ألب أرسلان.. عندما تجتمع أصالة القيادة مع قوة المبادئ والإيمان
يشكل البحث في تاريخنا أساسا لبناء القوة والنهضة وتحقيق الانتصارات، لذلك كان من أهم ألوان الظلم الذي تعرضت له أمتنا تغييب وعيها بهويتها وتاريخها حتى لا تتمكن من اكتشاف العوامل التي تحقق الانتصارات والإنجازات الحضارية.
وذاكرة الأمة تقوم بدور مهم في تحفيز الشعوب لبناء المستقبل، الذي أصبح من أهم مقوماته اختيار الشعوب لقيادات أصيلة تتمسك بالمبادئ والأخلاقيات، وتمتلك شجاعة الإيمان وقوته، وتلهم الشعوب وتقدّم لها مشروعات حضارية.
ستظل حية في قلوبنا.. لماذا؟
لذلك كان من أهم أحداث هذا العام أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان توجه إلى موقع معركة ملاذ كرد ليحتفل مع شعبه بذكرى انتصار عظيم حققته الأمة الإسلامية بقيادة ألب أرسلان على الإمبراطورية البيزنطية.
وقال الرئيس التركي إن “ذكرى معركة ملاذ كرد ستظل حية في قلوب الشعب التركي، فهي ليست انتصارا للأمة التركية فحسب بل للعالم الإسلامي بأسره، وهذه المعركة هي أم الانتصارات التي حققناها في هذه المنطقة”.
وربط أردوغان حديثه عن هذه المعركة العظيمة بالتأكيد “لن نتهاون مع من يسعي لتقسيم وطننا وتدمير دولتنا”.
ماذا يعني ذلك؟! أن الربط بين تاريخ الدولة ومستقبلها يشكل مصدر قوة يمكّنها من مواجهة التحديات، وتقديم إنجازات حضارية جديدة.. وإعادة ذكرى ملاذ كرد إلى الخيال السياسي والجغرافي تفتح المجال لتوحيد الأمة، واستثمار مصادر قوتها لبناء المستقبل.
بداية مرحلة تاريخية جديدة
فمعركة ملاذ كرد التي وقعت في 26 أغسطس/آب 1071 كانت بداية مرحلة تاريخية جديدة للعالم، ونقطة انطلاق لبناء إمبراطورية قوية هي الدولة العثمانية التي حققت الكثير من الإنجازات الحضارية والانتصارات العظيمة.
فلقد جاءت معركة ملاذ كرد بعد فترة من الضعف مرت بها الأمة الإسلامية عندما افتقدت القيادات التي تتطلع إلى المجد والانتصارات، وغرقت في الترف وتصفية الخصومات، فتمزقت الأمة بين حكام أغناهم جهلهم عن كل العلم، وأفقدهم حبهم للشهوات الإيمان والمعرفة والقدرة على التفكير.
قسوة الواقع وقوة المفاجأة
لكي ندرك أهمية معركة ملاذ كرد يجب أن ندرس السياق السياسي العالمي الذي حدثت فيه.. فالإمبراطور البيزنطي درس جيدا ذلك الواقع، فأدرك ضعف الأمة الإسلامية، وأنه أصبح يمتلك القوة المادية التي يمكن أن يستخدمها في إبادة المسلمين والقضاء على العالم الإسلامي، حتى أنه فكر في الوصول إلى مكة لتدميرها.
ولقد تمكن الإمبراطور البيزنطي من أن يجمع كل قوة أوربا ويثير مشاعر المسيحيين فيها ليشكل بذلك جيشا كان يظن أنه لن يستطيع أحد الصمود أمامه.
لذلك عندما ندرس واقع المنطقة والعالم ندرك أن موقعة ملاذ كرد شكلت مفاجأة غير متوقعة للغرب، وأثبتت أن الأمة الإسلامية ستظل حية وفاعلا قويا في التاريخ، وقادرة على تحقيق تغيير عالمي، وأنها يمكن أن تمر بفترة ضعف، ثم تنتفض قوية أبية عزيزة لتصنع الانتصارات، وتقدّم مفاجآت لا يتوقعها الخيال الغربي المادي، وتحرر الشعوب من العبودية والذل والهوان.
الغرب يجب أن يخاف!
لذلك يخاف الغرب من الإسلام، ولا يصدّق الخطاب الضعيف الذي يردده شيوخ النظم العربية المستبدة، فمراكز البحوث الأوربية والأمريكية تدرك جيدا أن الإسلام يمكن أن ينتفض فجأة ليصنع معجزة تاريخية جديدة، ويحقق انتصارات عظيمة، وأن الإسلام يمتلك قوة ذاتية أكبر وأعظم من كل أشكال القوة المادية.
لذلك كان احتفال أردوغان بذكرى ملاذ كرد حدثا مهما، فهو يعبّر عن شجاعة قائد يريد أن يعيد لخيال الشباب ذكرى معركة عظيمة.. وعندما يتوهج خيال الشباب بمعرفة التاريخ يمكن أن يحققوا معجزة جديدة ربما تكون أقوى وأكثر تأثيرا من كل المفاجآت التي شهدها التاريخ.
ولكن أين القيادة الأصيلة؟!
توضح دراسة معركة ملاذ كرد والسياق التاريخي الذي حدثت فيه أن من أهم العوامل التي يمكن أن تسهم في تحقيق الدورة الحضارية الإسلامية القادمة وجود قيادة أصيلة تؤمن بمبادئ الإسلام وتتمسك بها.
لذلك يجب أن ندرس سيرة ألب أرسلان قائد معركة ملاذ كرد، ونقدمه نموذجا للقيادة الأصيلة التي تستخدم العقل والقلب، وتربط الحياة بالإيمان، وتستثمر كل مصادر القوة، وتخطط وتبتكر، وتنتج أفكارا جديدة تسهم في تغيير التاريخ.. فالقائد الأصيل من أهم مصادر القوة، فهو الذي يمكن أن يلهم شعبه، ويحفزه لتحقيق أهداف عظيمة.
وفي مواجهة التحديات تبرز عظمة هذه القيادة التي تستطيع أن تتحدى الواقع ولا تخضع له.
شجاعة المؤمن مصدر القوة
لقد عدت إلى الكثير من المصادر التاريخية أبحث فيها عن الصفات القيادية في شخصية ألب أرسلان قائد معركة ملاذ كرد التي شكلت مفاجأة لم يتصورها أبدا خيال الغربيين الذين يركزون على الحسابات المادية.
لكن معظم هذه المصادر اهتمت بوصف المعركة، واتفقت على عدم وجود توازن في أسباب القوة.. فالإمبراطور البيزنطي رومانوس كان يقود جيشا يزيد عدده عشرات الأضعاف على جيش ألب أرسلان.
معظم المصادر تقدّر عدد أفراد الجيش البيزنطي بـ600 ألف، بالإضافة إلي آلاف القساوسة والكهنة الذين يقومون بإثارة المشاعر الدينية للجنود، وهذا الجيش كان يمتلك الكثير من الأسلحة المتقدمة -بمقاييس ذلك الزمان- التي تمكنه من إطلاق نيران كثيفة تحرق الحجر والبشر، وتدمر العمران والحضارة.
بينما تتفق المصادر على قلة عدد أفراد جيش المسلمين بقيادة ألب أرسلان، وأنه لا يزيد على 20 ألفا.
عبقرية عسكرية.. ولكن!
كما اهتمت معظم المصادر التاريخية بتصوير عبقرية ألب أرسلان التاريخية، وقدرته على التخطيط الاستراتيجي، وإدارة المعركة بحيث تتضمن مفاجآت لا يتوقعها العدو، وتلك حقائق يعترف بها العدو، وتستحق أن يفخر بها المسلمون.
فتصوير هذه العبقرية العسكرية حق للأمة وشبابها، ولقائد الأمة ألب أرسلان الذي ابتكر أفكارا جديدة، وأثبت أهمية القيادة القائمة على الإبداع والابتكار في توظيف ما يمتلكه من قوة.
وأنا أؤكد تقديري، وأعبّر عن إعجابي بهذه العبقرية العسكرية، وبما قدمته من أفكار جديدة، لكنني -وأنا أحاول أن أطور علم القيادة- أبحث عن مصادر جديدة لقوة القائد وتميزه وأصالته وقدرته على تقديم إنجازات حضارية.
الإيمان أهم ما يميز القائد الأصيل
من المؤكد أن حسابات القوة المادية ستجعل أي قائد في العالم -مهما بلغت عبقريته وقدرته على التخطيط الاستراتيجي- ينسحب بجيشه القليل أمام الجيش الأوربي المسيحي الذي يمتلك العدد والعدة التي لا يمكن أن يتصورها الخيال الإنساني في ذلك الزمن.. بل إن المؤرخين الذين يفخرون الآن بعبقرية ألب أرسلان العسكرية كان يمكن أن يتهموه بأنه قاد الجيش إلى الانتحار لو أنه انهزم.
لو افترضنا وجود بعض الواقعيين الذين يدّعون العقل والحكمة في جيش ألب أرسلان لنصحوه بالاستسلام والفرار، ورددوا الكثير من الأمثال التي تبرر الهزيمة مثل “الكثرة غلبت الشجاعة”، و “الكف لا يلاطم المخرز”.
لكن من حسن حظ الأمة الإسلامية أن ألب أرسلان تخلّص من أولئك الواقعيين قبل المعركة عندما أمر من لا يريد الجهاد في سبيل الله أن يرحل، وأنه لا يريد في جيشه إلا من يكون هدفه الفوز بالشهادة.
هل يشكل ذلك مصدر قوة؟!
لذلك أنا أرى أن من أهم أسباب النصر الذي حققه ألب أرسلان، ومن أهم تجليات عبقريته، ذلك القرار الذي أصدره بتخلص جيشه من كل المنهزمين نفسيا الذين يمكن أن تثير قوة العدو المادية الرعب والخوف في نفوسهم، لكي يكون جيشه من المؤمنين بالله، وبأن النصر بيده وحده، وبأنهم يستطيعون أن يهزموا العدو مهما كانت قوته.
لقد كان ذلك القرار هو البداية الصحيحة لمعركة بين رجال يملأ الإيمان قلوبهم شجاعة وإصرارا وقدرة على الإبداع والابتكار من ناحية، وقوة غاشمة يملأ الغرور خياشيم إمبراطورها الذي يظن أن النصر يتحقق باستخدام القوة وحدها.
ولقد أثبت ألب أرسلان في المعركة أن قوة الإيمان أعظم من القوة المادية، وأن الإيمان يزيد قدرة الرجال على الابتكار والتميز وإنتاج الأفكار واستخدام عقولهم.
ليس بسيوفهم فقط!
إن ألب أرسلان وجيشه لم يحاربوا فقط بسيوفهم، لكنهم قاتلوا بقلوبهم التي امتلأت إيمانا، وبعقولهم التي توهجت بنور الإيمان فأبدعت وابتكرت، وأنتجت أفكارا جديدة لم يتوقعها العدو الذي غرته قوته وكثرة عدده.
في ملاذ كرد كانت المواجهة بين الإيمان وغرور القوة، وبين خيال قائد أصيل يؤمن بالله وحرر نفسه من قيود الواقع وإمبراطور ينظر إلى الأرض ويفرح بعدد جنوده وتقدّم أسلحته.
وبتلك المعركة بدأت مرحلة جديدة في التاريخ تقدّم فيها المؤمنون ليغيّروا واقعا كئيبا مظلما.
الرأي العام الإسلامي مصدر قوة
توضح هذه المعركة أن الرأي العام الإسلامي يمكن أن يتوحد، ويعبّر عن نفسه ويصبح مصدر قوة للأمة.. لذلك أشار الشيخ محمد بن عبد الملك البخاري على ألب أرسلان أن يبدأ المعركة يوم الجمعة، لكي يقوم الخطباء في كل العالم الإسلامي بالدعاء للمجاهدين بالنصر.
وفهم ألب أرسلان معنى هذا الرأي وأهميته، فهو يدخل المعركة وقلوب المسلمين في أنحاء الأرض معه.. والدعاء سلاح يتقرب به المؤمن إلى الله ويستعين به، وهو قوة للقلب والضمير، والجيش الذي قاده ألب أرسلان هو طليعة المؤمنين الذين توحدت قلوبهم وهم يناجون الله ويطلبون منه النصر.
وكان هذا الرأي دليلا على أصالة القيادة التي تعرف أن الإيمان هو أهم مصادر القوة.. فهل يشع نور جديد من موقع ملاذ كرد شرقي تركيا الذي وقف فيه الرئيس رجب طيب أردوغان يقول: إن الأجداد وضعوا من خلال انتصار معركة ملاذ كرد أسس حضارة مثلت العدل والرحمة والسلام؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق