المنفى.."11"!!..
الولاء و البراء
هل كان علىّ أن أوقف هذه السلسلة من المقالات مرة أخرى، كى أكتب لكم ، واليراع يرتجف بين أناملى، عما سمعته على الفور عبر الهاتف من صديق، جاءنى صوته الحزين مثقلا بالنذر:
- عندى لك خبر سيئ..!!
ورغم أن كل الأخبار التى نسمعها الآن سيئة، فيما عدا أخبار مغموسة بالدم والدموع والألم تأتى من فلسطين، رغم ذلك فقد وجف القلب، وجف القلب، وجف القلب..
وواصل الصديق حديثه:
- عادل حسين.. أصيب بنزيف فى المخ..
اكتنف القلب ذلك الإحساس المبهظ، الذى لا تعرف هل هو الألم المجرد لحادث جلل أصاب مفكرا إسلاميا عملاقا، عاش الفكر فى حياته اليومية، ومثلت حياته الفكرية سعيا دؤوبا لم يتوقف أبدا للبحث عن الحقيقة والحق والعدل والخير، ومنذ قادته الرحلة الطويلة المضنية إلى بحور الإسلام منذ أكثر من عشرين عاما وهو لم يهدأ لحظة واحدة فى سبيل نصرة الإسلام و إعلاء كلمة الله..
هل كانت تلك النار التى اشتعلت فى القلب ألما مجردا، أم كانت أيضا نار الغضب على من حاصروه الحصار تلو الحصار، لأنه يقول ربى الله. أم كانت أيضا نار المرارة وأنا أتمتم:
- هنيئا لمن باعوا كل شىء.. حتى أنفسهم.. هنيئا لأنصار أمريكا وإسرائيل.. هنيئا لأنصار سحق العراق اليوم ومصر غدا.. هنيئا لأنصار الشيطان.. هنيئا ذلك النصر البائس لمن يمارسون الخنق بدلا من الذبح.. هنيئا للطواغيت والقتلة..
وبدا لى أن مرض عادل حسين، هو موقف فكرى أكثر من كونه عارضا مرضيا..إذ كيف يجوز للمفكر، بل للإنسان فى عمومه، ألا يصاب بنزيف فى المخ إزاء كل ما يحيط بنا من نوازل هائلة وهوائل نازلة و أوطان تباع وشعوب تمتهن وتيه يدفعوننا إليه، قالبين كل الحقائق، مزورين، كى نندفع فى بحور ذلك التيه، كقطيع يتجه إلى المجزرة وهو فرح بها نشوان.
***
هل كان علىّ أن أوقف تلك السلسلة من المقالات : " خلافة فى المنفى" كى أحدثكم عن المنظومة الفكرية لعادل حسين.. أم أنه هو بذاته، وبفكره ، وبنضاله يشكل علامة رئيسية فى ذات الطريق.. طريق السعى للدفاع عن الإسلام وتوحيد المسلمين.. كما أنه يمثل نموذجا معاصرا فذا للولاء والبراء حين اكتشف بعد تيه أن الولاء يكون لله وحده و أن البراء يكون مما يبغضه الله حتى لو مالت أهواؤنا إليه.. ولست أنسى حديثه لى ذات يوم أن طريقه كان داميا.. و أن الانتقال من منهج فكرى إلى منهج آخر أقسى من السلخ..
ما كان علىّ أن أوقف سلسلة المقالات إذن .. فبداية المقال بالحديث عن عادل حسين إنما هى فى صلب الموضوع..
***
نعم..
الولاء والبراء..
الولاء لله.. والبراءة من كل ما يغضب الله..
ذلك أساس لا يمكن بدونه تحقيق وحدة أو قوة أو خلافة أو انتصار..
الولاء والبراء اللذان لا ينعقدان إلا أساس القرآن والسنة فقط..
ليس للنظام العالمى الجديد دخل فى ذلك ولا لقرارات الأمم المتحدة!!..
بالولاء والبراء نتخلص من أصنام الفكر.. والتحزب والتشيع والتفرق.. فمن كان مؤمنا وجبت موالاته من أى أرض أو جنس أو لغة كان.. ومن كان كافرا وجبت معاداته من أى صنف كان.. وليس لمؤمن أن يعلق الولاء والبراء على أسماء مبتدعة سموْها ما أنزل الله بها من سلطان.. لا الأحزاب ولا المذاهب ولا النظم ولا الأفكار ولا الفلسفات بل فقط.. الولاء لما يحبه الله ورسوله والبراء مما يبغضه الله ورسوله..
قال تعالى:
" لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله فى شىء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه و إلى الله المصير". آل عمران 28
وقال عز من قائل:
" لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم".. المجادلة 22.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسيره لتلك الآية :
(أخبر الله أنك لا تجد مؤمنا يواد المحادين لله ورسوله ، فإن نفس الإيمان ينافي موادته كما ينفي أحد الضدين الآخر، فإذا وجد الإيمان انتفى ضده وهو موالاة أعداء الله . فإذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه كان ذلك دليلا على أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب )..
ولقد حرص أعداء الإسلام على إضعاف مفهوم الولاء والبراء في حياة إلأمة الإسلامية ، وبعث قيم جديدة يعقد على أساسها الولاء والبراء لتكون بديلا عن الإسلام فظهرت دعوات القومية والوطنية والإنسانية والاشتراكية والشيوعية والرأسمالية و .. و .. و.. حتى يتذبذب المسلم بين ولائه لدينه وبين ولائه لهذه المفاهيم الجديدة ويذهب تميزه بإسلامه واستعلائه بعقيدته ليسقط فريسة الغزو الفكري والحضارى والعسكرى فلا يبقى منه إلا مسخ مشوه لا يصلح فى حراسة الدين ولا في سياسة الدنيا.
ولم يكن غريبا أن تؤتي هذه الدعوات الخبيثة أكلها في تمزيق دولة الخلافة، فتنشأ حركة التتريك في تركيا والقومية العربية والبلقانية والفرعونية والبربر و .. و .. وهي حركات تنقل الولاء والبراء من مستواها الإلهى إلى مستوى بشرى أو شيطانى.
نعم .. فى بحور التيه هُزمت أرواحنا قبل أن تهزم جيوشنا..
لم يكن لأرواحنا أن تهزم أبدا لو كنا نفعل كما فعل أسلافنا الصالحون..
لو لم نتخل عن الولاء لله..
يورد الدكتور صلاح الصاوى فى كتابه : " تحكيم الشريعة وصلته بأصل الدين- دار الإعلام الدولى القاهرة - 1994- نماذج رائعة من أسلافنا الذين زخرت حياتهم بالصحائف المشرفة والمواقف الخالدة التي علمت البشرية كيف ينتصر الولاء للإسلام على كل ما حفلت به الدنيا من الجواذب والمغريات .
فهذا هو الصحابى الجليل كعب بن مالك وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا يهجره النبي صلى الله عليه وسلم، ويأمر بهجره ، ويعيش بين المسلمين على الحال التي وصفها الله في القرآن ( حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ). ثم يأتيه في غمرة هذه المحنة كتاب من ملك غسان يدعو فيه إلى أن يلحق به ليواسيه ويرفع عنه ما يكابده من هوان وضيعة، فما كان من الصحابي الجليل إلا أن أحرق هذه الرسالة في التنور، وقال : وهذه أيضا من البلاء! !..
وهذا الصحابى الجليل أبو عبيدة - رضي الله عنه - يقتل أباه يوم بدر لما استحب الكفر على الإيمان ، ولم تمنعه صلة الأبوة من أن ينتصر منه لله ولرسوله وللمؤمنين ..
وهذا هو الصحابى الجليل مصعب بن عمير يمر يوم بدر على نفر من الصحابة يأسرون أخاه عزيربن عمير فيقول لهم شدوا وثاقه جيدا فإن أمه غنية، ويبادره أخوه متعجبا : "أهذه وصاتك بي " فيقول : إنهم إخوتي دونك ! !
وهذا هو الصحابي الجليل زيد بن الدثنة بعد أسره في حادثة الرجيع يشتريه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف ، ويقدم هذا الصحابي الجليل إلى القتل صابرا محتسبا، فيبادره أبو سفيان بن حرب بهذا السؤال : أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدا عندنا الآن في مكانك تضرب عنقه وأنك في أهلك . قان زيد : (والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي).
وهذا هو الصحابى الجليل عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول يأتي إذ يأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد قال أبوه قولته الفاجرة : "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز الأذل " . ويعرض على النبي صلى الله عليه وسلم ، أن يأمره فيأتيه برأس أبيه إن كان مزمعا قتله ! ويقف على باب المدينة شاهرا سيفه ليمنع أباه من دخول المدينة حتى يعلم من هو الأعز ومن هو الأذل، ولم يمكنه من الدخول حتى جاء إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
***
يواجهنا العلمانيون فى بلادنا - وهم مجوس هذه الأمة - بعقل تالف وصبر نافد وذاكرة تنزف وضمير زُيِّف.. فإذا ما تحدثنا عن الولاء والبراء وعن الحل الإسلامى أو عن ضرورة عودة الخلافة ولو فى المنفى أو عن قداسة اسم الله سبحانه وتعالى وجلال قرآنه وتنزه رسوله e عن عبثهم، تعالت أصواتهم بالاستنكار كسرت لنا الأقلام ونزعت منا الصحف ..
نعم.. صك المستغربون لنا مصطلحات وأعطوها قيمة مطلقة، فمن حقك مثلا تناول الدين والمقدسات بموضوعية، والموضوعية هنا تعنى نزع أى رؤى سابقة، ولكنك إذا حاولت أن تتناول مصطلح "الموضوعية" نفسه بموضوعية تجابه على الفور بأقسى وأقصى هجوم، فالمصطلح فى منظورهم كتلة صواب مطلق لا تقبل التجزئة، لقد رفضوا أن يحتل الدين هذه المرتبة التى منحوها لمصطلحهم، حتى أننى أعرِّف -أحيانا- الموضوعية بسخرية قائلا: الموضوعية هى تناول أى موضوع دون استشهاد بآية من القرآن الكريم أو حديث نبوى شريف!!.
المصطلح ككل ما هو دنيوى يحتاج إلى مواجهة. فهو إن كان يصلح فى العلوم الطبيعية والفيزياء لا يصلح على الإطلاق فى النظرة الشاملة الكلية، وحتى فى الفيزياء، فإن القوانين الفيزيائية التى تنطبق على الأجرام الصغرى - كالذرات - لا تنطبق على الأجرام الكبرى - كالمجرات- . لكن المستغربين والعلمانيين يريدون أن تكون الموضوعية صنما مقدسا لا يمس، وهو يعنى بالضرورة استبعاد كل ما لا يمكن تجربته، وبهذا يكون الغيب كله مقصيا ومستبعدا من أى حساب. الجزء الأكبر والأهم من الوجود يستبعد فهل فى ذلك أى موضوعية؟!.
تستلزم الموضوعية أيضا الحياد، والحياد أسطورة لا يمكن تحققها إلا بقد ما يمكن أن تتشابه بصمات إصبعين!!.. الإنسان موقف.. والموقف انحياز.. والحياد -مثلا- بين الخير والشر وبين الخطأ والصواب وبين الإيمان والكفر وبين الله والشيطان.. وتمييع موقف الولاء والبراء حتى التلاشى .. كل ذلك ليس موقفا موضوعيا ولا صحيحا.. ليس بمصطلحاتنا سوى نفاق..!!..
***
لا أملك فى إلا أن أدعوكم للدعاء معى لعادل حسين بالشفاء..
ذلك الذى عرف معنى الولاء والبراء فصدق الله نيته وعزمه..
وهاهو ذا.. يوشك أن يكون شهيدا لأعظم معركة خاضها فى حياته..
معركة الدفاع عن قداسة لا إله إلا الله.. وعن القرآن والرسول e والتى سموها زورا معركة الوليمة..
تلك المعركة التى حاولوا من حينها قتله بالخنق.. قصفوا قلمه و أغلقوا صحيفته وجمدوا حزبه وحاصروا فكره وزيفوا عنه الأقاويل.. حولوه إلى المدعى العام الاشتراكى و إلى النيابة وعشرات المحاكم و إلى لجان خلف لجان .. ظلمات خلفها ظلمات.. وارتفع ضغط الدم فانفجر فى المخ النزيف..
وهاهم أولئك يوشكون على النجاح..
لكن إلى حين .. فموعدنا قريب..
خلافة فى المنفى 12
هل الشيطان مؤمن..؟!
يا قراء .. يا أمة..
إن الواحد منكم يحرص أشد الحرص كى لا يأخذ من السوق عملة ورقية مزيفة مغشوشة.. حتى لو كانت قيمتها عشرة دولارات..فإن كانت مائة فإن الحرص يزداد.. فإن كانت مليونا تحول الحرص إ لى حرص كامل ومطلق..
تضاعف هذا الحرص إن كنت تأخذ هذا المال لتسافر به إلى بلاد غريبة ليس لك فيها أهل ولا أصحاب ولا ينفعك فيها سوى ما فى جيبك من مال..
ثم إن كل كنوز الدنيا لن تنفعكم سوى بضعة عشرات من الأعوام بعدها لن يأخذ أحد منكم دولارا إلي قبره.
أفلا يستحق إيمانكم بعض هذا الحرص كى لا يكون مزيفا مغشوشا منقوصا؟..
إيمانكم.. العملة الوحيدة التى تنفعكم ليس لعشرة أعوام أو مائة عام أو حتى ألف عام..
بل هو الخلد أبد الآبدين.. فإما جنة أبدا و إما نار أبدا..
***
أليس من العجيب أنهم فى الغرب يمارسون نوعا من الولاء والبراء الذى غفلنا عنه وضللنا؟! ولاؤهم لبعضهم حتى ولو كانوا على باطل وبراءتهم من أعدائهم حتى ولو كانوا على حق.
أرأيتم إلى كلينتون وهو يزور اليونان فيقابلونه بالمظاهرات الصاخبة الغاضبة ويقذفونه بالبيض الفاسد؟ فلماذا؟؟ لأنهم اعتبروه مسئولا عن الغارات التى شنها الناتو على صربيا التى لا يجمعها باليونان سوى الإرثوزكسية.
أرأيتم لى اليهود وولاءهم لبعضهم ونصرهم لكل يهودى فى العالم أينما كان وبراءتهم بل عداوتهم لكل من يسئ إلى يهودى فى العالم أينما كان وأيما كان..
من للمسلم الآن حتى داخل وطنه؟..
لمن ولاؤه ومن يحمل له الولاء؟..
فى كتاب الولاء والبراء فى الإسلام: محمد بن سعيد القحطانى دار الرشاد يقول المؤلف: " قرر العلماء أنه ليس فى كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من الولاء والبراء بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده".
بمثل هذا اليقين انتصر أسلافنا..
***
فى موقعة اليرموك حين كان المسلمون أربعين ألفا يواجهون مائة وأربعين ألف من الروم … وهجمت جحافل الجيش الجرار على المسلمين فزلزلوا زلزالا شديدا وارتدوا عن مواقعهم …
وهنا تقدم عكرمة بن أبى جهل وصرخ مناديا قومه : "من يبايع على الموت" … فبايعه أربعمائة جاهدوا فى الله حق الجهاد فانقلبت بدايات الهزيمة إلى نصر حاسم أبيدت فيه الغالبية العظمى من جند الفرنجة وفقد المسلمون ثلاثة آلاف شهيد منهم عكرمة، وانسحب هرقل الروم قائلا قولة سجلها التاريخ : " عليك يا سوريا السلام ، سلاما لا لقاء بعده "…
بمثل هذا الإيمان واليقين والتوحيد كانوا ينتصرون ويسودون الدنيا..
كانوا بشرا مثلنا…لهم الطموح والخطايا والنبل والحقد والغيرة والفروسية والضعف لكنهم بشر وليسوا شياطين خرس.. ففى سنة 55 هجرية كان عقبة بن نافع قد أسس مدينة القيروان وبدأ يعد العدة للخروج إلى الغزو الواسع الكبير ليدين المغرب كله للراية العربية الإسلامية. لكن معاوية عزله وولى مكانه المهاجر بن أبى دينار وهو أحد موالى والى مصر حينذاك، والذى كان قد أمره أن يهين عقبة حتى أنه حبسه قيده بالحديد. وواصل المهاجر بن دينار فتوحاته فى أفريقيا بنجاح واستطاع استمالة أعداد هائلة من البربر حيث أسلم أميرهم كسيلة الذى أصبح من المقربين من المهاجر بن أبى دينار وأسلم معظم قومه وشاركوا المسلمين فى حرب الروم. وفى سنة 60 هجرية أعيد عقبة بن نافع إلى موقعة بعد عزلوا غريمه و أوعزوا له أن يقتص مما فعله أبو المهاجر به، و أسرف عقبة فى الانتقام حيث أمر بتكبيل أبى المهاجر بالحديد و أن يكون برفقته على الدوام. وهنا تتبدى العظمة السابغة، فإن المكبل بالحديد أخذ ينصح عقبة بن نافع فيما فيه صالح الإسلام والمسلمين، أخذ ينصحه بأن يتألف قلب كسيلة حرصا على تحالفه، لكن عقبة لم يسمع له و أخذ يسىء معاملة كسيلة، ونسى أبو المهاجر ما هو فيه، ونسى صداقته لكسيلة، تذكر فقط صالح الإسلام والمسلمين، فتوسل إلى عقبة أن يحبس صديقه كسيلة لأنه يرى نيته على الغدر بعد أن أسيئت معاملته، ومرة أخرى لم يسمع عقبة، وصدقت ظنون أبى المهاجر فهرب كسيلة وارتد عن الإسلام، وواصل عقبة بن نافع انتصاراته الباهرة حتى وصل إلى شاطئ المحيط ووقف بعد أن خاض فرسه فى الماء قائلا: يا رب، لولا هذا البحر لمضيت فى البلاد مجاهدا فى سبيلك، وفى أثناء عودته، أمر أصحابه أن يسبقوه بمعظم الجيش ثقة منه بما نال من العدو و أنه لم يبق أحد يخشاه.وفى الطريق، وكان معه خمسة آلاف من بقية جنده، وكان أبو المهاجر ما يزال فى صحبته موثقا بالحديد، وقع الجميع فى كمين من كسيلة وقومه حيث جمع لهم جيشا من خمسين ألف مقاتل .و طلب أبو المهاجر فك وثاقه كى يقاتل دفاعا عن الإسلام والمسلمين، و أمر عقبة بفك وثاقه، وهنا دارت أغرب مجادلة يمكن أن تحدث خلال التاريخ كله، فقد راح العدوان اللدودان يتنافسان لا على من ينجو بل على من يستشهد، أمره عقبة أن يلحق بالجيش و أن يتولى قيادته و أن يتركه هو ليواجه كسيلة وقومه حتى يغتنم الشهادة، لكن المهاجر أبى، قال له أنه هو القائد وأن الجيش بدونه يمكن أن يتفتت، طلب منه هو أن يلحق بالجيش على أن يبقى هو فى فريق من الجند يبايعون على الاستشهاد كى يعطلوا كسيلة عن تعقب عقبة بن نافع، أصر على أن يستشهد هو دونه، ورفض عقبة مكررا أنه منذ خرج فى سبيل الله كان يطلب الشهادة وقد حان أوانها، و أصر كل من الرجلين على موقفه، ارصدوا هنا النبل حتى أقصاه، لقد أصر كل من الرجلين على موقفه، وفى النهاية قررا خوض المعركة جنبا إلى جنب، وخاضاها مع من معهما من الجيش فاستشهدا واستشهد الجيش كله.. لم ينج إلا واحد …!!
كانت كل الخلافات تقف عندما يتعلق الأمر بالإسلام والمسلمين.
هكذا كان الإيمان والتوحيد والولاء والبراء وبمثله كانوا ينتصرون..
***
نعم.. إن الولاء والبراء من لوازم كلمة التوحيد، و إن الشرك والكفر والردة والنفاق من نواقض الإسلام.
إن لا إله إلا الله ولاء وبراء ، نفى و إثبات، ولاء لله ولدينه وكتابه وسنة نبيه وعباده الصالحين، وبراءة من كل طاغوت عبد من دون الله.
وفى كتاب الإيمان: الدكتور محمد نعيم ياسين- دار الفرقان للنشر والتوزيع يصف المؤلف التوحيد بأنه أول الدين و آخره، وباطنه وظاهره، ومن أجله خلقت الخليقة.
والإيمان بالله يتضمن توحيده فى ثلاثة: ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته..
الإيمان بالربوبية هى الإيمان بأن الله هو خالق كل شئ ، أما الإيمان بالألوهية فهو يعنى أن الإله هو المألوه ( أى المعبود ) ولا أحد سواه، والعبادة فى اللغة هى كمال الحب مع كمال الخضوع.
ان المشركين يؤمنون أن الله هو خالق السماء والأرض ولكنهم يعبدون غيره..
فهل كانوا مؤمنين؟!
إن الشهادة بأن: لا إله إلا الله تعنى كل معانى التوحيد من الإيمان بالربوبية والإيمان بالألوهية والإيمان بالأسماء والصفات.
ومن هنا ندرك أن الإيمان بالربوبية ( الخالق) دون الإيمان بالألوهية ( المعبود وحده ) لا يعنى سوى الشرك بالله سبحانه وتعالى
إن عدم فهم المدلول الحقيقى لمعنى التوحيد هو الذى يوقعنا فى هذه المشكلة، حتى صار من يقر بالربوبية دون الألوهية مؤمنا عند كثير من الناس، ولو صح هذا الكلام- لا صح -لكان الشيطان نفسه ولظل من أوائل المؤمنين، ولكان المشركون أيضا مؤمنين، فأولئك جميعا يؤمنون بربوبية خالق السماوات والأرض لكنهم لا يؤمنون بألوهيته : بمعنى ضرورة عبادته.
أما كون لا إله إلا الله ولاء وبراء، توحيد ألوهية وربوبية وعبادة، فهذه معان لا تخطر على بال الكثيرين، وتوقعهم بين براثن الكفر وهم لا يشعرون.
أليست كارثة أن عامة الناس - بل وخاصتهم - تزن إيمانها الآن بموازين الغرب وطابوره الخامس فينا من شيوعيين وعلمانيين وصليبيين؟..
هم الذين يحددون لنا معنى إيماننا، ما هو المسموح به وما هو غير المسموح؟ ما هو الجهاد وما هو الإرهاب.. و.. و.. و..
وبالرغم من شذوذ إجاباتهم فما زالت تخدع الكثيرين منا.. ومن هذه الإجابات أن شهداء فلسطين إرهابيين و أن إجرام وفجور اليهود دفاع مباح عن النفس.
لماذا ابتعدنا عن مرافئنا..
فهم الإيمان على حقيقته كان كفيلا بإنقاذنا من التيه الذى ما نزال فيه..
فهم الإيمان والتوحيد بعناصره الثلاثة كان كفيلا بأن يجعلنا ندرك أن الإنسان لا يمكن أن يكوم مسلما وعلمانيا فغى نفس الوقت.
قال تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ( النساء 65).
يقول ابن كثير فى تفسيرها: " يقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم فى جميع الأمور فما حكم به فهو الحق الذى يجب الانقياد له وباطنا وظاهرا (..) وينقادون له فى الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة كما ورد فى الحديث : " والذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به".
***
والآن.. آن لنا أن نعود إلى البداية.. إلى بداية هذه المقالات " خلافة فى المنفى"..
وهنا يجب أن أعاتب نفسى و أن أعاتبكم يا قراء.. وأن أعاتب كل المثقفين و أن أدين أجهزة إعلامنا وتعليمنا وثقافتنا..
ذلك أننى لجأت إلى هذه المقدمة الطويلة التى استغرقت ثلاثة شهور كى أمهّدكم لما أريد قوله..
كى لا تزورّوا عنى..
احتجت أن أقول لكم أن مفهومنا القاصر عن الإيمان قد يعنى أن الشيطان مؤمن!!
استعرضت أمامكم التاريخ وقارنت الوباء الذى أخذناه والكنز الذى أضعناه كى أستطيع الآن أن أقول لكم أن الخلافة هى أرقى أنواع الحكم..
كان يجب أن تكون تلك بديهية عند أى مسلم وعند كل مسلم..
لكن الغزو الفكرىّ لذى دنس عقولنا جعل الغالبية العظمى منا تقابل مثل هذه الحقيقة البديهية باستنكار واستهجان..
احتجت لأن أتوسل إليكم بكل المقالات السابقة كى لا ترفضوا مقالاتى اللاحقة والتى أتحدث فيها عن ضرورة عودة الخلافة..
فليس من منجاة لنا من التيه سواها..
..
خلافة فى المنفى13
مالَنا وفلسطين..!!
***
من المؤكد أننى لم أمت قبل ذلك أبدا.. فما هى إلا ميتة واحدة نبعث بعدها فلا نموت أبدا.. لم أمت .. وبالرغم من ذلك فيخيل إلىّ أن وقع تلك العبارة التى سمعتها لا يقل قسوة عن الموت..
من المؤكد أننى لم أصب قبل الآن بنزيف فى المخ.. ولا اخترقت حشايا فؤادى شظية مزقته.. وبالرغم من ذلك فيخيل إلىّ أن ما عانيته من ألم تلك العبارة ليس أقل..
كالطعنة الغادرة جاءت العبارة:
" ووجه بيريز حديثه إلى الفلسطينيين معلقا على قرارات مؤتمر القمة قائلا: انفضوا أيديكم من العرب.. واعلموا أن الإسرائيليين أقرب إليكم منهم"..
***
لا أريد أن أعلق الآن يا قراء على أحداث مؤتمر القمة.. يكفينى صحيفة أغلقوها عندما جهرت بالحق الخالص.. لكننى أقول لكم أن العار الذى يجللنى – ويجللكم أنتم أيضا يا قراء- قد منعنى من الصراخ عندما سمعت عبارة ذلك الشيطان لأقول له : أنت كاذب..
هل يجرؤ منكم أنتم أحد يا قراء أن يقولها له؟..
نكئوا الجرح الذى لم يندمل.. وانصب ذوب الرصاص المنصهر على القلب مع اهتياج الذكرى.. كان ذلك بعد هزيمة 67 .. كانوا فى غزة.. كان أعداء الله اليهود – ولا أقول الصهاينة – (فهكذا سماهم القرآن) قد انفردوا بإخوتنا الفلسطينيين.. وراحوا يسومونهم سوء العذاب ولا أحد فى عالمنا العربى مترامى الأطراف يتحرك.. وانطلقت مظاهرة حاشدة تهتف بهتاف واحد:
- يا وحدنا..
آآآآآآآآآآآآه..
الآن أيضا: يا وحدكم..!!
***
وكالسيل.. عندما يجد مجراه مسدودا بالعوائق فإنه يهدر كالطوفان فى أماكن أخرى.. أماكن شاذة لم يكن له أن يصل إليها وليصبح سر الحياة سبب فنائها..
وهكذا.. عندما منعتنى العوائق من التعليق على مؤتمر القمة وجدت الطوفان يفور كنزيف فى القلب:
- ما لنا وفلسطين.. ما لنا وفلسطين.. ما لنا وفلسطين؟!..
***
لا .. لم أجن بعد يا قراء و إن كان كل ما حولنا يدفع للجنون..
لكن.. لماذا ندين مؤتمر القمة؟.. لماذا نغضب منه كل هذا الغضب وتصيبنا قراراته بكل هذه الحسرات وخيبات الأمل؟!..
لماذا نكلف الأشياء ضد طباعها ولماذا نتطلب فى الماء جذوة نار..؟!..
ولماذا نزرع الشوك ونحزن عندما لا يثمر فاكهة وأبا؟!..
***
ما هى المرجعية التى نحاسب عليها مؤتمر القمة لنحدد إن كان قد أخطأ أم أصاب؟..
ما هو نموذج الإجابات الصحيحة التى نراجع عليها قراراته لنعلم إن كان قد نجح أم رسب؟..
هل هى مرجعية الدولة القطرية؟ أم مرجعية القومية العربية ؟ أم مرجعية الإسلام والخلافة؟؟..
فإن كانت مرجعيتنا هى الدولة القطرية فما لنا وفلسطين؟!
نعم .. إن كانت مرجعيتنا هى الدولة القطرية فإن الوشائج التى تربطنا بالفلسطينيين لا تتجاوز تلك التى ربطتنا ذات يوم بالهنود الحمر.
(دعونا الآن من أن مرجعيتنا دون الدولة القطرية بكثير..)
و إن كانت مرجعيتنا هى القومية العربية فلماذا نندهش عندما تسقط دعاوانا ودعاوى القومية فى الدنيا كلها تسقط أو سقطت تحت معاول محو التمايز وطمس الهوية إضافة إلى القصور الكامن فى الفكرة..
لماذا لا نصدق طه حسين وسلامة موسى و أحمد لطفى السيد وعلى عبد الرازق وموجات الحداثة التى تلطمنا لنقتنع أن ما يربط مصر – على سبيل المثال بالغرب أكثر مما يربطها بالشرق؟!..
لماذا نتعسف فنلبس الدول القطرية ثوب القومية الذى بلى وضاق. لماذا نرغم هذه الدولة أو تلك على اعتناق رؤانا.. ولماذا لا نتركها على اقتناعها بأن مصلحتها فى العلاقة مع أمريكا ولو ضد العرب؟!..
***
فى كتاب: أخطاء يجب أن تصحح فى التاريخ : الدكتور جمال عبد الهادى و آخرين – دار الوفاء- المنصورة-مصر يقول المؤلفون:
لقد عقد اليهود مؤتمرهم فى عام 1897 فى مدينة بال بسويسرا بناء على طلب تيودور هرتزل النمساوى اليهودى . وكانت القرارات ومنها إنشاء دولة يهودية فى فلسطين تجمع شتات اليهود من أنحاء العالم .. وقد عرض هرتزل على السلطان عبد الحميد الثانى أن يصدر فرمانا بالسماح لليهود الأجانب بالهجرة إلى فلسطين ، والتوطن فيها، وأن يدفع ، اليهود عند صدور الفرمان مبلغا كبيرا من المال ، ثم يقومون بعد ذلك بدفع جزية سنوية للدولة. وجاء الرد على لسان السلطان عبد الحميد: انصحوا هرتزل بألا يتخذ خطوات جدية فى هذا الموضوع، إنى لا أستطيع أن تخلى عن شبر واحد من فلسطين فهى ليست ملك يمينى بل ملك شعبى. لقد ناضل شعبى فى سبيل هذه الأرض ، ورواها بدمه ، فليحتفظ اليهود بملايينهم . وإذا مزقت إمبراطوريتى يوما فإنهم يستطيعون أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن . أما وأنا حى فإن عمل المبضع فى بدنى لأهون على من أن أرى فلسطين قد بترت من إمبراطوريتى . وهذا أمر لا يكون . إننى لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة). وجاء اليوم الذى يتخذ فيه الخونة قرارا بعزل السلطان عبد الحميد الثانى عن العرش وقد حمل إليه قرار العزل وفد من ثلاثة أعضاء كان أحدهم يهوديا اسمه (قره صو) أفندى الذى يكن العداوة والبغضاء للسلطان ، لأن الأخير كان قد طرده من قصره حين حاول التأثير عليه لقبول تهجير اليهود إلى فلسين وتوطينهم فيها.
نعم.. خلع سلطان الدولة العثمانية وخليفة المسلمين أحد أبناء اليهود الذين حرم عليهم فلسطين.
***
إننى أدرك أن الدولة العثمانية لم تكن فى معظم أحوالها – وليس كلها – إلا صورة مشوهة للخلافة.. ومع ذلك فإن هذه الصورة المشوهة استطاعت الحفاظ على فلسطين ليضيعها بعد ذلك صناديد القومية العربية بصورتها الأصيلة.. وبلا ثمن!!
***
فى الكتاب القيم: مفهوم الدولة: عبد الله العروى: المركز الثقافى العربى- الدار البيضاء يقول المؤلف:
" تعاقبت على الرقعة الجغرافية التي تكون اليوم الوطن العربي دول متعددة ، تختلف الواحدة عن الأخرى إما بالانتماء المذهبى أو القبلي أو العرقي . فنقول الدولة العربية ، الدولة الفاطمية ، دولة الخوارج ، دولة الملثمين . . . الخ . تعني الكلمة هنا الجماعة المستقلة بالسلطة المستأثرة بالخيرات وتعني في نفس الوقت الامتداد الزمني لتلك الاستفادة. لنرتفع إلى مستوى التجريد ، فنتكلم عن الدولة إطلاقا ، أى عن الشكل العام لتنظيم السلطة العليا في جميع الدول المذكورة . تنتفي الصفات العرضية ، المذهبية والقبلية والجنسية، باستثناء صفة واحدة هي الصفة الإسلامية ".
***
ألا ترون يا قراء أننا فى أقطارنا الآن قد استبعدنا الأصيل واستبقينا العارض؟..
فلماذا نلوم على مؤتمر القمة إذن.. ومالنا وفلسطين..؟!..
***
فى إيجاز معجز وإعجاز مذهل يتحدث ابن خلدون عن ثلاثة أنماط من الحكم:
- النوع الأول: الملك الطبيعي وهو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة .
- النوع الثانى: الملك السياسي وهو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار. ثم يعود ابن خلدون ليقسم هذا النوع من الحكم إلى قسمين: نوع يهدف إلى مراعاة الصالح على العموم ونوع ثان يهدف إلى مصلحة السلطان فقط.
- النوع الثالث: الخلافة وهي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به.
***
النوع الأول الذى ذكره ابن خلدون هو السائد فى جل العالم الإسلامى، حكم القهر والتسلط والجبروت والهوى، فما أضيعنا إذن إذا حكمنا بمرجعية هذا الحكم على قرارات مؤتمر القمة، وما أضيعنا إذا طلبنا ممن كانت مرجعيته تلك أن يناصر فلسطين أو العراق أو السودان أو الشيشان !! هذا الصنف لن يناصر إلا نفسه، ومواجهته بالمنطق تسفيه للمنطق لأن الهوى لا المنطق مبدؤه ومنتهاه.
النوع الثانى بقسميه: الذى يهدف إلى مصلحة الدولة والذى يهدف إلى مصلحة الحاكم فقط، وهو أيضا لا يصلح لإدانة قرارات مؤتمر القمة، إن قريشا أدرى بشعابها، وكذلك مصر والعراق والمغرب والكويت، وليس ثمة مرجعية مجردة يمكن أن نقيس عليها، ولا أن ندين هذه الدولة أو تلك إن اختارت مصالحها مع أمريكا و إسرائيل ضد العرب والمسلمين.
النوع الثالث: هو المهجور، هو الذى لا يكف ولاة أمورنا عن إقناعنا أنه هو الإرهاب والظلامية والتحجر والجمود والقرون الوسطى ومحاكم التفتيش. وليس صدفة بالطبع، أن هذا النوع من الحكم هو الذى يمكننا من أن نحاسب ولاة أمورنا، وهو الذى لا نستطيع معه أبدا أن نقول : ما لنا وفلسطين، ففلسطين الأرض ليست وطنا، ولا مصر ولا السودان ولا الشيشان ولا الكويت ولا العراق، الإسلام هو الوطن، وعلى كل مسلم أن يدافع عنه، بنفس المسئولية ونفس الحمية ونفس الإثم إن لم يفعل.
***
يوضح محمد عبد الله العروى أن ما يفصل الملك عن الخلافة ليس تطبيق الشرع بل الهدف المتوخى من ذلك التطبيق . قد يجدد حاكم ما معالم الشرع لأسباب سياسية عقلية ، ليحفظ الأمن ويشجع على العمل والإنتاج ، وبالتالي ليزيد في عمر دولته ، في حين أن الخلافة هى تطبيق الشرع لتحقيق مقاصده وليست تلك المقاصد إلا مكارم الأخلاق . لا يكفى أن نقول : هدف الشرع هو المصلحة ، حتى لو فهمنا منها مصلحة العموم ، أى زيادة الخيرات وتقدم العلوم واستدامة السلم والأمن . يقول ابن رشد ، الفقيه المالكى: إن الشرع اعلى من الناموس العقلي ، ويصرح ابن خلدون : " وما كان منه بمقتضى السياسة وأحكامها فمذموم أيضا لأنه نظر بغير نور الله . . لان الشارع أعلم بمصالح الكافة فيما هو مغيب عنهم من أمور آخرتهم . ) يعني هذا الكلام وهو كلام الفقهاء جميعا أن الدولة السلطانية التي تطبق الشرع حرفيا ليست خلافة لأنها تهدف من وراء ذلك التطبيق إلى الراحة والاستقرار ، أى إلى غاية دنيوية . أما الخلافة فهى الحكم الذي يهدف من وراء المصلحة الدنيوية المحققة إلى مقصد الشريعة . إلى ما يسميه الفقهاء وغيرهم مكارم الأخلاق. لا يكون الحكم خلافة إلا إذا نظر إلى ذاته كأداة في خدمة هدف أعلى ، لا تكون الدولة خلافة إلا إذا جاوزت أهدافها الذاتية . عندئذ قد يكون الجهاد علامة على ذلك التجاوز وقد لا يكون . إذا كان الهدف منه هو التوسع فهو داخل في سياسة الدولة لا اكثر ولا اقل و إذا كان الهدف منه هو إعلاء كلمة الله فقد يدل على إحياء الخلافة ، بشرط أن تكون كلمة الله هي العليا في الداخل قبل التوجه إلى الخارج .
***
بمثل هذا الحكم نستطيع أن نقوم اعوجاج ولاة أمورنا بأقلامنا وبسيوفنا إن لزم الأمر.. بمثل هذا الحكم نستطيع أن نرد على بيريز قولته.. وبمثله ليس لنا أبدا أن نقول: ما لنا وفلسطين؟!!
***
ولقد صدقت يا سيدى ومولاى وحبيبى يا رسول الله صلى الله عليك وسلم.. لا يصلح آخر هذه الأمر إلا بما صلح به أوله..
خلافة فى المنفى14
اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ..
***
هب أيها القارئ – عافاك الله – أنك مرضت.. فماذا تفعل؟..
ستلجأ إلى طبيب يداويك.. وستكون حريصا على اختيار هذا الطبيب مستعينا بكل أدلتك العقلية وخبراتك وتجاربك.. ثم ستذهب بعد ذلك إلى هذا الطبيب الذى وثقت به.
تذكر الآن أن الثقة به سبقت ذهابك إليه بل هى التى دفعتك نحوه.
قبل ذهابك إليه كان إعمال كل ملكات عقلك ضرورة لا غنى عنها ولا بديل..
الآن وقد ذهبت.. وباشر الطبيب علاجه بأية طريقة شاء.. هل من العقل أن تواصل استعمال عقلك؟!!
هل ستناقش الطبيب فى كل خطوة يخطوها؟ فى كل قرص دواء يكتبه؟ هل من حقك – عقلا – أن تقول للطبيب أنك تقبل أقراص الصباح لكنك ترفض أقراص المساء
أى امتهان للعقل لو فعلنا ذلك.. أى توظيف له فى غير محله..
ثم أننى أستدرك فأقول أن هذا ليس تغييبا للعقل بل تكريما له..
ليس انسحابا منه.. ولا إقرارا بأن الطبيب لا يستطيع إقناعك بمنطقه..
لكنه إدراك عاقل بأنك لكى تستطيع محاورة الطبيب عقليا فلابد أن تحصل من العلم ما حصل.. وأن تكتسب من التجربة ما اكتسب.. وساعتها.. بعد عشرين أو ثلاثين عاما.. فالأرجح أنه سيقنعك – عقليا – بسلامة منطقه وقراراته.. وأنك بعد أن اكتسبت مثل علمه ومثل مهاراته ومثل خبرته ستقره على جميع ما قال .. هذا إذا كنت ما زلت على قيد الحياة.. !!..
إعمال العقل إذن ضرورة لا غنى عنها فى مجاله.. أما إعماله فى غير مجاله فليس سوى حماقة لا تفوقها حماقة.. ولن تعود بالضرر على أحد سواك..
***
نعم.. إهمال العقل قبل اختيار الطبيب قد يكون – ليس فى كل الأحوال - مهلكة.. وأقول ليس فى كل الأحوال لأننى أفترض أن احتمالات الإصابة تقارب احتمالات الخطأ .. هذا بالطبع فى غيبة مؤثر خارجى يدفعك إلى هلاكك، كعدو، أو كسمسار يحصل من الطبيب على عمولة، أو جاهل متعالم..
إهمال العقل إذن قد يكون مهلكا، لكن إعماله بعد الذهاب إلى الطبيب الذى اختاره نفس هذا العقل وتيقن من الثقة فيه مهلكة لا ريب فيها..
***
لقد سقنا مثالنا حتى الآن فى إطار واقى ومجسد..
فلننتقل خطوة إلى الأمام لننتقل به إلى مثال رمزى ومجرد..
ولنفترض من أجل تلك الخطوة الواسعة ما لا يحدث فى الواقع.. مثل أن تكون الثقة فى الطبيب كاملة واليقين به مطلقا .. وأن تكون ثقتك بشفائك أكثر عندك من ثقتك بمرضك..
هل سيعوقنا ساعتها عن الاستمرار فى العلاج دواء مهما بلغت مرارته.. أو عملية جراحية مهما بلغت معاناتها؟!..
ثم نعود إلى العقل.. هل يعنى حجبنا إياه عن الجدل الجاهل مع الطبيب أننا غيبناه؟..
ثم.. هل يعنى ذلك أنه فقد دوره وأهميته وقيمته..؟!
لا..
ففى حدود المثال يبقى له أن يتأمل طول الوقت براعة الطبيب وعبقريته ومعجزاته فى علاجه..
يبقى له أن يتأمل فى انبهار مدى حكمة الطبيب عندما أخفى عنه ما أخفى.. وعندما صرح بما صرح.. وعندما أصر على مواصلة العلاج حتى عندما كانت الظواهر والأعراض لا تبشر..
يبقى له أيضا أن يتأمل .. وأن يحاول أن يتعلم.. لماذا اختار الطبيب هذا الدواء ولم يختر ذاك.. لماذا اختار العملية الجراحية وليس الإشعاع.. أو العكس.. عليه أن يتأمل و أن يستنبط فى وجد لا حد لعذوبته كلما حل مسألة أو اجتاز مشكلة أو فهم معضلة..
فإن كان عقله على مستوى الإدراك الذى يجعله يفهم فبها ونعمت.. وإن غمّ عليه الأمر واحتاج إلى معونة فإن عليه أن يلجأ إلى عالم ليعلمه.. إلى عالم .. وليس إلى عدو أو سمسار أو جاهل أو إلى "حلاق صحة" !!..
قمة عقل المريض أن يدرك أنه لا من حقه ولا هو يستطيع أن يحكم على عقل الطبيب بعقله..
***
انتهى ضربنا للمثل.. وندلف على الفور إلى بيت القصيد.. فنحن نتحدث عن الخلافة الإسلامية..
لن أكتب لكم يا قراء لكى أبرهن لكم على أن الخلافة أفضل من سواها..
لا..
على الإطلاق..
لن أفعل ذلك..
لقد جرنا إلى هذه الطريقة العقيمة فى التفكير أعداؤنا .. جرنا إليها صليبى وصهيونى وشيوعى وعلمانى.. تماما كما فى مثل الطبيب عندما تصدى لنا عدو يروم هلاكنا، أو سمسار ينال عمولته علينا، أو جاهل، أو حلاق صحة..
لن أحكم عقلنا القاصر فى شرع الله..
***
طريقة النقاش التى استدرجنا السفهاء إليها خطأ وهلاك..
فليس من حقنا أن نحكّم عقلنا فيما ثبت أنه شرع الله.. لقد دفعونا إلى مناقشة الأمور بصورة مقلوبة.. والصورة الصحيحة فى هذه المسألة هى أن نسأل:
هل نحن مؤمنون؟: هل نؤمن بالله؟ أم لا نؤمن؟..
ثم هل نحن مسلمون؟ هل نؤمن بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه صدقنا فيما بلغنا به عن ربه و أن القرآن من عند الله..
فإن كانت الإجابة نفيا كما هو الحال بالنسبة للصهاينة والصليبيين والشيوعيين والعلمانيين فليس لنا ثمة سيطرة عليهم.. وليس هناك مشكلة ملحة..
وإن كانت الإجابة إيجابا فليس ثمة مشكلة أيضا.. فسوف يكون نبراس المؤمنين بل المسلمين جميعا : إن كان قالها فقد صدق..
المشكلة تأتى من أولئك الصهاينة والصليبيين والشيوعيين والعلمانيين الذين تسللوا إلينا كطابور خامس يلبسون رداءنا ويتحدثون لساننا ويدعون إيمانا كإيماننا فإن أردنا أن نحكم عليهم بإيمان يدعونه هاجوا وماجوا وأرادوا أن يكونوا الخصم والحكم.. والعدو الخائن والسمسار والجاهل وحلاق الصحة لم يعودوا يكتفوا بالجرأة على الطبيب بل إنهم يطالبون بنفيه..
نعم.. الأمر ليس أمر غزو فكرى .. إنه أشبه بالاحتلال الاستيطانى الذى يدرك أن لا بقاء له فى البلاد التى غزاها إلا بإبادة أهل البلاد الأصليين عن بكرة أبيهم..
ليست المشكلة – كما عبر الدكتور محمد عمارة فى عبارة دامية – فى قبولنا لهم بل فى قبولهم لنا..
هذا الطابور الخامس من الخونة هو الذى حول مجرد مناقشة فكرة الخلافة إلى كبيرة الكبائر التى تهون إزاءها كل الكبائر..
***
والآن لندع الجاهلين ولنعبر بمريضنا يتأمل عبقرية طبيبه ولندلف إلى مسألتنا..
يجمع الفقهاء على أن إن أهم أساس من أسس الإسلام بعد العقيدة الإسلامية هو الخلافة الإسلامية. فبدون الخلافة الإسلامية تبقى البلاد الإسلامية ممزقة، وتبقى الشعوب مفرقة.
يكفينا هذا الإجماع لكى نهتف: لقد قالها.. ولقد صدق…
لن نحتاج إلى أى دليل آخر..
وما يبقى لنا سوى أن نتأمل الحكمة والإعجاز والجلال..
لقد طرحنا فى المقال الماضى أنماط الحكم، نمط الهوى الغبى: النمط القبلى الديكتاتورى الباطش، وما أظن أى مواطن فى أرجاء العالم الإسلامى يحتاج إلى أى شرح له، والنمط الثانى هو نمط أرقى قليلا، فالحاكم يدرك أنه كلما ازداد عنفه وظلمه قصرت مدة حكمه، لذلك، فهو استهدافا لصالحه هو، يلجأ إلى بعض التنظيم والعدل، القدر الذى لا يحرمه نشواته وصبواته وسرقاته وفى نفس الوقت لا يستنفر الأمة ضده، النمط الثالث هو ما يمكن أن نطلقه على النموذج الديموقراطى الغربى، نمط يستهدف صالح الوطن وجمهور ذلك الوطن لا مصلحة الحاكم.
أما النمط الرابع، الذى يعلو هذه الأنماط جميعا فهو نمط الخلافة، إنه لا يسعى إلى مصلحة الدنيا فقط بل مصلحة الدنيا والآخرة جميعا، إنه نظام آخر، مناف للأنظمة السابقة جميعا، وفيه – كما يصفه ابن خلدون باقتدار – يكون وازع كل واحد من الأمة نابعا من داخل نفسه، ألا وهو الدين، وكانوا يؤثرونه على أمور دنياهم و إن أفضت إلى هلاكهم.. ويضع ابن خلدون كل أنواع الحكم فى القاع والخلافة فى القمة ، ويوافقه فى ذلك عبد الله العروى ويضيف أن العصبية والعقل لازمان لبناء الدولة، وقد يزيد التمسك بالشريعة من تماسك هذه الدولة واستقرارها، لكنه لا يحولها أبدا إلى خلافة، ففى مثل هذه الدول، يخدم الحاكم الشريعة ظاهرا لأنها تخدمه باطنا، فالهدف من إقامة الشرع هو دوام الملك وتوطيد النفوذ، أما الخلافة فهى شئ آخر، فالعقل فيها ضرورى لسياسة الدنيا، لكن ما يميزها عما سواها هو هدفها الأخلاقى، إن العقل قد يجسد العدل أو الحرية أو الأمانة أو الوفاء أو الإخلاص أو النقاء والطهارة – على سبيل المثال- فى معان نسبية محدودة، أما فى الخلافة فإن هذه المعانى تتحول إلى مطلق، فالشريعة كما يقول ابن قيم الجوزية هى عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه. لا تطبيق الشريعة إذن ولا حتى الجهاد ما يجعل نظام الحكم خلافة – كما يدعى المستشرقون- فنظام الحكم لا يكون خلافة إلا إذا نظر إلى ذاته كأداة فى خدمة هدف أعلى، نعم، لا تكون الخلافة خلافة إلا إذا تجاوزت أهدافها الذاتية، وتجاوزت خطوط خرائط الوطن و أعداد الناس المحصورين فيها فمهمة الخلافة ليست الوطن فقط.. بل إنها رسالة فى الأرض كلها وللبشر جميعا.. نعم.. هى ذاك.. وهذا هو سر رعب الآخرين منها.. إنهم يعتبرونها أخطر من أى سلاح دمار شامل يمكن أن نقتنيه.. لهذا يتعاملون معها برعب من يدرك خطورتها على حضارتهم إذا عادت.. ولهذا دسوا بيننا جواسيسهم من أدعياء التزوير – لا التنوير – وأدعياء الثقافة والثقافة منهم براء.. أولئك الذين غيروا مفهومنا عن الثقافة بل و أزاحوا كل التعريفات التى حفلت بها الأضابير ليتحول التعريف الواقعى للمثقف إلى : " هو الشخص الذى توافق أجهزة الأمن عليه بعد طول اختبار، فتدفع به بعد ذلك إلى السلطات لتعيينه، وإلى أجهزة الإعلام لتلميعه وفرضه على الناس..!!"..
مثل هؤلاء هم الذين يسفهون ديننا ويسخرون من أشواقنا لعودة الخلافة، لا عن اختلاف فى الفكر بل لإدراك بأن الخلافة حين تعود فإنها ستبطل مفاسدهم أول ما تبطل، ولقد حدث أننى كتبت منذ أسبوعين فى هذه الصحيفة عن كتاب الصحفى أحمد عبد الوهاب والذى يتحدث عن فساد عملاء الثقافة الرسميين، وتواكب ذلك مع ما كتبه الكاتب الكبير فهمى هويدى فى هذا الصدد عن عمالة عدد كبير من كبار الصحافيين، وعن وجود 150 صحافيا فى مؤسسة واحدة تتجاوز ثروة كل واحد منهم خمسة ملايين جنيه يؤكد فهمى هويدى – باعتباره صحفيا – أنها ثروات حرام، إننى أكتفى بمجرد الإشارة على أمل بالعودة إلى هذا الموضوع، فقد تم اختزالُ آخر للمثقفين يكاد يقصرهم على الصحافيين ونجوم الإعلام، فى حين تم عزل الصحافيين والمثقفين الشرفاء بعيدا عن آذان وعيون الأمة..
فليسخر منا الصليبى والصهيونى والشيوعى والجاهل والمثقف الأجير بنا كما شاء لهم الهوى..
وليحاول من عملاء السلطان والشيطان من لم يسجد لله سجدة ولم يقرأ من القرآن آية أن يندسوا بين صفوف الأمة مدعين الإيمان كى يضعوا لنا شروطه..
وليستهزئوا بنا حين نتحدث عن الخلافة..
فالله يستهزئ بهم..
" وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ {14} اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ {15} أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ " {16}البقرة
صدق الله العظيم
خلافة فى المنفى15
لهم دينهم.. ولنا دين..!!
***
الحجر الذى تركله بقدمك؛ هل يشعر بألمك؟!
ولو أن هذا الحجر كان قطعة من الألماس فهل يشعر بقيمته عندك؟!..
بالنسبة للحجر أنت غير موجود..
الكلب أو القطة أو الحيوان الأعجم قد تشعر ببعض مشاعرك..
وبالنسبة لتلك العجماوات فإنها لا تشعر إلا بوجودك المباشر، و أنت بالنسبة لها حتمية طبيعية لا تفهم عنها شيئا، لا تستطيع أن تستفيد منها، ولا أن تتجنب عواقب الاحتكاك بها .. إلا بافتراسك.. لإلغاء وجودك..
أنعام هى.. لا تدرى بك إلا إذا رأتك..
والأقل القليل مما يستأنسه الإنسان منها من تدرك أن عليها أن تطيعك وتنفذ ما تفهم من أوامرك..
أما ابنك فمن المؤكد أنه يشعر بك، وبحبك له..
وكلما قل أدبه و ازداد عقوقه وسوء خلقه كلما قل إحساسه بك..
لكن.. كلما ازدادت مدارك ذلك الابن رفعة ووعيه عمقا كلما ازداد إحساسه بك وفهمه لك..
كلما ازدادت أخلاقه سموا كلما ازدادت طاعته لك..
طاعة يحركها اليقين بك والثقة بصواب رأيك..
طاعة مفعمة بالحب والشكر والامتنان والعرفان والرعب من أن تغضب عليه..
ووجودك داخله يقين مسيطر مستمر سواء رآك أو لم يرك حتى لو كنت على مبعدة آلاف الفراسخ..
***
إنما أضرب لكم الأمثال يا قراء.. يا إخوانى فى الله.. وما تلك الأمثال إلا تشبيها لعلاقتنا بالله سبحانه وتعالى..
فمن الناس من هم كالحجارة أو أشد قسوة.. فأولئك الذين لا يؤمنون بالربوبية..
لم يشهد التاريخ فيما أعلم سوى فئتين كفروا بالربوبية.. و أنكروا أن لهذا الكون خالق..
أولئك كالحجر الذى لا يشعر..
هاتان الفئتان هما الدهريون قديما والشيوعيون حديثا، وهؤلاء هم شر البرية، وقد وقعوا رغم ادعائهم المنطق والمنهج فى خطيئة فكرية لا يقع فيها إلا معتوه، إذ قالوا – باختصار أرجو ألا يكون مخلا- بأن الطبيعة هى خالقة الحياة، ولم يقفوا لحظة ليتساءلوا كيف يخلق العقل ما لا عقل له..!!
كيف يعطى الشىء ما لا يتضمنه..؟!
لم يجيبوا.. ولن يجيبوا أبدا..
العلمانيون فى عمومهم يؤمنون بالربوبية لكنهم لا يؤمنون بالألوهية، أى أنهم يؤمنون بأن الله هو خالق الكون وخالقهم، لكنهم يرفضون عبادته وتنفيذ شرعه، ( هكذا كان مشركو مكة على سبيل المثال.. وهم كفار!!) .. والمؤمنون منهم يتصورون – فى عماء للبصيرة مذهل – أنه – جل جلاله – لا تأثير له عليهم، إنه موجود، لكنه غير مهيمن، لقد خلق الكون – والغابة – وخلق له سننه ثم تركه ومضى..!!..
وهى فكرة تذهلنى تفاهتها.. إذ كيف يتسنى لعاقل – بل حتى لحيوان شرس فى غابة – أن يتصور أن خالق كل هذا الكون الهائل وكل هذه الحيوات قد كف عن العناية بها.. كيف؟ .. هل تعب؟! هل أصابه السأم؟!.. هل هو مشغول بأشياء أخرى؟.. هل بسبب ضيق الوقت؟!.. أستغفر الله مما يصفون.
حتى بالمنطق المنحرف، فإن خالق مثل هذا الكون لابد أن تكون قدرته مطلقة، فكيف تتوافق القدرة المطلقة مع التعب أو السأم أو الانشغال أو ضيق الوقت أو الانصراف.
***
تصوروا يا قراء أن يتحكم الحجر فى حيوانات الغابة، أو أن تفرض حيوانات الغابة رؤيتها على الحيوانات المستأنسة ( وهى فى الغالب الأكثر ذكاء) ، أو أن تسوس الحيوانات المستأنسة البشر!.
إننى لا أغرق فى الخيال يا قراء، ولم أبحر فى بحر بلا شواطئ..
بل إننى أعود على الفور إلى موضوعنا الرئيسى، لأقول أن من لا يفهم الفلسفة الكلية لهذا الكون، هو كمن يختصر الكرة الأرضية فى ذرة، أو المجموعة الشمسية فى الأرض، أو المجرة فى الشمس، أو الكون فى مجرة، وهو ينظر إلى الدنيا كبداية ونهاية، وأن حركة التاريخ البشرى كله محكومة بإطارها. فليس هناك غاية من وجود الإنسان إلا ذاته، فإذا ارتقى ضم لذاته ذوات الآخرين.
كارل ماركس على سبيل المثال بعد أن فرغ من تحويل المطلق إلى نسبى يحاول أن يملأ الفراغ الناجم بتحويل النسبى إلى مطلق ، وهو إذ يؤكد على دور الإنسان في التاريخ ( ما قيمة إنسان ماركس وتاريخه إزاء صاعقة واحدة كانت كفيلة بتدمير هذا الإنسان عن بكرة أبيه و إلغاء تاريخه) ، يرى فى رؤية متعسفة أن الوعي الطبقي سيدفع بالبروليتاريا إلى تغيير التاريخ، الخطأ المنهجى الفادح الذى وقع فيه ماركس هو تجاهله للجزء الروحى فى الإنسان، فلا يمكن لحتمية ماركس أن تتحقق إلا إذا كان الإنسان ذائباً في المجتمع وفي التاريخ وفى الكون، لتنطبق عليه قوانين الفيزياء. وبلغتنا نحن، لا يمكن لفكر ماركس وحتمياته أن تكون صحيحة إلا إذا كان الإنسان مجبرا بلا اختيار، وبلا أمانة يحملها بظلم وبجهل.
هيجل يختلف عن ماركس فى أنه يرى تجسد الله – ( سبحانه وتعالى عما يأفكون ) فى التاريخ، لكنه مثله يعتمد فى تفسيره لحركة التاريخ والإنسان على حتمية مطلقة وقاهرة، لا تدع للإنسان فكاكا من نظرياتهما..
يترتب على فلسفة هيجل أن المجتمعات والشعوب والأشخاص مجرّد لعبة في فى يد التاريخ الذى تجسد فيه إلهه. فهم يقومون بأدوار في التاريخ ولكنهم لا يشعرون بأدوارهم هذه، إنهم مسيَّرون من طرف العقل الكوني.
سبحان الله..
الله خلق الإنسان وحمله الأمانة وكرمه بمسئولية الاختيار..
لكن ماركس الذى أذاب الإنسان فى المجتمع وهيجل الذى أذاب الإنسان فى التاريخ يريدان إخضاع التاريخ والإنسان لحتمياتهما المهترئة التى لا تقوم على أى أساس.
إننى ألمس هذه الفلسفات بإيجاز شديد كى أوضح للقارئ أن الأفكار الخاطئة التى يروجونها بيننا الآن هى بنات سفاح لتلك الفلسفات، فالإنسان المحكوم بالحتمية، كالإنسان الليبرالى (والذى هو استمرار ولو بالردة عن إنسان ماركس وهيجل) جميعا يتحركون فى أفق محدود تحركه الحتميات أو الإرادات النسبية فى أفق محدود ليصل فى نقطة ما إلى نهاية التاريخ.
إن الإنسان فى فلسفتهما يجرى فى حيز مغلق، ولا بد لهذا الحيز مهما اتسع من نهاية..
هذه الفلسفات تنبع الأسس المطروحة نظريا والمطبقة عمليا لأنماط الحكم فى العالم الغربى.
***
فى الإسلام، الأمر يختلف، فالإنسان المسلم الذى يملك فلسفة أشمل لوجوده، والذى يدرك مسئوليته واختياره، هذا الإنسان يتجاوز ذاته وذوات الآخرين، ليكدح سعيا إلى إله يعلم علم اليقين أنه سوف يلاقيه، وهذا التطلع هو الذي يجعل التقدم ممكناً بل يجعل الرؤية الإسلامية إلى التقدم رؤية نوعية تتجاوز كلّ الرؤى الأخرى، التي تجعل أهدافاً نسبية أو مثلا «عليا» مزيفة أمام الإنسانية كالمجتمع اللاطبقي عند ماركس أو الديمقراطية الليبرالية في المذهب الرأسمالي. المفهوم الإسلامى المتميز يحمل الإنسان مسئولية خلافة الإنسان لله في الأرض وبذلك لا ينفي ذاتية الفرد، ولا ينفي مسؤولية الإنسان فرداً وشعوباً واُمماً، بل إن الخلافة والمسؤولية فكرتان متلازمتان.
نعم.. الفكر الغربى يخضع الإنسان لحتميات غبية ويرفض الغيب..
أما الفكر الإسلامى فإنه يضيف إلى عالم الشهادة عالم الغيب..
ومن هنا تكون النظرة الإسلامية متفوقة بما لا يقاس فى عالم الشهادة ( الدنيا) أما تفوقها فى عالم الغيب فلا منافس لها فيه.
هذه المسئولية الهائلة التى يحملها الإنسان المسلم هى التى ينبغى أن تمنع التاريخ من الانحراف ومن الظلم..
فموقف الإنسان من التاريخ والدنيا أنه يؤثر ويتأثر..
و أنه مسئول بعد إيمانه بالربوبية ثم بالألوهية ثم بأسماء الله وصفاته أن يسعى لمكارم الأخلاق ولتحقيق الصفات كالعدل والرحمة والانتقام من الظالمين فى سباق لا ينتهى أبدا لأنه يتجه نحو المطلق..
سباق لا ينتهى إلا بيوم القيامة.. وهى وحدها إذا استعرنا التعبيرات الخاطئة هى التى تمثل نهاية التاريخ!!.. نهاية تاريخ عالم الشهادة لا عالم الغيب!!..
لكن تحقيق أمر الله الذى ينبغى على المسلم أن يجاهد فى سبيله لا يمكن أن تقوم به دولة قطرية أو قومية أو عرقية أو مقتصرة على مصالح البشر.. هذا لا يمكن أن تتحقق عبادة المسلم المثلى لله إلا تحت نظام الخلافة..
خلافة فى المنفى "16"
لا أحب الآفلين..!!
حاصل جمع ثلاثة على سبعة يساوى عشرة !!
نعم: 3 + 7 = 10!!.
فلو أن أكبر عالم فى أكبر معاهد الدنيا فى الرياضيات جاء إلينا ليقول أنه اكتشف أن حاصل الجمع ليس كذلك، فإن يقيننا بصواب مسألتنا لن يهتز، سنقول له : أنت عالم كبير جدا، لكن 3+7=10!!..
ولو أن آباءنا و أمهاتنا أو أبناءنا وعترتنا وعشيرتنا الأقربين جاءوا ليقولوا: نحن أقرب الناس إليكم وسوف نصدقكم الخبر، فحاصل الجمع ليس عشرة، فإننا سنقول لهم: نحن نحبكم جدا، ونثق بكم جدا، لكن 3+7= 10!!..
و إن جاءنا ساحر حول الحبل إلى ثعبان عظيم ثم راح يصعد إلى السماء بسلم، أو يقطع الطير ويناديها فتسعى إليه حية، وراح حتى يبرئ منا الأكمه والأبرص، ويكتشف علاجات للإيدز والسرطان، لو فعل كل هذا أمامنا، ثم قال لنا: بعد أن أثبتُّ لكم قدرتى فإننى أصارحكم القول: فإن 3+7 لا تساوى عشرة، فإننا سنقول له: ما فعلته عجيب جدا، لكن 3+7 =10!!..
***
3+7 =10 هنا يا قراء هى رمز و نموذج للعلم اليقينى، كانت كذلك، وستظل كذلك أبد الآبدين.. لن يغير منها شىء أبدا، وهى حقيقة ثابتة.. حقيقة يقين.. وكل حقيقة لا تكون على نفس هذه الدرجة من اليقين الذى لا يتغير هى حقيقة جزئية، متغيرة، ستزيحها من على عرشها ذات يوم حقيقة أخرى، وستأفل، لذلك لا يجوز الإيمان المطلق بها والركون الكامل إليها، و إن جاز – بل وجب – التعامل معها فى حدود إمكانياتها النسبية. فإذا حولنا النسبى إلى مطلق تحول فى نفس اللحظة إلى صنم..
نعم يا قراء..
الآيات التى تتحدث عن الأصنام فى القرآن موجودة.. ولم تنسخ.. ولا هى تتحدث عن ماض دال و أثر زال بل تتحدث عن ماض وحاضر ومستقبل..
***
انظروا إلى الرمز والإعجاز المبهر فى سورة الأنعام ، وسيدنا إبراهيم عليه السلام وهو يكد بحثا عن الحقيقة المطلقة والعلة خلف كل علة، فكلما بان له مظهر من مظاهر الوجود قال:
" …قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ {76} الأنعام
***
وهنا يا قراء نصل إلى نقطة فارقة فى الفرق بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية..
نقطة تتعلق بأصل المعرفة فى الحضارتين.. (وهو أمر وثيق الصلة بنظام الحكم فى الإسلام: الخلافة)..
ففى الحضارة الغربية يمثل الوجود الموجود كل أصول المعرفة، فهى كامنة فى هذا الوجود حتى لو تأخر اكتشافنا لها، موجودة، وقد اكتشفت، وتكتشف ، أو يمكن اكتشافها ذات يوم، و فهم العلاقات بينها وحل رموزها. وبالنسبة لهم، فكل معرفة سوى ذلك إن هى إلا خرافات وأساطير الأولين..
ولنلاحظ هنا يا قراء أن " خرافات وأساطير الأولين" هذه التى يعتبرونها قمة تقدم ونضج وحداثة تطورهم الفكرى إنما هى قديمة فى الوجود الإنسانى قدم الكفر..!! و أنها ليست اكتشافهم الذى يتباهون علينا به، ويعيروننا، و يدعونا إليه، و إلا كنا ظلاميين متخلفين رجعيين متأسلمين. ولكن لندع ذلك الآن ولننتقل إلى أصل المعرفة فى الحضارة الإسلامية..
حيث يمثل الوجود الموجود الأصل الثانى من أصول المعرفة، أما الأصل الأول فهو الوحى بشقيه: القرآن والسنة، حيث يشكل الإيمان بالغيب ثابتا رئيسيا من ثوابت المعرفة.
***
نحن – المسلمين – على يقين من أننا نفهم اليهودية والمسيحية خيرا مما يفهمها معتنقوها الآن.. ذلك أننا ننظر إليهما كجزء من منظومة شاملة مع الوعى بما حدث فى أصلهما من تحريف..
ونفس الشىء ينطبق على موقفنا من الوجود كأصل وحيد للمعرفة.. أو على ما اصطلحوا بتسميته : العقل.
نحن نفهم العقل كجزء من منظومة..
نضعه فى مكانه الحقيقى، لذلك فإن فهمنا له أكمل و أشمل..
***
سبحان الله..
قد نقبل تجاوزا وجدلا أن العقل يصلح لفهم الوجود الموجود كله ( وذلك غير صحيح)، فكيف نفهم ما قبل هذا الوجود وما بعده.
سبحان الله.. لو قلنا – جدلا – أن العقل يصلح لفهم و إدارة وتوجيه كل ما يتعلق بالجسد الإنسانى.. فماذا عن الروح؟!..
سبحان الله.. لو قلنا جدلا أن حياة الإنسان من بعيْد الميلاد حتى قبيْل الموت يمكن فهمها فى إطار العقل، فماذا عن الميلاد ذاته وماذا عن الموت نفسه؟!..
تبقى نقاط كثيرة منها على سبيل المثال فلسفة الجمال وفلسفة الأخلاق وكيف تمثل عقبات كئودا تقف الحضارة الغربية أمامها عاجزة.. لكن المجال – فى المقال - لا يتسع لذلك الآن..
***
فكر حضارتنا أرقى بما لا يقاس لكنهم خدعونا.. وانخدعنا ..
وفى سبيلهم لخداعنا سلكوا سبلا لم تخطر لنا على بال..
فى كتاب بالغ الأهمية والخطورة للدكتور محمد محمد حسين عنوانه" حصوننا مهددة من داخلها" يقول المؤلف:" أصبح كثير منهم فى مناصب تمكنهم من أن يدسوا برامجهم وخططهم على المسئولين من رؤسائهم وينفذوها فى صمت، ودون أن يثيروا ضجة تلفت إليهم المعارضين، ولهؤلاء المفسدين عصابة تشد أزرهم وتشيد بهم وتنوه بذكرهم وتحميهم من خصومهم، وتمنع كل ما ينبه الناس إلى شرهم من كل وسائل النشر، فلا يصل إلى آذان الناس وعيونهم شىء منه، و أنا حين أزعم أن هؤلاء الناس ينتمون إلى عصابة ذات خطر إنما أعنى بالعصابة كل مدلولها وكل حرف من حروفها وكل مفهوم من مفاهيمها."..
انتهى – مؤقتا- الاستشهاد بكتاب الدكتور محمد محمد حسين.. لكننى أنبه القارئ إلى وجه من أوجه إبداعات تلك العصابة، فالنسخة التى أنقل عنها من هذا الكتاب هى الطبعة الثانية عشرة، ولا طبعة واحدة منها طبعت فى مصر.. بلد الكاتب.. فانظروا كم بلغ إتقان العصابة لمهمتها!!
فلنتناول الآن وجها آخر من أوجه هيمنة تلك العصابة على حياتنا الثقافية الفاسدة، إذ لا يكاد يوجد مثقف فى العالم العربى بطوله وعرضه لم يسمع عن سلامة موسى وعلى عبد الرازق والإسلام و أصول الحكم، وفرج فودة ونصر حامد أبو زيد و.. و .. و .. وبلغ الإلحاح على ذكر هؤلاء أن استقر فى وعى الأمة الجمعى أن هؤلاء الكتاب وهذه الكتب هم رموز ثقافته، فأعيدت طباعتها مرات ومرات،ونوقشت فى عشرات المحافل ومئات الندوات ونشرت عنها مئات المقالات. لن نناقش هذه الكتب وهؤلاء الكتاب فى هذا المقال، سوف نناقشها فى مقالات أخرى، لكننا نثبت هنا أن هذه الكتب وهؤلاء الكتاب مثلت – ومثلوا – خروجا على ثوابت الأمة، فانظروا كيف وكم احتفلوا بها.
فلنقارن على الفور ذلك الاحتفال بالتعتيم الهائل الذى تعرض له كتاب من أهم الكتب التى صدرت فى القرن العشرين لكاتب هو واحد من أهم الكتاب وأساطين القانون فى القرن العشرين.. والكتاب هو كتاب (فقه الخلافة وتطورها) ، وهو بحث تقدم به الكاتب للحصول على درجة الدكتوراه الثانية من جامعة السوربون، والكاتب هو الدكتور المستشار عبد الرازق السنهورى
والدكتور السنهورى واحد من فطاحل القرن العشرين، شارك فى وضع الدستور المصرى، وأنشأ فى العراق كلية للحقوق، وتولى عمادتها فى مصر، ورأس وفد مصر في المؤتمر الدولي للقانون المقارن بلاهاي، و عضو بمجمع اللغة العربية في مصر، ورئيس مجلس الدولة ،كما كان هو الذى تولى صياغة مشروع القانون المدني الجديد لمصر، والعراق وسوريا و ليبيا ، كما تولى وزارة المعارف العمومية في أكثر من وزارة ، وأسس جامعتي فاروق (الإسكندرية الآن) وجامعة محمد علي. كما قام بوضع المقدمات الدستورية والقانونية لكل من مصر وليبيا والسودان والكويت والإمارات العربية المتحدة ، ووضع أيضا دستور دولة الكويت والسودان والإمارات العربية المتحدة.
والكتاب الذى نتحدث عنه هو واحد من أهم الكتب التى تناولت الخلافة فى الإسلام.. حيث انبرى الدكتور السنهوري للدفاع عن الخلافة وإثبات أهميتها في حفظ كيان الأمة الإسلامية ، والكتاب كتب في الأصل بالفرنسية ..
مثل هذا الكتاب.. لمثل هذا الكاتب.. لم تتصد لترجمته دولة..ولا وزارة ثقافة..ولا هيئة.. ولا مؤسسة.. ولا.. ولا.. ولا.. ولم يحتفل به ولم ينشر عنه إلا أقل القليل..
تم التعتيم عليه ..
و تأخرت ترجمة هذا الكتاب المهم أكثر من ستين عاماً إلى أن قيّض الله له ابنة المؤلف (د.نادية السنهوري) وزوجها (د.توفيق الشاوي) لترجمته وتقديمه إلى القارئ العربي .
فانظروا كيف تتقن العصابة عملها.. العصابة القادرة على تحويل السفهاء إلى نجوم .. وسربلة النجوم بالظلام..
***
خلافة فى المنفى "17"
كيف يمكن أن يرفضها مسلم؟!..
عندما يضيق حذاؤك عليك فإنك تخلعه..
كذلك تفعل فى الملابس فتتخلص منها إذا ضاقت أو بليت..
بل إنك تفعل نفس الشىء مع ضرسك إن حار فيه الطبيب.. فتخلعه إن غلبك وجعه..
لكن..
إذا أوجعتك عينك .. هل تخلعها؟!..
أم تحتفظ بها حتى ولو كلّ منها البصر.. حتى ولو كانت عينا ناقصة..
إذا مرض قلبك.. هل تذهب إلى الطبيب ليستأصله؟!..
أم أن هناك ما تستحيل الحياة أو تصور الحياة دونه، لذلك فإننا – مهما أصابه من مرض - لا نتخلى عنه أبدا بل نحاول قصارى جهدنا علاجه.. مدركين أن فشلنا فى العلاج لا يعنى سوى الموت..
***
نفس الأمر ينطبق على الخلافة..
إننى أدرك أن بعض القراء – أرجو أن يكونوا قلة - سيفتح شدقيه ليصب اللعنات على هذا الكاتب المتخلف الرجعى الذى يريد أن يعيده القهقرى إلى جبروت وظلمات حكم الخلافة..
توقف يا مسكين..
توقف..
فلقد سمموا عقلك وزيفوا وعيك وغسلوا مخك ووضعوا لك ذاكرة مزيفة مغشوشة..
توقف فإنك مسموم.. وأنت تخرف.. فإن لم تكن تخرف فإنك تجدف..
توقف يا مسكين.. فليس ما بك شحم بل ورم.. وليس ما تظنه حيوية الحركة حركات بل تشنجات.. فتوقف واقرأ..
***
فى مقالات سابقة قلنا أن أحد المحظورات فى الفكر الإسلامى أن نحكّم عقلنا فى شرع الله.. فكيف يحكم الناقص على كامل والجزئى على كلى؟!..
قلنا أيضا أن الشريعة ثابتة والفقه متغير..
والآن.. هل الخلافة – أو الإمامة فالكلمتان تستعملان بذات المعنى – فقه أم شرع؟؟..
لقد ذهب جمهور علماء الأمة الإسلامية إلى أن إقامة الإمامة أو الخلافة الشرعية فرض أساسي من فروض الدين ، بل هو (الفرض الأعظم) الذي يتوقف عليه تنفيذ سائر الفروض ؛ لأنه - كما يقول الجرجاني - : (من أتم مصالح المسلمين وأعظم مقاصد الدين) .
بل بلغ الأمر أن دراسة الخلافة تأتى فى أبواب العقيدة والتوحيد لا فى أبواب الفقه..
***
حتى الحرب العالمية الأولى لم يكن هناك بين المسلمين فى شتى أرجاء العالم مسلم يشك فى وضع الخلافة فى الإسلام كإمامة عظمى ( مقارنة بالإمامة الصغرى فى الصلاة)..
كانوا يدركون أن الأمور تختل، وأنها يجب أن تعود إلى النموذج المرسوم، وكانوا يعلمون أنها منذ قرون وهى خلافة ناقصة، وكان الأمل أن تعود وتكتمل.. لا أن تلغى وتهدم..
وكما يقول أنور الجندى فى كتابه أصالة الفكر الإسلامى فى مواجهة التغريب والعلمانية والتنوير الغربى- دار الفضيلة:
" كان إسقاط الخلافة الإسلامية من أكبر أهداف النفوذ الأجنبى الزاحف على العالم الإسلامى وكان المخطط يرمى إلى تفكيك وحدة المسلمين وتمزيق المجتمع الإسلامى إلى وحدات متفرقة وقد عملت بريطانيا التى كانت تقود الحرب ضد الإسلام والأمة الإسلامية على رسم خطوات هذه المؤامرة التى بدأت بعزل السلطان عبد الحميد وتولى الحكم فى الدولة العثمانية أعدى أعداء الإسلام : الاتحاديون الذين رسموا الخطة بقيادة مصطفى كمال أتاتورك الذى لم يكن فى أغلب كتابات المؤرخين المنصفين مسلما ، بل كان من الدونمة ، ووقفت بريطانيا وراء الخطة وعندما تحرك مسلمو الهند كلفت المستشرق " مرجليوث " كتابة دراسة يدعى فيها أن الخلافة ليست من الإسلام، ولما ذهب الشيخ على عبد الرازق ليدرس فى بريطانيا أهداه هذا الكتاب الذى أصدره باسمه تحت عنوان ( الإسلام وأصول الحكم ) . كان هدف الكتاب ضرب الإسلام فى عقيدة من أكبر عقائده وفريضة من أعظم فرائضه وهو أنه دين ودولة ونظام ومجتمع ومن ثم فقد عبر الكتاب عن وجهة نظر الاستشراق اليهودى التلمودى الهدام وقد واجه الكتاب ومؤلفه حربا شديدة وكشف عن الزيف الذى ذهب إليه على عبد الرازق ، حين ادعى أن الإسلام ليس دين شريعة ونظام مجتمع وحكم ولكنه منهج عبادى شأنه شأن المسيحية وغيرها ، ولقد كذب علماء الإسلام دعوى على عبد الرازق وتكشف من بعد أن هذا الكتاب لم يكن إلا ترجمة لكتاب مرجليوث ، ولقد واجهت حركة اليقظة الإسلامية كتاب على عبد الرازق المنحول وفندت فساد وجهته وأخطاءه ولكن قوى التغريب ما تزال تعيد نشره وطبعه مع مقدمات إضافية يكتبها مضللون شعوبيون يخدعون الناس بألقابهم وأسمائهم ".
وكان ممن انبروا للرد على كتاب مرجليوت المنسوب إلى على عبد الرازق الدكتور السنهورى الذى قدم فى رسالة للدكتوراه مشروعا يرمى إلى تطوير الخلافة كما عرضها الفقهاء. وكان من رأيه إزاء فداحة الانهيار أنه: إذا كان هناك استحالة في إقامة نظام خلافة راشدة أو كاملة فلا مناص من إقامة حكومة إسلامية غير كاملة على أساس حالة الضرورة للظروف التي يمر بها العالم الإسلامي حالياً "عام 1925م" . وأن هذا النظام الناقص يجب اعتباره نظاماً مؤقتاً لحين التمكن من إقامة النظام الراشد مع العلم بأن الشريعة لا تفرض شكلاً معيناً لنظام الحكم.
***
على أننى قبل أن أستطرد فإن علىّ أن أنوه بردود كثيرة جاءتنى بالبريد الإليكترونى، والحقيقة أننى دهشت لأن معظمها يعتب علىّ فى الاستشهاد والإشادة بالدكتور السنهورى، فهو من وجهة نظرهم الذى وضع الدساتير العلمانية على حساب الشرع..
ولست أحب لنفسى ولا لكم يا قراء أن نستهلك جهدنا فى جدل فرعى لن يسهم فى حال صحته بتقريبنا من الحقيقة أبدا، أما فى حال بطلانه فلن يسفر إلا عن صرفنا عن هذه الحقيقة.
وبرغم أننى أحترم الدكتور السنهورى إلا أننى أومن بأن الرجال يعرفون بالحق ولا يعرف الحق بالرجال، و أن كل الناس عدا سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يؤخذ منه ويرد عليه. ثم أننى أضيف أن ما آخذه من الدكتور السنهورى هو موقفه من الخلافة، وهو موقف صحيح. ولنا جميعا الحق فى أن نرده فيما نحسب أنه أخطأ فيه. لكننى إحقاقا للحق أضيف أن الرجل كان ذا باع طويل فى الدفاع عن الشريعة، وله مؤلفات عديدة فى ذلك يسدل الطواغيت ستائر التعتيم عليها، وربما كان عدم الاطلاع على هذه الأعمال سببا فى تشوه صورة بعض القراء عنه. كما أنه فيما وضع من دساتير حاول قدر ما استطاع أن يعيد الشريعة إلى تبوء عرشها القديم، لكنهم أخذوا منه ما يتفق مع أهوائهم وتركوا ما يتفق وشرع الله، وقرءوا ما كتب قراءة من يقرأ : " ويل للمصلين " ثم يصمت..!!..
***
منهج سيادة الشريعة كان منهجا أصليا فى فكر السنهورى، ولقد كان رد فعله سريعا وعمليا على سقوط الخلافة(1924) وعلى كتاب الإسلام وأصول الحكم، حيث كان فى فرنسا، وكان قد حصل بالفعل على شهادة الدكتوراه، لكنه تقدم برسالة أخرى إلى جامعة السربون عن ضرورة إعادة الخلافة.. وحصل عليها بالفعل عام 1926 ، ولقد كتب هذه الرسالة بوازع دينى رغم عدم تكليفه بها وتحذير أساتذته من صعوبتها والمناخ الأوروبي السياسي والفكري المعادي لفكرتها!.
وواصل جهوده وجهاده فتقدم برسالة إلى مؤتمر "لاهاي" للقانون الدولي سنة 1932م
أثبت بها لأساطين القانون أن الشريعة الإسلامية هي الأرقى -حتى بمقاييس العصر الحاضر-، وهي الأنفع والأوفى، إذا ما قورنت بالمنظومات القانونية الأخرى، وقد بلغ من تأثير هذه الرسالة على هذا المؤتمر الدولى أنها لفتت أنظار فقهاء القانون الغربي، إلى تميز-بل وامتياز- الشريعة الإسلامية، الأمر الذي انعكس في اعتمادهم الشريعة الإسلامية منظومة قانونية عالمية متميزة.
أحب أن أنبه القراء أيضا أن السنهورى قد اتخذ ذلك الموقف والعالم الإسلامى كله فى قمة الانهيار أمام الغرب والانكسار أمام جيوشه والانبهار بحضارته.. لم تكن الصحوة الإسلامية قد أدت بنا إلى ما وصلنا إليه الآن من إدارك للزيف والعفن فى تلك الحضارة..
***
فى دراسة للدكتور محمد عمارة يوجز الأمر بقوله : "أراد السنهوري وكتب وعمل للنهضة العامة للشرق الإسلامي، ولقد قاده القانون إلى ضرورة تأسيس هذه النهضة الشرقية العامة على الشريعة الإسلامية، فكانت مخططاته ودراساته وآراؤه حول ضرورة بعث الشريعة الإسلامية بالاجتهاد الجديد والدراسات المقارنة والحديثة، لتتخطى هذه الشريعة الغراء أعناق القرون، فتعود -ثانية- المرجعية الحاكمة، لا في القضاء والقانون والتشريع وإنما المرجعية الحاكمة في كل ميادين الثقافة والفكر والعلم والقيم والحياة.
"فالرابطة الإسلامية-كما يقول السنهوري- يجب أن تفهم بمعنى المدنية الإسلامية، وأساس هذه المدنية الشريعة الإسلامية …". فالشريعة الإسلامية هي أساس المدنية الإسلامية، التي هي الصيغة الحضارية للنهضة الشرقية.
ولذلك جعل السنهوري من بعث الشريعة الإسلامية بفتح باب الاجتهاد الجديد فيها مشروع حياته، بل وحلمه في هذه الحياة.
وكتاب الدكتور السنهوري (فقه الخلافة وتطورها) كتبه منذ عام 1926، ولم يتصد لترجمته لنشره على قراء العربية سوى ابنته ( وزارات ثقافاتنا وأجهزتنا الإعلامية وصحفنا الكبرى مشغولة بقضايا أهم من الخلافة.. كقصص الجنس ومسارح العرى وروايات الكفر و..و..و.. ألا شاهت الوجوه)..
يقع الكتاب فيما يقارب الأربعمائة صفحة ، وفى دراسة لمحمد سيد بركة يوجز فيها اتجاه الكتاب حيث يرى الدكتور السنهورى أن الخلافة هي الحكومة الإسلامية الكاملة وأن خصائص الخلافة تتميز عن الحكومات الأخرى بالخصائص الثلاث الآتية:
1- أن اختصاصات الحكومة "الخلافة" عامة ، أي تقوم على التكامل بين الشؤون الدنيوية والدينية .
2- أن حكومة الخلافة ملزمة بتنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية .
3- أن الخلافة تقوم على وَحدة العالم الإسلامي .
ومتى اجتمعت هذه الخصائص في الحكومة الإسلامية أصبحت حكومة شرعية مهما يكن شكلها واستحقت أن توصف بأنها حكومة الخلافة .
***
والآن.. فلنقف وقفة قصيرة لنواجه صنفين من الناس يرفضون الخلافة ممن يحملون أسماء كأسمائنا وألسنة تنطق كألسنتنا ويدعون دينا هو ديننا.. الصنف الأول هو الغالب، وهو يتشكل من جمّ غفير وجمع كبير من ضحايا وسائل إعلام يتنافس فيها إعلام الحكام مع وسوسة الشيطان، هم الذين زيفوا وعيهم وغسلوا مخهم، فأصبح مفهوم الخلافة عندهم يعنى الظلم والظلمات، وهذا صنف ما أن يعرف الحقيقة حتى يتبعها (وهذا ما يخيف الغرب ووكلائه وعملائه أشد الخوف). أما الصنف الثانى فهم الأقلون الأخسرون لكنهم الأشد خطورة.. إنهم على وعى كامل بالحقيقة، لكنهم يبدلونها تبديلا فى سبيل هدم الإسلام كله، ومن هؤلاء من يساهم فى تشويه تاريخنا كله بالكذب البواح كى يصل إلى مبتغاه.
لنواجه هؤلاء وأولئك بمفهوم لخلافة.. والذى ينحصر فى أمرين جوهريين تندرج تحتهما التفاصيل الأخرى.. :
- تطبيق الشريعة الإسلامية..
- - ووحدة العالم الإسلامى..
***
ذلك هو مفهوم الخلافة.. فإن جاز أن يرفضه الشيطان و أعوانه والغرب وعملاؤه .. فكيف يمكن أن يرفضه مسلم..؟!..
خلافة فى المنفى "18"
هل لكم الخيرة من أمركم؟!..
سامحنى يا مولاى.. يا سيدى .. يا من لا مهرب منك إلا إليك ..
سامحنى..
فما أشد خجلى منك.. وما أفدح ذنبى وما أعظم إثمى..
لكننى وحق جلالك خجل منك.. خجل .. خجل .. خجل.. خجل من نفسى ومن موقفى أمامك..
ومرعوب مرعوب مرعوب من يوم آت لا ريب فيه تسألنى فلا تغادر كبيرة ولا صغيرة..
أنوء بخطيئتى .. و أبوء بذنبى .. فلا تنسنى ولا تحشرنى يوم القيامة أعمى ..
كيف أدافع عن نفسى فى ذلك الموقف الذى حدث منذ خمسة وثلاثين عاما.. وكنت مذبوحا يا رب بهزيمتنا نحن عبادك الخطائين فى كارثة 67، وقال لى صاحبى وهو يحاورنى أنه لا أمل لنا فى الانتصار إلا تحت راية خلافة لابد أن تعود.. فإنهم يقاتلوننا كافة ولن ننتصر عليهم إلا إذا قاتلناهم كافة..
نظرت إليه مشدوها يا رب.. نظرة بصير يحشر يوم القيامة أعمى..
نعم.. أعترف. . نظرت إليه مستغربا ما يقول وكأنما يداوينى بالتى كانت هى الداء ، وكأنما كان يجيرنى من الرمضاء بنار..
كانوا قد غسلوا مخى يا رب، وزيفوا وعيى، وخدعونى فانخدعت..
كنت مسلما ولم يدخل الإيمان بعد قلبى..
لم أكن وحدى.. كنا أمة.. بل كنا الأمة..
وكانوا قد صوروا لى ولنا، أن الخلافة كانت داءنا وهلاكا وتخلفنا.. ولم يكن مسموحا لصوت آخر أن يقول لنا الحقيقة..
وصدقناهم يا رب..
لم أكن أتصور أنهم يمكن أن يشاركوا عدونا فى الكذب علينا..
ولم أكن قد أدركت بعد أن العلمانية كالاشتراكية كالرأسمالية كالصهيونية كالعولمة كالنظام العالمى الجديد كلها أوجه متعددة لعملة واحدة.. عملة الشيطان..
ولا كنت قد أدركت أن ولاة أمورنا وجهابذة مفكرينا لا يرفضون الخلافة كمبدأ، بل إنهم يمارسونها فعلا ، بشرط أن يكون الخليفة فى موسكو أو واشنطن.. و أن ما يرفضونه فقط.. هو أن تكون الخلافة إسلامية..
لم أكن بعد قد أدركت ذلك..
أعلم يا ربى أن هذه الحجة ليست بمنقذتى.. فقد فتحت أذنىّ و أغلقت عينىّ ولم أرَ حينها آياتك فى الآفاق..
خدعونى فانخدعت.. كما انخدع كثير من القراء الذين يقرءون الآن ما أكتب فيدهشون ويذهلون من دعوتى لعودة الخلافة.. ويعترضون كما اعترضت ذات يوم.. وربما أيضا يسخرون..
لم أسأل نفسى يومها، ولا يسألون هم أنفسهم اليوم : ماذا تعنى الخلافة؟!..
لم أفطن إلى أنها لا تعنى سوى أمرين: أولهما :وحدة الأمة الإسلامية كلها فى دولة واحدة.. وثانيهما تطبيق الشريعة على هذه الأمة..
فكيف عنّ لى - أنا الهالك إن لم تدركنى رحمتك – ذات يوم أن أرفض ذلك.. وكيف يعنّ لبعضكم يا قراء أن يقعوا فى مثل خطئى القديم؟..
كيف انخدعنا؟؟.. وكيف تنخدعون الآن..
كيف كنا نفكر..؟؟.. وكيف تفكرون الآن..
كنا نتحرق شوقا إلى نصر على أعداء الله.. فكيف كنا نتصور أن يفعل الشهيد فى معاركنا فى لحيظاته الأخيرة فى هذه الدنيا؟ .. ماذا كنا نتخيل أن يتلو؟ فقرات من الميثاق أو الكتاب الأخضر أو مواثيق الأمم المتحدة؟؟!!..
لا والله يا رب.. لا أقولها لكى أبرر جرمى.. ولا لأخفف إثمى و لا لأهرب من جريرة ما وقعت فيه.. لكننى أقولها كى ألزم القراء -عبادك يا رب –الحجة.. إذ أننا فى جيلنا لم نجد من يكشف الحقيقة لنا و أقعدنا الوهن فلم نسع إليها سعيها.. الآن يختلف الأمر .. ففى ظل صحوة إسلامية تتعاظم تحت شلالات الدم ووهج النار وأكداس الغبار وقصف الأكاذيب تجد الأجيال المعاصرة من يكشف خبيئة الأمر لهم..
نعم ..
فى جيلنا حيل بيننا وبين الشهيد عبد القادر عودة ومن سار على دربه..
قال الحقيقة فقتلوه.. وفرضوا ستارا من النسيان على ذكراه وعلى كتبه..
قتلوه..
كفى بثورة 23 يوليو عارا أن قتلت مثل هذا الرجل.. قتلته قتل المنهج وليس مجرد قتل فرد.. ولقد استجاب الله دعوته فجعل وزر دمه فى أعناقهم.. وجعل الآخر فيهم ينقض ما غزله الأول.. ولننتهى الآن وقد أنجزت الثورة عكس مبادئها الستة الضبط.. ويكفى أن أولهم قتل عبد القادر عودة.. لأنه كان رجعيا يعوق مسيرتهم الكبرى للنضال الثورى والانتصار على العدو الصهيونى فى حربنا المقدسة.. بينما آخرهم يقتل أبناء عبد القادر عوده.. لأنهم إرهابيون يعوقون مسيرتهم الكبرى للسلام المقدس ( بل المدنس ) ويسيئون إلى العلاقات مع دولة صديقة .. هى إسرائيل..!! ..
فى الأعمال الكاملة للشهيد عبد القادر عودة والتى نشرتها دار الاعتصام يتحدث الشهيد عن الخلافة فيقول:
إقامة الخلافة فريضة من فروض الكفايات ، كالجهاد والقضاء، فإذا قام بها من هو أهل لها سقطت الفريضة عن الكافة، و إذا لم يقم بها أحد أثم كافة المسلمين حتى يقوم بأمر الخلافة من هو أهل لها..
هل قرت ذلك أيها القارئ وهل وعيته، وهل أدركت أنك مشارك فى الإثم؟!.. وسوف تُسأل.. فبم تجيب..؟!..
يؤكد الشهيد ضلوع الأمة فى هذا الإثم قائلا: والحق أن الإثم يلحق الكافة لأن المسلمين جميعا مخاطبون بالشرع وعليهم إقامته ، ومن أول واجباتهم أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر وليس أحدهم مأمورا بأن ينظر فقط إلى نفسه وما فى يده من الأمر ، وإنما عليه أن يعمل على إقامة الدين على نفسه وعلى غيره ، وعلى ما فى يده وعلى ما فى يد غيره ، وإذا كان الاختيار متروكا لفئة من الناس ، فان من واجب الأمة كلها أن تحمل هذه الفئة على أداء واجبها، و إلا شاركتها الإثم، بل من واجب الأمة أن تنحى هذه الفئة إذا لم تقم بواجبها، وأن تقدم غيرها، لأن الأمة اختارتها و ألقت إليها بأمرها لتمثل الجماعة الإسلامية فان لم تؤد واجبها سقطت عنها صفتها بما ارتكبت من إثم وزالت عنها صفة النيابة عن الأمة وكان على الأمة أن تختار فئة أخرى تنوب عنها وتمثلها فى اختيار الخليفة .
يؤكد الشهيد أيضا أن هناك إجماع من لأمة على وجوب الخلافة كفرض، ولقد أجمع على ذلك جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج ، و اتفقوا أيضا على أن إقامة إمام عادل فى الأمة يقيم فيها أمر الله ويسوسها لأحكام الشريعة إنما هو من أوجب الواجبات على الأمة، ولم يشذ عن هذا الرأى من الأمة الإسلامية كلها إلا الأصم من المعتزلة وفريق النجدات من الخوارج وهى فرق بادت ولم يبق منها أحد .
سبحانك يا رب..
بعض الخوارج هم الذين ناوءوا فكرة الخلافة فى الأمس البعيد..
ويأتى جاهليو اليوم، عبدة النظام العامى الجديد، ليتهمون من ينادى بوحدة الأمة وسيادة الشريعة- أى بالخلافة – بأنهم خوارج..
ألا إنهم هم الخوارج.. أولئك بعض قومنا وجل ولاة أمورنا.. بل إن الخوارج كانوا أقواما طلبوا الحق فأخطئوه. بينما أولئك قوام طلبوا لباطل فأصابوه..
يرى الشهيد عبد القادر عودة بعين الشريعة لا بعينه، وبرؤية العقل والنقل جميعا أن المصدر الأول لفريضة الخلافة هو المشرع ، فالخلافة أو الإمامة ( يستعملان بنفس المعنى) فريضة شرعية يوجبها الشرع على كل مسلم ومسلمة ويخاطب الجميع بها وعليهم أن يعملوا حتى تؤدى هذه الفريضة فإذا أديت سقطت عنهم حتى تتجدد بعزل الخليفة أو موته..
ويورد الشهيد عشرات النصوص على وجوب الخلافة كفريضة:
"وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله " (النساء:64).. وقوله "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" (الحشر: 7) .. "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم " .. والمقصود بأولى الأمر أئمة الدولة الذين يتولون الأمر فيها واحدا بعد الآخر والذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم : " من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية" وقال "من خلع يدا من طاعة لقى الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس فى عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" وقال "إن من طاعة الله أن تطيعونى وان من طاعتى أن تطيعوا أئمتكم"..
ويؤخذ من هذه النصوص مجتمعة أن على المسلمين أن يختاروا إماما لهم أو خليفة عليهم فإن المسلم الذى يموت وليس له إمام يموت ميتة جاهلية ..
نعم.. ذلك أن الله جل شأنه جعل المسلمين أمة واحدة على اختلاف لغاتهم وأجناسهم وشعوبهم "إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون " (المؤمنون : 52)، "إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون " (الأنبياء: 92) ، وواجب على المسلمين أن يتحدوا ويلتفوا حول راية القرآن: "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " آل عمران : 103، وحرم عليهم التفرق والاختلاف والتنازع : "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا " (آل عمران :105)، .. "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم " (الأنفال : 6)..
هل تدركون الآن يا قراء لماذا فشلنا؟!..
وهل تفهمين ليوم يا أمة لم ذهبت ريحك ؟!..
فمقتضى هذه النصوص التى نعرض عنها يا أمة لا إله لا اله محمد رسول لله أن تكونى أمة واحدة ووحدة سياسية واحدة، وأن يكون لك دولة واحدة .
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنه: "لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمّروا عليهم أحدهم " ويقول: " إذا خرج ثلاثة فى سفر فليؤمروا عليهم أحدهم" ..
ما أرأفك بنا يا حبيبنا.. يا من بلغت الرسالة وأديت الأمانة.
كنت تدرك –يا حبيبى – أن هذه الإمارة ( الخلافة- الإمامة ) هى التى ستمنع الفرقة والاختلاف بين أجزاء الأمة.
جاهليو اليوم ينافقون فيدعون - حينما نحاصرهم – أنه لا مانع لديهم من الوحدة لكن عندما يقضون على الخلافات والتباينات بين الشعوب. .. لكننا نقول لهم أنه لن يقضى على تلك الاختلافات سوى الوحدة.. وتطبيق الشريعة..أى الخلافة.
يعكسون المسار كى لا تتحرك العربة أبدا ولكى ينفذوا مخطط الشيطان لا أوامر الرحمن..
فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد شرع هذا لثلاثة فى فلاة من الأرض أو مسافرين أفلا تكون شرعيته أولى لمليار وربع المليار؟!..
أنى تؤفكون..!!..
شرع الله لنا القوة فاخترنا الضعف..
وشرع الوحدة فاخترنا الفرقة..
ذلك أن الله وقد جعل المسلمين أمة واحدة وألزمهم أن يكونوا من أنفسهم دولة واحدة قد جعل أمر الحكم شورى بينهم، وإذا كان المسلمون مقيدين بأن يكونوا أمة واحدة وان تكون لهم دولة واحدة وان يختار الناس من يلى الحكم منهم ، فانه يتعين عليهم ألا يختاروا لرئاسة الدولة إلا إماما كلما خلا هذا المنصب ، وليس لهم باعتبارهم : أمة واحدة و: دولة واحدة أن يختاروا إلا إماما واحدا .
بالعقل والمصلحة لم يكن لنا سوى هذا الاختيار..
وحتى لو غابت المصلحة عن أعيننا فقد كان قمينا بقلوبنا أن ترى ما لا تراه الأعين.. لولا أننا جلنا أسلمنا ولما يدخل الإيمان قلوبنا..
هل ثمة اختيار غير هذا لك يا أمة..
ولكم يا قراء..
انطقوا.. أجيبوا .. ردوا..
أى طريق علينا أن نسلك..
طريق الله..؟!!..
أم طريق ا لجاهلية الأولى ، حيث يعود أبو جهل يقودنا فيها متخفيا فى ثياب عصرية، ويرطن بالإنجليزية أو الفرنسية ويخطب على منبر الأمم المتحدة ويُستقبل فى البيت الأبيض استقبال العمال على الأمصار بل الخدم، بعد أن جعل من سيد ذلك البيت الأبيض فى الدنيا والأسود فى الآخرة خليفته، وبعد أن استأمر علينا صنيعته "أبا لهب"، الذى تنكر هو الآخر فى ثياب آمر للشرطة وراح يسومنا سوء العذاب لأننا نقول:
" وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم " (الأحزاب : 36) .
خلافة فى المنفى "19"
كلُّ شىء مباح.. إلا الإسلام..!!
يصيبنى الذهول يا قراء عندما أستعرض موقف أولئك الأشرار الرافضين للخلافة الإسلامية برغم علمهم أن هناك إجماع بين فقهاء الإسلام على إن أهم أساس من أسس الإسلام بعد العقيدة هو الخلافة الإسلامية.
يصيبنى الذهول..
ليس لديهم بديل غيرها يطرحونه، ولا نظام آخر اتفقوا عليه.. وهم.. من شيوعيين إلى قوميين إلى علمانيين إلى مستغربين إلى حداثيين إلى العرب الصهاينة إلى العرب الأمريكان إلى بقايا العرب الروس إلى عبدة الشيطان لا يكاد يجمعهم شىء سوى رفض الخلافة كمظهر من أقوى و أهم مظاهر الإسلام، ليس ولاء لشىء غير الإسلام فلا ولاء لهم.. وقد تنقلوا بين الشرق والغرب والشمال تنقل جوارٍ بين أسياد.. فكلما ملكهن سيد جديد منحنه كل ولائهن.. فالولاء لمن دفع الثمن..
نعم.. لا يتخذون هذا الموقف لأن لديهم ما يقدمونه بل عداء للإسلام والمسلمين..
وهم على شذوذهم، على مستوى الواقع كما فى عبدة الشيطان، وعلى مستوى لا يقل بشاعة عن الواقع فى الفئات الأخرى، يحملون قدرا مذهلا من الكراهية لكل ما هو إسلامى، كراهية وثنية أو صليبية أو يهودية ، ككراهية الشيطان للمؤمنين. كراهية تجعل هدفهم النهائى استئصال شأفة كل ما هو إسلامى كما استأصل الغزاة البيض شأفة الهنود الحمر. كراهية تنفجر من أفواههم وأقلامهم ضد كل مسلم و ظاهرة إسلامية، إذا كانت هذه الظاهرة مبحث الخلافة استحالت هذه الكراهية إلى جنون غاضب وغضب مجنون.
الغريب أنهم يتفاخرون ويتطاولون عندما يحكمون علينا بفسادهم وبشذوذهم، أما نحن فلست أدرى ما يمنعنا من الحكم عليهم بديننا، حتى ليصدق فينا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح عن حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قبض الأمانة : " حتى يُقال للرجل : ما أجلدَه ! ما أظرفَه ! ما أعقلَه! وما في قلبه مثقال حبةٍ من خردل من إيمان " (البخاري.)
الدكتور فؤاد زكريا ، واحد من غلاة العلمانيين الذين يرفضون ويسخرون من فكرة الخلافة، ( ما أجلده ما أعقله !!)..وكان قد أصيب بضربة قاصمة زلزلت قيادته الفكرية للعلمانيين بعد هزيمته هزيمة ساحقة فى مناظرة مع سلطان العلماء لا عالم السلاطين فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوى الذى أورد تفاصيلها فى كتاب من أخطر و أهم كتبه هو كتاب " العلمانية"، وسوف نعود إلى هذا الكتاب إن شاء الله فى مقال آخر.
الدكتور فؤاد زكريا هذا يعترف ويقول:
( أنها- يعني الأحزاب العلمانية في الوطن العربي - لا تكون مشروعا للنهضة وإنما تشترك في رفض المشروع الذي تقدمه الحركة الإسلامية المعاصرة ، والفرق بين التيار الإسلامي المعاصر والاتجاه العلماني الذي يتصدى له ليس تضادا بين مشروعين وإنما هناك مشروع إسلامي من ناحية ومحاولات دفاعية لنقد هذا المشروع وبيان نقاط الضعف فيه من ناحية أخرى ، وهو ليس تضادا بين أيديولوجيتين ، لأن هناك من جهة أيديولوجية إسلامية وتختلف تياراتها في بعض التفاصيل ولكن الاتجاه العام والاستراتيجية البعيدة متقاربة ، وهناك من جهة أخرى مجموعة من الأيديولوجيات الشديدة التباين التي لا يجمع بينها سوى رفض الحل السياسي الذي يقترحه التيار الإسلامي ) .
هؤلاء العلمانيون الرافضون لحكم الإسلام لا يملكون إذن وجهة نظر مغايرة.. ولم يجتمعوا إلا على رفض منهج الحكم الإسلامى.. وفى سبيلهم لذلك تورطوا فى تأييد أشد أنظمة الحكم سوءا وبطشا وفسادا.. بل وانقلبوا حتى على ما ينادى معظمهم به من الأخذ بديموقراطية الغرب كمنهج، عندما أسفرت الانتخابات عن فوز المسلمين بالأغلبية الساحقة كما حدث فى الجزائر، وسقط مئات الآلاف من الضحايا دون أن يحرك ذلك فيهم شعرة أو ينتفض فيهم ضمير كذلك الذى انتفض زورا وغشا وخداعا أمام صورة مزورة لطائر بحرى جلبوه من مياه بحر الشمال وألقوه فى الخليج كى يتهموا العراق بقتله..!!..
انتفضوا لواقعة الطير المزورة ولم ينتفضوا لمصرع مئات لآلاف..
ولم يرتفع من أصواتهم الجهورية صوت يندد بتزوير الانتخابات ضد المسلمين فى بلاد أخرى.. ولا بإهدار حقوقهم .. واعتقالهم وتعذيبهم .. وقارنوا يا قراء بين موقفهم من عبدة الشيطان ( حيث كل الرحمة والحفاظ على حقوق الإنسان والتماس المعاذير وعدم نشر الأسماء تجنبا للفضيحة ) وبين موقفهم من ضحايا المسلمين.. الذين يعبدون الله لا يشركون به شيئا.. قارنوا بين موقفهم من نصر حامد أبو زيد (ثلاثة تقارير من الأزهر و أحكام نهائية متعددة توجها حكم محكمة النقض تقضى جميعها بإنكاره ما هو معلوم من الدين بالضرورة) .. وموقفهم من الشهيد سيد قطب أو من الأسير عمر عبد الرحمن..
هؤلاء العلمانيون يزايدون حتى على أسيادهم فى الغرب فى كراهية الإسلام وحكمه، حتى أن علمانية الغرب تسمح للمسلمين فيه بحقوق تتجاوز بكثير تلك المسموح بها فى بلاد المسلمين!!.
فى مثل هؤلاء العلمانيين الأشرار يقول فضيلة الشيخ محمد الغزالى رضى الله عنه فى كتابه " ظلام من الغرب":
" هناك مستشرقون مصريون ولدوا فى بلادنا هذه ، ولكن عقولهم وقلوبهم تربت فى الغرب ونمت أعوادهم مائلة إليه ، فهم أبدا تبع لما جاء به..!
إنهم من جلدتنا ، ويتكلمون بألسنتنا بيد أنهم خطر على كياننا.. لأنهم كفار بالعروبة والإسلام ، أعوان - عن اقتناع أو مصلحة - للحرب الباردة التى يشنها الاستعمار علينا ، بعد الحرب التى مزق بها أمتنا الكبيرة خلال قرن مضى . . .
وهم سفراء فوق العادة لإنجلترا ، وفرنسا ، وأمريكا أو دول التصريح الثلاثى الذى خلق إسرائيل وحماها .والفرق بينهم وبين السفراء الرسميين أن هؤلاء لهم تقاليد تفرض عليهم الصمت ، وتصبغ حركاتهم بالأدب .أما أولئك المستشرقون السفراء فوظيفتهم الأولى أن يثرثروا فى الصحف وفى المجالس ، وأن يختلقوا كل يوم مشكلة موهومة ليسقطوا من بناء الإسلام لبنة، وليذهبوا بجزء من مهابته فى النفوس . . .وبذلك يحققون الغاية الكبرى من الزحف المشترك الذى تكاتفت فيه : الشيوعية و الصهيونية و الصليبية فى العصر الحديث..!
التحرير الكامل أن نجلى هذا الصنف من المستشرقين عن الحياة العامة كما أجلينا عن ضفاف القناة جيوش إنجلترا ، وكما سنجلى عصابات اليهود عن أرض فلسطين - بعون الحق - جل شانه ...! "إن هذا النفر من حملة الأقلام الملوثة أخطر على مستقبلنا من الأعداء السافرين ، فإن النفاق الذى برعوا فيه يخدع الأغرار بالأخذ عنهم . .وقد يقولون كلمات من الحق تمهيدا لألف كلمة من الباطل تجىء عقيبها . فلنحذر هذا العدو المقنع ولنؤمن طريق نهضتنا بتجلية هذا الظلام الوافد من الغرب "
***
ولو أن الأمر قد اقتصر على هؤلاء لهان.. لكن الكارثة التى تدفع بنا للهاوية هو ذلك الحلف غير المقدس بين السلطة الباطشة وهذا النوع من أعداء الله، خاصة وأن الأمة قد مكثت فترة طويلة جدا قبل أن يكتشف بعضها طبيعة هذا التحالف الذى لم يجعهم فيه إلا كراهية الإسلام وأهله. . تحالف خفىّ كتحالف العملاء والجواسيس مع عدو.. إن السياسة بأدواتها الغليظة المباشرة سرعان ما تكشف نفسها.. ولقد قام هؤلاء حتى وهم يمثلون زورا وخداعا أدوار المعارضة بدور أساسى فى التعمية على الأمة..
إن الصحوة الإسلامية التى يحاول الغرب إجهاضها بكل قوة لإدراكه خطورتها عليه، هى فى الواقع أشد خطرا على هؤلاء و أولئك من خطورتها على الغرب.
يقول الشهيد عبد القادر عودة فى حديثه عن الخلافة:
" وهكذا تضافر الحكام المسلمون وبعض الفقهاء المسلمين - وكلا الفريقين أمين على مصالح الأمة - تضافروا جميعا على خيانة الأمة الإسلامية ، وسلبها حقوقها التى فرضها الإسلام ، فالإسلام يعطى للامة حق اختيار حكامها وعزلهم ، وجعلهم بمثابة النواب عنها ، ولكن الحكام وبعض الفقهاء تآمروا على الأمة الإسلامية فسلبوها كل حقوقها ، وجعلوا من أفرادها عبيدا ومن الحكام سادة يأمرون فلا يرد لهم أمر ويتصرفون فى حقوق الأمة ومستقبلها وأرواح أبنائها دون حسيب ولا رقيب . وقد شارك فى هذه الخيانة جماهير المسلمين بسكوتهم على الباطل ، ولرضاء بعضهم به ، وبعدم ثورتهم عليه ، فتمت بذلك المؤامرة الكبرى التى أوشكت أن تقضى على الإسلام ، والتى عطلت سيره وأوقفت اندفاعه من مئات السنين ، وخان المسلمون جميعهم - عن جهل أو عمد- الأمانة التى عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وتعرض لحملها الإنسان على ما فيه من جهل وظلم (..) خان المسلمون أمانة خلافة الله فى الأرض وكفروا بأنعمه عليهم فلم يقيموا أمر الله فيما بينهم ولم يهتدوا بهديه ولم ينتهوا عن نهيه (..) وخانوا أمانة الاستخلاف فى الحكم بعد أن مكن الله لهم ، فلم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة ولم يأمروا بمعروف ولم ينهوا عن منكر(..) وارتكب المسلمون حكاما ومحكومين هذه الخيانات وقد نهاهم الله عن خيانة الأمانات وحذرهم منها(..).. فجزاهم الله المهانة فى الأرض ، وسلط عليهم أعداءهم يملكون بلادهم ، ويتقاسمون أوطانهم ، ويحولون بينهم وبين نعيم الحياة ونعمة الكرامة والحرية . ولقد انتهى هذا كله إلى أسوأ النهايات ، فقد فسدت أداة الحكم فى الدولة الإسلامية وتحولت عن غايتها التى رسمها الإسلام ، وأصبحت مهمة الحكام أن يحكموا فى حدود الهوى والمنفعة ، وابتغاء الاستعلاء والسيطرة أو ابتغاء رضا المستعمرين ، بعد أن كان واجبهم الأول أن يحكموا فى حدود الإسلام ابتغاء مصلحة الجماعة وابتغاء وجه الله . وحينما انفلت الحكام من حدود الدين انقلبت الموازين فى أيديهم واختلطت الأوضاع عليهم ، فهم لا يميزون الطيب من الخبيث ولا يعرفون الحق من الباطل ولا يفرقون بين الضار والنافع ، لأنهم يتبعون أهواءهم ، ويتخذون منها آلهة (..) وترتب على فساد الحكم وخروج الحكام على حدود الدين أن ابتعد الناس عن الدين ، وفسدت الأخلاق ، وشاعت الفاحشة ، وضعف المسلمون ، وتصدعت وحدتهم ، وتعددت أحزابهم واتجاهاتهم ، بما اتبعوا من أهوائهم ، حتى أصبحت الفوضى شعارهم ، والتفرق الذي نهوا عنه يميزهم عن غيرهم ، وحتى انتهوا إلى ما هم فيه من الاستعباد والذلة ، يستعبدهم المستذلون ويغلبهم على أمرهم المشردون المغلولون . "
***
خان المثقفون وفقهاء السلطان دورهم..
وأصبحت المشكلة أصعب..
فبدلا من أن ترسم الثقافة للسياسة المعايير والقيم والمثل الأعلى، راحت السياسة، ويا ليتها سياسة سوية، ترسم للثقافة معاييرها ومثلها وقيمها الدنيا .
ولعل دستويفسكى كان يصف أمثالهم حين قال "إذا لم يكن الله موجودا . . . فكل شىء مباح"..
نعم.. هؤلاء الذين كفروا بالله كفر ربوبية أو كفر ألوهية أو كفر أسماء وصفات.. كل شىء عندهم مباح .. إلا الإسلام..!!
خلافة فى المنفى "الحلقة الأخيرة"
يا دكتور يوسف القرضاوى:
أمدد يدك نبايعك.. أو بايع.. نبايع خلفك..
أدلف إلى الموضوع مباشرة..
أعلن عودة الخلافة يا دكتور يوسف القرضاوى..
أعلنها تبرئ ذمتك وذمتنا أمام الله فهى كما اتفق الفقهاء فرض كفاية إن لم يقم به أحد أثم المسلمون جميعا..
أعلنها.. عسانا أن نكون قوما يحبهم الله ويحبونه فننال شرف البداية..
أنت تعلم أنها آتية لا ريب فيها.. فالحديث النبوى الشريف يقول:
تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبريا، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت،( رواه أحمد) وصدق رسول الله وكذب العلمانيون والمستغربون بمراكزهم الاستراتيجية..
أعلنها يا سيدى..
فبدونها تبقى البلاد الإسلامية ممزقة، وتبقى الشعوب مفرقة، ويظل كل مجهود نبذله هباء تذروه الرياح أو كمن يحرث فى البحر..
و بدونها تبقى دول الطواغيت تتحكم في رقابنا، وتنهب خيراتنا، وتوقع بيننا الشقاق، وتنصب علينا وكلاءها حكاما علينا..
وبدونها ستبقى الشعوب الإسلامية فى كل أرجاء الأرض تقتل وتشرد وتهدم معابدها وتدنس أعراضها، وليس من منقذ، فللمسيحية دولها المحورية التى تقلب الدنيا من أجل مسيحى، ولليهود دولتهم المحورية التى غزت لبنان من أجل جرح يهودى، حتى البوذيين لهم دولتهم المحورية.. إلا الإسلام..
وبدون الخلافة ينحرف التاريخ عندما نتوقف عن الكينونة أمة وسطا شهداء على الناس..
وبدونها يبقى المسلمون غير العاملين بجد لإقامتها في الإثم وفي غضب الله، وإن صاموا وصلّوْا وحجّوا وزكّوْا.
فالعمل لإقامة الخلافة هو الآن فرض عين، في أقصى طاقة وأقصى سرعة.
فرض عين يا سيدى.. فإن لم تتصد له أنت فمن سواك..
أقسمت عليك بالذى تحبه ونحبه.. لا تتركنا نموت ميتة جاهلية وليست فى أعناقنا بيعة..
إننى أخشى يا سيدى أن يقبضك الله قبل أن تسدى إلى أمتك الإسلامية هذا المعروف.. لأننا فى الزمان الذى بقبض الله فيه العلم من الأرض بقبض العلماء..
إننى أعلم أنك لا تحبذ فكرة المؤامرة .. وتلك نقطة أرجو أن تسمح لى بالاختلاف معك فيها.. لكنه خلاف نظرى لا يغير الآن من الواقع شيئا.. فما نعيشه الآن أسوأ من المؤامرة و أخطر.. لأن المؤامرة مهما بلغ استخفاؤها وخطرها يمكن أن تكتشف ذات يوم.. و أن تقاوَم.. لكن الأخطر من حالة المؤامرة هى حالة فقدان الرغبة - ولا أقول القدرة - على مقاومة المؤامرة.. والأخطر من هذا وذاك هو حالة التدهور العام فى كل شئوننا.. تدهور قد تكون فكرة المؤامرة قد لعبت دورا فيه.. لكن الأخطر أنه اكتسب قوة الدفع الذاتية التى تمكنه من تدمير الأمة والوطن والدولة والشعب والحكومة والمعارضة بقواه الكامنة دون أى حاجة لمؤامرات جديدة..
إطار مخيف..
إطار فقدان العلاقة بين القول والفعل..
إطار استحلال الحرام وتحريم الحلال..
إطار الخجل مما ينبغى علينا أن نفخر به والفخر مما ينبغى علينا أن نخجل منه ..
إطار تجاوز الجهر بالفحشاء والمنكر إلى الفخر بالفحشاء والمنكر وإدانة من لا يرتكبهما..
إطار تحولت فيه صلاة الجماعة فى بعض بلادنا الإسلامية إلى مسوغ للفصل من العمل.. وفى بلاد أخرى إلى الاعتقال المفتوح والتعذيب حتى الموت..
إطار يحاول الناس فيه - بعض الناس- أن يعضوا بالنواجذ على دينهم و أن يقبضوا عليه قبض القابض على الجمر، فيقتلهم ولاة أمورهم أو ينكلون بهم.. لأنهم يقولون ربنا الله..
إطار فقدان المرجعية..
ثم فقدان المنطق..
إطار تنحى مفهوم الدولة وتغوّل مفهوم الحكومة التى راحت تدوس القانون بدلا من أن تطبقه معلية قيم البلطجة والاستهتار.. إطار انهيار مفهوم سيادة القانون..
حتى القانون الوضعى الذى أتوا به لم يعد هناك من يلتزم به أو يحترمه..
وإزاء تلاشى مفهوم الدولة.. وتغول حكومة عاجزة.. وانهيار سيادة القانون.. وسيادة مفهوم أن لا أحد يحاسب أحدا.. والإحباط العام .. فإننا نتدهور بسرعة إلى شرائع الغاب.. حيث يأكل القوى الضعيف..
ولو أننا سرنا يا سيدنا وشيخنا حتى فى إطار الديموقراطية الغربية لانتصر الإسلام.. وليجرِ من لا يصدقنى استفتاء غير مزور فى أى بلد إسلامى ولير نتيجته..
انظر يا سيدى ما حدث فى الجزائر..
وما حدث فى الجزائر كان ينبغى أن ينبهنا إلى أشياء غفلنا عنها ما كان ينبغى لنا أن نغفل عنها أبدا.. لكننا غفلنا..
من هذه الأشياء أن الإسلام هو رابط هذه الأمة ومنبع عزتها فإذا تخلت عنه انفرطت وذلت.. انفرطت كما انفرطنا من مسلمين لا فرق بين أحدنا وبين أخيه إلا بالتقوى: إلى مسلمين عرب ومسلمين عجم.. ثم إلى عرب مصريين وشوام وعراقيين وحجازيين ..و ..و .. ثم أخذ الوطن الواحد ينفرط.. مسلمون جزائريون عرب ومسلمون جزائريون بربر.. أما تلك الطغمة الفاسدة التى تسعى لاستمرار هذا الوضع المثالى لأعدائنا فتذكى النار وكأنها نذرت ألا تدع على وجه البسيطة من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله فلا يهمها شىء.. تضعف الأمة بسياساتهم الخرقاء لا يهم.. يضعف الوطن.. لا يهم.. يتفتت الوطن.. لا يهم.. لكن هدفهم الذى يعيشون فى سبيله ويموتون دونه هو القضاء على الإسلام حتى لو أدى ذلك إلى تلاشى أوطانهم.
أعلنها يا سيدى..
قد تقول أن الوقت غير مناسب.. و أن الصحوة الإسلامية فى نموها ستفرض الأمر بعد عقود أو قرون..
ولست أتفق مع هذا الرأى يا سيدى..
نعم.. هناك صحوة إسلامية.. لكنها حين تتقدم بسرعة السيارة يتقدم أعداؤها بسرعة طائرة.. أعداؤها الذين تجمعوا كما لم يتجمعوا عبر التاريخ قط.. اليهود والصليبيون والعلمانيون ونخبنا المثقفة وجل ولاة أمورنا..
فى العالم غير الإسلامى لم تكن مشكلة الغرب فى فرض حضارته صعبة.. لأن هذا العالم لم يكن يمتلك حضارة كاملة راسخة كحضارتنا..
بالنسبة لنا.. ليس الأمر مجرد غزو فكرى.. بل هو فكر استيطانى يستأصل حضارتنا وفكرنا ليحل محله..
لقد قرروا ألا يواجهوا الإسلام مباشرة بل أن يخربوه جزءا فجزء.. لقد عجزوا عن سحقه فى قلوبنا .. فقرروا أن يسرقوه إذن منها .. يسرقونه بالتسلل إلى بنوده وأركانه وتدميرها فلا يبقى فى قلوبنا إلا هيكل بلا محتوى وشكل بلا مضمون .. وعندما يصلون إلى ذلك سيكون من اليسير عليهم اقتلاع بقاياه..إنهم يسوقوننا سوقا إلى إسلام آخر غير الذى نزل الأمين به على محمد صلى الله عليه وسلم .. إسلام لا نسلم أمرنا فيه إلى الله بل إليهم .. إسلام يتجرد من عقيدة الإسلام.. ولأنهم يدركون أن هذه الأمة لا تستطيع الحياة بلا دين فقد قرروا تقديم إسلام مزور إليهم .. إسلام كشف محمد جلال كشك عن تفاصيله حين أطلقوا عليه فى أضابيرهم فى مؤتمر انعقد فى الولايات المتحدة الأمريكية اسم : "الإسلام العيسوى".. إسلام بلا جهاد.. إسلام يتراجع فيه المسلمون عن عقد بيعهم لأنفسهم مع الله بأن لهم الجنة .. إسلام لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يقوم اعوجاج السلاطين بالسيف ولا حتى باللسان .. إسلام لا يتدخل فى السياسة ولا فى نظام الحكم ولا فى الاقتصاد ولا فى مكافحة الظلم.. إسلام لا رأى له فى تزوير الانتخابات ولا فى التعذيب..إسلام لا دخل له بالكفر ولا دخل له بالإسلام أيضا .. ولقد سموا هذا الإسلام الذى يخططون لنشره بالإسلام العيسوى .. إسلام يعطى الدنيا بما فيها لقيصر وبوش ولا مانع لديهم من تركنا نتخيل آخرة – لا يؤمنون بها- كما نشاء ما دمنا لا نحول بينهم وبين الدنيا .. إسلام منكفئ على نفسه .. قد يمنون علينا بألا يفعلوا بنا ما فعله أجدادهم بأجدادنا فى محاكم التفتيش بشرط أن نحصر إيماننا فى نطاق لا يؤثر ولا يتأثر .. إسلام كأساطير الأولين لا دور لها إلا فى تسلية السادة وإلهاء الأمة..
يا إلهى..
فى العالم العربى كله لا يسمح بحرية تكوين حزب إسلامى..
فى العالم العربى جله فإن الإسلام إما محاصر وإما سجين ..
فى العالم العربى جله وقف الجيش والشرطة مع العدو ضد الأمة.. مع الشيطان ضد الله.. مع الصليبيين واليهود ضد محمد صلى الله عليه وسلم ..
يقول الشيخ مصطفى صبرى: شيخ الإسلام للدولة العثمانية سابقا فى كتابه : موقف العقل والعلم و العالم من رب العالمين وعبادة المرسلين: دار إحياء التراث العربى- بيروت- لبنان:
" أضعنا الدنيا و أضعنا الفرصة فأصبحنا ألعوبة فى يد الدول الكبرى .."
ثم يواصل :
وكان ظنى عند مغادرة تركيا مهاجرا إلى بلاد العرب التى جاء نور الإسلام إلينا منهم، أنى أستريح من مجاهدة الملاحدة ، لكنى وجدت الجو الثقافى بمصر أيضا مسموما من تيار الغرب، فشقّ هذا على نفسى أكثر مما شقّ علىّ موقف تركيا الجديدة من ذلك التيار، كما شقّ وقوفى على أن إخوانى العرب يفضلون تركيا هذه على تركيا القديمة المسلمة، فرأيتهم توغلوا فى تقليد الغرب وسابقوا الترك فى الافتتان به ..والانقلاب الثائر فى تركيا حصل عندهم فى شكل هادئ"..
أعلنها يا سيدى..
يا سلطان العلماء لا عالم السلاطين..
وفى فيض علمك ودعاء الأمة لك سوف نتجنب – إن شاء الله- الفتنة والاختلاف ..
حتى من يختلفون معك.. ومن يختلفون عليك.. لا أحسبهم يقفون من إعلان الخلافة إلا موقف التجمع والتأييد..
الخلافة جوهر وشكل..
الجوهر إلهى وهو الإسلام كله .. و هو أن يكون المسلمون أمة واحدة تطبق شرع الله..
أما الشكل فبشرى ومتروك لنا.. لذلك ليست هناك صيغة واحدة نقترحها.. هذا كله اجتهاد علينا أن نسعى للحصول على أجر فيه إن لم نفلح فى الحصول على الأجرين.. فيمكن أن يكون الخليفة فردا.. ويمكن أن يكون مؤسسة.. ويمكن أن يكون مؤسسة يرأسها فرد..
هذه المؤسسة لا بد لها أن تبدأ على الفور.. كى تنقذ الأمة من الوضع المأساوى الذى تجد نفسها فيه فى مواجهة أعدائها – ومنهم حكامها – دون زعامة ولا قيادة..
فى كل بلاد الدنيا تتسق مصالح الحكام مع مصالح بلادهم، حتى ولو كان هؤلاء الحكام مجرمين ( إجرام شارون مثلا يصب فى مصلحة إسرائيل، و إجرام هتلر كان يصب فى مصلحة ألمانيا.. كذلك ستالين ونابليون.. و .. و.. )..
فى العالم الإسلامى ليس الوضع كذلك..
فثمة عدو قاهر باطش قوى هو الغرب.. وهو الذى يضمن لجل حكامنا استمرارهم فى مناصبهم ( انظر معايرة فريدمان الأخيرة للرئيس مبارك)..وثمة أمة ترفض أن تستسلم كما استسلمت الأمم الأخرى.. والحكام يقبعون بين سندان قوة غربية غاصبة وبين مطرقة أمة عاجزة غاضبة.. ولقد اكتشفوا أنهم لا يستطيعون خداع الغرب فقرروا خداع أممهم.. فمن لم يقبل بالخديعة غيبته المشانق والسجون..
لقد بلغ الحكام شأوا بعيدا فى إخصاء الأمة من تكوين أى قيادة يمكن أن تحركها..
انظر إلى دول العالم الإسلامى كله وقد تم تشويه ووأد أى قيادة محتملة ولو على المدى البعيد..
انظر إلى دول العالم الإسلامى كله وسوف تجد الرجل الأول فقط.. ولا يوجد رجل ثان..!!..
والأمة دون قيادة - كجسد بلا رأس - عاجزة عن الحركة والفعل..
إن الأمور تتفاقم فأعلنها يا سيدى..
أعلنها .. حتى لو كانت خلافة بلا سلطة فسوف تأتيها السلطة ولو بعد مائة عام..
أعلنها .. لكى تمثل مؤسسة الخلافة رابطا يجمع مئات الهيئات والمؤسسات الإسلامية المحاصرة يكاد لا يسمع عنها أحد..
إن لم تحركنا المجزرة فى فلسطين فماذا سوف يحركنا بعد؟!..
فأعلنها توازن بها بعضا من طغيان طواغيتنا.. فإنها حين تبدأ ستكون المرجع النهائى فى تحريك المسلمين.. وفى الحكم على الحكام..
لقد كانت أوصال بريطانيا ترتعد عندما يهدد السلطان عبد الحميد بإعلان الحرب المقدسة..
فأعلنها.. نبدأ بها خوض حربنا المقدسة..
أعلنها.. و إن ضاقت بك جل بلاد المسلمين فأعلنها ولو على جزيرة من جزر المسلمين أو إمارة من الإمارات ..
أعلنها .. حتى ولو كانت فى المنفى..
وامدد يدك نبايعك..
أو امدد يدك وبايع من تراه أحق بها.. نبايعه خلفك..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق